الإعجاز القرآني في تأثير البيئة على السلوك البشري ... (5)
الأثر الخاص على السلوك البشري ... (5)

خالد اللهيب في السبت ٢٦ - يوليو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

في المقال السابق تحدثت عن الأثر العالم للبيئة على السلوك البشري ، وفي هذا المقال أتحدث عن الأثر الخاص للبيئة على البشر ، خاصة الأنبياء والرسل منهم عليهم السلام من الله العزيز الرحيم.
1 – نرى الأثر الخاص للبيئة في قصة النبي إبراهيم عليه السلام ، فقد عاش في منزل يحترف صناعة التماثيل ، التي تقدس وتعبد لاحقا بعد تشكيلها وصناعتها ، مما جعل الفتى إبراهيم يتنبه الى أن المادة التي يعجنها بين يديه ورجليه ما هي إلا صلصال يُحرق ثم يشكل على أي صورة أو هيئة أرادها وهي لا تسمع أو ترى ولا تنفع أو تضر.
من هنا أثرت به بيئته المنزلية وجعلته يفكر مليّا ويتساءل حول مدى صحة وأحقية ما يعبد قومه من تماثيل عجنها بين يديه ورجله ؟ ، ليتطور فكره وتساؤلاته الى البحث عن خالق السماوات والأرض ، فأين مكان وجوده ؟ ، وكيف السبيل للإتصال به ؟.
فقد صور لنا القرآن الكريم ذلك ، حينما أورد قائلا :( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) الأنعام.
لم يكن من الممكن أن تدور مثل هذه الأفكار في فكر الفتى إبراهيم ، لولا عمله مساعدا لوالده في صناعة التماثيل ، لذلك أعمل الفتى إبراهيم فكره وعقله ، باحثا ومتقربا من خالق السماوات والأرض ، حتى أعياه الجواب واستسلم لذلك الخالق الذي لا يرى ولا يحسّ ولا يتجسد بمادة محسوسة تمسك ، لذلك قال : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) الأنعام.
فالفتى إبراهيم جاهد في الله عز وجل ، عبر العقل والمنطق ، وهو مازال فتى دون سن التكليف ، فقد قال مجتمعه وكهنته ،( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) الأنبياء.
تكريما لهذا العقل النير والفكر الوضاء والإيمان الراسخ ، أوضح القرآن الكريم أن النبي إبراهيم عليه السلام ، لم يكن يوما من الضالين ، بل كان لوحده أمة قائمة بذاتها ،( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) النحل.
وعلى هذا لم يكن في وسع النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلا الإمتثال لأمر الله عز وجل واتباع هذه الأمة المتجسدة في سيدنا ونبينا إبراهيم عليه السلام ،( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) النحل.
2 -- النبي محمد عليه الصلاة والسلام إبن بيئته :
نرى بيئة ومجتمع النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، بيئة ضالة كافرة ، تتصف بالأمية والجهل بالدين ، فقد قال الله سبحانه وتعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) الأعراف.
فالنبي محمد عليه الصلاة والسلام عاش وترعرع في مجتمع جاهل ضال بدين الله عز وجل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إبن بيئته ومجتمعه لذلك إتصف بالأمية والضلالة بدين الله عز وجل ، ذلك قبل أن يوحى له ، فقد خاطبه الله تعالى قائلا :( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) الضحى.
وقد بيّن رب العالمين الأمية الدينية لمجتمع النبي محمد عليه الصلاة والسلام حينما وصفهم بالأميين ، فقد أورد قائلا :(..قُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) أل عمران ، فلو لم يوح للنبي محمد عليه الصلاة والسلام لعاش ومات وهو من الكافرين ، يسري عليه ما يسري على باقي أفراد مجتمعه من الجهل بالدين ، وما ذلك إلا إنقيادا للمناخ العام السائد في مجتمعه.
3 -- أثر البيئة الخاصة المنزلية مع النبي موسى عليه السلام :
لم يكن من سبيل لقهر وهزيمة فرعون موسى إلا من داخل منزله ، لما إتصف به من القسوة والقهر والجبروت ، كما الطاعة العمياء له من قبل مجتمعه ، حتى بات مجتمعه يراه ممثلا للإله وهو إبن الإله على الأرض ، فطاعته من طاعة الإله ، فهو يملك مصر وما عليها ، وقد إستتب له الأمر من كل جانب ،( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف.
فما كان من سبيل لهدم هذا المناخ العام الذي لا يرقى إليه الشك من أي جانب أتى ، إلا من داخل منزل فرعون نفسه ، لذلك بعث الله رب العالمين موسى عليه السلام ليتربى على حجر فرعون ويتخذه ولدا ،( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) القصص.
فهذا الطفل (موسى) ، حينما يترعرع بين زراعي فرعون وداخل قصره وبين حاشيته ، سيعلم و يوقن حينئذ أن فرعون ما هو إلا بشر كسائر البشر ، بل ربما أحطّ و أخسّ أنواع البشر ، من هذه البيئة المنزلية إستمد موسى عليه السلام بالقوة والسلطة واليقين الى أنّ فرعون ما هو إلا بشر كسائر البشر ، وهو مستعبد للبشر من دون الله عز وجل ، لذا بعثه الله عز وجل رسولا ونبيا ومخلصا بني إسرائيل والعباد من عبادة فرعون الطاغية.
وعلى الرغم من هذا ظل موسى على خشية عظيمة من جبروت فرعون لذا طلب الإستعانة بأخيه هارون كسند له ، فقد أمره رب العالمين قائلا :( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص.
4 -- أثر البيئة التي تربى عليها وعاش بها فرعون مصر :

