إننا دائما نقول إن الغرب يخاف تقدم العرب ولا يريده ويعمل لوقفه لأنه يريد أن يظلوا دائما ضعافاً واقعين في قبضته
أفكار للتأمــل ...

يحي فوزي نشاشبي في الأربعاء ٠٥ - مارس - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أفكـــار للتأمــــل

XVII

*  إننا دائما نقول إن الغرب يخاف تقدم العرب ولا يريده ويعمل لوقفه لأنه يريد أن يظلوا دائما ضعافاً واقعين في قبضته - ثم نقول إن إسرائيل وسيلة جيدة لإضعاف العرب ومنع تقدمهم. ولكن أليس الصحيح أن إسرائيل جهاز تنبيه  وتطوير وتوعية للعرب، لأن في وجودها  تهديدا لهم وتحديا وتجريحا لكرامتهم وشرفهم، وهذا يصنع  القوة  والمقاومة أكثر مما  يصنع  الضعف والركود؟  بل إن وجود إسرائيل قد يكون أقوى وأفضل الدعاة إلى الوحدة العربية. وهذا شئ  قاله كثير من زعماء العرب. فإذا كان الغرب يخاف  ويقاوم وحدة العرب وتقدمهم  فإن الوسيلة حينئذ هي أن يرفض ويقاوم وجود إسرائيل لأن وجودها داعية تحريض للعرب لكي  يتحدوا ويتقدموا ويتخطوا  خمولهم وتاريخهم  المستكين.

*** 

* ... نحن ، العرب ، نريد أن نحار في تفسير إسرائيل وأن نتصور من وراء وجودها أسباب قوة خارقة لكي يكون خوفنا منها وضعفنا أمامها معقولين أو غير ناسفين للكرامة وساخرين من الإنتساب إلى أدنى مستويات الشجاعة.

* كيف يمكن أن يكون خوف العرب من إسرائيل وعجزهم عنها معقولين أو مقبولين لولا هذه الأسباب التي يفترضون ويقدرون  ليغطوا بها شيئا لا يمكن أن يكون معقولا أو مقبولا.

***

* إن إسرائيل لا يمكن أن تكون خطرا على العرب إذا تحضروا، أما إذا لم يتحضروا فإن عجزهم عن التحضر سيكون أشـدّ خطرا عليهم منها. إذن  إسرائيل لن تكون خطرا على العرب في جميع الحالات، لأنهم إذا تحضروا فما أصغرها وأضعفها أمامهم ، أما إذا لم  يتحضروا فالخطر عليهم من عجزهم عن التحضر لا منها. إن إسرائيل  خطر على تخلف العرب لا على تقدمهم .

***

* إذن هذه القضية يجب أن ينظر إليها هكذا :

إذا كنا سنتحضر فلا وجود لإسرائيل، وإذا كنا لن نتحضر فيجب أن يكون خوفنا من أننا لن نتحضر. وهل يدري الذين يتحدثون دائما عن تهديد إسرائيل للوجود العربي أن تحدثهم هذا يعني -  دون  أن  يدروا -  أنهم  مقتنعون -  دون وعي  لهذا  الإقتناع -  بأننا  سوف  نبقى  دائما في  ظروف  متخلفة  جدا. 

*** 

* وهل افترض اليهود أن العرب سيظلون دائما مصابين بهذا التخلف؟ وكيف  افترضوا هذا الإفتراض، وهل هو افتراض جنوني؟ وهل محتوم على كل الناس أن يصابوا بالجنون في بعض مواقفهم وتفسيراتهم لبعض الأشياء؟ ولعل لدى اليهود افتراضا آخر قائما على أن العرب سيقبلون وجود الدولة  اليهودية بينهم  في يوم من الأيام ؟ .

***

* إني عاجز أن أتصور كيف يقتنع اليهود بأن العرب سيبقون دائما متخلفين التخلف الرهيب الذي يجعل الموقف بين العرب واليهود دائما هكذا: يهودي واحد أقوى من أربعين عربيا، أو بأن العرب سيسلمون بوجود  الدولة اليهودية.

*** 

* ... وإذا كان غير معقول أن ينام المنطق اليهودي فوق هذين الإفتراضين ولا أن يضع جميع حساباته في مصرفهما، فعلى أي افتراض أو حساب أقام اليهود إذن دولتهم داخل العالم العربي؟ هل اليهود آلهة لا يخافون معنى الخطر، أم مجانين لا يفهمون معنى الخطر- هل في المسألة لغز هائل أم غباء هائل؟ هل اليهود يستحقون الإعجاب جدا لشجاعتهم التي لا حدود لها أم الرثاء والسخرية بهم جدا لجنونهم الذي لا حـد له؟

*** 

* لقد كان التاريخ  كله يحارب ويلعن ويطارد بكل أجهزته بكل المتعاملين معه هذا النصف المليون الذي انتصر على سبعين مليون معهم كل التاريخ والأنبياء والمعلمين والمتعصبين. لقد جمعنا تاريخنا بكل ما فيه من مزايا إنسانية وعرقية وثقافية وهجمنا به على النصف المليون، يحرضنا أعظم ما عرف وحمل البشر من حقد  وبغض ومرارة  ودعاية  وحماس  وإيمان وغرور -  فماذا حدث؟

