إن الزعامة ظاهرة تأخرية، وكلما تقدمت الإنسانية اختفت من حياتها هذه الظاهرة المذلة
وجهات نظر .. للتأمــل .

يحي فوزي نشاشبي في الأربعاء ٠٥ - مارس - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

أفكـــار للتأمــــل

XVIII

* دعاية الثوار حجارة ترجم الإنسان وتهبط بكل مستوياته، إنها جنون ذاتي يتحول إلى جنون مذهبي ، وبذاءة فرد  تتحول إلى بذاءة مجتمع،  وحيوانية يهبط  إليها  ذكاء الإنسان وأخلاقه  وليست حيوانية  ترتفع  إلى ذكاء الإنسان وأخلاقه.

***

* ... إن الزعامة ظاهرة  تأخرية، وكلما  تقدمت الإنسانية اختفت من حياتها هذه الظاهرة  المذلة، وكذلك وجود المعلمين والقادة  الروحيين إنما يعني التأخر، وهم يختفون أو يضعفون مع النضج والتقدم والتكامل الذاتي الذي يمنح القدرة على مواجهة الكون مواجهة فكرية بلا حماية من المحراب أو المنبر. لقد كانت الزعامة في وقت من الأوقات مظهرا لاهوتيا، ثم راحت تتواضع وتهون مع وعي الإنسان  وتكامله وقدرته على رؤية الأشياء والطبيعة رؤية عقلية حتى أصبحت أي الزعامة في أفضل صورها حاكما يخاف الجماعة ويتملقها لكي تهبه أصواتها، وينهض بإرادتها كما يسقط أيضا  بهذه الإرادة. هذا  ولو في الصورة والأسلوب على الأقل أو على الأصح.

***

* ... أما أسوأ صور الزعامة بعد تنازلها أو بعد إنزالها عن درجات الألوهية فقدأصبحت رئيسا أو زعيما أو ثائرا يقتل ويسحق ويذل باسم المذهب أو الثورة. وهذا الرئيس أو الزعيم أو الثائر الذي هو أسوأ صور الزعامة قد يكون تشبيهه بالآلهة انتقاصا لقدره وقوته وهيبته.

*** 

* ... ليس الغرض من الدعاية إفادة الآخرين بل الإنتصار عليهم ليطيعوا ويستسلموا، فهي أسلوب من الحرب أو القنص وبين باحث عن الإنتصار وباحث عن الهزيمة، أو بين مريض أو حزين يعالج نفسه بالسقوط على الآخرين والتحدث  فوقهم وإليهم وباسمهم ، ومريض آخر يتعالج بهذا  التعالج به وبهذا  السقوط  عليه.

***

* ولعل الجماهير تسمع وعود الدعاية كما تسمع الشعر والموسيقى لا كما تسمع وعوداً تحاسب وتطالب بأن تكون صادقة. إن الوعود المبالغة في كذبهــــا -  مجرد  الوعود - غذاء جيد جدا لجوع الجماعات وحرمانها، وهي تبحث عمن يحسنون تقديم هذه الوعود وترحب بهم أكثر من بحثها عمن يعطونها أو  عمن يكلفونها بأن تفعل الأشياء العظيمة.

***

* ما أكثر ما خدع الشعوبَ امتداحُ طغاتها لها، وما أكثر ما سرق القتلة اللصوص حياة الشعوب وهم يغنون لها مدائح الموت والقتل في سبيل أعدائها. ما أغلاه ثمنا: أن  ينشد فيك قاتلك وسارقك قصيدة مديح كاذبة كرشوة لك على قتلك  وسرقتك.