يذكرُ فرعونُ في القرآن الكريم كلقب لإسم الحاكم المستبدّ ، ويقال فرعون موسى ، أي فرعون الطاغية الذي تزامن حكمه مع بعثة موسى عليه السلام ، كرسول ونبي ، إنّ إغفال إسم الحاكم الفعلي لمصر في القرآن الكريم ، كمنقرع وأخناتون و رمسيس له أسبابه المنطقية والموجبة منها :
1-- أن هؤلاء المستبدّون أحقر من أن يذكروا بإسمائهم الشخصية تخليدا لسجلهم الظالم خاصة في كتاب الله عز وجل وهو الخالد ما خلدت السماوات والأرض ، وهذه الخاصية لم ترتبط بفرعون مصر فقط بل نراها مع أبي لهب وإمرأته و غيرهم كثر.

2-- إن لقب وإسم فرعون يمثل حكم الطغاة والمستبدين في كل مكان ولأي زمان ، فهو أظلم الظالمين وإمام الكافرين ، لذلك أخص الله عز وجل فرعون وآل فرعون بعذاب مستمر الى قيام الساعة دون العالمين من العباد ، فقد وصف عز وجل وضعهم قائلا :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) غافر.
عوامل إستمرار الإستبداد والظلم في المجتمع :

-- إن حالة الإستبداد التي يمارسها ويعيشها الحكم الجائر الظالم ، عادة لا تنتهي بانتهائه وغيابه ، إنما تنتهي جزئيا أو موقتا وعلى مهل ، فجسم الدولة ونهج الحكم يحتاج الى وقت طويل للتخلص من صنوف الظالمين والفاسدين و المتربعين على مفاصل الدولة ومؤسساتها وإداراتها العامة ، كذلك يحتاج الأمر الى إيمان حقيقي بالعدالة و القدرة على التغير وعدم القبول بالظلم أو ممارسته من قبل الشعب.

-- فالتغير الحكومي والإتيان بوزراء جدد لا يعطي مفعوله ولا ينتج خدمة ولا يأتي بإصلاح إذا لم يتم تغير نهج الحكم والحاكم نفسه ، ويحتاج الى فترة من الزمن قد تطول وتنقص تبعا لمدى إستشراء الفساد واهتراء مؤسسات الدولة من الداخل ، ففي أحسن الظروف يحتاج أي وزير الى فترة من الزمن لا تقل عن سنة حتى يدرك مواطن القوة والضعف في وزارته وإدارته ، وكيفية سير العمل والقوانين والمراسيم المرعية الإجراء ، هذا في البلاد التي تطبق الديمقراطية والقانون وتعطي المؤسسات والإدارات الحكومية حرية التصرف واتخاذ القرارات طبقا للقوانين المرعية الإجراء ، وعلى هذا ، كثيرا ما تفشل الحكومات والوزارات بفعل البيروقراطية وعدم تعاون المدراء العامون في إدارات الدولة مع الوزير الجديد الراغب في الإصلاح.

