ج1 ب1 ف1 : الغزالي ( 450 – 505) هـ وعقيدة التصوف

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٢ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول: العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف             

 الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية  من خلال الصراع السنى الصوفى                     

   الفصل الأول : المرحلة الأولى للعقيدة الصوفية : من بداية التصوف في القرن الثالث الهجري إلى وفاة الغزالي سنة 505                         

:  الغزالي ( 450 – 505) هـ وعقيدة التصوف

أولا : الإنكار على الغزالي وكتابه ( إحياء علوم الدين )   :

1- أثر الغزالي في دين التصوف لا يُطاول ، فإذا كان الجنيد – وهو سيد الصوفية – قد استطاع بالنفاق والتقية أن يحفظ التصوف بمنأى عن الأعاصير المهلكة ، فإن الغزالي هو الذي دخل بالتصوف عصراً  جديداً حين أسبغ عليه الشرعية الإسلامية بمفهوم عصره ، اى بالكتاب والسّنة ، وقرّب بينه وبين مذهب أهل السنة ، فخلق ( التصوف السنى ) الذى إنتشر وسيطر فيما بعد . وهي خطوة جبارة لم يكن لها أن تتم إلا بشخصية الغزالي الذي تمتع في عصره بزعامة الفقهاء والمتكلمين مع تقدير الحكام والعوام .

2- وقد بدأ الغزالي فقيهاً تتلمذ على يد إمام الحرمين في المذاهب والخلاف والجدل والمنطق والحكمة والفلسفة ، وصنف في كل فن منها ، وبعد موت إمام الحرمين قصد الغزالي نظام الملك وناظر العلماء بحضرته وتفوق عليهم فولاه نظام الملك تدريس المدرسة النظامية ببغداد فازدادت شهرته ، ثم أصيب بالتصوف فاعتكف بالجامع الأموي بدمشق ، وصنف كتابه الأشهر ( الإحياء ) وقضى آخر عمره في موطنه بطوس يوزع أوقاته بين مدرسة الفقهاء وخانقاه الصوفية .

3- ويبدو أن تعاطف الغزالي مع التصوف قد بدأ في أخريات تلمذته لإمام الحرمين ، فيقال أن إمام الحرمين كان في آخره يمتعض من الغزالي في الباطن وإن كان يُظهر غير ذلك .. وربما منعت هيبة إمام الحرمين الغزالي من إعلان تصوفه ، خاصة وأن الجويني - إمام الحرمين – كان يحتقر الصوفية ، وقد قال فيهم ( ما شغل هؤلاء إلا الأكل والشرب والرقص ) [1].

وبعد موت الجويني وخلو الجو للغزالي واشتهاره في بغداد وتصدره للعلماء فيها – أعلن الغزالي تصوفه وألف كتابه " الإحياء" .

4- بيد أن ذلك كله لم يكن عاصماً له من ثورة الفقهاء عليه ، ومع أنهم كانوا دونه علماً وشهرةً ونفوذاً إلا أنهم أفتوا بتكفيره وأحرقوا كتابه " الإحياء" في مواضع شتى في البلاد الإسلامية [2]  ، حتى اضطر الغزالي إلى تصنيف مؤلفات يرد بها على منكري كتابه " الإحياء" ومنها " إشكالات الإحياء " ، وفيه يقول مستهينا بخصومه ( أدلة الطريق هم العلماء ورثة الأنبياء وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون ، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان )[3] .

5- وواجه الصوفية الإنكار على شيخهم الغزالي وكتابه ( الإحياء ) بأسلوبهم التقليدي وهو المنامات التي يدعون بها أن الرسول عليه السلام يؤيدهم ويهاجم خصومهم ،  ومع أن المنامات لا تُعد دليلاً علمياً أو دينياً إلا أن خطورتها الدعائية  في مجابهة الإنكار على الصوفية أمر مقرر ، خاصة وأنها تخاطب العامة وتقنعهم وتستقر في أعماقهم قروناً ، ولقد إستعمل الحنابلة أيضا أسلوب المنامات لأنها تحظى بتصديق العوام ، ومن يتمتع بعقلية العوام ..

