الأرضية التاريخية التى مهّدت لأساطير الشفاعة : قبيل الصدام بين العباسيين ومتطرفى السنيين

آحمد صبحي منصور في الخميس ٣١ - أكتوبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين ) ـ الباب الثالث : تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى ـ الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة : ( 3 ) قبيل الصدام بين العباسيين ومتطرفى السنيين
أولا : بين الايدلوجية الدينية والقوة العسكرية
1 ـ حسن الصباح ( 430 : 518 ) كان شيعيا يتبع الامامية الإثناعشرية ، ثم تحول ليتبع الامامية الإسماعيلية وأتى للقاهرة عام 471 ودولتها الفاطمية ، فشهد صراعا سياسيا حول ولاية العهد ، إنقسمت به الدعوة الفاطمية الاسماعيلية الى نزارية ومستعلية .وانضم حسن الصباح للنزارية ضد المستعلية فطرده الوزير بدر الدين الجمالى ، فعاد يعانى المطاردة ، من السلاجقة السنيين والشيعة الاثناعشرية الايرانيين والشيعة الاسماعيلية المصريين ، فلجأ الى قلعة آلموت الحصينة ، دخلها متنكرا كرجل زاهد عابد ، رحّب به حاكم القلعة العلوى . وتمكن حسن الصباح من إقناع جنود القلعة بالتحول الى التشيع الاسماعيلى النزارى ، واستولى على القلعة وطرد منها حاكمها فى رجب 483 هجرية . نحن هنا أمام شخص واحد يملك ايدلوجية فاستطاع بهذه الايدلوجية أن يمتلك قلعة بجندها وعتادها .
2 ـ الايدلوجية تحتاج الى قوة عسكرية لتنشىء بها دولة ( ايدلوجية ) وهذا ما يحاوله ( الإخوان المسلمون ). والقوة العسكرية تحتاج الى رجال الدين ليركبوا بهم المجتمع ( وهذا ما كان يفعله مبارك فى مصر ). وتصبح هذه القوة العسكرية دولة دينية لو كانت لها ايدلوجية دينية، أى تسير على ساقين ( العسكر والكهنوت الدينى ورجال الدين ). فى الاسلام يتحتم أن تكون إقامة القسط بين الناس مرتبطة بالايمان بالله جل وعلا واليوم الآخر. لذا يكون نادرا تفعيل ايدلوجية اسلامية حقيقية ، بينما تنشأ عن الأديان الأرضية ايدلوجيات مختلفة تقيم على أساسها دولا دينية تسعى نحو السلطة والثروة وتكفر باليوم الآخر، وتروج فيها أساطير الشفاعات .
3 ـ وهناك نماذج كثيرة لدول وحركات سياسية تخريبية بدأت بالدعوة الدينية وتأسّت بها . حسن الصباح أنشأ أكبر تنظيم ارهابى فى التاريخ نشر به الرعب والتدمير . حركة الزنج قام بها ثائر نجح فى تجييش العبيد فى جنوب العراق ، وتقلّب بين ايدلوجية التشيع وأيدلوجية الخوارج . القرامطة حولوا غارات البدو الى ( جهاد ) غزوا به العراق والشام ومكة نفسها . عبد العزيز آل سعود إقتفى سُنّة القرامطة فى تجنيد شباب البدو وتلقينهم سفك الدماء بالايدلوجية الوهابية الحنبلية السّنية فأسّس بهم الدولة السعودية الحالية. أبو عبد الله الشيعى أتى لشمال افريقيا ليس معه سوى الايدلوجية الشيعية ، فنشرها بين البربر فأقام الدولة الفاطمية فى ( المهدية ) فى تونس ، ثم إنتقلت لمصر. بل قد يصل الأمر بادّعاء النبوة . الشاعر المتنبى حمل هذا اللقب لأنه زعم النبوة فى شبابه ودعا لنفسه بين الأعراب ففشل ، ثم إختار الشعر ولكن ظل يحمل لقب ( المتنبى ) بسبب طموحه القديم . حركة الردة بعد موت النبى محمد عليه السلام إرتبطت بإدّعاء النبوة . فتوحات الصحابة قامت بتحوير الجهاد الدفاعى فى الاسلام الى إعتداء وإحتلال يوافق السائد فى ثقافة العصور الوسطى . الخوارج عارضوا الأمويين بشعار دينى هو ( لا حكم ألا لله ) .الحارث بن سريج التميمي احد زعماء بني تميم قاد ثورة ضد الأمويين فى خراسان رافعا شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واراد ان يفلح في ما فشل فيه الفقهاء الثوار من اصحاب محمد بن الاشعث ، وقد نشر الحارث ابن سريج حديثا منسوبا للنبي يقول ( يخرج رجل وراء النهر يقال له الحارث علي مقدمته رجل يقال له منصور يوطن او يمكن لآل محمد ،وجب علي كل مؤمن نصره ..)