-- وفي العادة يستمر أثر الحكم السابق ونهجه على الرغم من ذهاب الحاكم المستبد نفسه ، فقد يطاح بالرأس الفاسد ويبقى الجسد المهترئ ، حيث أنّ فساد الحكم والسلطة والدولة هي مسألة مستمرة طويلة وجماعات مترابطة تجمعها المصالح المشتركة ، فهي تنظيمات غير رسمية ولكنها متحدة ، قوية ، مستفيدة ، تتبادل المصالح والخدمات ولهذا نراها تدعم الحاكم وتسعى للإبقاء عليه وعلى نهجه في الحكم ما أمكنها ذلك ، حيث إستمرارها وقوتها مستمدة من قوته وبقائه وعند الإطاعة به لا يعني هذا الإطاحة بنهج الحكم والمناخ الفاسد له ، فالإصلاح الحقيقي يحتاج الى وقت طويل وجهد مستمر.

-- عادة تعرف هذه التنظيمات بنادي الكبار، ولها أسلوبها الخاص في التعامل والتفاهم فيما بينها ، كما لها أسلوبها الخاص لتحقيق أهداف أعضائها المقبولين ، أما الدخول الى هذه التنظيمات والنوادي فليس بالأمر اليسير أو المتاح لمن يرغب ، إلا إنه لا يستوجب تقديم طلب رسمي إنما يتطلب القوة على أرض الواقع والتزكية والقبول والتعامل من أهم أعضاء النادي ليغدو العضو الجديد مقبولا ومرضي عنه ، ويؤمن جانبه.

لذا حالة الحاكم الظالم الفاسد لا تنتهي بخروجه السلمي من الحكم ، إذ إن النادي الذي أنشأه والذي يدعمه لا يسمح له بالخروج من الحكم إلا الى المقبرة مباشرة ، أو عبر إنهائه بقوة السيف على يد آخرين ، عبر تولية الحكم الى طاغية جديد أكثر طغيانا وتجبرا وطمعا من سلفه.
ومن سنن الله عز وجل في خلقه أنّ حالة الإستبداد التي يعيشها أي حاكم طاغية تغذيها وتمدها بالقوة وتبقي عليها عوامل عدة :
1-- البيئته العائلية الضيقة للحاكم والتي تربى بها وعاش في كنفها وتحت ظلالها ، ما بين قصور وقلاع وحياة بزخ وترف و بين حياة بؤس وفقر مدقع ورغبة في الثورة على كل ما هو موجود لتغدو السلطة والقوة هي الحياة بعينها ودون النظر الى تكلفتها البشرية والإقتصادية.
2-- البيئة الإجتماعية السائدة في المجتمع من حول الحاكم ، متمثلة في خنوع الشعب وفساد البطانة كالكهنة والوزراء وقادة الجيش وأصحاب النفوذ ممن بات يطلق عليهم اليوم الذين يعملون في الشأن العام ومن التجار وأصحاب رؤوس الأموال والولاة في الأقاليم وانتشار الجهل والفساد بين الناس والرعية من الشعب ، ليعمّ هذا على كافة المستويات والطبقات الإجتماعية من الشعب، ليغدو الظلم والفساد أمر واقع يتعامل به بين أفراد المجتمع كافة ، والتقي والورع يغدو غريبا في مجتمعه ، يعاني الغربة الداخلية وظلم المجتمع وفساده ، إذ إنه لا يردّ الظلم بظلم آخر مثله.
3 -- العوامل النفسية الكامنة في الحاكم والتي تتحكم به وتقوده الى السلوك الغير سوي ومن تسلط وتجبر ، كجنون العظمة والشك والريبة في أخلص وأقرب الناس إليه أو العيش في عالم آخر لا يمت الى الواقع بأي صلة ، رأينا ذلك مع نيرون حاكم روما سابقا والقذافي حديثا.
4 -- الفطرة الإيمانية الكامنة في النفس البشرية ، فقد تظهر في بيئة الظلم والفساد عند بعض الأنفس الصالحة ، وهي حالة إستثنائية نادرة ، فكما يوجد حالة إستثنائية طاغية في الكفر متمثلة بفرعون موسى ، يقابلها حالة إستثنائية من الإيمان خارج الأنبياء والرسل ، متمثلة بمؤمن موسى لنصل الى التوازن القرآني ما بين الخير والشر والموجب والسالب والذكر والأنثى وهي من الإعجاز القرآني في التأليف والبيان وهي لا تتأتى إلا لرب العالمين سبحانه وتعالى.