* من أرخص الحلول والتفسيرات أن نقول إن اليهود قوم أنجاس مناكيد، ليس لله ولا للأنبياء والكتب المنزلة من اهتمام أو تدبير أو عمل أو رسالة غير لعنهم والتشنيع عليهم وشرح مخازيهم وكتابة تاريخهم المزكوم بروائحهم القذرة، ثم نغيب في نشوة عجيبة تملؤنا سكراً وتجعلنا عاجزين عن الشعور بنقائصنا وذنوبنا وعن الإحسان بالكارثة. ما أقوى ما  لتحقير الآخرين واتهامهم من سحر وتضليل.

***

* إن تحقير الأعداء والمنافسين، بل وكل الآخرين، وإلصاق النقائص بهم هم أعظم غذاء تستسيغه مشاعرنا وعقولنا وأخلاقنا، بل وتسمن وتستريح عليه. لقد ظللنا كل التاريخ نتغذى بلعن اليهود  وتأليف التهم  ضدهم، وكان ذلك يشبع جوعنا الأخلاقي والعقلي والتاريخي، كنا نجد في ذلك أكبر المسرات والرضا عن النفس وعن كل ما فينا من عيوب وآلام آثام ، كأن نقائص الآخرين وهزائمهم تتحول إلى مزايا  فينا وانتصارات لنا. إن أردأ طعام في هذا العالم هو الطعام الذي تتغذى به مشاعر البشر المهزومة المتألمة الحزينة الغيرى.

* لقد كنا في لعننا لليهود وتحقيرهم وتوجيه الإتهامات الفظيعة إليهم كأنما نـُكفر بذلك عن حقاراتنا وضعفنا ونرد على الطبيعة عدوانها علينا وعجزنا عن الإنتصار عليها.

***

* ... إننا أحيانا نسبّ اليهود كعرق ونكون بذلك دون أن ندري من المؤمنين بالعنصرية وبتفاوت الأجناس مع إيماننا بأننا  نحن واليهود ساميون.

* لقد عجزنا في هذه القضية عن النصر فهل واجب أن نعجز أيضا عن الفهم؟ إن الإعتراف بالهزيمة انتصار لم يستكمل أسبابه، أو هو أسلوب من محاولات التكفير عن الهزيمة، أو هو نوع من الصلاة أمام الألم المنكر، أو هو نوع من التعهد برفض النسيان، أو هو أسلوب من أساليب  الإحتجاج على الهزيمة والمقاومة لها بنضال جديد.

* وإن اليهود انتصروا لأنهم أغنى وأدهى وأعلم وأقوى أخلاقا وأوسع تأثيرا دوليا، إلى مزايا أخرى كثيرة.

* ولكن كيف أصبحوا كذلك ولم نصبح نحن مثلهم أو أعظم منهم مع الفروق الضخمة بين إمكانياتنا وإمكانياتهم؟ إنه إذا كان العجز عن رد  الألم  موقفا ضعيفا ومهيناً،  فإن العجز عن فهم الألم  أو استنكاره  سيكون موقفا أشد ضعفا ومهانة.

***

* لقد بدأت الصهيونية بدايتها الكبيرة المخيفة، بداية علمية ذكية متحضرة، ثم مضت فيها تعيش كل مزايا الإستقرار والتناسق الداخلي والفهم العميق غير المصاب بالغرور لوضعها ولما حولها ولكل الإحتمالات  القريبة والبعيدة.

* أما نحن فقد واجهنا هذه البداية الإسرائيلية  الخطيرة مواجهة كلها توتر وصراخ وغرور وعجز عن الفهم والتوازن – واجهناها بالحكومات والإنقلابات  العسكرية التي تحوّل جل نضالها واهتماماتها إلى المحافظة على بقائها والإعلان عن نفسها والتحدث عن أمجادها وعبقريتها، وإلى التهديد وصياغة الشعارات والتباهي بالمذهبية وإلى مخاصمة الجيران وجيران الجيران ومخاصمة كل العالمين، في ادعاءات لا مثيل لها في فقدها للذكاء والوقار والصدق.

*** 

* جاءت هذه الحكومات الثورية الإنقلابية لتعلمنا أن نلعن الآخرين ونكرههم بدل أن تعلمنا أن نكون أقوى منهم وأن نتفاهم معهم، وتعلمنا كيف نخاف منها بدل أن تعلمنا كيف نثق بها ونفهمها، وتعلمنا كيف نصدق بدل أن تعلمنا كيف نفهم، وتعلمنا كيف نرفع أصواتنا بدل أن تعلمنا كيف نفكر، وتعلمنا كيف نعبدها بدل أن تعلمنا كيف ننقد أخطاءها.