  وفي معرض الدفاع عن الغزالي حرصت المنامات الصوفية على أن تجعل النبي صلي الله عليه وسلم يبارك الغزالي و(الإحياء) ويهين المعترضين [4] ، وقالوا في أحد المنامات أن الإمام " ابن حرزهم " الفقيه المغربي كان قد بالغ في الإنكار على كتاب الإحياء وهمٌ بإحراقه فرأى الغزالي عند الرسول عليه السلام يقول له عن ابن حرزهم : يا رسول الله هذا خصمي فخذ لي حقي منه ، وأن النبي عليه السلام تصفح كتاب الإحياء وأثنى عليه ، وأمر بجلد " ابن حرزهم " ، واستيقظ الفقيه وأثر الجلد على جسده ، وانتهت الأسطورة بتصوفه [5] .

  وابن حرزهم هذا لم يكن رأس المنكرين على الإحياء كما تصوره تلك الأسطورة فقد كان ابن رشد [6] خصم الغزالي وزعيم المنكرين عليه في المغرب ، أما ابن حرزهم هذا فمجهول جعله الصوفية بطلاً في منام يحقق غرضهم .. ويقول " العيدروس" معلقاً على إحراق كتب الإحياء في المغرب ( روى السمعاني أن بعضهم رأى فيما يرى النائم كأن الشمس طلعت من مغربها ، مع تعبير ثقات المعبرين ببدعة تحدث ، فحدثت في جميع المغرب بدعة الأمر بإحراق كتبه ) [7].

  وبعض الصوفية عوضٌ الغزالي عن العنت الذي لاقاه من المنكرين فجعله مجدد الإسلام على رأس المائة الخامسة [8].

6 – ووصف الغزالي ما فعله خصومه بكتابه ( الإحياء ) فقال ( طعنوا عليه ونهوا عن قراءته ومطالعته ، وأفتوا بإطراجه ومنابذته ، ونسبوا ممليه إلى ضلال وإضلال ، ورموا منتحليه وقراءه بزيغ عن الشريعة ) [9] . وفي المقابل بالغ الصوفية في تقديس الإحياء ، إلى درجة المقارنة بالقرآن الكريم ، فاهتموا بحفظه بلفظه وتوارثوا التوصية  به عند الموت ، وقيل فيه ( لو قلب أوراق الإحياء كافر لأسلم ، ففيه سر خفي يجذب القلوب شبه المغناطيس ) .. وقال الإمام النووي ( كاد الإحياء أن يكون قرآنا ) [10].

ثانيا : تأثير كتاب ( الإحياء ) على مسيرة التوصف

1- ويظل ( إحياء علوم الدين ) أخطر كتب الصوفية على الإطلاق .. وتكمن خطورته في أنه لم يكن كتاباً مقتصراً على التصوف وحده كما فعل الطوسي في اللمع والقشيري في الرسالة قبل الغزالي ، وكما فعل ابن عربي في الفتوحات المكية والفصوص فيما بعد . ولكن الغزالي عرض لشتى العلوم الإسلامية في عهده وأوردها في خدمة هدفه الأصلي وهو التصوف والعلم اللدني الذي يتمتع به الصوفية دون العالمين ، ثم يعرض لعقائد التصوف في نواح متفرقة في ثنايا بحثه لموضوعات شتى قد تبدو بعيدة الصلة بالتصوف .

2 ــ وأدرك الغزالي مطاعن الفقهاء في عصره [11]، وتفوق عليهم بالمنطق والفلسفة فعرض في كتابه للموضوعات الفقهية بنظرة ( روحية ) قلبية  ، أعلى فيها من شأن العوامل الباطنية في أداء العبادات كالنية والرياء والإخلاص ، وفي عرضه للفقه بهذا المنهج الجديد لم ينس التعريض بخصومه الفقهاء الذين غالوا في استقراء الحركات الظاهرية ، يقول الغزالي ( يتكلم الفقيه في الإسلام فيما يصح وما يفسد وشروطه ، ولا يلتفت إلا إلى اللسان ، أما القلب فخارج عن ولاية الفقيه .. وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى  بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها )[12].

