الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية
إبن الجوزى الحنبلى شيخ القصاصين ب5 ف 6

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١١ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

الباب الخامس : الشفاعة وتطبيق الشريعة الحنبلية

الفصل السادس : إبن الجوزى الحنبلى شيخ القصّاصين :

أولا : ابن الجوزى فى لمحة سريعة

1 ـ هو من أكثر المؤلفين إنتاجا فى تاريخ المسلمين ، وأكثرهم تنوعا فى مؤلفاته ، فهو مؤرخ وفقيه ومن أهل الحديث و ( التفسير ) و ( علوم القرآن ) وواعظ قصّاص . ولكنه إستخدم كل مواهبه وكتاباته فى خدمة دينه الحنبلى ، وفى حياته فى القرن السادس الهجرى أسفرت جهوده كواعظ وداعية وشيخ للقصّاصين على صمود دين الحنبلية فى وقت عصيب وهو يواجه التصوف وبقية المذاهب السنية ( الأحناف ، الشافعية ، المالكية ) و الأشاعرة . وبعد موته ظلت مؤلفاته تحافظ على وجود الحنبلية ، الى أن تم بعث الحركة الحنبلية قوية فى العصر المملوكى  فى مدرسة ابن تيمية فى القرن الثامن الهجرى ، وفى حركة البقاعى فى القرن التاسع الهجرى. وبعد إخمادهما تم إحياء الحنبلية فى العصر الحديث تحت إسم الوهابية ، والتى يشقى بها العالم اليوم ، ويتم بها تشويه الاسلام فى ربوع العالم كل دقيقة .

2 ـ مع كثرة مؤلفاته وتنوعها ومع تعدد وظائفه مؤرخا فقيها وواعظا ومؤلفا فإن ابن الجوزى كما قلنا قام بتوظيف هذا كله لخدمة دينه الحنبلى ، فكان فى كتاباته فى ( الفقه النظرى ) عدوا للمرأة يعبّر عن الحنبلية المتزمتة ، وفى كتابه ( أحكام النساء ) أعطى كل الحقوق للرجل والزوج ، وجعل المرأة حبيسة البيت ، ولم يعرف الأمانة العلمية فى التأريخ ، إذ ملأ تايخه ( المنتظم ) بأكاذيب وجعل لها إسنادا ، وحشى تاريخ المنتظم بالمنامات والأحاديث والكرامات لمن يتحيز لهم من الفقهاء والعُبّاد ، بينما حشى تاريخه بالتحقير لخصوم الحنابلة . وخلط تاريخه بالقصص ، إذ ينشىء أكاذيب ويوردها كأحداث تاريخية ، ويصطنع شخصيات وهمية ويؤرخ لها تحت عناوين مثل ( عابد مجهول ).

ثانيا : إبن الجوزى ينتقد القصاصين الوعاظ :

1 ـ كتب ابن الجوزى فى ( الفقه الوعظى ) كتابه ( تلبيس ابليس ) ينتقد فيه الجميع ( سوى نفسه ) . يقول فيه عن رواج صناعة القصص على حساب الفقه : ( ولما كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء ). وهى إشارة الى شيوع مجالس القصص التى تناسب حال العوام بديلا عن مجالس الفقه والمناظرات التى كانت فى العصر العباسى الأول . أى إن الحنبلية هبطت الى حضيض العوام دون أن ترتقى بالعوام ، وهى عادة سيئة لأى دين أرضى حين يتحكم فى مجتمع ما . ويقول ابن الجوزى يعلل سبب ذمّه للقصّاص : ( وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد. )أى ذكر الخرافات دون الأحاديث التى يعتبرها ابن الجوزى علما مفيدا .

