وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ "
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا

محمد صادق في السبت ٢٣ - أغسطس - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

محاسبة النفس

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ " (سورة البقرة 284)

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) " (سورة الصافات)

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) (سورة الشمس  )

ما من شيئ فى عالم الإنسان يتصف بالكمال المطلق، وكل شيئ فى حياته يحتاج إلى المراجعة والتنقيح والتصحيح، ليخلص من الشوائب والنواقص والعثرات وأسباب الضعف والتخلف.

والتسليم بهذا المبدأ، مبدأ الإعتراف بالنقص وعدم توفر الكمال فى عالم الإنسان هو الضمانة الأولى لتحقيق التكامل والنضج والإستقامة. فعندما يسَّلِم الإنسان أنه لا بد وأن يخطئ، وأنه ليس بمستوى الكمال فى كل فعل وموقف ولا بد أن تصدر عنه الهفوات والزلات ويقع فى الخطأ والقصور بسبب الجهل، أو هوى النفس ونزغ الشيطان، أو القصور وعدم القدرة على إدراك الحقيقة، أو تحقيق الكمال، فإنه يثبت الأساس والمطلق فى مسيرته.

أما المغرور الذى لا يسَّلِم بقصوره الإنسانى أو تقصيره، فسوف لن يرضى ولن يخضع نفسه للمحاسبة والنقد الذاتى. وسيبقى موطنا للأخطاء والهفوات والتخلف بعيدا عن الحقيقة والمستوى الأخلاقى والعلمى اللآئق بالإنسان.

إن محاسبة الإنسان لنفسه على خطئه وتقصيره بحق الله سبحانه والناس ونفسه علامة صحة فى تفكير الإنسان ودليل يقظة ضميره وحسه الأخلاقى.

لقد إعتن القرءآن الكريم كثيرا بتربية هذا الجانب المهم فى شخصية الإنسان، جانب النقد والمحاسبة الذاتية، وقبول ذلك ممن يوجهه إليه فى مجالات كثيرة من كتاب الله السميع العليم. فقد دعت المبادئ والقيم الإسلامية إلى محاسبة النفس والإحساس بالمسؤولية، وحثت الإنسان على أن يراجع نفسه ويقف وقفة تأمل معها، يراجعها ويحاورها ويشكل عليها أشكال الخصم المتهم وينقدها نقد الناصح الأمين. ويغور إلى أعماقها ومداخلها المعقدة التى تحاول الإخفاء وإصطناع الأعذار والمبررات والمدافعة والمغالطة.  

إن من أخطر الحالات التى يواجهها الإنسان فى حياته العملية والفكرية هى حالة إعتبار كل ما يصدر منه حسنا ومتفوقا ومتكاملا وغير قابل للمناقشة ولا نقص فيه، مما يدفعه إلى المغالطة والدفاع عن الخطأ والإصرار عليه. ويدافع من الجهل أو الكبر فلا يقبل المحاسبة ولا يستمع للنقد البناء الذى يوجه إليه.

قد تحدث القرءآن عن تلك الظاهرة الإجتماعية السيئة التى واجهت الدعوة الإسلامية فى حياة الرسول الكريم محمد عليه السلام، وصدت الكثيرين عن الهدى. وعرض تلك الحالات كنماذج لوضع نفسى وأخلاقى معاكس للطريقة العلمية والإستقامة الأخلاقية والصحة النفسية. قال تعالى:

"  وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)  سورة البقرة .

فذلك نموذج من الإصرار على الخطأ والباطل، وعدم التنازل عن الموقف والفكرة والطريقة التى ألفها أو إختارها لنفسه. ويتطابق هذا الموقف وذلك النموذج البشرى مع نظيره الذى زين له الشيطان عمله فرآه حسنا. يقول تعالى:

"  أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) سورة فاطر .

إن الإنسان قد يُعرض لعملية خداع وتضليل باطنى، تستحكم فى العقل الباطن أو فى أعماق الذات أو يصور له من يحيطونه ويؤثرون على صنع قراره، ومواقفه وسلوكه وتعامله مع الناس وعلاقته مع الله سبحانه. فيرى سوء عمله وتصرفه وقصور رأيه وتخلف قراره أمرا حسنا بسبب تلك المؤثرات الذاتية أو الخارجية غير الواقعية. فيصر على الخطأ ويدافع عنه بعين الرضى وبمستوى النضج والكمال ويلجأ إلى المبررات والمدافعة ومخادعة النفس ومحاولة إقناع الآخرين.