3 ــ وأتخذ الغزالي من هذا المطعن سبيلاً إلى أن العقيدة وبحوثها تخرج عن إمكانات الفقيه وليس من رجالها ، وبالتالي فليس في وسعه أن يفهم علوم المكاشفة – أو عقائد التصوف – التي انفرد بها الصوفية ( .. وإذا تكلم الفقيه في غير الدنيا – أي تكلم في صفات القلب وأحكام الآخرة – فقد تطفل )[13].

 ثم ارتدى الغزالي ثوب الفقه فهاجم المتكلمين وأعتبر هذا العلم من البدع [14] ، وعلم الكلام ألصق بالفلسفة ، ومعلوم أن الغزالى قد ألف في الفلسفة ( تهافت الفلاسفة ) ينقم فيه على " ابن رشد " اتجاهه العقلي الأرسطي مع أن العقيدة الصوفية عند الغزالي مستقاة من الفلسفات الغنوصية اليونانية التي سبقت في شرح مقالة الاتحاد بالله .. ثم أن الغزالي كان يستعير أسلوب الفلاسفة في شرحه لعقائد الصوفية ..

4 ــ واحتاج الغزالي إلى إختراع سند إسلامي وسُنّى يعزز به عقيدة الصوفية فوجد ضالته في الأحاديث الموضوعة وتأويل الآيات القرآنية .  ويمتلئ ( الإحياء) بالأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وهو ما يتضح في تخريج الحافظ العراقي للأحاديث الواردة في الإحياء . هذا مع تعاطف العراقي مع الغزالي واستدلال الصوفية بأقواله في هذا الشأن . والواقع أن كثرة الأحاديث الباطلة في الإحياء كانت أهم المطاعن التي ووجه بها الغزالي ولم يجده نفعاً ما دافع عنه أتباعه [15].

5 ــ إلا أن الغزالي في نهاية الأمر وقع في التناقض مع نفسه كفقيه وكصوفي .. والتناقض سمة أساسية من سمات الفكر الصوفي ، وتتجلى أكثر عند أولئك الصوفية الذين يحاولون التوفيق بين الإسلام والتصوف كالغزالي والشعراني .

6 ــ وتبقى الفائدة الكبرى للإحياء للعقيدة الصوفية ، فالفقيه العادي يفاجأ بكلام جديد في الفقه يخاطب وجدانه ويناقش خطرات قلبه ووساوس الشيطان في نفسه فلا يسعه بعد ذلك إلا التصديق بمزاعم الغزالي عن العلم اللدني الذي أوتيه الأولياء الصوفية ، ثم يؤمن بأن العلم درجات والفقه درجات ، ثم ينتهي إلى الإيمان بأن العقيدة درجات، وأنّ أدناها التوحيد الإسلامي ( لا إله إلا الله ) وأعلاها وحدة الوجود ( لا موجود إلا الله ، كل الموجودات هى الله .!!) ، وهو نفس التقسيم الطبقي الذي قاله الغزالي في الإحياء متابعا " للجنيد " .



[1]
اليافعي روض الرياحين 14 .

[2] الشعراني : الطبقات الكبرى جـ 1 / 10 .

[3] إشكالات الإحياء 68 على هامش الإحياء.

[4] العيدروس : التعريف بالإحياء 12 ، 13 على هامش الإحياء .

[5] العيدروس نفس المرجع 9 : 12 .

[6] الشعراني: المرجع السابق جـ 1/ 10.

[7] التعريف بالإحياء 29 .

[8] نفس المرجع 34 .

[9] نفس المرجع 49 ، 15 إلى 22 .

[10] نفس المرجع 49 ، 15 إلى 22.

[11] قال ابن الجوزي ( كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث .. ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا ًوصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها  وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا ، وربما أعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم .. تلبيس إبليس 115 ) .

[12] الإحياء جـ 1/ 19 .

[13] الإحياء جـ 1 / 19 .

[14] الإحياء جـ 1/ 20 .

[15] التعريف بالإحياء 27 : 29 .

اجمالي القراءات 9485