، وقد اشتهر ذلك الحديث حتي نشرته كتب السند فيما بعد ومنها مسند ابي داوود في الدولة العباسية . ولم ينفع ابن ابي سريج اختراع ذلك الحديث الذي يدعو الناس الي نصرته، وقد انهزم ابن ابي سريج وقتل مع اهله سنة 128 ، وفشل كما فشل الخوارج والشيعة العلويون ، ثم تم تطويع التشيع ليشابه المُزدكية الفارسية ، فتم تجنيد آلاف مؤلفة من خراسان وغيرها ، وبهذا نجح أبو مسلم الخراسانى فى إسقاط الدولة الأموية وإقامة الدولة العباسية. وبعد قتل أبى مسلم الخراسانى ثار أتباعه ورفعوا شعارا دينيا فارسيا فى مواجهة العباسيين ، وارتبطت ثوراتهم بإدعاء النبوة فواجههم العباسيون بالحرب وبحد الردة . ثم أقام العباسيون طبقة من رجال دينهم السّنى لتكتمل ملامح الدولة الدينية السّنية العباسية ، بالعسكر و الكهنوت الدينى .
4 ـ وأبو جعفر المنصور فى خلافته ( 136 : 158 ) هو الذى قام بتوطيد الدولة العباسية وإرساء ملامحها الكهنوتية. هو الذى بنى بغداد.(143 : 149 هجرية)، وهو القائل في خطبته (ايها الناس إنما أنا سلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه علي فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، أى أنه أول من أعلن (الحاكمية السياسية )، أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة. وبهذا تحولت الدولة العباسية الى دولة كهنوتية سنية . وأسّس أبو جعفر المنصور من العوام جيشا من طلبة ( الحديث ) وبدأ فى عهده التدوين المُنظّم فى ( الحديث والفقه والتفسير) وغيرها، وقبل هذاالعصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم ورواياتهم الشفهية . وذكر المؤرخ ابن عساكر فى تاريخ دمشق أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب الحديث قبل الخلافة ، وقال الصولي :( كان المنصور أعلم الناس بالحديث والأنساب مشهوراً بطلبه )، وذكروا له عدة أحاديث رواها أو إخترعها . أى جعل نفسه ضمن رواة الأحاديث وطلبة ( العلم ) كى يخلق أيدلوجية تسند دولته .
5 ـ وهنا نرى القوة العسكرية العباسية تخلق لنفسها أيدلوجية دينية بمئات الألوف من الأتباع . وهذه هى الحقيقة الأولى فى علاقة القوة والايدلوجية .الايدلوجية تحتاج الى القوة العسكرية ، والقوة العسكرية الحاكمة حتى لو كانت علمانية تحتاج الى رجال دين ، أو كهنوت . وحتى لو وقفت موقفا معاديا من الدين كالشيوعية فإنها تقوم بتحويل القائد الى اله معصوم . أى تصبح نوعا من الدين الأرضى مع زعمها بأن الدين ( افيون الشعوب ).!
6 ـ الحقيقة الثانية هى أن الكهنوت الدينى إذا وصل الى مرحلة من القوة فإنه يقوم بالمزايدة على السلطان طلبا للمشاركة فى الحكم ، خصوصا إذا وصلت الدولة الى دور الضعف وإنتهى مؤسسوها الأقوياء وورثهم سلاطين مترفون تتحكم فيهم النساء ومراكز قوى ، فيزداد إعتمادهم على الدين الأرضى وكهنوته . وهذا ما حدث فى أواخر العصر العباسى الأول ، فى الصدام بين الدولة العباسية وفقهائها السنيين ، والذى حمل شعارا دينيا هو الجدل حول ( خلق القرآن )، بينما كان الصراع سياسيا فى الأصل ، وأيضا تحت شعار دينى هو ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) . كان بطل موضوع ( خلق القرآن ) هو ( أحمد بن حنبل ) بينما كان بطل حركة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو ( أحمد بن نصر الخزاعى ) . هنا تتمثل الحقيقة الثانية، وهى أن أصحاب الايدلوجية الدينية يحاولون ـ لو سنحت لهم الفرصة ـ الوثوب على السلطان .
