خرافة هزة العرش لسعد بن معاذ

سامح عسكر في السبت ٢١ - يونيو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

ما العرش وما شكله وما حقيقته؟...هل هو ما يتبادر إليه الذهن بأنه سريراً أو كرسيا؟ وما خيال العرب عن معناه في حياتهم؟ أو ما ذكره القرآن عن العرش كان كناية عن المُلك وسعة النفوذ؟ وهل للإنسان أن يتصور أمراً كان في دينه من أمور الغيب؟..وهل العرش أصلاً هو غيب؟..ولو كان ليس غيباً فما هو؟..ولو كان غيباً فلماذا ادعى عليه شيوخ المسلمين أنه يهتز لأي سبٍبٍ ما؟.

في تقديري أن العرش هو من أمور الغيب لا سعة لعقلٍ أن يتصوره، ولو أن له عند العرب معانٍ مجازية عن المُلك والنفوذ، لأن القول بالعرش -عند العرب-لا يعني به السرير أو الكرسي، وأشعار العرب في الجاهلية وما بعد الإسلام كشفت أن أكثر استخدامات.."العرش"..كانت تعبيراً عن المُلك والنفوذ، ويبدو أن من قال بهزة العرش لم يع ذلك.!!..تأمل قول الخنساء.."كان أبو حسان عرشا خوى مما بناه الدهر دان ظليل"..العرش هنا كناية عن مُلك حسان ويدعم ذلك قوله تعالى.."وهي خاويةُ على عروشها"..ويعني زوال النعمة أو المُلك، ولم يدعِ أحداً أن عروشها تعني."خاويةً على سريرها أو كرسيها"..!

إذن فادعاء هزة العرش-لأي سبب-إما مجازية -على طريقة العرب-وإما حقيقية فهي كارثة، ولو كانت مجازية فهذا يعني أن التوسع في شرحها وتفصيل أحداثها هو دربُ من الدجل.

رُوى في تراث المسلمين السنة أن العرش اهتز لموت الصحابي سعد بن معاذ، والسؤال من هو سعد كي يهتز العرش لموته-على فرض اهتزازه-هل هو نبي؟..ولو لم يكن نبياً فلماذا لم يهتز العرش لموت أحد الأنبياء؟..هل يعني ذلك أن سعداً كان عندهم أعظم منزلةً من الرسول؟..أم القول بهزة العرش لوفاته جاءت بطريق المبالغة تعبيراً عن هول الصدمة والفجيعة؟!.....سنرى ذلك في السطور القادمة..

مبدئياً فالصحابي سعد بن معاذ ليس من العشرة المبشرون بالجنة في الفقه السني، وعليه هو ليس من أفضل الصحابة، بل يسبقه على الأقل عشرة لم يهتز لموت أحدهم العرش..!..وهنا الإشكال.. كيف يهتز عرش الرحمن لموت الصحابي.."سعد بن معاذ"..ثم نجده ليس من العشرة المبشرين بالجنة؟!..وهل كون سعد أنصارياً من المدينة ليس له الحق بالتبشير؟..بمعنى أن كافة العشرة المبشرون هم من المهاجرين ومن قريش على وجه التحديد، وجاءت الأحاديث في فضلهم ومكانتهم في الجنة بدءاً من القرن الثالث الهجري مع شيوع الوضع والتحديث عن رسول الله، فهل كان شيوع حديث التبشير في ذلك العهد رداً على من أراد نزع فضيلة قريش؟..فلو كان صحيحاً يعني أن حديث التبشير له خلفية سياسية وليست دينية.!

عموماً لن أخوض في صحة وضعف حديث التبشير..هذا موضوع آخر ويحتاج إلى دراسة مستقلة لا يتسع الوقت ولا المكان إليها، وأخصص هذه الدراسة عن حقيقة اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ عن غيره، وأعتقد أن الإشكالية الكبرى التي تحيط بهذه المسألة ليست فقط عقدية تخص طبيعة العرش وحقيقة تصور المسلمين له، ولكن أيضاً في استسهال الحديث والوضع عن الرسول بلجوء المسلمين إلى تفسير ما جهلوه عن الموت وما يحدث بعد الدفن، وهذه مفاجأة لم يخض فيها أحد من قبل، ستكشف بجلاء أن القول باهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ –بالذات- كان عن خوفٍ وفجيعة سببتها معاني الموت المرعبة ومشاهد القبر وعذابه في خيالات المسلمين..