***

* ... إن الثوار يريدون أن تكون صلاة المجتمع لهم ضاجة سوقية، إنهم ليفضلون أن يقام في بلدهم مؤتمر كبير أو دولي يخطبون فيه ويعرضون ذواتهم أمام أعضائه  وينفقون عليه كل خبز شعبهم، ويخطب فيه بين يديهم  وتتحدث عنه الدنيا وعن غبائه وجنونه - إنهم ليفضلون مثل هذا المؤتمر على أن يقام في بلدهم ألف مشروع صناعي أو زراعي بصمت لا صراخ ولا  إعلان  فيه.

*  إن الصمت المبدع هو الخيانة والرجعية والسخط على الثورة ، أما الضجيج العاجز فهو الثورة والإخلاص والنضال ومقاومة الفساد -  الصمت غباء وخمول ومؤامرة وفتور في الولاء والوطنية والمذهبية، والضجيج ذكاء ونشاط  وحرية ومعاداة للخيانة.

* ما أرخص الكلمة والمبالغة والغباء والأكاذيب -  ما أرخص الإنسان في عهد الثوار، ما أغلى الصمت والصدق والذكاء والإعتدال !

***

* يحشد اليهود أنفسهم حشدا حضاريا متجددا مفتوحا فيه كل ما في الحياة من تطلع وابتكار ووقار وشك وتجربة، ونحشد نحن أنفسنا حشدا بدويا فيه كل ما في البداوة من صهيل وغرور وانغلاق وتوتر وبلاغة  لغوية واحترام للقبور والنصوص والروايات وبحث عن المبارزات والملاعنات الدينية والمذهبية.

* حياة اليهود عمليات طويلة من تجارب الحياة الصعبة ، وحياتنا عمليات طويلة من تجارب التاريخ والموت البارد.

***

صبحواأ

* نحن لا نستطيع أن نقرأ الأحداث قراءة ناقدة، فلا  نستطيع أن نفهمها أو نتأثر بها على مستويات عمقها وضراوتها وقسوتها، ونظل أوفياء لأخطائنا وآلامنا ونقائصنا، بل نحولها إلى فلسفات وأديان  ومزايا ومواقف بطولية، فلا ننحرف عن النهج  القديم القويم إلا بقدر لا يجعلنا منفصلين عنه أو شاكين فيه أو كاريهن له.

* وإذا تغيرنا تحت إلحاح الظروف الخارجية الهائلة فـبالشعارات واللغة والزي فقط ، حتى المذاهب والنظم التي ندعيها ليست إلا تشكيلات حركية ونداءات منبرية، أما الأعماق فتبقى كما هي وفية لكل ما ترسّب في قاعها من أوثان وبداوة وأمية.

*** 

* ... حتى الشهرة العلمية والأدبية والفنية لخصومنا ولليهود خاصة نفسرها تفسيرًا يحابي ضعفنا ويخفف من شعورنا بالتخلف والهزيمة والعجز. إننا نخاف جدا على مشاعرنا الضعيفة فندللها ونرفض أن نصدمها بما يؤذيها أو يهزها، لهذا نغلق على عقولنا  كل منافذ الرؤية  فلا نرى شيئا لا نريده ، ونفسر كل الأشياء تفسيرات فيها كل التدليل والمجاملة لنفوسنا العاجزة عن فعل التفوق والهاربة من رؤيته عند الآخرين.

*** 

* ...  والبغض في حياة الناس هو دائما أسلوب من أساليب الدفاع عن النفس، فالمبغض يعتقد أن الذين يبغضهم  خطر عليه أو على تفوقه أو على مصالحه أو على جنونه وطموحه،  فيذهب يدافع عن نفسه دفاعا شعوريا، فيكون حاقدا ومبغضا وحاسدا ومبتكراً للتهم  والإشاعات  الرديئة ليوجهها إلى من يلقي عليه بغضه، ويفرح أيضا بالتهم والإشاعات المضادة التي يبتكرها الآخرون ضد الإنسان أو الجماعة التي  يبغضها.

***

*  ... وكم  أخجل وأحتقر نفسي حينما أبغض من يخالفونني في الدين أو المذهب أو الوطن أو من يعادونني أو يتفوقون علي، أو حينما أبغض من يبغضونني.  فليس البغض أداء  لرسالة ولا  انتصارا على شئ أو لشئ، إنه بذاءة  ووحشية فقط.

***

*  ... أما  المتمردون الذين همم  الأقلون  دائما  فهؤلاء هم الذين يتحدون قانون التلقين والأفكار والنظم  التي  صاغها  وفرضها  التاريخ  الذي صاغه وفرضه التعليم  والتكرار والرؤية  والممارسة  الطويلة.

***

* ...  وما هو الفرق بين التفكير ومقاومة التفكير بالتفكير؟ إن التفكير ومقاومة التفكير بالتفكير كلاهما  تفكير، فما الفرق بين هذا وهذا؟ ما هو الفرق  بين من يفكر لأنه مفكر ومن يفكر لأنه خصم  للتفكير ولأنه يخاف منه ويقاومه؟ وقد يكون الصواب أنه لا يوجد تفكير إلا وهو مقاومة  للتفكير، وأنه لا توجد مقاومة للتفكير إلا وهي تفكير على نحو ما  وبأسلوب من الأساليب.

***  

 

اجمالي القراءات 10767