الأرضية التاريخية التى مهّدت لأساطير الشفاعة : فتنة أحمد بن حنبل

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٣ - نوفمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
الباب الثالث : تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى
الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة :
( 4 ) فتنة أحمد بن حنبل
مقدمة
1 ـ ثار محمد النفس الزكية فى خلافة أبى جعفر المنصور ، فأمر المنصور بأعتقال أهل بيته عام 144 وكان منهم والد محمد النفس الزكية وأعمامه وكبار العلويين ، جىء بهم فى الحديد من المدينة الى الكوفة فى أسوأ حال ، وحبسهم فى سرداب مظلم ضيق تحت الارض يتبولون ويتغوطون حيث ينامون ويأكلون فأصابهم ورم أتى عليهم واحدا بعد الآخر . وبعد مقتل ابراهيم بن عبد الله الثائر مع اخيه محمد النفس الزكية ارسل ابو جعفر المنصور برأسه فألقيت عليهم فى السرداب ، فقال عبد الله والد ابراهيم للربيع وزير المنصور الذى حمل اليهم الراس: ( قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام ، والملتقى يوم القيامة ).
2 ـ نحن نتذكر الله جل وعلا فى المحن والشدائد . وأغلبنا يكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر حُبّا فى الدنيا وصراعا من أجل حُطامها الزائل . أولئك العلويون صارعوا بنى عمهم العباسيين من أجل الثروة والسلطة ، وحين إنهزموا تذكروا اليوم الآخر . أبو جعفر المنصور ـ شأن أى مستبد يوطّد دولته ـ كان يقف فى القمة على ( الحافّة ) ، يخشى من أى نسمة ريح أن تُسقطه من عليائه الى الحضيض ، لذا لا بد أن يكون جبارا بلا قلب وبلا عهد . وهكذا كان فى نكثه بالعهود وقتله من يشك فى ولائه حتى من داخل بيته .
3 ـ المستبد يكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، خصوصا إذا أقام مُلكه على ايدلوجية دينية قائمة على إختراع الأحاديث مع قسوته فى التعامل مع الفقهاء لو شكّ فيهم . وقد قال المنصور:( الملوك تحتمل كل شىء إلا إفشاء السّر والتعرض للحُرمة والقدح فى الملك ). وأصعب أنواع ( القدح فى الملك ) هو الذى يأتى من رجال الكهنوت العاملين فى خدمة الدولة حين يزايدون عليها باسم الدين . وورث الخلفاء الأقوياء عن المنصور هذا الحرص على الاستبداد، ومنهم المأمون الذى كان يقول نفس مقالة جده المنصور: :( الملوك تحتمل كل شىء إلا إفشاء السّر والتعرض للحُرمة والقدح فى الملك ).
4 ـ ورجال الكهنوت إذا أرادوا تقوية نفوذهم فى الدولة الدينية زايدوا عليها ، وتطرفوا فى تقديس أئمتهم ليتخذوا منهم منافسا للسلطان المتأله . وبهذا يكون الدين الأرضى مجال الصراع بين السلطان ومنافسيه من داخل الكهنوت الخاضع له .
أولا : المأمون و ( خلق القرآن )
1 ـ إلا إن المأمون تميّز عن سابقيه بأنه مثقف يحب العلم والجدل والمناظرات ومجالسة العلماء والفقهاء ورواة الحديث . ليس فى تاريخه أى إشارة للجوارى والنساء عدا زواجه الاسطورى ببنت الحسن بن سهل . تركز تاريخه حول إنشطته السياسية والحربية والثقافية والعلمية وعلاقاته بالفقهاء والمثقفين ومناظراته وندواته . وقد كان يحاول التوفيق بين شخصيته كمستبد وشخصيته الأخرى كباحث ومثقف يناظر الآخرين من موقع النّدّية . لذا كان يغلّف جبروته بكلام معسول يتحدث فيه عفوه وعدله كأن يقول :( أنا والله أستلذّ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو لتقربوا لى بالذنوب. ) وهو نفسه الذى قَتَل فى شهر ذى القعدة سنة 200 يحيى بن عامر بن اسماعيل لأن يحيى قال له‏:(يا‏ أمير الكافرين ). ( المنتظم 10 / 65 ، 86 ).