فقد آمن رجل من آل فرعون برسالة موسى عليه السلام ، وقد عرف بؤمن موسى ، إذ ( .. قَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر.
5 -- كذلك في قوله تعالى مبينا الخاصية الفردية للإيمان وهي سنة من سنن الله عز وجل في خلقه ، فقد جاء رجل مؤمن بما يأتي به الأنبياء والرسل داعيا أصحاب القرية للإيمان ، معتمدا على العقل والمنطق وصولا للحالة الإيمانية هذه ،( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) يس.

وهذه الحالة الإيمانية الإستثنائية مردّها كما بيّنه القرآن الكريم الى :

1-- غلبة العقل والمنطق على الآثار السلبية لبيئة المجتمع الكافر.

2-- الأثر الإيجابي للعلم والمعرفة الدينية والإستفادة من دروس وعبر التاريخ ، حتى وصل مؤمن موسى الى الدرجات العلى من الإيمان وقارب النبوة ،( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) غافر.

-- فالإعجاز القرآني يصور لنا أثر البيئة الإجتماعية على الحكم والحكّام والمحكومين ، حينما يستسلم الشعب لحكامه والأثر القاتل على توارث الحكم واستمراره في عائلة واحدة ، متلحّفين بالظلم والطغيان ، فحالة الإستبداد والطغيان متمثلة بفرعوني كنموزج بشري ، من الذين توارثوا حكم الإستبداد والقهر ، كابرا عن كابر ، وفاجرا عن فاجر، حتى غدا تملك الأرض ومن عليها من قبل الحاكم أمرا طبيعيا ، كطلوع الشمس في أول النهار وكأنه سنة من سنن الله عز وجل في خلقه ، وهذا الإعتقاد الراسخ في ذهن المستضعفين وعامة الشعب والخنوع الكامن في النفوس ، لا يؤمن به ويطبقه الحاكم المستبد فقط ، بل يمتدّ ليسري في عروق وعقول كافة الناس من التابعين والمستضعفين من الشعوب.

-- لهذا جاء العقاب بجهنم وسوء المصير ، لمن هو قادر على الهجرة وعدم الرضوخ لطغيان الظالم أو مجاراته ،( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) النساء.

-- كما جاء بالمغفرة للضعفاء الغير قادرين على الهجرة ،( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100) النساء.

وهذه الحالة ليست ببعيدة أوغائرة في التاريخ القديم الذي لم يوثق إلا ما نذر عبر النحت على الصخر أو الكتابة على ورق البردي أو الكتابة الطينية المسمارية ، فمن قريب وأثناء الإحتلال العثماني لبلاد الشام الذي إستمر لأكثر من 450 سنة ، حيث كان العالم يتقدم على كافة الصعد الفكرية والإجتماعية الصناعية ، والإمبراطورية العثمانية وكافة الشعوب الخاضعة لها في سبات عميق وكأن الزمن قد توقف لديها فلم يوقضها من سباتها إلا هدير مدافع نابليون بونابارت ، مطبقة أسوء ما أنتجه فكر الدّيني للأديان الأرضية الحزبية.