والأدلة على ذلك كثيرة..أولها أن هزة العرش تعني ما خص الله بعرشه ، لأن شئون الغيب –بما فيها العرش-هي من شئون الله، بينما الموت في حقيقته هو عودة لله ، فلماذا طرح المحدثون أخباراً عن هز العرش في سياق الفجيعة والمصيبة؟..وهل المصائب من شأن البشر أم من شأن الله ؟! ..الإجابة ستكشف أن تصور المسألة كان أرضياً وليس إلهياًُ بما يعني كذب الادعاء باهتزاز العرش لموت سعد، وإلا لفرح الله وما يخصه-كالعرش-بعودة سعد إليه وليس العكس، والأحاديث الخاصة بهذه الأكذوبة تكشف ذلك بوضوح ومنها:

1- حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده، عن عائشة، عن أسيد بن حضير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد اهتز العرش (لموت) سعد بن معاذ»..(مصنف ابن أبي شيبة 2/405)

2- حدثني محمد بن المثنى، حدثنا فضل بن مساور، ختن أبي عوانة، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «اهتز العرش (لموت) سعد بن معاذ»، وعن الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله، فقال رجل: لجابر، فإن البراء يقول: اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «اهتز عرش الرحمن (لموت) سعد بن معاذ»..(صحيح البخاري 5/35)

الترجمة: مات سعد بن معاذ ومن هول الفجيعة اهتز العرش لموته، هكذا يتبادر إلى الذهن ويعتقده عوام وشيوخ المسلمين، لا تسأل أحداً عن معنى هزة العرش لموت سعد إلا واعتقد هذا المعنى..ليس كما جاءت روايات أخرى معدودة تزعم فرح الله بلقاء سعد .. فهي خارج السياق واستثناء عن العام، وترفضها كافة الروايات الأخرى التي اكتفت بذكر هز العرش فقط للموت دون ذكر ألفاظ أخرى، وقد حاول الشراح نفي ذلك إلى معنىً آخر يزعم أن الله فرح بقدوم سعد..وهذا غير صحيح لسببين:

الأول: أن الروايات قال لفظا.." اهتز العرش (لموت) سعد"..والموت يعني المصيبة وفقدان الأحبة عند البشر، ودائما ما يأتي ذكره في سياق المصائب والكوارث، أما ما قيل أن العرش قد اهتز لروح سعد في الروايات الأخرى فهي استثناء يؤكد القاعدة أن عموم روايات هز العرش كانت "لموت سعد"..وليست.."لروح سعد"..وهناك فارق لفظي ومعنوي سنكشفه لاحقاً ويتبين معه أن القول بهز العرش جاء مجازاً عند العرب وكناية عن مصيبة موت سعد..ولكن بتوسع الرواة بعد ذلك في تصوره نسبوا هز العرش على الحقيقة ومن ثم نسبوا كلاماً مزوراً للرسول اتسع بعد ذلك حتى أصبح هز العرش هو من السنة..!! 

الثاني: أنهم زعموا اهتزاز العرش في مواضع أخرى كلها لأفعال مشينة-لديهم- كاللواط ومدح الفاسق ومصائب كالطلاق وبكاء اليتيم..وغيرها كل ذلك ورد في حقهم روايات تزعم اهتزاز العرش لها، ويدعم هذا الرأي ما رواه أحمد في مسنده أن هزة العرش جاءت عن مصيبة الموت قال:

حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة، عن عائشة قالت: قدمنا من حج أو عمرة، فتلقينا بذي الحليفة وكان غلمان من الأنصار تلقوا أهليهم، فلقوا أسيد بن حضير، فنعوا له امرأته، فتقنع وجعل يبكي، قالت: فقلت له: غفر الله لك، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولك من السابقة والقدم، ما لك تبكي على امرأة. فكشف عن رأسه وقال: صدقت لعمري، حقي أن لا أبكي على أحد بعد سعد بن معاذ، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قال: قالت: قلت له: ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ " قالت: وهو يسير بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم "..(مسند أحمد بن حنبل 31/441)

والمعنى أن امرأة الصحابي .."أسيد بن حضير"..ماتت فجعل يبكي عليها حزناً، وبعد ما ذكّرته عائشة بأن هذه امرأة لا يجوز البكاء عليها..(وهذا يكشف بالمناسبة رؤية العرب للمرأة كيف تدعي عائشة أنه لا يجوز البكاء على امرأة وهي منهم؟!!.)..عاد أسيد بن حضير عن قراره وتوقف عن البكاء لأنه-وكما قال-يرفض البكاء على أحد بعد سعد بن معاذ، والدليل قول الرسول أن العرش قد اهتز لموته، وعليه فامرأته لا تستحق هذه المكرمة، فبكاء أسيد على سعد وذكره رواية اهتزاز العرش دليل من أسيد على أن حركة العرش كانت عن فجيعة ومصيبة..وسندعم ذلك الرأي بأدلة وقرائن في السطور التالية..

