ج 2 ف1 : تشريعات صلاة التوسل بالأولياء الموتى

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الأول :أثر التصوف فى شعيرة الصلاة  فى مصر المملوكية

تشريعات  صلاة التوسل بالأولياء الموتى

1- وقد وضع الصوفية أولويات للتوسل . فمن ذلك أن أقرب الناس للولي الصوفي لا يتوسلون إلا به ، يقول الشعراني أن زوجة شمس الدين الحنفي مرضت ( فكانت تقول يا سيدي أحمد يا بدوي خاطرك معي ، فرأته في المنام يقول لها : كم تناديني وتستغيثي وأنت لا تعلمي انك في حماية رجل من الكبار المتمكنين ، ونحن لا نجيب من دعانا وهو في موضع ( أى فى حماية ) أحد الرجال ، قولي يا سيدي محمد يا حنفي يعافيك الله ، فقالت ذلك فأصبحت كأن لم يكن بها مرض )[1]. وعلى نفس المنوال استغاثت زوجة خادم زاوية الحنفي في مرضها بالبدوي فكان أن عنفها البدوى في المنام ( أما تعلمي أن الأدب بين الفقراء ( أى الصوفية ) مطلوب ، فلا تعودي تقعي في هذا القول ، بل قولي يا سيدي محمد يا حنفي خاطرك معي)[2].

والصوفي في حياته قد يدعو للتوسل بالصوفية السابقين ، وبعد موته تسند إليه الأقوال الداعية للتوسل به . فالشاذلي مثلاً كان يقول إذا عرضت إليكم حاجة إلى الله فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد[3].وفي المصادر الشاذلية اللاحقة  كان المرسي تلميذه يقول أن الشاذلي قال له (إذا عرضت لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي) ،ويقول مؤكداً ما سبق (فكنت والله لا أذكره في شدة إلا انفرجت ، ولا أمر صعب إلا هان ، وأنت يا أخي إذا كنت في شدة فأقسم على الله به، وقد نصحتك)[4].

2 ــ ومن ناحية أخرى أوجد الصوفية بعض التدرج في التوسل حين كثر الأولياء وتفرعت الطرق الصوفية ، يقول الخفاجي (من كان له مقصد فعليه بالتوسل أولاً بسيدي عبدالعال في أن يترجى له من سيدي أحمد البدوي فهو المقبول عنده في حال الحياة ، فيكون في أمر البرزخ أسرع للإصابة )[5]. وكان المتبولي يقول (إذاكان لكم إلى الله حاجة فتوسلوا بسيدي عبدالله المنوفي، فإن لم تُقض فتوسلوا بسيدي شرف الدين الكردي ، فإن لم تُقض فعليكم بالإمام الشافعي ،فإن لم تقضى فعليكم بالسيدة نفيسة )[6]. فلم يتذكروا الله وسط هذا التدرج ولو فعلوا لما كانت هناك حاجة لهذه السلسلة الطويلة ، فهو تعالى قريب ولا واسطة بينه وبين عباده إذا أخلصوا له العبادة والدعاء ..

9- ويقول صوفي :

 

اني اتيتك يا ذا المشرع العالي

                                            فأنظر بلحظك في شأني وفي حالي

ولا تكلني إلا من ليس ينصرني

                                             ولا إلى ذي جفا للعهد لي قالــي

ففاقتي لك يا ذا الطول قد عُلِِمتْ

                                             منْ كسرقلبى ومن حالي ومن قالي

وقد تحاميت في الجاه المديد فلا

                                             تردني خائباً من فيض أفضـالي

اغث بجاهك من يأتيك ملتهفاً

                                             فالجود بالجاه فوق الجود بالمـــال

ومن أولى بغوثي منك يا أملي

                                            ومنتهى رحلتي ومنائي بل وآمالي

وصُن بعزك ياذا الطول وجهي عن

                                               سؤال غيرك ممن حاله حــالي

وقد نزلت بــباب  فــاز     قاصـده

                                              بــكل قصـد وتعظيــم وإجــلال ..

 

والقارىء العادي يعتقد لإول وهلة أن المقصود بهذا الخطاب هو الله تعالى، إذ لا يليق أن ندعو غيره بهذا الدعاء والتوسل ، ولكن ذلك الشعر قاله أحد المحبين في توسله للبدوي [7].