تنبهت الدولة العثمانية لمدى تخلفها وضعفها متأخرة فلم يعد في مقدورها الوقوف على رجليها أو الصمود أمام التقدم العالمي والحضاري من حولها ، كما لم يكن في مقدورها تغير نهج الحكم لديها بين ليلة وضحاها أو التأثير في فكر المجتمعات المختلفة الخاضعة لحكمها ، مما جعلها تقاوم المستحيل بالحديد والنار.
فهذه الإمبراطورية المترامية الأطراف لم يكن لها أن تستمرّ طويلا لولا الحكم الإستبدادي الظالم ، الذي لا يعرف للرحمة أو العدل من سبيل ، فقد كان يدخل قلة من الجند العثماني الى أي حي في أي مدينة من مدن بلاد الواقعة تحت الإحتلال العثماني ، وينادي المنادي على قائمة من رجال الحي ، فيهرعون ملبّين نداء الموت ، لتقطع أوصالهم وتزهق نفوسهم ويقتلوا أمام أنظار المجتمع النائم دون محاكمة أو ذنب إقترفوه إلا السعي لإستبقاء حياتهم ولو بشيئ قليل من الكرامة ، حيث كان الناس المظلومين يساقون كما تساق البهيمة الى مذبحها دون مقاومة أو رحمة ، فمن شدة الظلم والجبروت والطغيان زلّت النفوس وقتلت الرجولة وازدهرت المذلة والغنوع في نفوس االناس.

-- الإعجاز القرآني يصور لنا فرعون الطاغية ، المصاب بالمرض النفسي الذي بات يعرف حديثا بمرض جنون العظمة عند الحكام المستبدين ، حينما ينفصلون عن الواقع ، ليعيشوا في عالم وهمي خيالي ، يرونه حقيقة أمام أعينهم بعد أن إستتب لهم الحكم ولمدة طويلة ، يعتبرون أنفسهم أنصاف آله ، يأمروا فيطاعوا ، وبإشارة منهم يقع الموت وبنظرة يهبوا الحياة كما يدّعون ويمارسون ،( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلْآخِرِينَ (56) الزخرف.
فحينما حاج الحاكم الطاغية نبينا إبراهيم عليه السلام ،( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) البقرة,.
الحاكم الطاغية يعيش في خوف مستمر وحراسة مشددة على الدوام ، عامل الشك والريبة في أقرب الناس إليهم وأخلص أتباعهم يأرق مضاجعهم ويفسد معيشتهم ، فلا تهدؤ نفوسهم إلا بالتخلص من سيئ الحظ من أتباعهم المخلصين .
بشار الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي وغيرهم ليسوا ببعيدين عنا ، فحين يثور الشعب على حاكمه المستبد ، يقول الطاغية : من أنتم ؟ من أين جئتم ؟ فهكذا تسري الأمور في كل زمان ومكان ...
والقرآن الكريم يصور لنا قول الطغاة وادعائهم خير تصوير ، إذ يدّعي كل طاغية ويقول كقول فرعون من قبل إذ ، ( قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ، كذلك يشغل الطاغية الدولة كلها ، خاصة جهاز الإعلام لديه ، متّبعا خطوات سيد الطغاة من قبل ،( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشعراء
فقد صور له عقله المريض كما صورت له حاشيته أنّ الشعب يحبه ويريده حاكما الى الأبد ، ما بقي حيا يرزق ،(،( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف.
على الرغم من أنه قد بدّد أموال الدولة على أوهام الزعامة المزعوم وبعد أن طغى وتجبر وآمن أنه يملك البلاد ومن عليها متبعا قول فرعون من قبل : ( ... يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف.
فقد علا فرعون في الأرض وكذلك الطغاة يفعلون ،( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص.
وقد غاب عن هؤلاء الطغاة أنهم خاضعون لسنة الله في الأرض ، وها هو عمل فرعون في الأرض فقد ،( اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) القصص.
وقد أمرنا رب العزة أن ننظر ونتفكر في من سبقنا وكيف كانت نهاية كل جبار كافر ظالم ،( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) غافر.

وآخر دعوانا ،( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) سبأ.
وبهذا ننهي البحث والحمد لله رب العالمين وبه نستعين.


 

اجمالي القراءات 4401