2 ـ وعقد فصلا كاملا فى كتابه ( تلبيس إبليس ) ينتقد فيه القصّاصين والوعاظ وكيف قام ( إبليس بالتلبيس عليهم ) تحت عنوان ( ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص  ) ( قال المصنف : كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء ..ثم خست هذه الصناعة، فتعرض لها الجهال ...وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن. ). هنا يؤكد ما قلناه عن دور العوام الحنابلة فى شيوع القصص وفى  تخلّف مستوى القصّاصين. ثم يقول عن صناعتهم للحديث ( النبوى ) ( .... فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب ، ولبّس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس على الخير وكفهم عن الشر ، وهذا افتيات منهم على الشريعة لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة. ثم نسوا قوله (ص ) : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار." )، ويقول عن نشرهم الانحلال الخلقى : ( ومن ذلك أنهم تلمحوا ما يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية في العشق . ولبّس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إلى محبة الله عز وجل. ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى ، فيضل القاصّ ويضل. ) ، ويقول عن صناعة الرياء والتدين السطحى المظهرى بالتظاهر بالبكاء : ( ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه . )، ويقول عن تحولها الى مجالس لهو وغناء ورقص لارضاء نزوات العوام :  (ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بها على قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها اليوم مشابهة للغناء فهي إلى التحريم أقرب منها إلى الكراهة، والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر،  ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء، وتمزيق الثياب ، لما في النفوس من دفائن الهوى . )،ويستطرد فيقول : ( ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح ولو على كلام فاسد.)(  وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم اليوم في موسى والجبل وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عن ذنب،  فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها ؟ هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم . ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف. ) ( ومنهم من يحث على الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة المقصود فربما تاب الرجل منهم وانقطع إلى زاوية أو خرج إلى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم. ) ( ومنهم من يتكلم في الرجاء والطمع من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة على المعاصي، ثم يقوي ما ذكر بميله إلى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة فيفسد القلوب بقوله وفعله . ) ( وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان ، فيجب أن يُعظّم . وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ..) . ( ومن القصاص من يخلط في مجلسه الرجال والنساء ، وترى النساء يكثرن الصياح وجدا على زعمهن ، فلا يُنكر ذلك عليهن ، جمعا للقلوب عليه . ) الى أن يقول عن عصره : (ولقد ظهر في زماننا هذا من القصاص ما لا يدخل في التلبيس لأنه أمر صريح ، من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمنحون  به الأمراء والظلمة والآخذ من أصحاب المكوس، والتكسب به في البلدان.). 

3 ـ بعد هذا النقد المرير للقُصّاص : هل كان شيخ القصّاصين ابن الجوزى منزّها عن هذه المثالب ؟ أم كان ممّن يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم ؟ . فيما كتبه ابن الجوزى عن نفسه نعرف الاجابة :

ثالثا : إبن الجوزى شيخ القصّاصين يقع فى نفس الأخطاء

فى السنوات الأخيرة التى سجلها ابن الجوزى فى المنتظم حرص على الـتأريخ لنفسه، ونعرض لفقرات مما قاله عن نقسه واعظا :

1 ـ فى خلافة المقتفى.  فى عام  552 ( وفـي شعبـان‏:‏ استـأذن الخليفـة ابـن جعفـر صاحـب مخـزن الإمام المقتفي أن أجلس في داره ، فأذن له ، فكنت أعظ فيها كل جمعة. )، أى كان يغظ رسميا منذ هذا العام فى ديوان الخلافة العباسية ( المخزن ).

2 ـ  فى خلافة  المستضىء ، وفى عام 570 : ( وتقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة بباب بدر فتكلمت يوم الخميس بعد العصر خامس رجب ، وحضـر أميـر المؤمنيـن . واخذ الناس أماكنهم من بعد صلاة الفجر . ) يقول عن كثرة العوام الحاضرين : (  وكـان النـاس يقفـون يـوم مجلسي من باب بدر الى باب العيد ، كأنه العيد .‏) . هنا يحضر الخليفة بنفسه ويحتشد العوام فى الشوارع . ثم تنهال عليه الأعطيات والوظائف من السلطة الحاكمة التى وصفها من قبل فى ( تلبيس ابليس ) بالظالمين :