فقد نظم الصوفية كثيراً في شعر التوسل قياساً على ما قاله بعض الزهاد السابقين في الدعاء لله. ومن ذلك الشعر الصوفي ما قاله ابن الميلق الشاذلي فى التوسل بأبى الحسن الشاذلى : [8]:

 

فكن شاذلي الوقت تحظى بسره

                                         وفي سائر الأوقات مستغنياً بعن

فإنــــي له عـــبد وعبد لعبــــده

                                          فيا حبذا عبد لعبد أبى الحــسن

وإذا لم أكن عبداً لشيخي وقدوتي

                                          إمامي وذخري الشاذلي أكن لمن؟

 

ونقول لقاضي القضاة ابن الميلق الشاذلي : كن لله عبداً.أو لم تتذكر الله رباً لعبوديتك؟.

وصار من عادة النثر الصوفي أن يقال في ترجمة الصوفي أو حين يذكر (ونفعنا الله ببركته) أو (ونفعنا بهم)إلخ[9].

10- ولله ( سُبحانه تعالى ) ( يُسبّح ) كل شيء : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)  ) الاسراء ) يشمل ذلك الطير في أكنانها، يقول تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) النور). ، وزاحم الصوفية الله تعالى في ملكه فجعلوا الطير والحيوان يتوسل بهم من دون الله ، وكأنهم لم يكتفوا بالمريدين من البشر فطمحوا لمد نفوذهم على بقية الخلائق.!.

يقول الصوفية (إن يمامة تسكن في جامع عمروتوسلت بياقوت العرش في الإسكندرية فصحبها إلى الجامع وامر المؤذن ألا يأكل أولادها، فتقدمت اليمامة من الشيخ ووضعت منقارها على يده كأنها تقبله فبكى الجميع (وكانت ساعة عظيمة)، وهذه الأسطورة المؤثرة صيغت في أواخر القرن التاسع أى بعد موت ياقوت العرشي بأكثر من قرن.  وردّد ذكرها البتنوني في مناقب الحنفي [10]. والشعراني بعده [11]، ذلك أن القرن التاسع وما تلاه شهد تسيد التصوف للحياة المملوكية فلم يكتف أساطين التصوف بتوسل البشر، فأضافوا توسل الطيور والحيوان ، وحفلت بذلك كتب المزارات التي تدعو إلى تقديس القبور والأضرحة وتنسج هالة حول كل قبر ،ورأت ان تشرك الحيوانات والطيور في هذا الإفك رغم إرادتها ..

فقيل عن قبر مزور منسوب للسيدة عائشة المعروفة ببرء الطير( أن الطيور تأتي إلى قبرها وهى متألمة فتبرأ)[12]. وعن قبر أبي الحسن على المعروف بطب الوحش( كانت الوحوش   إذا  أصابها وجع أو ألم  تأتي إلى قبره تتمعك به فتبرأ )[13]. وقيل عن قبر أبي الحسن اللخمي ( كانت الوحوش تأتي إلى قبره تتبرك بترابه)[14]. وقيل عن قبر أبى زكريا ( وان السبع كان يأتي إلى باب أبى زكريا البستى ويتوسل به)  [15]. ونفس السبع ( المسكين ) كان يأتى إلى قبر أبي الطاهر المحلي (ويتوسل به)[16].

والأرجح ان الوحوش كانت تلجا إلى الترب  والمقابر تتبول عليها ، إذا كانت التربة على أطراف القاهرة وبداية الصحراء ، ورأى المريدون أن الوحوش تعبر بتبولها عن طريقتها فى التبرك بأوليائهم ، فسجلوا ذلك . ولسنا ملتزمين بتصديقهم..

11- ومن الطبيعي أن تستجيب البيئة المصرية لذلك التشريع الصوفي فتصلي للصوفية توسلاً بهم في الوقت الذي تهمل فيه الصلاة لله تعالى..

فالمقريزي عاب على ما شاع في عهده من قولهم ( أنا متوكل على الله وعليك ، وأنا في حسب الله وفي حسبك ، ومالي إلا الله وأنت ، وهذا من الله ومنك ، وهذا من بركات الله و بركاتك ، والله في السماء وأنت لي في الأرض) وجعل هذه الألفاظ شركا ًبالله[17]. والمقريزى كانت فيه نزعة إصلاحية جعلته يُنكر على الصوفية ، وهو هنا يرى إنه لا يصحّ اسلاميا القول بالتوكل على الله جل وعلا وعلى بشر آخر معه .