***

* إن الدعاية سهم  - مهما كان طائشا– يجد دائما هدفه في عقل الإنسان أو في حبه أو في كراهته أو في حقده أو في ظروفه أو في مصلحته أو كبريائه أو في وضعه الطبقي أو التاريخي أو الطائفي أو في غير ذلك. وإذا كانت هذه كلها أهدافا صالحة للدعاية فما أصعب ألا تقتل الدعاية كل الناس أو تصيبهم بالجراح – ما أصعب – ألا تصيب الدعاية كل هذه الأهداف الكثيرة العارضة نفسها  لكل الرماة، أو ألا  تصيب  منها شيئا.

***

* إن الدعاية عمل فردي أو شبه فردي في حوافزها وأهدافها، وهي عمل جماعي أو شبه جماعي في أسلوبها وموضوعاتها. والأوهام والأحقاد المذهبية والإنقسامات التاريخية العظمى المستعصية على العلاج ليست إلا محصولا شريرا لهذه الخطيئة. فالدعاية هي التي قسمت البشر تقسيما مذهبيا  ودينيا واعتقاديا، وهي التي لها اليد الطولى في زرع  البغضاء ونشر الخرافة وتجميلها وتوكيدها في التاريخ وبين الناس، أو هي  احد  الأسباب  القوية  لكل  ذلك.

***

* ... وهنا نصل إلى السؤال الخطير: هل يمكن أن يحيا الإنسان بلا دعاية؟ نعم يمكن أن يحيا وأن يحيا أفضل. فلو أن كل الأجهزة الدعائية في كل الأمم ولدى كل الزعماء ولكل المذاهب وفي كل التاريخ قد ألقي بها وبمن يعملون من ورائها إلى الجحيم  لما  خسرت الحياة أو الإنسانية شيئا بل لربحت  شيئا كبيرا.

* وأي ربح لك أو لي أو للإنسانية في أن تمدح مذهبك وتشتم مذهبي، وأن أفعل أنا نفس الشئ ؟ إن الدعاية في كل ظروفها لا تعني إلا أن تفضل نفسك على الآخرين، أو أن تمدح نفسك وتذم الآخرين. وليس في هذا فخر لأي إنسان.

*** 

*هل  الشرف  ضد  الحياة  أم  الحياة  ضد  الشرف ؟

الشرف هو أن تحتقر زعماءك ومذاهبك لأنها  تعلمك البغض والتعصب والوحشية

- هو أن لا تقبل أن تقول أو تسمع كلمة نفاق في طاغية ماتت كل الحريات مصلوبة فوق جبهته البذيئة، هو أن ترفض الجلوس إلى مائدة تحوم حولها ذبابة مهما قتلك الجوع ، هو أن تعجز عن الإبتسام والمسرة  ما دام  يوجد  فوق الأرض بل أو فوق النجوم كائن واحد يبكي ويتعذب ويُظلم ويعاني من الشعور بالحقارة والضياع ، وما دام يوجد في أي مكان من العالم إنسان واحد متسلط  تتغذى كبرياؤه وأحقاده  بآلام المجتمع  وهوانه – هو ألا  تستطيع  الأكل من مائدة عليها لحم أي إنسان، أو أن تصافح أية يد ضربت وجها أو أمسكت سوطا، أو أن تعيش في وطن يحكمه صعلوك من صعاليك المذاهب، تسجد  له  كل الجباه والعقول، وتمجد أخطاءه وحماقاته جميع المنابر والمعابد، وتصلي له جميع المصاحف والأناجيل  بلا  إيمان أو طهارة.

* فهل يوجد إنسان واحد يرتفع إلى هذا المستوى ليكون شريفا ؟  وهل يستطيع أي إنسان أن يجمع بين الشرف والخبز في وجبة واحدة ؟

*** 

* كيف حدث هذا أو لماذا حدث -  كيف أو لماذا حدث أن كان جميع الناس في جميع العصور تحت جميع المذاهب والعقائد والنظم يدعون إلى شئ يفعلون دائما نقيضه، ويفعلون دائما شيئا  يدعون إلى نقيضه ؟ كيف أو لماذا هم جميعا يمجدون فضائل الصدق والنزاهة  والحب والإيثار والشرف وكل الفضائل الأخرى التي لا  يفعلونها ولا يشتهونها، ويلعنون الرذائل المقابلة التي يفعلون ويشتهون؟ كيف حدث ويحدث هذا في كل عصر ومجتمع ؟ لماذا كان هذا التناقض والإنشقاق داخل الذات وداخل المجتمع  محتوما ؟ .

