الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية
ج2 / ف 4 : تشريع فقه السماع ( فقه اللهو واللعب ) عند الصوفية

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٣ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف 

الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

تشريع فقه السماع :( فقه اللهو واللعب ) عند الصوفية.

قيمة السماع في دين التصوف :

   يقول الغزالي معبراً عن قيمة السماع في عقيدة التصوف :( سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه ، ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه، فالسماع في حقه مهيج لشوقه ومؤكد لعشقه..) الغزالى يربط السماع بعقيدة التصوف فى وحدة الوجود. ( ومستخرج منه أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لايحيط بها الوصف . ) ويجعله سببا فى الحصول على العلم اللدنى أو علم الغيب . ( يعرفها من مذاقها وينكرها من كلَ ( أى ضعف ) حسُّه عن ذوقها . ) أى يهاجم من لا يؤمن بالعلم اللدنى . (  وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية الوجد) فالوجد عند الغزالى يعنى ( أحوال من المكاشفات والملاطفات ) اى من يصيح ويزعق ويصرخ خارجا عن حدود العقل وإحترام الذات ويصبح مجذوبا أو مجنونا يكون هو الذى قد وصل الى الاتحاد بالاله الصوفى واخذ منه العلم اللدنى : ( ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات، وهى غاية مطالب المحبين لله تعالى ، ونهاية ثمرة القربات كلها، فالمفضي إليها من جملة القربات لها من جملة المعاصي والمباحات. ) وكالعادة يهرب الغزالى من البرهنة على مزاعمه بالطريقة المعروفة وهى ان هذه من علوم المكاشفات الممنوع ذكرها وكشفها والتصريح بها ، يقول : ( وحصر هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها ، وتأثرها بها شوقاً وفرحا وحزنا وانبساطا ، ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات. ) ثم يعود للهجوم على المنكرين فيقول : ( والبليد الجامد القاسي القلب المحروم من لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله تعجب البهيمة من لذة اللوزينج وتعجب العنين من لذة المباشرة ( الجنسية )، وتعجب الصبي من لذة الرياسة وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى..) . ثم يختم الغزالى بهذا القول الفاحش : ( وما انزلت الكتب إلا ليطربوا بذكر الله تعالى. ) أى إن إنزال الكتب السماوية له هدف وحيد هو الطرب ، أى الغناء ، أى اللهو واللعب . ومهما بلغ كفر الغزالى فى قوله هذا فهو يُثبت إعجاز القرآن الكريم حين وصف المشركين بأنهم إتخذوا دينهم لهوا ولعبا . ولا يجد الغزالى دليلا من القرآن يبرهن به على مزاعمه فيفترى قائلا : ( قال بعضهم رأيت مكتوبا في الإنجيل غنينا لكم  فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا " [1].). طبعا لا نعرف إسم هذا البعض القائل ، ولا نعرف أين توجد هذه العبارة الكافرة فى الانجيل الذى يتكلم عنه الغزالى . ولكنه كفر شنيع أن ينسب الغزالى لله جل وعلا قول : (  غنينا لكم  فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا ).. وعلى أى حال فالغزالى هنا صادق فى التعبير عن دينه الصوفى المؤسس على اللهو واللعب والسخرية من الخالق جل وعلا.

تشريع فقه السّماع :

1 ــ   ولأن الطرب والرقص بهذه الأهمية في دين التصوف إذ يصل بالصوفي للإتحاد بالله وعلم الغيب فإن الغزالي شرَع فقها خاصا أسماه آداب السماع وضع له آداباً " الأدب الأول : مراعاة الزمان والمكان : قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع : الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الإشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيها ، فهذا معنى مراعاة الزمان.  فيراعى فراغ القلب له . وأما المكان فقد يكون شارعا مطروقا أو موضعا كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنب ذلك. وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به، وكذلك إذا حضر متكبر من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبته وإلى مراعاته أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثياب ، فكل ذلك مشوشات فترك السماع عند هذه الشروط أولى ".

   ويقول عن الأدب الثاني  : " هو نظر الحاضرين فلا يحضر المريدون الذين يضرهم السماع " وقسّم المريدين بالنسبة للسماع ، ثم يقول عن الأدب الثالث : " أن يكون مصغياً إلى ما يقوله القائل – أى المنشد – حاضر القلب قليل الإلتفات إلى الجوانب ، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى من رحمته في سره متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم ، بل يكون ساكن الظاهر هادىء الأطراف ، متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب، ويجلس مطرقاً رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه ،متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ساكناً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدا، فإن غلبه الوجد وحركَّه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم "[2]. والغزالي هنا يجعل الصوفي في حال الإستماع كأنه في صلاة، ثم إذا غلبه الوجد وقام ورقص فلا لوم عليه .

2 ــ   وكان للآخرين اجتهاداتهم في تشريع السماع وفرائضه ، وللشعراني كتاب في ذلك عنوانه " لبس الخرقة والتلقين " تعرض فيه لآداب الذكر قبل الذكر وأثناءه وبعده . فقبل الذكر التوبة والغسل والوضوء والسكوت والسكون " وأن يستمد بقلبه عند شروعه في الذكر بهمة شيخه. وأن ير استمداده من شيخه هو استمداده من النبي لأنه نائبه"، وفي حال الذكر يراعى" الجلوس على مكان طاهر كجلوسه في الصلاة "، وأن يضع إحدى راحتيه على فخذيه ، وتطيب مجالس الذكر بالرائحة الطيبة ، وكذا ثيابه وبدنه ، ولبس اللباس الطيب الحلال ،واختيار الموضع المظلم إن أمكن، وتغميض العينين لأنه بتغميض عينيه ينسد عليه طرق الحواس الظاهرة ، وسدها يكون سبباً لفتح حواس القلب " وأن يتخيل خيال شيخه بين عينيه هذا عندهم أكد الآداب " . ويلاحظ تركيز الشعراني على الشيخ في عصر اشتدت فيه عبادة الأولياء ، حتى أصبحت حفلات السماع في حقيقتها حلقات عبادة للأشياخ بينما كانت في عصر الغزالي مجالس للغوص في القلب لإحساس الصوفي بعقيدته الصوفية في الاتحاد بالله ووحدة الوجود .