والواقع ان سهولة جريان هذه الألفاظ  على اللسان إنما ترجع إلى شيوع التوسل بكل شيء وبأى شيء طالما تمتع بإعتقاد الناس حتي لو كان حجراً ، فالمثل الشعبي يقول ( لواعتقد أحدكم في حجر لنفعه )[18]. ويجدر بالذكر ان ذلك المثل الشعبي صدر عنه حديث موضوع بعناية التصوف يقول ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، وقد نقده ابن القيم وقال فيه ( وهو من وضع المشركين عبُاد الأصنام ) [19]، وهل الأضرحة والأنصاب إلا أحجار تعبدها وتقصدها العامة بحسن الإعتقاد وكبير التوسل والتذلل ؟؟..

ولقد أضحى التوسل فى مصر المملوكية عادة مصرية أصيلة يتميز بها المصرى على ما عداه ،فقد ورد أن السلطان قايتباى أمر بضرب مملوك اشتراه حديثاً ، (فصار المملوك يأكل الضرب ويقول " يا ستى نفيسة " فغضب السلطان أعظم الغضب وصار يقول لمقدم طبقته "هذا ما هو جلب إنما هو زقاقى " يعنى لأى شئ يضرب ولا يقول " توبة حجم " على عادة الأتراك ،ثم أمر أن يسلموه لتاجره)[20]فقد استجار المملوكى(حين ضربوه ) بالسيدة نفيسة فافتضح أمره ،واكتشف السلطان إنما هو مشترى من أزقة مصر، لا من الرقيق الوارد من الخارج ،( أى جلبى ) فأمر برده .

وشاع التوسل بالأولياء والأنبياء حين الأزمات كالضرب مثلاً كما سبق مع ذلك المملوك، ونحو ذلك ما روى عن بعضهم من أنه كان يتوسل بابراهيم الخليل وهو يتعرض لعقوبة الضرب [21]، وقال ابن حجر ان الأمير كشبعا كتبغا كان يضرب مملوكه كلمش فصار يتشفع عنده بالله والرسول[22]، وهو قريب مما يقال فى البيئة الشعبية حين الضرب (أنا فى عرض النبى )..

وقد نشأ الناصر محمد بن قلاوون في مصر وتأثر بالتوسل السائد فيها ، وحدث في أثناء معاركه مع التتار أن صاح مستغيثاً بخالد بن الوليد فقال له ابن تيمية وهو معه ( قل يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين)[23]. . وابن حجر لم يكن صوفياً، بل كان منكراً على صوفية عصره ،ومع ذلك فحينما مات وصار له قبر وشُهرة وصيت قصدته العامة بالتوسل وقالوا فيه (من توسل به إلى الله في حوائجه قضيت)[24].

وأبرز عبارات التوسل الشائعة حتى عصرنا هى قولهم ( مدد يا شيخ فلان ) عند زيارة ضريح انتظاراً لمدد – لن يأتي – من صاحبه .. والمدد هو العون . والمدد أو العون لا يأتى إلا من الله جل وعلا. ولقد قالها نوح عليه السلام لقومه من قبل : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) نوح) وبعده قالها خاتم المرسلين لأصحابه فى موقعة بدر: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران  )

وكان ينادي على الولد التائه بقولهم (يا عدوي) والعدوي شيخ صوفي ينسب إليه انه يحضر التائه [25]. أو هو عندهم  ( إله) صوفي زعموا انه تخصص في إحضار الأطفال التائهين فكانوا يتوسلون به وقت الحاجة .



[1]
الطبقات الكبرى جـ2/88 ،الجواهر السنية 79.

[2]مناقب الحنفى مخطوط 490: 493.

[3]لطائف المنن لابن عطاء .

[4]المفاخر العلية 17.

[5]النفحات الأحمدية 155.

[6]عيون الأخبار جـ2/453: 454.

[7]عبد الصمد .الجواهر السنية 117.

[8]المفاخر العلية 7.

[9]على سبيل المثال .روض الرياحين 15، 20 ،23 إلخ.

[10]مناقب الحنفى 139: 142.

[11]لواقح الأنوار 321: 322.

[12]الكواكب السيارة 79، تحفة الأحباب جـ4/208.

[13]الكواكب السيارة 79.

[14]الكواكب السيارة 121.

[15]تحفة الأحباب جـ4/352.

[16] الكواكب السيارة 229

[17]تجريد التوحيد المفيد 12 تحقيق طه الزينى .

[18]شعلان الشعب : المصرى167.

[19]المنار المنيف في الصحيح والضعيف 139.

[20]أنباء الهصر 275.

[21]التبر المسبوك 303.

[22]أنباء الغمر جـ2/29.

[23]تاريخ المقدس مخطوط 42ب.

[24]السخاوى التبر المسبوك 231.

[25]قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية 478، 469.

اجمالي القراءات 7396