حاول بعض المعترضين نفي هذه الأدلة على فساد مفهوم.."هز العرش "..قائلاً أن العرش اهتز لموت الصحابي.."سعد بن معاذ"..لأن الله أراد ذلك، وبالتالي أحال الفعل إلى المشيئة دون تحري أهم أمرين.."المصدر والنتيجة"..لم يبحث فيهما واكتفى بالتصديق بمجرد الخبر..وهذا سفه وجنون ، لإن بإمكاني الزعم أن العرش اهتز لموت أبي جهل وسأضع في ذلك خبراً مسنداً عن الرسول وأخترع كرامات لأبي جهل، وأطالبه بالتصديق وأن يكون أبي جهل من سلفه الأولين وأن يفهم الإسلام بفهمه، سيقول أن هناك فارق بين سعداً وأبي جهل..أقول ومن أعلمك بذلك الفارق أليس المصدر؟!...أليست النتيجة؟!!...فلماذا لم تبحث في مصدر هز العرش لموت سعد بينما بحثت في مصدر هز العرش موت أبي جهل؟..هذا يعني أنه لو جاء لك خبراً في صلاح وإيمان أبي جهل ستصدقه دون تحري وبيان النتائج.!!

بالعموم هذه رؤية نمطية تُحيل كل غير مفهوم إلى مقدس....فلو استطاع إثبات رأيه بمنطق العقل أو القرآن أو حتى الحديث لفعل ، لأن هناك روايات أخرى تصدم هذه الحادثة وتضعها في المجمل موضع شك ، علاوة على كارثة إيمانه بأن حديث اهتزاز العرش هو وحي من الله بقوله أنه.."إرادة إلهية"..وفي المجمل هذا تحريف للإسلام لأنه يدعي كتاباً من الله غير القرآن، وفي تقديري أن ذلك من خداع فقهاء السنة للعوام حيث أوهمهوهم أن الحديث مساوٍ للقرآن في مكانته..وغضوا الطرف عن كذب المحدثين وتعارض الحديث مع القرآن في مئات المواضع.

كذلك يقول المخالف أن القول باهتزاز عرش الرحمن لموت سعد لا يعني أن سعداً في الجنة، وبذلك يكون حديث العشرة المبشرون صحيح..قلت كيف ذلك والبخاري يكتب في صحيحه:

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس رضي الله عنه، قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» (صحيح البخاري 3/163)

وهذا يعني أن البخاري يعتقد ويؤكد أن سعداً في الجنة..وعليه فالمبشرون ليسوا عشرة، وأن سعداً الأنصاري هو من أهل الجنة خلاف ما هو شائع أن كل المبشرين قرشيون من المهاجرين..وعليه أيضاً فالسؤال يظل قائما..لماذا اهتز عرش الرحمن لسعد وهو لم يكن من المبشرين؟!.. وهل يجوز على رسول الله أن يكذب بادعائه منزلة لسعد تفوق منزلة الأنبياء ثم يختمها بأنه سيدخل الجنة قطعاً وليس مجرد تبشير..!!

من ناحية أخرى أن مجرد القول باهتزاز العرش -لأي سبب -هو قول صريح بالتجسيم والتشبيه في حق الله، رواة الأحاديث كانوا يعتقدون أن العرش مادة يجوز عليها الحركة، كما اعتقدوا أن الله جسم يجوز عليه الانتقال والنزول آخر الليل..فاخترعوا فضيلة لأحد الأنصار-سعد بن معاذ- من وجه المبالغة، وعليه فالسؤال مباشرةً هل سيهتز العرش مع الله أم بدونه؟!.. وما مفهوم العرش لديهم أولاً؟..وما العلاقة بين الله والعرش ؟!...هم لا يفهمون هذه الأشياء وقد أفاض بعضهم في الحديث عنها وتصوروا طبيعة وحقيقة العرش فضلّوا وأضلّوا.