ثانيا : بين الحركة العلمية الحقيقية وشيوخ الكذب اللاهوتى فى العصر العباسى الأول
1 ـ فى العصر الأموى تميزت المدينة بمدرسة الحديث الشفوية ، وكانت تدور حول ما توارثته المدينة من عصر النبوة من روايات تاريخية عاشتها فى عصر النبوة والخلفاء أبى بكر وعمر وعثمان . ثم أقاويل بعض الصحابة من آراء بسيطة فىما عرف فيما بعد بالفقه والتفسيير ، كان يتداولها التابعون فى المينة ، واشتهر سعيد بن المسيب فى العصر الأموى، فكان بعضهم يرحل اليه . وبه قامت فى المدينة (مدرسة الحديث ) تمثل المحافظة والتقليد وتعيش في استرجاع امجاد عصر النبوة والخلافة الرشيدة حين كانت المدينة العاصمة الاولي للمسلمين قبل ان تنتقل عنها الاضواء للشام والعراق . لذا إعتمدت علي ( عمل اهل المدينة ) مصدرا من مصادر التشريع ، ولأن الحياة الصحراوية تسير علي وتيرة واحدة فان التقليد يفرض نفسه . ودار هذا التقليد حول التمسك بما يرويه أهلها من ( أحاديث ).
إختلفت ظروف العراق ، فهو وارث لحضارة قديمة ، وظروفه الجغرافية والسكانية مُعقدة مُتقلبة تستدعى الاجتهاد والتطور وإختلاف الرأى. لذا ظهرت مدرسة ( الرأى ) العراقية فى العصر الأموى تقابل مدرسة الحديث فى المدينة . وفى العصر العباسى الأول أنتجت مدرسة المدينة ( مالك بن أنس ) والموطأ ، بينما أنتجت مدرسة العراق أبا حنيفة الذى جمع بين الفقه والعلوم العقلية ، وسيطر منهجه العقلى على الفقه ، فكان لا يعترف بالأحاديث وبالاسناد .
2 ـ وأحدث أبو جعفر المنصور نقلة هائلة ، فهو الذى قتل أباحنيفة ، وهو الذى جعل تلميذيه الشيبانى وأبا يوسف ضمن مدرسة الحديث فأنهى مدرسة الرأى ، وهو الذى أسّس الكهنوت السّنى ، بالتشجيع على رواية الأحاديث وإسنادها للنبى . هنا إنتقلت مدرسة الحديث من المدينة لتتمركز فى العراق ، وليقودها الأعاجم ، ويكفى أن نعرف أن مشاهير أئمة الحديث فى العصر العباسى من فارس .
ولكن بدخول الثقافات الاجنبية المترجمة الي العصر العباسي تأسست مدرسة جديدة للتجديد العقلي تأثرت بالفلسفات اللاتينية والهلينية ومدارسها في انطاكية والرها وجندياسبور -، فبرزت مدرسة المعتزلة او كما يسمون انفسهم اهل العدل والتوحيد .
وادي ظهور هذه المدرسة العقلية الي توحيد الفقهاء جميعا في اتجاه واحد ضد المعتزلة . وتعين على الدولة العباسية أن تنحاز الى الأفضل لها : هل الكهنوت الفقهى الجاهل الكاذب الذى إخترعته والذى تحتاج اليه فى تدعيم سلطتها السياسية كدولة دينية ، أم العلوم العقلية والفلسفية التى تحتاج اليها فى نهضتها وتقدمها ؟
ثالثا : الدولة العباسية فى عصرها الأول تنحاز للعلم الحقيقى والاتجاه العقلى

1 ـ أبو جعفر المنصور باعتباره من ( اهل الحديث ) يعلم أنه ( دجل وإفتراء ) ويعلم أن اصحابه أبعد ما يكونون عن العلم ، هم مجرد ( حشوية ) كما كان يُطلق عليهم ، أى يحشون رءوسهم بأقاويل كاذبة يتعصبون لها. وقد خلقتهم الدولة كهنوتا لها ، وهنا تكون إحتمالية الشّك فيهم ، وفى إنقلابهم على الدولة أو مزايدتهم عليها ، لذلك عوقب ( أبو حنيفة) بالسجن والموت خوفا من تاثيره على قادة الجند العباسيين ، وعوقب ( مالك ) لانحيازه لثورة محمد النفس الزكية . أما عن رواد الحركة العلمية الفلسفية فقد كأنوا علماء وأطباء لا شأن لهم بالسياسة ، بل يعملون كخبراء لديها فى الطب وفى الترجمة ، ومنهم نصارى لا شأن لهم بالطموح السياسى ، علاوة على حاجة الخلفاء شخصيا لهم فى مجال الطب ، ويكفى أن الخليفة المتوكل الذى تعصب للكهنوت السُّنى وإنقلب على الحركة العلمية والفلسفية والمعتزلة واضطهد أهل الكتاب لم يستطع الاستغناء عن بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع الذى كان طبيب الخليفة الواثق ، فاتخذه المتوكل طبيبه الخاص .