2 ـ وبين جبروته كمسنبد وشخصيته المثقفة التى تجادل بالعقل والدليل تقع معضلة ( خلق القرآن ) التى ألزم بها الفقهاء والمحدثين والقضاة ، بعد رفضهم لها ، فأصبحت برفضهم شأنا سياسيا يتصل بهيبة الدولة (التى هى المستبد )، فرجال دين المأمون لا بد أن يؤمنوا بما يقول فى الدين الوضعى الأرضى للدولة، فإذا عارضوه فيها فهو ( قدح فى الملك ) لا يغتفر . أى كان ينتظر منهم أن يصيغوا له حديثا يؤيد رأيه فى خلق القرآن ، كما إعتادوا فعله فى صياغة آرائهم وأهوائهم فى شكل أحاديث ينسبونها للنبى عليه السلام . وكان ذلك مسموحا لهم فى العبادات والمعاملات بالاضافة الى تخصصهم فى صياغة أحاديث تؤيد دولة بنى العباس . ولأنهم رفضوا أن يصيغوا أحاديث تؤيد رأى المأمون فى خلق القرآن كرأى للكهنوت العباسى . بل عارضوا رأيه جهارا فكان لا بد للمأمون من تأديبهم لأنهم بهذا ( قدحوا فى ملكه ) ونالوا من هيبته .
3 ـ يزيد فى حنق المأمون أنه تقرّب وتحبّب الى الفقهاء والمحدثين مع علمهم بجهلهم وفساد منهجهم وعلمه أيضا بنقائصهم . وربما أراد أن ينهض بهم ثقافيا ليكونوا كالمعتزلة فى العلم بالدين بالنظر والعقل وليس مجرد حبك أحاديث وحفظ متونهم وأسانيدها. أى أن تكون الأحاديث وسبكها فى خدمة الدولة وكهنوتها ، ولكن لا تمنع أصحابها من معرفة العلوم الحقيقية ، أى لا يريد من أهل الحديث أن يظلوا على جهلهم وإنغلاقهم . يؤيد هذا أن المأمون كان عالما بالأحاديث ومن رواتها كما كان أيضا مُطّلعا على الجهود العلمية لبيت الحكمة ، ويّحكى عنه أنه كان يشرح لضيوفه الفوائد الطبية لعشرات الأطعمة فى إستضافته لهم . والمأمون هو الخليفة الوحيد الذى خصّص يوم الثلاثاء فى قصره لمقابلة الفقهاء والمناظرة فى الفقه حسبما يروى المسعودى فى ( مروج الذهب : 2 / 340 ). وكان ينصب لهم الموائد الحافللة بالطعام والحجرات الوثيرة والعطور الغالية ، ثم يناظرهم كأحدهم بلا تجبّر ، فقد كان بثقافته وذكائه وإطلاعه قادرا على الفوز فى المناظرات معهم ، وهو بجهلهم أعجز عن الردّ عليه . وكان مجلسه معهم يستمر للمغرب. 4 ـ وفى النهاية لم يحصل منهم على طائل ، ظلوا بتقليدهم وتمسكهم بما يخترعون من أحاديث تخدم أهواءهم ، وكرهوا مكانة المعتزلة ومقالاتهم ، بل ورفضوا رأى المأمون فى ( خلق القرآن ) فى عام 212 حين أظهر هذا الرأى ودعاهم اليه . لم تكن لديهم حُجّة عقلية أو قرآنية يستندون اليها ، واستمر رفضهم ستة أعوام . والرفض فى مسألة دينية تتعلق بالرحمن والقرآن لا تعرف الوسطية ، فإما أن تكون على حق وإما أن تكون على باطل وكفر وضلال . أى برفضهم ومقاومتهم لرأى الخليفة يعنى إتهامه ضمنيا بالكفر . بل وقد صرّح بعضهم بذلك فى حملتهم المُضادة ضد المأمون ودعوته الى ( خلق القرآن ) . والمأمون كان مشهورا بالحلم ، ونادرا ما يغضب ، وإذا غضب فالرد بالسيف . ولقد اوصله أولئك الى مرحلة الغضب الهائل عام 218. وقتها كان المأمون فى الرقة ، ومنها بعث كتابا الى اسحاق بن ابراهيم نائبه فى بغداد بإجبارهم على القول بخلق القرآن ، متهما من يخالفه بالكفر والضلال .