فهو يفعل كل ما يتصور إنه مقنع لنفسه وللآخرين بصحة رأيه وسلامة موقفه ولكنه يبتعد عن قبول النقد وإعادة التقويم والحساب ومراجعة النفس على ضوء الواقع والموازين الأخلاقية والعقلية. وينبه القرءآن الكريم على خطورة النوازع الشيطانية التى تساهم فى التاثير عل الموقف والقرار، ويدعو إلى إستماع كلمة النصح والنقد والرشد ويؤكد  للإنسان المغرور الواقع تحت تأثير المغالطة والمكابرة. إن العزة وقوة الشخصية والقرار ليست فى الإصرار على الخطأ  بل قبول الحق والتطابق مع الحقيقة والإستماع إلى كلمة الرشاد. يقول تعالى:

"  مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) سورة فاطر

ويقول أيضا: " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ " (سورة البقرة 284

وقد جعل الله سبحانه الإنسان رقيبا على نفسه ومقوما لها وازنا لحقيقة أفكاره ونواياه وأفعاله عندما خاطبه بقوله:

" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) " (سورة القيامة

أن الإنسان إن لم يحاسب نفسه على تقصيره وخطئه فإن الله سبحانه يحاسبه والناس يحاسبونه والقانون يحاسبه ويسأله الجميع على تقصيره وسيتحمل نتائج ذلك ومسؤوليته وعندئذ سيجد نفسه فى قفص الإتهام يقف أمام أسئلة كثيرة لا يملك لها جوابا مقنعا ومقبولا. إنه لو اخضع نفسه وعمله للحساب ووقف وقفة تأمل وخلا بنفسه أو بمن يثق به من الأهل والأصدقاء والناصحين له، وقيَّم عمله ومواقفه وسلوكه لأستطاع أن يكشف نقاط الضعف ويُشخص مواطن التقصير فيعالجها. ..... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.....

إن من صفات المؤمن هى محاسبة النفس وإجراء التحقيق المستمر معها، ذلك لأن المحاسبة عبارة عن عملية تنقيح مستمرة للشخصية وإعادة بناء الذات. فالفرد والجماعة فى أعمالهم الفردية والجماعية، سواء كانت فى مجال النشاط الفردى أو التعبدى أو الإجتماعى أو السياسى أو الفكرى، إذا سيطر عليهم الغرور وإستمروا فى عنا دهم دونما نقد للذات ومحاسبة للمواقف سيقودون أنفسهم إلى الهاوية والهلاك. ويسوق القرءآن الكريم بشراه إلى الذين يتعاملون بقلب منفتح وعقل واعى ووضع  نفسى سليم، مع كلمة الخير التى تأخذ الإنسان وتهديه سبيل الرشاد وتنجيه من الهلكة والضياع والتردد والتخبط الفكرى والأخلاقى والسياسى والإجتماعى. يقول سبحانه:

" فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) الزمر 

ومن الخطأ الذى يقع فيه كثير من الناس هو كراهية سماع ما يُظهر نقصهم أو تخلفهم وخطأهم، لذلك فهم يميلون إلى من يُزين لهم عملهم ويكيل لهم المديح والثناء بغير حساب، وينفرون ممن يوجه إليهم النقد البناء والتقويم السليم ويقدم لهم النصح. إن الذين ينقدوننا نقدا بناء هم الناصحون وهم الذين يساهمون بتسديد خطئنا، وتقويم سلوكنا وعملنا الشخصى أو السياسى والإجتماعى والثقافى.

أما الذين يغلفون حالة الملق والتزلق وإنتهازية بالمديح والثناء المفتعل فهم عنصر هدام ودخان يحجب العيون عن رؤية الحقيقة، فينبغى للعاقل ىأن يفتح قلبه ونفسه لسماع نقد المخلصين وأن يستفيد من نقد الخصوم وإثاراتهم وطعونهم ليحصِّن نفسه وينقح سلوكه وأفكاره ومواقفه فى كل مجال يوجه إليه النقد فيه.

وللنقد والمحاسبة آدابها وأصولها الأخلاقية والإنسانية، ومن أبرز تلك الآداب والأصول أن يكون الناقد مخلصا موضوعيا وأمينا ومحبا للخير ولمصلحة الآخرين الذين يوجه إليهم النقد. فالنقد آداة ترشيد وتقويم وعامل بناء وتسديد للإنسان وتصحيح لمسيرته وليس أداة هدم وتخريب وإسقاط الشخصيات والجماعات والإتجاهات السليمة.