2 ـ وقد خدم آل بختيشوع البلاط العباسى ثلاثة قرون ، وهم من الطائفة المسيحية العربية(السريانية) المهاجرة إلى فارس قبيل الفتح الإسلامي، هرباً من اضطهاد بيزنطة. و بدأ أبوجعفر المنصور بهذا . بعد بناء بغداد أصيب بمرض فى معدته عجز الطباء عن شفائه ـ فاستقدم الطبيب جورجيوس بن بختيشوع من جندياسبور فنجح فى شفاء أبى جعفر المنصور فإزدادت مكانة هذا الطبيب لديه ، ووثق به أبو جعفر ـ وهذا فى حدّ ذاته أمر غريب ـ حتى لقد كان أبو جعفر المنصور يأذن له بالدخول على نسائه لعلاجهن . وقد إتّخذه المنصور صديقا ، بدليل أنه عندما مرض هذا الطبيب كان المنصور يرسل اليه رسولا كل يوم يطمئن على صحته . ثم سار المنصور ماشيا الى داره ليطمئن عليه بنفسه.وعرض عليه الاسلام وقال له : يا جرجيوس إتّق الله وأسلم وانا اضمن لك الجنة " فقال الطبيب : " رضيت حيث آبائى فى الجنة أو فى النار ". فضحك المنصور . واذن له المنصور بالرجوع الى بلده وكلف خادما بأن يصحبه ، وأعطاه ألف دينار،مع شهرة المنصور بالبخل الشديد حتى كانوا يطلقون عليه (أبو الدوانيق).وعيّن مكانه تلميذه عيسى بن شهلافا .
واشتهر بختيشوع بن جورجيوس بالمكانة الهائلة لدى الخلفاء الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ، وكسب بالطب ما لم يكسبه أحد ، وكان الخلفاء يستأمنونه على نسائهم . هذا ما يقوله ابن النديم ( ت 385 ) فى الفهرست . أما القفطى ( ت 646 ) فى كتابه ( إخبار العلماء بأخبار الحكماء ) ـ وهو الذى ننقل عنه هنا ـ فقد قال بأن بختيشوع هذا خلف أباه فى رعاية الماريستان فى جندياسبور ، ثم إستدعاه الخليفة المهدى لعلاج ابنه ( الهادى ) ولى العهد. وبسبب مكيدة دبرتها الخيزران عاد الى بلده ، ثم استدعاه الرشيد وجعله رئيس الأطباء فى قصره. ومن نفس الأسرة نبغ فى قصور الخلافة بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع طبيب الواثق والمتوكل ، وبختيشوع بن يحيى طبيب المقتدر .
3 ـ ويتميز العصر العباسى بأنه قدّم للحضارة الانسانية نماذج فريدة فى التطور العلمى والفلسفى والطبى فى العصور الوسطى ، منهم الكندى ( 185 : 256 ) والحسن بن الهيثم ( 354 : 430 ) والطبيب الرازى أعظم أطباء العصور الوسطى ( 250 : 311 ) وابن سينا ( 370 : 427 ) وجابر بن حيان والفارابى و البيرونى ..الخ .
4 ـ ووقع فى غرام هذا الاتجاه العقلى العلمى الخليفة المأمون ت 218 . وهو الذى إضطهد فقهاء السّنة فى موضوع (خلق القرآن ) عام 212 ، 218 . وفى المقابل فإن المأمون هو الذى أنشأ ( بيت الحكمة ) واستقدم لادارته الخوارزمى ( ت 232 ) الذى أصبح من مشاهير العلماء فى العصور الوسطى ، وعهد إليه المأمون برسم خارطة للأرض عمل فيها أكثر 70 جغرافيا.
وفى عصر المأمون عاش موسى بن شاكر في بغداد ، وكان من المقربين من الخليفة، وقد اهتم بالفلك والتنجيم. وعندما توفي موسى بن شاكر، ترك أولاده الثلاثة صغاراً فرعاهم المأمون، وأدخلهم بيت الحكمة الذي كان يحتوي على مكتبة كبيرة وعلى مرصد فلكي، إضافةً إلى القيام بترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية من اليونانية. نشأ بنو موسى في هذا الوسط العلمي . وقد كان أكبرهم أبو جعفر محمد عالماً بالهندسة والنجوم و"المجسطي"؛ وكان أحمد متعمقاً في صناعة الحيل (الهندسة الميكانيكية) وأجاد فيها، وتمكن من الابتكار فيه؛ أما الحسن فكان متعمقاً في الهندسة. وكتب بنو موسى في الهندسة، والمساحة، والمخروطات، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات. .