ثانيا : تحليل كتاب المأمون :
1 ـ وفى كتابه هذا الى نائبه فى بغداد ( إسحاق بن إبراهيم ) يقول المأمون : ( وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه ) . وقد قلنا من قبل أن أولئك الفقهاء وأصحاب الحديث كانوا من العوام الذين إحترفوا مهنة الكذب على النبى ، ليصبحوا بها علماء دين. ولكن المأمون فى غمرة غضبه يصفهم بأنهم حشوة الرعية وسفلة العوام ، وأنهم بلا نظر ولا عقل ولا علم ، وأنهم ضالون جهلاء ولا يعرفون الفارق بين الخالق والمخلوق .
2 ـ ثم أوضح سبب إتهامه لهم فقال : ( وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه. ).
3 ـ ثم إستشهد المأمون على أن القرآن مخلوق بآيات قرآنية فقال :( وقد قال الله تعالى "إنا جعلناه قرآناً عربياً" "الزخرف : 3" فكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال الله تعالى "وجعل الظلمات والنور"الأنعام: 1. وقال "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق" "طه: 99 " فأخبر أنه قصص لأمور أحدثها بعدها ، وقال "أحكمت آياته ثم فصلت" "هود: 1" والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه. ).
4 ـ ووصم المأمون أولئك المحدثين بأنهم انتسبوا للسّنة والجماعة إفتراءا ، وأنهم إحتكروا لأنفسهم الحقيقة ورموا غيرهم بالكفر ، وأنهم نشروا نحلتهم بين الناس. ووصف المأمون لهم فى وقته ينطبق الآن بالضبط على أصحاب الكهنوت السنى الحنبلى الوهابى فى عصرنا .!. فالمأمون يقول عنهم :( ثم انتسبوا إلى السُّنة ، وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر ، فاستطالوا بذلك ، وغروا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم ، فتركوا الحق إلى باطلهم ، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم ). وهنا نفهم سبب غضب المأمون ، فأولئك الفقهاء والمحدثون الذين غمرهم المأمون بكرمه وتواضعه معهم ردّوا الاحسان بالنكران ، بل ويتهمونه بالكفر ، ويصفون أنفسهم بأهل السنة والجماعة ، وهذه مزايدة على الدولة العباسية التى أوجدتهم . وهذا إعتبره المأمون تحديا له وكفرانا بنعمته عليه وفق عقلية المستبد فى داخله . لأنه يهدد نفوذه السياسى وايدلوجيته السنية التى يجب أن تتحرّك فى ركابه وفى موكبه ، لا أن يزايد فيها القائمون بها عليه .
5 ـ لذا كان لا بد أن يتخذ موقفا صارما منهم ، فقال فى رسالته يكفّرهم ويؤكّد كذبهم وإفتراءهم على الله جل وعلا ورسوله بأحاديث مصنوعة : ( فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، المنقوصون من التوحيد حظاً، وأوعية الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله ، وأحق من يُتهم في صدقه وتُطرح شهادته ولا يوثق به. من عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبالتوحيد وكان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا. ولعمر أمير المؤمنين إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه وتخرص الباطل ولم يعرف الله حق معرفته. ) أى يتهمهم بأنهم أكذب الناس لأنهم يكذبون على الله ورسوله بالأحاديث التى يصنعونها . وبالتالى يمنع توظيفهم وقبول شهادتهم فى المحاكم .
6 ـ ثم أصدر المأمون أمره لنائبه بأن يأخذ موافقتهم فى موضوع ( خلق القرآن ) ومن يرفض منهم فليس له مكان فى الدولة قاضيا أو شاهدا، فقال : ( فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا ، وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه ، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا واثق بمن لا يوثق بدينه . فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن. وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق . واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم. والأمر لهم بمثل ذلك.) .
ثالثا : ابن حنبل لم يكن من بين كبار الفقهاء وأهل الحديث فى عصر المأمون
1 ـ بعد (إمتحان ) ( أهل القضاء ) و ( الشهود ) العاملين فى سلك القضاء إلتفت المأمون الى أئمة الفقه والحديث فأمر نائبه أن يرسلهم اليه ، وحدّدهم بالاسم ، ولم يكن من بينهم أحمد بن حنبل ، وهم: ( محمد بن سعد كاتب الواقدي ، ويحيى بن معين ، وأبو خيثمة ، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون ، وإسماعيل بن داود ، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي )، فجمعهم إسحاق بن إبراهيم وأرسلهم الى المأمون ، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه، فردهم من الرقة إلى بغداد .
