المؤامرة والتراث (3-3)

سامح عسكر في الثلاثاء ١٨ - فبراير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كتب الأستاذ .."نسيم مجلي"..دفاعاً عن الدكتور لويس عوض وكتابه.."مقدمة في فقه اللغة العربية".. كتابا رائعا شرح فيه وجهة نظره وأنصفه بعد أن خذله الخصوم بأساليب غير علمية، هذا الكتاب هو..."لويس عوض ومعاركه الأدبية"..وساق فيه حُجج الخصوم بردود حلية ونقضية ، وأنصف الكتاب بعدما كَثُرَت أعداءه، رغم أن الكتاب لم يقترب من أي محرمات ثقافية دينية سوى أن العرب هي أمة حديثة واللغة العربية هي لغة حديثة أصلها اللغة الآرامية المنبثقة من اللغة المصرية القديمة، وهذا يعني أن أصول العرب كانوا في مصر، واللغة العربية أصلها مصري، وأن قبائل العرب الذين وفدوا إلى شبه الجزيرة كانوا من رعاة العماليق المشهورين.."بالهكسوس"..هكذا كان الكتاب في ما يقرب من 500 صفحة يبحث في هذا التاريخ بأساليب شهد لها العديد أنها أساليب علمية ومتخصصة.

ولكن لم يُعجِب ذلك الخصوم دفاعاً عن ما آلت إليه نتيجة الكتاب، وكان من الذين انتفضوا ضد الدكتور لويس بتلك الأساليب الممجوجة هو الدكتور.."بدراوي زهران"..أستاذ فقه اللغة في جامعة أسيوط، وظهر من لهجة الدكتور بدران أنه لم يكن ليرد على كتاب في فقه اللغة العربية بل- وحسب تعبير نسيم مجلي- كان.."منشوراً تحريضياً للإثارة والاستفزاز"..وطرح آراء الدكتور بدراوي ومنها أن الكتاب هو جزء من حملة صليبية تغريبية على الإسلام، وأن الكاتب كان يتعمد اجتزاء العبارات والجُمل وخلعها من سياقها ووضعها في سياقات أخرى تُفسد المعاني وتُحمّل الدكتور لويس عوض ما يرفضه.

لقد أثبت الهجوم على المجتهدين والباحثين عند العرب أنهم لا يُعانون فقط من المؤامرة السياسية بل والدينية أيضاً، فأصبح كل من ينظر في الدين وفي التراث وفي أي معلومة غير متناسقة هو مرتد زنديق أو صليبي مستغرب، هكذا أطلقوا على الدكتور لويس عوض أحد أشهر الأسماء التي خدمت العلم في القرن العشرين، ولكن لم يحالفه الحظ ونتيجة لهجوم بدراوي ورفاقه تمت مصادرة الكتاب، في جريمة علمية أعادت للأذهان مصادرة كتابي.."الإسلام وأصول الحُكم"..للشيخ علي عبدالرازق، وكتاب.."في الشعر الجاهلي"..للدكتور طه حسين، والحُجة واحدة هي الوقوف ضد التيار، ونقد الواقع الذي يكاد يتفق الجميع أنه واقع مخزي ومؤلم..ورغم ذلك يرفضون أي محاولة لتعديله.

لقد كانت الأصولية-وما تعتمد عليه من تراث-هي السبب في انتشار وسطوة لغة الإقصاء والتخوين، فما تعتمد عليه ليس إلا خلفيات ضيقة لا تعرف معنى التواصل، وبالتالي خرج مفهومها عن الصراع من أنه تواصل إلى صراع أبدي بين الحق والباطل، فيعمدون على طمس الأفكار والحُجج بالقوة، وغالباً ما تشوب سلوكياتهم عمليات تزوير متعمدة وغير متعمدة، ولكن يبدو مع ذلك أن هذا المرض لا يُعاني منه مفكري التيارات الأصولية الدينية، بل هناك تيار أصولي آخر لا يقل عنها خطورة سوى أن هذا يتحدث باسم الدين وهذا يتحدث باسم القومية والعِرق، فاعتقادي أن مثل الدكتور بدراوي وغيره ليسوا إخوان أو يجاهدون في مرتفعات تورا بورا وحواجز داعش والنُصرة، بل الرجل يمكن أن يكون ممن التحفوا برداء القومية أو الليبرالية دون أن يكون له القدرة على الإطلاع أو تحري الحقائق في ذواتها.