3 ـ وفـي 20 شعبان من نفس العام 570 تسلم ابن الجوزى الاشراف على مدرسة كانت دارًا لنظام الدين أبي نصـر بـن جهيـر . بعد وقفها على الحنابلة ، وألقى فيها ابن الجوزى درسا حضره الأعيان ،يقول عنه ( فحضر قاضي القضاة وحاجب الباب وفقهاء بغداد ، وخُلعت عليّ خلعـة ، وخرج الدعـاة بيـن يـديّ والخـدم ، ووقـف اهـل بغـداد مـن بـاب النوبـي الـى بـاب المدرسـة كمـا يكـون فـي العيد ، واكثر وكان على باب المدرسة الوف ، والزحام على الباب . فلما جلست لإلقاء الدرس عـرض كتـاب الوقـف علـى قاضـي القضـاة وهـو حاضر مع الجماعة فقرىء عليهم وحكم به وانفذه ، وذكرت بعد ذلك الدرس،  فألقيت يومئذ دروس كثيرة من الاصول والفروع . وكان يومًا مشهودًا. ) .

وجاء التطبيق ليكون نصرا للحنابلة فى وقت بدأ فيه نفوذهم ينحسر لصالح التصوف السنى . خصوصا مع بناء مكتب لهم أو ( دكـة ) يقول : ( فانزعج لهذا جماعة من الاكابر ، وقالوا ما جرت عادة للحنابلة بدك .! فبنيت ، وجلست فيها يوم الجمعة ثالث رمضان. ) ( ..وازدحم العوام حتى امتلأ صحن الجامع ، ولم يمكـن للأكثريـن وصـول الينـا ، وحفظ الناس بالرجالة خوفًا من فتنة .وما زال الزحام على حلقتنا كل جمعـة وكانـت ختمتنـا فـي المدرسـة ليلـة سبـع وعشريـن فعلـق فيهـا مـن الاضـواء ما لا يحصى واجتمع من الناس ألوف كثيرة فكانت ليلة مشهودة.)..(  ثم عقدت المجلس يوم الاربعاء سابع شوال تحت المدرسة فاجتمع الناس من الليل ، وباتوا وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفًا ، وكان يومًا مشهودًا‏.) 

‏4 ـ فى عام 571 فى 3 محرم : ( انه تقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة الشريفة بباب بدر ، فتكلمت بكـرة الخميـس ثالـث المحـرم ، والخليفـة حاضر .وكان يومًا مشهودًا . ثم تقدم الي بالجلوس هنالك يوم عاشوراء، فأقبل الناس الى المجلـس مـن نصـف الليـل ، وكـان الزحـام شديدًا زائدًا على الحد ، ووقف من الناس على الطرقات ما لا يحصى . وحضر أمير المؤمنين وفقه الله‏. ) ( ‏وتقدم إلي بالجلوس ليلة رجب تحت المنظرة ، فاجتمع الناس ، فجاء مطر فمنع الحضور . فتقدم بالجلوس في اليوم الثاني ، فتكلمت ، وأمير المؤمنين حاضر . وامرنا بالبكور الى دعوة أمير المؤمنين ، فحضرنا بكرة السبت ، وحضر الوزير ابن رئيس الرؤساء وأرباب الدولـة والعلمـاء والمتصوفـة،  فأكلـوا . وانشـد ابـن شبيـب قصيـدة يمـدح فيهـا أميـر المؤمنيـن . وخـرج قاضـي القضـاة وأربـاب الدولـة بعد الأكل وخرجت معهم . وبات‏ ‏الباقون مع المتصوفة على سماع الانشاد .وفُرّق على الجماعة مال وخلع . وكان هذا رسمهم في كل رجب . ). يلاحظ وجود الصوفية الرسمى فى احتفالات الخلافة دليلا على أن الحنابلة فقدوا الانفراد بالساحة فى أواخر القرن السادس بعد قرون ثلاثة . ولكن صار للحنابلة حضور أقوى بزعامة ابن الجوزى ، فقد أصبحت له ندوة يقصّ فيها اسبوعيا بالتناوب مع القزوينى ، وقال أمير عباسى لابن الجوزى : (  والله ما احضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك وانما تلمحنا مجلس غيرك يومًا وبعض يوم آخر‏.‏) .وأهدى له الخليفة هدية طريفة .