إن العقيدة التي زعمت اهتزاز عرش الرحمن لسعد بن معاذ هي نفس العقيدة التي ادعت أن الله خلق آدم على صورة الله وأن الله كالشاب الأمرد وأن حملة العرش هم أوعال بقرون..ثم كذبوا ونسبوا هذه الأقوال للرسول.!..كلها كانت تصورات طفولية بدائية للكون وللحياة، لأن العرب لم يبرعوا في علوم الكون والفلسفة والفلك، ومن برع منهم في هذه الأشياء أنكر على المسلمين اعتقادهم بتلك الخرافات ووقف ضدها ، وعلى الفور تصدى لهم كهنة الدين والمستفيدين من جهل الناس واتهموهم بالإلحاد..فقط كونهم بحثوا وبرعوا في علوم مستقلة، لأن الشيوخ والفقهاءكانوا يرون العلم الشرعي هو أبو العلوم..ومن يبرع فيه له الحق في أن يتكلم في سائر العلوم.!

بقي لدينا الحديث من أين جاء الاعتقاد باهتزاز عرش الرحمن..في تقديري أنهً ظهر بعد شيوع أكذوبة عذاب القبر ..ومنها استنبط الرواة ما حدث لسعد بعد موته، فهم كانوا في سؤالٍ دائم عن أحوال الموتى بعد دفنهم..ولي في ذلك بعض الأدلة:

أولاً: روايات اهتزاز العرش جاءت بصيغتين الأولى هي.."اهتز العرش"..والثانية هي.."اهتز عرش الرحمن"..الصيغة الأولى أول من تكلم بها هو الراوي.."سعيد بن منصور"..المتوفي عام 227 هجرية، أما الصيغة الثانية فأول من تكلم بها هو .." البخاري"..المتوفي عام 256 هجرية..وهذا يعني أن روايات اهتزاز العرش ظهرت فجأة بعد أكثر من 200 عام بعد وفاة الرسول وبالتالي بعد شيوع وانتشار أسطورة عذاب القبر بين المسلمين..لأن الاعتقاد بعذاب القبر جاء على استحياء في روايات قليلة من القرن الثاني الهجري..ثم توسع وانتشر بشكل يصعب السيطرة عليه في القرن الثالث المعروف بعهد التدوين الرسمي للأحاديث وانتقالها من رتبة الرواية إلى رتبة السنة..

ثانيا: المفردات التي استُخدمت في روايات سعد هي المفردات التي استخدمت في عذاب القبر مثل.."ضمة القبر "..وهي المفردة الأشهر تعلقاً بجمع الاثنين على السواء....تابعوا ما بين القوسين الكبيرين:

1-حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا.......فلما خرج، قيل: يا رسول الله، ما حبسك؟ قال: «ضم سعد في القبر (ضمة) فدعوت الله أن يكشف عنه»..(مصنف ابن أبي شيبة 6/393)

2-حدثني محمد بن المنكدر، عن محمود بن شرحبيل، قال: اقتبض يومئذ إنسان قبضة من تراب ففتحها فإذا هي مسك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، سبحان الله» حتى عرف ذلك في وجهه، ثم قال: الحمد لله لو نجا أحد من (ضمة القبر) لنجا منها سعد بن معاذ ولقد ضم ضمة ثم فرج الله عنه "..(مسند إسحاق بن راهويه 2/552)

3-حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا داود بن عبد الرحمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.." لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض، لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر (ضمة)..ثم بكى نافع."..(مسند البزار 12/152)

4- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عمرو بن محمد قال: حدثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» قال أبو عبد الرحمن: يعني سعد بن معاذ هذا"..(السنن الكبرى النسائي 2/474)

وغيرها من الروايات التي كانت تحاكي نظرة الفقهاء في تلك العصور لما بعد الموت، أفاضوا في الحديث عن القبر وأحواله، ومن ذلك الحديث خرج الاعتقاد بمصيبة موت سعد وتأثير ذلك على السماء، فخُدع البعض بها كونها جاءت في بداياتها مجازاً..حتى أصبحت حقيقة واقعة أن العرش قد اهتز فعلاً لموت سعد.

ثالثا: مشاعر الفجيعة والهلع التي كانت مصاحبة لمعاني الموت ، والتي عززها الاعتقاد بعذاب القبر..كل ذلك جعل من الاعتقاد بموت سعد هو فجيعة وكارثة اهتز لها الكون بأكمله، وإن كان في الموضوع ثمة مبالغة أو مجاز فهو قرينة على صحة هذا الجانب.