ويقول الشعراني يؤكد على عبادة الشيخ في السماع " وبالصدق والإخلاص يصل الذاكر إلى درجة الصديقية ، بشرط أن يظهر جميع ما يخطر بقلبه من حسن أو قبيح لشيخه، وإن لم يظهر ذلك كان خائناً وحرم الفتح ،والله لا يحب الخائنين. ). والطريف أن الشعراني هنا يتناقض مع فكره الصوفي الذي يجعل الشيخ مطلعاً على سرائر المريدين ، فكيف يحتاج الشيخ للمريد لكي يفشي له خطرات قلبه ويلزمه بذلك وإلا اعتبره خائناً ؟.

   ونتابع الشعراني في تشريعه لآداب الذكر فيوجب على الذاكر أن يختار من صيغ الذكر لا إله إلا الله  أو يصِعد(لا إله إلا الله) من فوق السُرة من النفس التي بين الجنبين ، ويوصل(إلا الله) بالقلب اللحمي الكائن بين عظم الصدر والمعدة أو يميل رأسه إلى جانب الأيسر مع حضور القلب ، وإحضار معنى الذكر بقلبه على اختلاف درجاته في الترقي. ويعرض كلما ترقى فيه من الأدوات على شيخه ليعلم الآداب فيه " أى يجعل الشيخ حارساً على تلقي المريد بالذكر إلى الاتحاد الصوفي .

ثم يتحدث عن هيئة الرقص في الذكر الصوفي فيقول " ينبغي للرجل إذا قال لا إله إلا الله يهتز من فوق رأسه إلى أصبع قدميه،وهذه حالة يستدل بها على أنه سالك فيرجى له التفدم إلى أعلى منها". وهذا الاهتزاز من الرأس الى أصابع القدمين يشمل الأرداف والوسط والبطن والذراعين من الذاكرين والذاكرات . أى هو رقص مجاله مفتوح للإجتهاد .

   وبعد الفراغ من الذكر أو الرقص يقول الشعراني عن آداب ما بعد الذكر " أن يسكن إذا سكت، ويخشع ويحضر مع قلبه مترقياً لوارد الذكر ". أى الاحساس بالاستغراق في الذات الإلهية. ويقول الشعراني عنها فقد قالوا لعله يرد فيعمر وجوده في لحظة أعظم ما تعمره الرياضة والمجاهدة في ثلاثين سنة، وأن يزم نفسه نفسه مراراً، قالوا لأنه أسرع للتنوير في البصيرة وكشف الحجب وقطع خواطر النفس والشيطان ، ومنع شرب الماء عقبه لأن الذكر يورث حرقة واشتياقاً وتهيجاً إلى المذكور وهو المطلوب الأعظم من الذكر، وشرب الماء عقب الذكر يطفىء ذلك ، قال الشيوخ"  فليحرص الذاكر على هذه الآداب – التى بعد الذكر – فإن نتيجة الذكر إنما تظهر بها " [3].

3 ــ وفي مواضع أخرى من كتبه تحدث الشعراني عن الذكر ففي " الوصية المتبولية " أفرد نحو ربعها للذكر ، وقال إن أفضل صيغ الذكر قول لا إله إلا الله  ما دام له هوى ، فإذا فنيت أهويته – أى اتحد بالله في زعمهم – كان ذكر الجلالة له أنفع " وعن طريقة الذكر قال " وليكن الذكر جهراً، لأنه انفع لمن غلب عليه الجمعية " أى الاتحاد  " وقد اجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر،وأن ذكر السر لا يفيده رقياً ، وينبغي أن يجهر برفق حتى لا يتربى له فتاق في بطنه" [4].  ، ومعناه أن بعضهم كان يبالغ فى الصراخ ( أى الوجد ) فيحدث له فتاق فى بطنه .

وفي كتابه لطائف المنن يقسم الشعراني السماع إلى ثلاثة أقسام : محرم كالاستماع من أرباب الأهوية المحرمة من عشاق النسوان والفتيان بالآلات المحرمة فيدعوهم لارتكاب المحرمات، وواجب وهو استماع المحبين لله تعالى ، والمباح على أصله إذ لم ترد فيه آية في التحريم ولا حديث صحيح [5]، والشعراني باعتباره فقيهاً صوفياً وقف موقفاً متشدداً ضد أولئك الذين حولوا طقوس السماع إلى مناسبات انحلال خلقي ، وسنعرض لهم في حينه.



[1]
الاحياء جـ 2 / 246 ، 247 ، 248 .

[2] الاحياء حـ 1 / 265 : 266 .

[3] لبس الخرقة والتلقين 9 ، 10 ن 11، 12 ، 13 ، 14 .

[4] الوصية المتبولية 36 : 48 ، 39 : 40 ، 46

[5] لطائف المنن 431 .

اجمالي القراءات 8295