ج2 / ف 3 : الصيام بين الاسلام والتصوف فى مصر المملوكية

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٦ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف  

الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام                                                  

  رابعاً : الصيام والتصوف فى مصر المملوكية:

: المبحث الأول : الصيام بين الاسلام والتصوف فى مصر المملوكية

1-يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة )، فالصيام فرضه الله تعالى علينا وعلى ما سبقنا من أمم أرسل إليها أنبياء. وكيفية الصيام علينا وعليهم واحدة وهو الإمتناع عما يفطر( من طعام وشراب وجماع الزوجة ) فى شهر رمضان كل عام . وتوارثه العرب ضمن ملة ابراهيم . ونزل القرآن ببعض التعديل والتيسير في الصوم بجعل الصيام فى النهار فقط من الفجر الى المغرب ، وكان قبلها ينحصر الافطار فيما بين المغرب والعشاء فقط ، ويستمر الصيام بقية اليوم : (البقرة184).  بيد أن تزييف الشرائع السماوية السابقة أضاع فريضة الصيام كما أضاع الصلاة والزكاة. وبعضهم حافظ على اسم الصيامولكن غيَر فيه بما يحلو له، كأن يصوم عن طعام معين فترة طويلة من الوقت، وذلك تزييف لشرع الله تعالى القائل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فكلمة ( كما ) تفيد التماثل، أى فصومنا هو نفسه الصوم الذي طولبوا به. بل أن مريم العذراء رضى الله عنها أُمرت أن تقول لقومها ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) مريم ) , ومعنى ذلك أن الصوم التطوعي والصوم بالنذر كانا موجودين في الشرائع السابقة.. وحافظ عليها الأتقياء..

2-ولقد نظر الصوفية إلى الصوم نظرتهم إلى باقي العبادات فاقترن تركهم للصلاة بتركهم للصوم، وبدأ ذلك في التاريخ المبكر للصوفية، حتى أن القشيري كان ينكر على معاصريه في القرن الخامس تركهم للصوم والصلاة، يقول ( واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة )[1]. على أن الإلتزام بالصوم يختلف في مظهره عن الإلتزام بالصلاة، فالصوم يتجلى فيه جانبا الإخلاص أو الرياء. فبإمكان الصوفي المفطر أن يخدع الناس جميعاً بصومه حيث يمكنه أن يأكل خفية. أما الصلاة فسرعان ما يعرف عنه تركها إذا رؤى تاركاً لصلاة الجماعة أو مضيعاً لأحد الفروض الخمسة . وعلى ذلك فإن المراجع لم تذكر إلا من أفطر  من الصوفية في رمضان جهراً وعلناً ، أما المفطرون سراً فلا يعلمهم إلا الله تعالى. ومن الطبيعي أن الفطر جهراً لا يقوم به إلا الأقلية ممن تطرف في طريقة الصوفي ، فاستوجب الإنكار عليه كما حدث من القشيري بالنسبة لمعاصريه من الصوفية..

 أثر التصوف فى تضييع صيام رمضان

1       ـ  وفي العصر المملوكي تمتع المجاذيب برخصة الإفطار العلني في رمضان،لأن المجذوب لا يكلف في غيبته.. فقيل في عبدالله الموله 729 كان  ( يأكل في  رمضان)[2]. ويقول العيني عن أبي بكر البجاوي المجذوب المعتقد ( كان يفطر في نهار رمضان ولا يتوضأ ولا يصلي )[3]. ويقول الشعراني عن معاصره الشريف المجذوب( كان يأكل في نهار رمضان ويقول لنا : أنا معتوق، اعتقني ربي)[4]. والشعرانى يصدقه في ذلك الإفتراء وإلا لما ذكره في مناقبه وقال عنه : ( سيدي الشريف المجذوب) .!.  ويستدل من مقالته ( أنا معتوق اعتقني ربي ) إن تركه الصوم في رمضان كان منقبة يفتخر بها الصوفي على أقرانه، تستحق أن تذكر في مناقبه كما فعل الشعراني ولا يستوجب ذلك من العصر إنكاراً، أى أن العصر يسلم للصوفي  المجذوب بإفطاره في رمضان لأن المجذوب عند الصوفية أفضل من ( السالك ) أى الصوفى العادى . يدلنا على ذلك أن الإنكار على إفطار رمضان تناول الصوفية الآخرين ، فقد سأل الشعراني نفسه أستاذه الخواص عن ( أرباب الأحوال الذين يُظهرون الخوارق مع عدم صلاتهم وصيامهم ) فقال( ليس أحد من أولياء الله له عقل التكليف إلا و هو يصلي ويصوم ويقف على الحدود، ولكن هؤلاء لهم أماكن مخصوصة يصلون فيها)[5]. فهو يصف أرباب الأحوال بأن لهم عقل التكليف ، ومعنى ذلك أن المجذوب الذي غاب عقله في حضرة ربه ــ بزعمهم ــ يسقط عنه التكليف فيترك الصلاة والصيام. ويلاحظ أن الشعراني – أو الخواص – أغفل  الرد عن ترك الصيام ، فقد ذكر في الإجابة صلاتهم المزعومة في جبل قاف وسد اسكندر وبيت المقدس، ولم يحدثنا أين كانوا يصومون ، وترك المسألة معلقة بدون تبرير أو تعليل إفطارهم رمضان، ومعنى ذلك أن ترك الصلاة ارتبط عند الصوفية بترك الصيام، وإن حظيت الصلاة بالإهتمام لتكررها خمس مرات في اليوم واهتمام الصوفية بالدفاع والتبرير لمن ترك الصلاة والجماعة والجمعة منهم..