رابعا: وجود روايات تحكي اهتزاز عرش الرحمن لغير سعد مثل رواية.."إذا مدح الفاسق اهتز عرش الرحمن"..وهي كناية عن فجيعة مدح الفاسق..ومنها ما ذكره الأصبهاني في العَظَمة .."وأما السماء الخامسة: فإن عددها يضعف على سائر الخلق في صورة النسور منهم الكرام البررة، والعلماء السفرة، إذا كبروا اهتز العرش من مخافتهم"..(3/1055)

وبالتالي جاء مفهوم اهتزاز العرش عند العرب مساوقاً لمعاني العَظَمة والمصيبة في نفس الوقت، عَظَمة وجلال المشهد ..والمصيبة التي أشعرت ذلك العربي بهذا الجلال، حتى أنهم كانوا ينسبون هز العرش إلى أي حادثة عظيمة أو جريمة أو فعل مشين لديهم، ويمكن تلخيص بعض هذه الحوادث والأفعال فيما يلي:

1- موت سعد بن معاذ يهز عرش الرحمن
2-مدح الفاسق يهز عرش الرحمن
3-الطلاق يهز عرش الرحمن
4-اللواط يهز عرش الرحمن
5-بكاء اليتيم يهز عرش الرحمن
6-تكبير الملائكة يهز عرش الرحمن

لو أخذنا واحدة كبكاء اليتيم أو اللواط واعتبرنا أن العرش يهتز بحدوث أحدهم فهذا يعني أن العرش في حركة دائمة مهتزة ، فكم من اللواط وبكاء اليتيم يحدث كل يوم بل كل ساعة بل كل دقيقة..!..صحيح بعض هذه الدعاوى أنكرها المحدثون ولكن شيوعها في عصرها دلالة على أن المسلمين الأوائل كانوا يعتقدون بها، وأن تلك الجرائم يهتز لها العرش تعبيراً عن الفاجعة والمصيبة، وقد بالغ أحدهم بقوله أن الله أمسك السماء أن تقع على الأرض من هول مصيبة اللواط، فهم كانوا يتصورون أن السماء جسم صلب لونه أزرق يشغل وظيفة السقف للدنيا على الحقيقة وليس مجازاً كما ذكر القرآن.

وعليها -ومما سبق -يتأكد لنا أن روايات هز العرش جاءت تعبيراً عن المصائب والصدمات والأفعال المشينة، وهم وإن كانوا يقصدونها مجازاً إلا أنه وبتوسعهم في التأويل والتفصيل وقعوا في خطيئة التشبيه ونسب الكذب لله وللرسول دون علمٍ منهم.

الطريف أن الألباني صحح رواية مضحكة تصف ما تحت العرش، فقال أن ديكاً عنقه مطوية تحت العرش ورجلاه مرقت إلى الأرض قائلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .."إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض , وعنقه مثنية تحت العرش"..(صحيح الألباني)

والسؤال الآن: هل أثناء هزة العرش لم يلتوي عنق الديك ؟!!!!!!

هذه كلها خرافات تشبعت بها عقول المسلمين في زمن الانحطاط، ومن قوة غياب العقل الناقد بينهم شاع الجهل والفقر والحرب والكذب..وأمور أخرى هي موجودة حتى الآن ولا زالت مؤثرة، وما كانت تلك الحروب والفتن الطائفية -التي يعاني منها المسلمون- إلا دليلاً على ذلك الجهل الذي يُطل بأجنابه علينا من كل حدبٍ وصوب، فمن الإخوان إلى داعش انتشر الجهل والعنف والجريمة، حتى وفي ظل عصر الاتصالات والمعلومات لا زلنا نجد من يعتقد بوحش المسيخ الدجال ،ذلك الوحش الخرافي الإغريقي الذي يشبه وحوش السندباد في شكله وحجمه..سيظهر آخر الزمان كي يدعي الألوهية ويجري الله على يديه المعجزات.. فمن كان يقبل هذا الخَرَف والعَتَه كيف تمنعه من قبول اهتزاز العرش؟!..بل هو لديه أهون.!