ويقول : ( وفي يوم الأربعاء سادس ذي الحجة صنع الوزير ابن رئيس الرؤساء دعوة وجمع فيها أرباب المناصب ، وحضر الخليفة،  فاستدعيت ، فخلعت علي خلعة . ونصب لي منبر في الدار، فتكلمت بعـد أن أكلـوا الطعـام ، والخليفـة حاضـر والوزيـر وجميـع أربـاب المناصـب وجميـع علمـاء بغـداد والفقهـاء والوعـاظ إلا النـادر . وخلـع علي خلعة . ثم تكلمت يوم عرفة ، وكان مجلسًا عظيمًا ، تاب فيه خلق كثير وقطعت شعورًا كثيرة وكان الخليفة حاضرًا‏. ) فهل تاب التائبون فعلا أم هو رياء وتظاهر ؟

5 ـ فى عام  572 : ( تقدم الي بالكلام تحت منظرة الخليفة بباب بدر فتكلمت يوم الاحد ثاني المحرم ، وحضر أمير المؤمنيـن . ثـم تكلمـت هنـاك يـوم عاشـرراء ، فامتـلأ المكـان من وقت السحر ، فطلع الفجر وليس لأحد طريـق ، فرجـع النـاس ، وامتلأت الطـرق بالنـاس أقيامـًا يتأسفون على فوت الحضور . وقام من يتظلم في المجلس فبعث أمير المؤمنين في الحال من كشف ظلامته‏.).

وفى نفس العام  ‏572 ( وفـي يـوم السبت غرة جمادى الاخرة‏:‏ عبرت الى جامع المنصور فوعظت فيه بعد العصر وعبر الناس من نهر معلى واجتمع اهل المحال فحزر الجمع مائة الف ورجعنا الى نهر معلى والناس ممتدون من باب البصرة كالشراك الى الجسر وكان يومًا مشهودًا‏.‏) (  ثـم تقـدم الـي بالجلـوس ببـاب بمـر تحـت المنظـرة يـوم الاثنين سلخ جمادى الاخرة ، فتكلمت فيه بعد العصر ، وأمير المؤمنين حاضر . وجرى مجلس مستحسن ، تاب فيه جماعة ، وقصت فيه شعور.) أى أيضا تظاهر الناس بالتوبة وقصّوت شعورهم .!!.

وألقى ابن الجوزى قصيدة ركيكة ملأها نفاقا للخليفة وتأليها له . يقول :(  وذكرت خروجه الى الكشك في قصيدة انشأتها وهي‏:‏