2        ومن الطبيعي أن يتأثر العامة بأربابهم الصوفية إذا جدَ في الأمور ما يستدعي ذلك، يقول أبو المحاسن في حوادث رمضام 861( أثناء فتح المقياس أفطر جماعة من أوباش العامة المتفرجين لشدة ما نالهم من العطش من كثرة حركتهم بسبب الفرجة)[6].وهو لا شك عذر مقبول لديهم، ويقول ابن إياس عن  نفس الحادثة ( في وفاء النيل في رمضان أفطر في ذلك اليوم جماعة من العُيّاق والأوباش)[7]، وربما لو لم تكن مناسبة عامة ــ مثل إحتفال وفاء النيل فى رمضان ــ  أثارت اهتمام المؤرخين ما كان ذلك الإهتمام بفطر العامة في رمضان أثناءها، فالشأن في مؤرخي العصر المملوكي الإهتمام بالسلاطين وجعلهم محور التاريخ ، ولا يهتمون بالعوام إلا إذا جاء حادث عام يسترعى الاهتمام . و لقلة المعلومات التاريخية التي تشفي الغليل – عن صيام العوام المصريين فى رمضان – فإننا  نلجأ للأمثال الشعبية المتداولة في العصر المملوكي، فنقرأ منها في المستظرف :( يا طالب الشر بلا أصل، تعالى للصايم بعد العصر)[8]، ومعنى ذلك أنهم تحملوا الصيام كارهين مضطرين مقهورين، فكان رمضان – خاصة في نهاية اليوم فيه – مسرحاً  للمشاجرات والإنفلات العصبي بحجة الصوم والحرمان – ولا يزال ذلك مرعياً حتى اليوم..

3       وهنا نواجه قضية: هل الصوم – كامتناع عن المفطر – هو الهدف في حد ذاته أم هو وسيلة لهدف أسمى وأكبر؟؟ نرجع الى قوله  جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة )، فالهدف من الصوم ليس مجرد الحرمان وإنما هو التقوى ، فإذا لم تتحقق التقوى لصائم فلا جدوى لصيامه. إلا أن الصيام تحول في العصر المملوكى – وعصرنا – إلى عكس ما يهدف إليه الصوم الإسلامي. فرمضان لم يعد – في الأغلب – شهر التقوى ، بل هو شهر الأطعمة المشتهاة في الإفطار والسحور وهو شهر تدخر له الأسرة المصرية أطعمة بعينها أصبحت علماً عليه وعلما عليها، وهو شهر تستعد له الحكومة وتتحسّب بالسلع التموينية والمسلسلات التليفزيونية الترفيهية ، حيث يسهر فيه الناس الليل مع ما حرم الله من لهو وصخب وينامون فيه النهار – أو يتكاسلون – لكى يمضي اليوم – النهار – سريعاً ليستقبلوا الليل بملذاته وامتلائه. وهو شهر المشاجرات والمنازعات لأتفه الأسباب – أو بدون أسباب ،ويجد الناس في صومهم حجة للغضب بمبرر وبدون مبرر. ويعني ذلك أن دين التصوف قد حول فريضة الصيام إلى حرمان لا معنى له بعد أن اضاع الهدف الأسمى للصوم وهو التقوى ، فالصائم الحقيقي يرى في صومه – الذي لا يطلع عليه إلا ربه – شفافية تعلو على مطالب الجسد، وهو حين يطيع ربه في أمر الطعام والشراب والشهوة يتعود على أن يطيع الله تعالى في كبت مطالب الجسد وغرائزه فيكون بذلك قد حقق التقوى عملياً، وهل التقوى إلا الخشية من الله تعالى بالإمتناع عن المعاصي ومتطلبات الغريزة ؟!.  فالصائم لا تصوم معدته أو فرجه فقط عن تناول المباحات في نهار رمضان . وإنما يصوم لسانه عن اللغو – ولا يقول – الفحش – وتصوم عينه عن النظر المحرم وتصوم يده وقدمه عن الإتجاه لما يغضب الله . بل يصوم قلبه – إذا حاول بصدق- عن التفكير فيما يغضب الله تعالى. هذا هو الصوم الحقيقي في الإسلام .وقدطبّقه محمد والرسل عليهم السلام والأتقياء قبل وبعد نزول القرآن الكريم. ومريم رضى الله عنها حين قالت: ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) مريم ) فلأنها صائمة فقد امتنعت عن الحديث مع البشر خشية الوقوع في اللغو.وإذا كان ذلك هو الصوم الإسلامي الحقيقي فبم نسمي صومنا ؟ .