السبب في أن تراث المسلمين يعج بالخرافات والمبالغات والتجاوزات.. أنهم اعتمدوا في تدوينهم على إحدى حالتين ..إما الإثبات وإما الرد..لم ينتهجوا نَهَج العقل والموضوعية في التدوين والنقل..ففي الإثبات أراد المصنف أن يدلل على صدق رؤيته فزعم أخباراً وحشى لها حواشي كالصحاح والمسانيد والسنن، وكلها اعتمدت على الخبر المشروط بصحة السند ، أي أن معيارهم كان الثقة وليس الكفاءة..وهو ما تسبب في هدر ملايين الطاقات في قهرها أو تهميشها مجتمعياً، فانتشرت الخرافة والتكفير والإقصاء...وتخلفنا وانحطت أمة المسلمين.

وأما الرد فكان شغلهم الشاغل هو نقض رؤية الغير حتى تجاوزا في حق دينهم، فالنفس الناقدة دائماً هي عاجزة عن التحكم في نفسها، لأنه -وكما قال سيجموند فرويد- أننا ملك لأهوائنا ودوافعنا ويكذب من قال أنه يستطيع التحكم في نفسه وعقله دائماً..لذلك فالرد يوقع صاحبه في خطيئة نقيض المنقود، مثال من أراد أن يرد على المشبهة والمجسمة فرط لديه العقد ووقع في النفي والتعطيل والعكس، ومن أراد الرد على الشيعة وقع في النصب والعكس، ومن أراد الرد على المعتزلة وقع في الجبر، ومن أراد الرد على الجبرية وقع في الاعتزال......وهكذا..!!

لا أدعي أنني منزه عن ذلك، ولكن أحاول أن أكون منصفاً في نقدي، أنتقد الحديث ولكن لا أرده جملة، أنتقد شيوخ وفقهاء الدين ولكن لا أردهم جملة، أنتقد الطوائف والجماعات ولكن لا أردهم جملة...أؤمن أن في الديانات والأفكار كلها خيرُ كثير، وهي مهما كانت ثقافات وسلوكيات بشرية لها وعليها..أما أسلوب الشيطنة عندي فهو مذموم مع حفظ تسمية الأسماء بمسمياتها، المتطرف عندي هكذا..والكذاب عندي هكذا..إلى أن يثبت العكس، والسبب أنني لست إنساناً عدمياً أو مثالياً بل أزعم كوني واقعياً لدرجة كبيرة، لا أرى الحقيقة في الأزمات إلا على الأرض، ولا شأن لي بحقيقة تظهر في غير معادها فيُفتن الناس بها وبغيرها ويضل الناس..

ما أكثر من وقع ضحية لهذه الخرافات ..هم بالملايين منذ بزوغ فجرها على المسلمين وحتى الآن، وصدق من قال أن العصور الوسطى كلها كانت عصور خرافة، ليس فقط عند المسلمين بل عند غيرهم، والعالَم ملئ بهذا البهتان الذي ضل الناس عن الحقيقة ،واعتقدوا أنهم وبخرافاتهم قادرين على التعايش، فانتشرت الحروب باسم الدين ونزعات الوصاية والتجارة بالأديان، لذلك أرى- ويرى غيري- أن الخطوة الأولى لمقاومة الإرهاب والتجارة بالأديان هي مقاومة ذلك التراث وإحياء دور العقل من جديد..

لا تخافوا فبإحياء دور العقل سيتعزز الاعتقاد بالأديان وليس العكس كما يوهم كهنة الأديان عوام الناس لتنفيرهم من العقل، ومعها ينتقل الإنسان من حالة التدين الشكلي إلى حالة التدين السلوكي والفكري، فالدين مهم لدى الإنسان،تقريباً يدخل في صلب تكوينه، حتى الملحدين أزعم أن لديهم نزعات إيمانية وما كانت ثوراتهم على الأديان إلا ردود أفعال نتيجة لحماقات وتجاوزات المؤمنين، الأديان بُعِثت للسلام وللخير وللتوافق..وثمة ما كان غير ذلك فليس من الدين بل من عند الناس، والجهل يدخل –حينها-ليقوم بوظيفته أن يحمل الإنسان غيره على أفكاره بدعوى ضرورة حملهم على الدين، ومن هنا يدخل الشيطان مجرى ابن آدم من الفكر فيُوهم نفسه أنه مرسلُ من عند الله وأنه مصلحُ في الأرض..ولكنه كذاب فما أكثر من اعتقد إصلاحه ولكن في الحقيقة كان مفسداً ضالاً جهولاً بالدين وبالحياة وبالبشر.

اجمالي القراءات 12412