يـا سيـد الخلـق وعيـن الاكوان ** خليفـة الله العظيم السلطان

ظهـرت للخلـق ظهـور البرهـان ** عاشت به ارواح اهل الايقـان

زيـن بـك البـر وزينـت اوطـان ** صدت القلوب حين صاعوا الغزلان

بحلمك الوافر بل بالاحسان ** والكشك قـد حقـر قمرالايـوان

هذا على التوحيد وضع البنيان ** وذاك مبنـي لأجـل النيران

حب بني العباس اصل الايمـان ** بنى الاله ولمحم في الجثمـان

الحجـر والبيـت لهـم والأركان ** أصبحت كالروح ونحـن ابـدان

الشـرع كالعين وانت اجفان ** الجود غصـن واحـد يـا بستـان

هذا مديحي وهو قدر الامكان ** وفي ضميري ضعف هذا الاعلان

عبيدكـه لا يشترى بأثمان ** وقد ملكتم رقه بالاحسان

سميت نفسي مذ خدمت سلمان ** لكن لساني في المديـح حسـان

( وتكلمت يوم الخميس عاشر رجب بعد العصر تحـت المنظـرة ، واميـر المؤمنيـن حاضـر ، والزحـام شديد ثم تناولنا انا والقزويني كل ليلة جمعة ، فكان يوم مجلسي تغلق ابواب المكان بعد الظهر لشدة الزحام . ) ( وفـي يـوم الاثنيـن حادى عشـر رمضان‏:‏ تقدم الي بالجلوس في دار ظهير الدين صاحب المخزن ، وحضـر اميـر المؤمنيـن ، واذن للعـوام فـي الدخـول . فتكلمـت ، وأعجبهـم ، حتـى قـال لـي ظهيـر الديـن : قد قال امير المؤمنين : ما كأن هذا الرجل آدمي لما يقدر عليه من الكلام.). أى يتعجب الخليفة من وعظه.  (وفـي يـوم الاثنيـن خامـس عشريـن رمضـان‏:‏ تقـدم بجلوسـي فـي دارصاحـب المخـزن فجلست وحضر اميـر المؤمنيـن واذن للعـوام فـي الدخـول فتكلمـت بعـد العصـر الـى المغـرب وبتنـا فـي الدارتلـك الليلـة مع جماعة من الفقهاء . ) .‏

6 ـ عام 573 : (   تقدم الي بالجلوس تحت منظرة باب بدر واجتمع الخلق وتاب جماعة وحضـر اميـر المؤمنين‏.‏ثم تقدم الي بالجلوس هناك يوم عاشوراء وكان الناس يجيئون من نصف الليـل بالأضـواء فما طلع الفجرولا حد موضع قدم وغلقت الابواب ولقينا شدة من الزحام وأمير المؤمنين حاضر. ) ( وفي يوم الائنين النصف من ربيع الآخر‏:‏ تكلمت في جامع المنصور وحضر الخلق فحزروا بمائة الف وتاب ثلاثة وخمسون نفسا وقصت  شعورهم ) 

7 ـ عام  574  : ( كان مفتتحها الثلاثاء،  فتقدم إلي بالكلام تحت منظرة باب بدر ، فتكلمت بكرة ، وحضر أمير المؤمنيـن . وتكلمت هناك يوم عاشوراء ، حضر أمير المؤمنين وقلت : " ولو أني مثلت بين يدي السدة الشريفـة لقلـت : يـا أميـر المؤمنيـن كـن للـه سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك ، إنه لم يجعل أحدًا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر منك . " فتصدق يومئذ أمير المؤمنين عقيب المجلـس بصدقـات وأطلـق محبوسيـن. )

8 ـ التطبيق هنا هائل ، فقد كوفىء ابن الجوزى والحنابلة بتجديد القبر المقدس لالههم ابن حنبل بأمر رسمى من الخليفة ، ممّا عُدّ نصرا للحنابلة وقتها . يقول ابن الجوزى : ( وفي أوائل جمادي الأخرة تقدم أمير المؤمنين بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد بن حنبل ، فعمل ،ونقضـت الستـرة جميعهـا ، وبنيـت بآجـر مقطـوع جديـدة ، وبنـي لهـا جانبـان ، ووقـع اللـوح الجديـد ،وفـي رأسـه مكتـوب : هـذا أمـر بعملـه سيدنـا ومولانـا المستضـيء بأمـر اللـه أميـر المؤمنين . وفي وسطه‏:‏ " هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه اللّه ." وقد كتب تاريخ وفاته ، وآية الكرسي حول ذلك . )

وتوالت إنتصارات الحنابلة بجهود ابن الجوزى و مهارته فى الوعظ والقصص وإستحواذه على ألباب العوام . فقد صرحوا له بالقصص فى جامع المنصور أكبر جوامع بغداد : (ووعـدت بالجلـوس فـي جامـع المنصـور فتكلمت يوم الإثنين سادس عشر جمادى الأولى ، فبات في الجامع خلق كثير ، وختمت ختمات ، واجتمع للمجلس بكرة ما حزر بمائة ألف ، وتاب خلق كثير ، وقطعـت شعـور . ) .