4       وبالتصوف أصبح الصوم مجرد عادة اجتماعية مصرية يألفها حتى الأقباط المصريون ، إذ تتكرر شهراً كل عام بمناخ مُميز وثقافة شعبية خاصة ، ترتبط بذكريات الأكل والسهر وموعد الأفطار والمسحراتي واستقبال الفجر عند الأضرحة، واعتمدوا في ذلك على ما يجتره الإنسان – من ذكريات طفولته في رمضان مع أبيه واخوته وتقاليدهم عند الإفطار وعند السحور وتزاور الأهل والأصحاب.!! وأين التقوى في ذلك كله؟ أصبحت تدينا سطحيا يتمثل فى مجرد سبحة تتراقص بين الأصابع في رمضان والقلب غافل، واللسان يجري بعبارات لا تمت للتقوى بأى صلة. والنساء أكثر اهتماما برمضان – فلأنه أضحى شهر الإمتلاء – فعليهن عبء تجهيز الطعام بأصنافه وشتى مسمياته، والنساء أقدر على تذكر المظاهر الرمضانية الطفولية – ورمضان لا يعني أكثر من تلك الذكريات الاجتماعية..

تقول إحدى الصحفيات المصرية عن ذكرياتها في رمضان – ونحن بذلك نؤكد أن رمضان أصبح لدينا فعلا مجرد مناسبة اجتماعية : ( تناهى إلى أذني صوت دقات الطبلة تتردد أصداؤها في الحي من بعيد ، تعالت الدقات مقترنة بصوت المسحراتي المؤثر " يا عباد الله.. وحدوا الله " اضطرب قلبي بمشاعر متناقضة وأنا أذكر أن الليلة هى أولى ليالي شهر رمضان، امتلأت الحجرة المظلمة حولى بالأطياف القادمة من زمن مضى ولن يعود، زمن الطفولة والفوانيس الملونة المضاءة بالشموع، وأغنية وحوي يا وحي ترتفع بها أصواتنا الرفيعة أنا وإخوتي في صحن البيت، وياميش رمضان يملأ جيوبنا ، وصواني الكنافة والقطائف والفطائر في المطبخ ندور حولها ونمد إليها أصابعنا الصغيرة في تلصص لنلعق السكر المعقود من خلف ظهر الوالدة الطيبة،ودوي مدفع الإفطار وصوت الآذان يتردد من فوق مآذن العباسية، والسفرة معدة وصوت الوالد القوي يرتفع بالدعاء، " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت " وصوت الراديو وهو يتعالى بأغنية يا ألف مرحب يا رمضان ، وروائح البخور تصل إلى أنوفنا من البيوت المجاورة لسبيل أم عباس ، وضحكاتنا المكتومة ونحن – الإخوة الأربعة – نعاكس بعضنا في الخفاء، واجتماعنا بعد الإفطار حول الوالد الجالس فوق سجادة الصلاة وبين يديه المصحف يقرأ القرآن.. دقات طبلة المسحراتي كانت وما تزال تملأ أذني وأنا جالسة على مقعدي محدقة في الكلام ، ومع إيقاع الطبلة الرتيب رأيت أطياف الماضي وهى تتلاشى كالدخان واحدا بعد الآخر .. فمع مضى الأيام والسنوات انسحب الوالد من الحياة ولحق به الخال .. وانكسر جمع الأحبة) .[9]



[1]
الرسالة القشيرية 4

[2] تاريخ ابن الوردي ج2 /291 .

[3] عقد الجمان . مخطوط لوحة 469

[4] الطبقات الكبرى  ج2 / 135

[5] درر الغواص 62 .                                 

[6] حوادث الدهور ج2 / 302

[7] تاريخ ابن اياس ج2 / 341 تحقيق مصطفى

[8] الأبشيهي .المستظرف 37.                               

[9] حسن شاه . جريدة مايو عدد 19 السنة الأولى 6 / 7 / 1981.                                                        

اجمالي القراءات 7396