2 ـ و لم يرد ذكر لأحمد بن حنبل ضمن هؤلاء الأئمة . وبعد إقرار أئمة الحديث والفقه للمأمون كتب المأمون الى نائبه بأن يحضر عوام الفقهاء وعوام أهل الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة الكبار ليسيروا على ما وافق عليه شيوخهم ، ففعل إسحاق بن ابراهيم ذلك . وجمعهم ، فأجابه طائفة وامتنع آخرون .
3 ـ ثم كتب المأمون كتاباً آخر إلى إسحاق وأمره بإحضار من امتنع منهم اليه . وحين علم هؤلاء إستجاب معظمهم ورجع عن قوله متبعا رأى المأمون بخلق القرأن ، ورفض آخرون . فأرسل المأمون رسالة يهاجم فيها المعاندين المعروفين للمأمون بالاسم بالاسم ويفضح المستور من شأنهم ، وهددهم بالقتل ، ولم يذكر المأمون إسم ( أحمد بن حنبل ) . فى هذه الرسالة .
4 ـ ثم جاء ذكره للمأمون ضمن أربعة فقط رفضوا ، وهم ( أحمد ابن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريري)، فأمر إسحاق بارسالهم فى الحديد الي المأمون . فأجاب سجادة القواريري. وظل ابن حنبل وابن نوح على الرفض ، فأرسلهما بالقيود الى المأمون . وفى هذه المرحلة فقط يأتى ذكر ( أحمد بن حنبل فى القضية ) . ولولا رفضه ما كان له ذكر فى التاريخ .
5 ـ وهم فى الطريق مات المأمون وتولى المعتصم الخلافة ، فأمر برد ابن حنبل وابن نوح الى سجن بغداد ، وفى طريق العودة مات محمد بن نوح عام 218 ، وظل ابن حنبل فى السجن وحده . ولم يلق المأمون .
رابعا : ابن حنبل والمأمون فى التاريخ العباسى
1 ـ هذا ما نقلناه عن فتنة احمد بن حنبل مع المأمون طبقا لما جاء فى تاريخ الطبري( 8/ 631 : 645 ) . وما نقله عنه ابن الجوزى فى كتابيه : ( المنتظم ) و ( مناقب الامام أحمد بن حنبل ) . ولقد عاصر الطبرى نفوذ الحنابلة فى القرن الرابع الهجرى وكان من ضحاياهم ، ونقل روايات ما حدث لابن حنبل فى عصر المأمون بعد نصف قرن تقريبا من موت ابن حنبل . وأنهى الطبرى التأريخ حتى سنة 302 ومات الطبرى سنة 310. وقد توقف الطبرى فى موضوع خلق القرآن بموت المأمون دون أن يذكر ما حدث لابن حنبل من ضرب فى حضرة الخليفة المعتصم .
2 ـ لم يهتم المسعودى بمنهجه العقلى بفتنة أحمد بن حنبل ، ويبدو أنه لم يعتبر فتنة احمد بن حنبل خبرا مستحقا للذكر ، فلم يرد ذكر لفتنة ابن حنبل فى تاريخ المسعودى ( مروج الذهب ) والذى أرّخ فيه للدولة العباسية حتى عام 336 هجرية،أى الى خلافة المطيع لله العباسى . ومات المسعودى عام 346 .
3 ـ أما المؤرخ اليعقوبى الذى كتب تاريخه ( تاريخ اليعقوبى ) فى جزئين فقد كان الأقرب لعصر ابن حنبل من الطبرى والمسعودى . وقد خصّص اليعقوبى الجزء الثاني خاصاً بالتاريخ الإسلامي ، وأرّخ فيه حتى أيام المعتمد على الله العباسي، حوادث سنة 259هـ ـ وتوقف قبل وفاته ب(33) سنة . ولأن اليعقوبى كان الأقرب الى عصر ابن حنبل فهو الأصدق فى التأريخ له . ولكن نُفاجأ باليعقوبى يقول فى تاريخه شيئا مختلفا عما قاله الطبرى . يقول : ( وسار المأمون الى دمشق سنة 218 ، وامتحن الناس فى العدل والتوحيد ( أى رأى المعتزلة بالقول فى خلق القرآن ) وكتب فى إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها ، وأكفر من إمتنع أن يقول القرآن مخلوق . وكتب الأ تقبل شهادته . فقال كل بذلك إلا نفرا يسيرا .) . هذا هو كل ما قاله اليعقوبى عن فتنة ابن حنبل ، دون ذكر لابن حنبل فيما حدث فى عصر المأمون . وهذا يؤكد ان ابن حنبل كان نسيا منسيا فى عصر المأمون ، ولولا تصميمه على الرفض لرأى المأمون ما عرف به أحد .