فالإنسان الناقد يجب أن يتصف بالصدق والإخلاص والموضوعية ويبتعد عن التهريج والإثارة الهدامة وإرباك الآخرين والتشكيك بهم. وينبغى للناقد أن يتناول المواقف والقرارات والأفكار والآراء بأسلوب علمى، وبنقد موضوعى يساعد الآخرين على رؤية النواقض وتشخيص الضعف والتخلف والخطأ وتلَمُسْ طريق الصواب والتغيير، والتحرك نحو التكامل، وليس التشهير والطعن وكشف النواقض فى ذهن الناقض بشكل مثير وهدام.

فإن ذلك الأسلوب ليس من أساليب النصح والتسديد بل هو من وسائل الهدم والتخريب وتضييع الحقيقة والجوانب الإيجابية فى الشخص أو الجماعة التى يوجه إليها النقد بإثارة الغبار والتشكيك من خلال نقاط الخطأ أو التقصير بحيث لا ترى إلا نقاط الضعف والقصور والصورة الشوهاء التى يصورها الناقد الهدام.

إن القرءآن الكريم يؤكد وجوب الإلتزام والإنضباط الأخلاقى عند التقويم والنقد والمحاسبة ويعد القول السديد من التقوى والتكامل الأخلاقى:

  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " (سورة الأحزاب 70)  "

فى الوقت الذى ينهى فيه عن تضييع الجوانب الإيجابية ومجالات القوة والحسنات والسلوكية البناءة وإهمالها عند النقد والتقويم فيقول سبحانه:

"  وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " (سورة الأَعراف 85

فلا بد لمن يريد أن يمارس عملية النقد أن يلتزم بتلك الأصول والآداب ويحافظ عليها.

فالنقد الهدام وإستغلال الثغرات وإنتهاز الفرص وتتبع العثرات ومحاولة إظهار أعمال الآخرين ومنهجهم الثقافى أو جهدهم العلمى أو عملهم السياسى والإجتماعى بمظهر الخطأ والتخلف والتفاهة، بدافع الأنانية أو النزعات الشخصية أو بسبب الجهل والتعصب.

إن كل ذلك لا يسمى نقدا بل هو عملية هدم وإسقاط لجهود الآخرين، وإحباط لمساعيهم وإعاقة لنمو مشاريعهم وأعمالهم الإصلاحية والعملية أو الساسية والثقافية. فكثير من الناس يقدم على مشروع عمل فيصدر صحيفة أو مجلة إسلامية أو يبنشئ جمعية خيرية أو مشروعا ثقافيا كالمدارس والمعاهد الديتية أو يؤسس حركة إسلامية أو يحدث نشاطا وعملا سياسيا وإجتماعيا، فيخطئ أو يفشل فى عمله بسبب قلة الخبرة، أو ضعف الإمكانيات أو عدم توفر الظرف المناسب.

إن من حق أولئك العاملين الإسلاميين على الآخرين هو التسديد والنصح وتقديم العون والخبرة والنقد البناء بالوسائل والطرق الصحيحة المثمرة: " وقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً ... " البقرة 83

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) (سورة إِبراهيم

ومن آداب النقد والمحاسبة فى الإسلام هو عدم التشهير بالأخرين، أو الإضرار بسمعتهم ما زالوا يحملون النوايا المخلصة والقصد الصادق فى إتجاههم الإيمانى. بل تتأكد المهمة النقدية البناءة كمسؤولية رسالية وواجب أخلاقى يتحمله المؤمن. فعلى الناقد أن يصور الحقيقة ويشخص الواقع وعلى المنقود أن يتقبل بصدر رحب وعقل منفتح ذلك النقد البناء والنصيحة الصادقة. وفى الوقت الذى يريد الإسلام أن تكون المهمة النقدية لأعمال الآخرين الفكرية والإجتماعية والسياسية وأمثالها، مهمة تصوير للحقيقة ولنقاط الضعف والقوة كما تصور المرآة الواقع دون تزييف أو تلاعب أو تدخل ذاتى أو أنانى، فإنه ينهى المؤمنين المتآخين فى الله سبحانه أن يهتك بعضهم حرمة بعض ويحصى عليه زلاته ليسقط ويزعزع مكانته أو يحط من كرامته وقدره. " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " (سورة ق 18

ولنتحاشى التشهير بالآخرين ومحاولة إسقاطهم وليكن هدفنا من النقد هو الإصلاح وليكن دافعنا إليه هو حب التغيير وحب الخير. لنبتعد عن التبرير والإسقاط ومخادعة النفس، فمن الخطأ أن نقنع أنفسنا بصحة كل ما يصدر عنَّا والرضى بأوضاعنا دون أن نعمل على إعادة النظر فيها وتمحيصها وتصعيد مستواها.

* حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا.... والحمد لله رب العالمين

اجمالي القراءات 17455