وبذكاء شديد حوّلها ابن الجوزى الى مظاهرة حنبلية إذ توجه بالجماهير لزيارة وتقديس النُّصّب المقدس لابن حنبل . يقول : ( ثـم نزلـت فمضيـت إلـى زيـارة قبر أحمد ، فتبعني من حزر بخمسة آلاف . ) وتبع ذلك إقامة ( دكة ) أو مكتب للحنابلة فإغتم أرباب المذاهب السنية الأخرى ، يقول ابن الجوزى : ( وفي ليلة السبـت حـادي عشريـن جمـادى الأولـى‏:‏ أطلـق تتامـش إلـى داره ، وتقـدم أمير المؤمنين بعمل دكة بجامع القصـر للشيـخ ابـن المنـى الفقيـه الحنبلـي ، جلـس فيهـا يـوم الجمعـة ثانـي عشر جمادي الآخرة فماتوا أهل المذاهـب مـن عمـل مواضـع للحنابلـة ومـا كانـت العـادة قد جرت بذلك ، ).

وبدا واضحا أن هذا بسبب ابن الجوزى ومهارته فى القصص ، يقول : (وجعل الناس يقولون لي : هذا بسببك فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك " . فشكرت الله تعالى على ذلك . ولقد قال لي صاحب المخزن‏:‏ ما يخرج إلى شيء من عند السلطان فيه ذكرك إلا يثني عليه ؟ وقـال لـه يومـًا نجاح الخادم‏:‏ أنت تتعصب لابن الجوزي ؟ فقال : والله ما يتعصب له سيدك بقدر ما يتعصـب لـه إلا خمسيـن مـرة وما يعجبه كلام غيره . وكان يقول الوزير ابن رئيس الرؤساء ما دخلت قـط علـى الخليفـة إلاَ جـرى ذكر ابـن الجـوزي؟ ) .

ولهذا يفتخر ابن الجوزى بنفسه وبالمكافآت التى منحها له ( الظالمون ) وأفضاله على أهل ملته الحنبلية ، فيقول : ( وصـار لي خمس مدارس . وهذا شيء ما رآه الحنابلة إلا في زمنـي.! ولـي مائـة وثلاثـون مصنفـًا إلـى اليـوم وهـي فـي كـل فـن.  وقـد تـاب علـى يـدي أكثـر مـن مائـة ألف ، وقطعت أكثر من عشرين ألف طائلة . ولم ير لواعظ قط مثل مجلسي ؛ جمع الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء‏.‏ ). ويستمر فيقول : (وفي يوم الثلاثاء سلخ جمادى الآخرة‏:‏ تكلمت بباب بدر وأمير المؤمنين حاضر والزحام شديد‏.‏)، ( وتكلمت يوم الخميس بعد العصر تاسع رجب تحت المنظرة وأمير المؤمنيـن حاضـر والزحـام شديـد ، والبـاب مغلـق لشـدة الزحـام )، ( وتكلمـت يـوم السبـت مفتتـح رمضان في مدرستي بدرب دينار فكان الزحام خارجًا عن الحد ، حتى غلق الأبواب ،وقُصّت ثلاثون طائلة ، وتاب خلق من المفسدين‏.‏). أى صارت عادة أن يتظاهر الناس بالتوبة كل مرة .!

ومن ذكاء ابن الجوزى أنه كان يستخدم قى وعظه معرفته بالتاريخ ومهارته فى سبك الروايات وتصديق العصر لما يقوله، فعلا نجمه، واسترجح بالقصص والوعظ بعض نفوذ الحنابلة فى مواجهة التصوف السُّنى وبقية المذاهب السنية .

( عن ابن الجوزى قصاصا مشهورا ج 18 / 33 ، 123 ــ ، 254 ، 202 : 203 ــ  ، 213 ــ ، 218 ــ  ـ )

اجمالي القراءات 11374