*** 

* ... وإذا كان الناس جميعا محتاجين إلى الخطيئة، ولا  يحيون  أو يسعدون  إلا بها فلماذا يجمعون على تحريمها وتحقيرها، وإن كانوا محتاجين إلى الإستقامة فلماذا لا  يستطيعون أن يستقيموا ؟  

*** 

* ... وأسوأ وأكبر معلم  يواجهه  البشر  اليوم ، ويمكن أن يضلل ذكاءهم  ويعوق تقدمهم  ويفسد  رؤيتهم للأشياء هي الصحافة، أي لو كان ممكنا أن  يخضع  البشر لأي معلم أو  يتقيدوا  بأية تعاليم .

* ... إذا وقفت صحيفة أو صحف وكأنها في ميدان  قتال تذود عن مذهب أو نظام أو عن حاكم أو زعيم أو عن أي رجل قوي أو عن حكومة أو كتلة من الكتل، فعلينا أن نقف لنشك وننظر بعمق وتحديق. إن أقل مستويات الذكاء حينئذ ألا نصدق، وأن نقول إن من وراء موقفها  هذا شيئا غير نبيل، لا بد أن يكون هذا الموقف المختار هو نتيجة الحسابات التجارية أو النفسية أو الإجتماعية التي أجراها القائمون عليها، والباحثون عن النجاح والربح أو الإنتصار....

*** 

* ... ما أطول المسافة الفاصلة بين الإنسان وبين آرائه في نفسه وعن نفسه،  ما أبعد المسافة بين الإنسان الذي يعيش، والإنسان الذي يتمنى ويتحدث عن نفسه، ما أعظم الفرق بين الإنسان الذي يعاني ذاته واحتياجاته، والإنسان الذي يقرأ نفسه ويقرأ لها من بعيد، ما أعظم الفرق بين ما تعطي الطبيعة من حقائق، وبين ما  تعد به من أحلام.

***

* ... وشـرّ ما في المادحين أنهم يمدحون بقدر ما يستطيعون أن يمدحوا وينتفعوا ويقبل منهم الممدوحون مديحهم، لا بقدر ما يحتمل أو يعقل أن يليق أو يفيد الممدوحين أو يصدق، ولهذا فإنهم يمدحون حتى يصبحوا  ذامين  لا  مادحين، أي حتى يتحول امتداحهم  سبابا وافتضاحا لا يصدقه أحد ولا يخدع أحدا ولا يفيد ممدوحا.

*  إن الزعماء والحكام الذين  يتقبلون كل هذا المديح الذي يهاجمون به ليحتاجون إلى بلادة حشرة وأخلاق ذبابة لكي يستطيعوا أن يسعدوا بسماع ما يقال فيهم، ولكي يستطيعوا أن  يخرجوا للقاء الناس وعرض أنفسهم عليهم وهم يحملون كل  هذه البذاءات على أخلاقهم وجلودهم ووجوههم.

*** 

*  إن الإمتداح في أغلبه عملية  تشهير بذيئة،  بل إنه أسلوب من أساليب  العدوان.