وهذا يُثبت أن المؤامرة الحقيقية على العرب-لو جاز التعبير- هي عقولهم وقدرتهم وشجاعتهم على إبداء المراجعات، فالعرب بحاجة إلى عقل ناقد وحريات فكرية ودينية كي يستنشقوا رائحة الحضارة، بينما هم الآن غير قادرين على استقبال رائحتها لأمراض عضوية تمنعهم من ذلك، بل يتخبطون في مسائل التشخيص وكلما أفلحوا في تعيين المرض يجدون أنفسهم إلى الوراء أكثر من الوضع السابق، وهذا يعني أنهم يدورون حول دائرة الحقيقة ولكن يخشون من اختراقها لمعرفتها، فلو امتلكوا الشجاعة ربما يكونون في وضع أفضل.

أخيراً وفي ختام هذه الدراسة أشير إلى وجه آخر من أوجه العلاقة بين المؤامرة والتراث، خاصةً الديني، فالمسألة لها وجه تأويلي أصيل في تعريف الفرق والأديان للنصوص والحقائق، ففي الإسلام يختلف المسلمون حول مفهوم العصمة، وهو مفهوم مركزي يتفرع من تحته العديد من الأحكام الشرعية والمفاهيم السياسية، مثال تأويل المذاهب السنية لعصمة الأنبياء واختلافهم في إطلاقية هذه العصمة أو صحة اختصارها في حدود الرسالة الإلهية، مما يعني أن العصمة هي عصمة الوحي لديهم، أما في المذاهب الشيعية فعصمة الأنبياء لديهم مُطلقة ويزيدون على السنة اعتقادهم بعصمة الأئمة الإثنى عشر، على اختلاف الشيعة في العدد، إلا أن العصمة عند الشيعة تختلف عن العصمة عند السنة.

كذلك وفي تفسير الشيعة لعصمة ما دون الأنبياء، وهي أنها قدرة إلهية ولُطف من الله وحقيقة راسخة في الأنفس يمنحها الله لعباده الصالحين، وهي بهذا التفسير تختلف عن عصمة الوحي والرسالة، المهم في ذلك وبعد استعراض قضية العصمة بإيجاز ..أرى أن اعتقاد المؤامرة ينتشر كلما انتشرت قضية العصمة، وأن ما قاله وفعلته أئمة الشيعة هو حقيقة من الله، فعندما يُخالِف في ذلك السنة فهم يخالفون تلك الحقيقة الإلهية ويتآمرون عليها، سواء بتشويه الأئمة أو بحربهم وقتالهم، وهذه قاعدة سيكولوجية موجودة داخل كل نفس شيعية ، ومهما فعل السنة فالقضية منتهية أن هناك عصمة لا يجوز مناقشتها.

أما عند السنة فقضية العصمة لديهم في تقديري لا تخص فقط الأنبياء،بل هم يصرحون بأن العصمة للأنبياء لا غير، ولكن عن طريق أحكامهم الشرعية وقواعدهم الفقهية والحديثية...أرى أنهم يعتقدون في عصمة الصحابة أيضاً، ليس هذا فقط بل يقولون بعصمة أولى الأمر أو الخليفة الحارس لحدود وشريعة الله، والدليل على ذلك ما ذكره ابن خلدون من أن العمل الصالح يستوجب العصمة بالتبعية لعصمة الأنبياء..يقول ابن خلدون في المقدمة:

" حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين. قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . ... ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت، فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة. وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان، وهي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً، وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم وتصديقهم. فبهذه الملكة ورسوخها، يقع التفاوت في الإيمان، كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف"..انتهى(مقدمة ابن خلدون 1/ 266).