خامسا : المعتصم وضرب ابن حنبل
1 ـ لم يرد فى تاريخ الطبرى ذكر لمحنة ابن حنبل وضربه بين يدى الخليفة المعتصم .
2 ـ أول من ذكر ذلك ـ حسب علمنا ـ هو اليعقوبى فى تاريخه . قال :( وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل فى خلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا . فأحضر له الفقهاء ، وناظره عبد الرحمن بن اسحاق وغيره فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق . فضُرب عدة سياط . فقال اسحاق بن ابراهيم : ولّنى يا أمير المؤمنين مناظرته . فقال : شأنك . فقال اسحاق : هذا العلم الذى علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟ قال بل علمته من الرجال . قال : شيئا بعد شىء أو جملة ؟ قال : علمته شيئا بعد شىء . قال : فبقى عليك شىء لم تعلمه ؟ قال : بقى علىّ . قال : فهذا مما لم تعلمه ، وقد علمكه أمير المؤمنين . قال : فإنى أقول بقول أمير المؤمنين فى خلق القرآن . فأشهد عليه وخلع عليه ، وأطلقه الى منزله . ) . الجديد هنا أن ابن حنبل بعد تعرضه للضرب وعجزه عن ردّ الحجة وافق المعتصم على القول بخلق القرآن ، فكوفىء بالخلع عليه وبإطلاق سراحه . وهذا يخالف ما زعمه إبن الجوزى .
3 ـ فالمؤرخون الحنابلة صنعوا بعد قرون من موت ابن حنبل تاريخا مزورا لابن حنبل ، ملأوه بالأساطير والكرامات والمناقب ، بل والـتأليه ، وهذا ما فعله ابن الجوزى المتوفى عام 597 ، فى كتابيه : ( مناقب الامام أحمد بن حنبل ) و ( المنتظم ) . وننقل عنه ما يمكن قبوله عقلا وممّا يتسق مع أحداث العصر وثقافته .
4 ـ وبإيجاز فقد كلّف الخليفة المعتصم من يجادل أحمد بن حنبل ، فجادلوه بلا فائدة .وتراّف به المعتصم وترجّاه أن يقول بخلق القرآن ، ولم تكن لابن حنبل حّجة إلا قوله الذى يكرره دائما : ( اعطونى شيئا من كتاب الله أو من سنة رسول الله ) . يطلب منهم أن يستشهدوا بآية قرآنية تقول إن القرآن مخلوق أو بحديث يقول هذا . وفى النهاية يأس المعتصم منه فأمر بجلده ، فجلدوه بحضور المعتصم 80 سوطا ، وقيل 36 سوطا . ثم أمر المعتصم بتسليمه حيا لعمه ، وأشهده على أنه معافى صحيح الأعضاء .
5 ـ بعد الافراج عنه إعتزل أحمد بن حنبل فى بيته طيلة حكم المعتصم . وتولى الواثق عام 227 ، فأحيا موضوع ( خلق القرآن ) فهرب أحمد بن حنبل ، وعاش مستخفيا خمس سنوات الى أن مات الواثق عام 232 . وتولى المتوكل بعد الواثق فانحاز لأهل السنة ، ومع ذلك أمر باستدعاء ابن حنبل للتحقيق معه فى وشاية بأنه يأوى بعض الثوار العلويين ، وثبتت براءة أحمد بن حنبل . فلم يتم التحقيق معه .
6 ـ فلماذا خلق الحنابلة شخصية اسطورية لابن حنبل بعد موت ابن حنبل ؟ لماذا جعلوه الاها بعد موته ؟
انتظرونا .  

اجمالي القراءات 9581