فالممدوح في الأكثر أو في الحقيقة مظلوم معتدى عليه مهما كان ظالما معتدياً، إنه مظلوم ومعتدى على أعصابه وسمعته، ومتهم في ذكائه، ومحكوم عليه بالطفولة، وموضوع في ظروف كلها توريط  وإحراج. إن وضع هؤلاء الحكام والزعماء الملقاة على كبريائهم وكرامتهم وحيائهم  واحتشامهم كل هذه المدائح البذيئة يشبه وضع إنسان مشوه الجسم قد تعـرى من كل ثيابه حينما يشار إليه في ميدان عام ويقال: انطروا كم هي جميلة وجديدة ملابسه، وكم هو جميل وسويّ  تكوينه !إنه نوع  من الإعلان المضاد القاسي في وقاحته ووحشيته.

* إن المادح  ليس إلا إنسانا باكيا أو خائفا أو محتجا أو لاعنا أو سارقا أو مقاتلا أو كارها جدا.

***

* ... ومع هذا فإن هؤلاء الكتاب يزعمون لأنفسهم -  وقد  بزعم  لهم  المجتمع -  أنهم  رسل  لا  غرض  لهم  إلا أن يموتوا  بشرف وتضحية في سبيل  رسالتهم. إن من أروع ما في البشر قدرتهم العجيبة على التعامل  بالخداع  ثم  يبدون  وكأنهم  يتعاملون على أعلى مستويات الصدق.

***  

* ... إن الحق كائن غريب  طريد  شريد  منذ  بدأ الإنسان يتحدث عنه، ولم يجد منذ ذلك التاريخ من يمنحه جنسية وطنه، أو يقبله مواطنا ضعيفا في بلده مع ادعاء الجميع له وسجودهم جميعا تحت عرشه الذي يجب أن يظل دائما بعيدا ومجهولا وطريدا وإلا وجب شنقه !

***

* ... إن القارئ قد يكون هو وحده  المسئول عن الصحافة الرديئة  والصحافة الجيدة  أكثر من مالكيها ومن المنتفعين بها، الخالقين لها، لأن القارئ لو رفض قراءة صحيفة ما لما  وجدت من يعلن لها ولا من يرغب في  أن تكون خادمة عميلة له ، وحينئذ لا بد أن تسقط وتموت جوعا وخمولا. إن القارئ يستطيع بتصرفه نحو الصحافة أن يحدد  اتجاهاتها ويصوغ أخلاقها ويجعلها صالحة أو طالحة، معه أو ضده دون أن يخسر شيئا. فالصحافة لا  تتعامل مع الفراغ ولا مع نفسها، إنها لا تعشق نفسها ولا تتزوج بجمالها، هي تبحث عن الأخدان وتعيش فيهم ولا تعيش في ذاتها وعلى حساب ذاتها مهما عاشت لذاتها.

*** 

* إن الصحيفة المنافقة أو الغبية أو المضللة لا تستطيع أن تكون كذلك إلا بمساعدة من توجه إليهم نفاقها وغبائها وتضليلها، فلو أنها كانت غيــر مقروءة - كما  سبق-  لما اهتم بها القادرون الفاسدون، ولما خصوها بنعمائهم ورضاهم ولما أعلن فيها المعلنون. إذن فالذين يقرؤونها هم الذين يصنعون كل أسباب نجاحها وبقائها، وهم في الواقع الذين  يهبونها الإعلانات والتأييد الذي يخصها به القادرون الفاسدون. إذن فالمجتمع هو الكائن الفاسد الذي يرشو الصحافة الفاسدة ويهبها القوة والبقاء، وهو كذلك التاجر الذي يعلن فيها لأنه هو الذي يقرؤها.

***

* ... وكما لا أريد أن ألوم المجتمع  فإني كذلك  لا أريد  أن ألوم الكتاب، بل قد أتصور أحيانا أن لهم عذرا لا يحتاج لقوته ووضوحه إلى تزكية، وقد اشعر نحوهم بالرثاء بدل الغضب. ولكني مع هذا قد أقتنع بأن الذي يسرق ليعيش قد يكون أخف ذنبا من الكاتب أو المعلم أو المصلح الذي يكذب ويضلل ليعيش.

***

اجمالي القراءات 10579