وترجمة كلام ابن خلدون هو ما ذكره في ذيل التحقيق، أن هناك نوعان من العصمة ، الأولى للأنبياء والثانية تابعة لها وهي للصالحين، أي أن من ينطق به ويفعله الصالحون هو من مقتضى العصمة التي وهبها الله لهم نظير عملهم .

نفهم من ذلك أن العصمة في الضمير السني ليست فقط للأنبياء ، بل هي للصحابة أيضاً كونهم صالحين بمفهوم ابن خلدون، وحسب ما وضعوه من قواعد حديثية وفقهية ترفع من قول الصحابي خبرياً ولا ترده، وفعلياً بحيث يكون دليلاً شرعياً على اختلافهم في توهمه، فخبر الصحابي غير مردود وهم بذلك يقولون بعصمته مهما حاولوا تغيير المعاني ،فعصمة الصحابة لديهم واضحة، كذلك عصمة أولى الأمر والمقصود بهم الخلفاء ، وهم القائمون على دين الله..لا يجوز الخروج عليهم ، بل تجب طاعتهم، وعليه فوجوب الطاعة يقتضي موافقة أحكامهم وآرائهم للشرع، أي الخلفاء، لذلك فالخلافة في الضمير السني لها قدر عظيم، وهم بذلك يرون العصمة في كل حاكم على اختلافهم مع الشيعة الذين يحصرون الخلافة والإمامة في إثني عشر إماماً فقط، وقد ظهر ذلك في السياق التاريخي حيث كانت الثورات السياسية والدينية من الشيعة وباسم آل البيت.

هذا الاعتقاد السني في العصمة قد أثر على شكل التراث الذي خرج بقضية واحدة ذات أفرع، وهي أن العصمة للأنبياء وأن ما يفعله الصالحون هو نوعُ من العصمة، وأن أولي الأمر معصومون ما داموا يقفون على حدود الله حسب المفهوم السني، وكذلك فالصحابي قوله معصوم لا يجوز رده أو التشكيك فيه، بل حين تتعارض أقوال الصحابة يلجأون للمفاضلة بين أقوالهم وأفعالهم، وهذا هو نفس الأسلوب الذي يتبعونه في تفسير عصمة الأنبياء، أي أنهم لا يردون قول النبي ولكن يُفاضلون بين أقوالهم وأفعالهم الثابتة في التراث السني، مما أخرج التراث السني بشكل هو قمة في الخطورة على المجتمعات، فهو يُحِل الظلم والجور بحجة الشريعة والخلافة القائم عليها أناس هم حسب الضمير السني معصومون، ويُجيز تفسيق وتكفير من يرد قول الصحابة أو يرفض أيٍ صحابي منهم.

فنشأ عن ذلك اعتقاد بالعصمة مبالغ فيه حتى توسعت لديهم المؤامرة، فكما طرحنا في السياق أنه وكلما انتشرت المؤامرة والاعتقاد بها في مكان.. فابحث عن قضية العصمة ، لأن السنة كما الشيعة لن يقبلون الحديث عن رموزهم المعصومة، وسيعتقدون بالمؤامرة عليهم حين يتكلم المخالف على ما اعتقدوه وحياً إلهياً أو حقيقة مطلقة، وبالتالي فنظرية الصراع لديهم هي أبدية بين الحق والباطل..بين الخير والشر..كما سلف في مطلع هذه الدراسة التي أسأل الله أن يوفقني فيها بأيسر السُبل، وأن أكون أحسنت في إخراجها بتلك الصورة.

اجمالي القراءات 9022