وامتدت عناية المأمون للترجمة فقام بتعيين ( حنين بن إسحاق العبادى ) ( ت 260 هجرية )مسئولا عن الترجمة فى بيت الحكمة وساعده ابنه اسحاق بن حنين وابن اخته حبيش بن الأعسم . ، وكان حنين يجيد العربية والسريانية والفارسية واليونانية. قام حنين بترجمة أعمال جالينوس وابقراط وارسطو والعهد القديم من اليونانية . وقد حفظت بعض ترجماته أعمال جالينوس وغيره من الضياع . وكان المأمون يعطيه بعض الذهب مقابل ما يترجمه إلى العربية من الكتب. ورحل كثيرًا إلى فارس وبلاد الروم وعاصر تسعة من الخلفاء، وله العديد من الكتب والمترجمات التي تزيد عن المائة، وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعًا ورئيسًا لطب العيون، حتى أصبحت مقالاته العشرة في العين، أقدم مؤلف على الطريقة العلمية في طب العيون وأقدم كتاب مدرسي منتظم عرفه تاريخ البحث العلمي في أمراض العين.
5 ـ ووقع فى نفس الغرام بهذا الاتجاه العلمى والعقلى الخليفة هارون الواثق ( ت 237 هجرية ) وهو الذى قتل الثائر السّنى احمد بن نصر الخزاعى عام 231 . ويقول المسعودى ( ت 346 ) فى تاريخه ( مروج الذهب ) إن الخليفة الواثق سلك مسلك أبيه المعتصم وعمه المأمون ( من القول بالعدل ) أى مذهب المعتزلة ( العدل والتوحيد ). ( مروج الذهب : 2 / 375 ) . وتحت عنوان ( مجلس الواثق فى الفلسفة والطب ) ذكر المسعودى مجلس علم عقده الواثق وحضره علماء وأطباء . قال المسعودى عنه : ( وكان الواثق بالله محبا للنظر (أى الاتجاه العقلى ) مُكرما لأهله ، مبغضا للتقليد وأهله (أى الفقهاء وأهل الحديث ) ، محبا للإشراف على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشرعيين ) . وفى هذا المجلس سألهم الواثق عن مصدر المعرفة بعلم الطب ، هل بالحسّ ام بالقياس أم بالسّنّة كما يذهب اليه جماعة من اهل الشريعة. وحضر المجلس ابن بختيشوع وابن ماسويه وحنين وسلمويه . وقد قالوا ( إن الطريق الذى يُدرك به الطب هو التجربة فقط ) ، ونقل المسعودى خمس صفحات من النقاش الذى دار فى هذا المجلس ( مروج الذهب : 2 / 375 ، 384 : 388 ). جدير بالذكر ان المؤرخ المسعودى كان قريبا من عصر الواثق ، ولم يصطنع الاسناد فى رواية تاريخه ، أى لم يقل ( أخبرنى فلان عن فلان ) كما كان يفعل المؤرخون من أصحاب الحديث كالطبرى وابن الجوزى ، ومع ذلك فقد كان المسعودى أقرب للصدق والموضوعية من الطبرى وابن الجوزى . وقد تفوق ابن الجوزى فى الكذب والاختلاق على من سبقه من المؤرخين ، وجعل تصنيفه للتاريخ فى خدمة دينه السّنى الحنبلى ، فقام بتشويه سيرة الواثق ، يخترع أسانيد تتهمه بالانحلال الخلقى ، فى نفس الوقت الذى حاول أن يدافع فيه عن الخليفة الماجن ( المتوكل ) باختراع منامات تزعم إن الله جل وعلا غفر له .
6 ـ والمعتصم والد الواثق لم يكن مثقفا ، ومع ذلك فقد كان على مذهب المعتزلة كارها للكهنوت السّنى فواصل إضطهاد ابن حنيل بينما كان غاية فى التسامح مع أهل الكتاب . ولقد كان سلمويه بن بنان نصرانيا متمسكا بدينه، وقد عمل طبيبا للخليفة العباسي المعتصم ، وارتفع شأنه عنده حتي أن الورقة التي تحمل توقيع سلمويه كان الأمراء والقواد لا يستطيعون مخالفتها، وقد أمر الخليفة المعتصم بتولية إبراهيم ابن بنان شقيق سلمويه الإشراف علي خزائن الأموال للخلافة العباسية . وكان الخليفة المعتصم يقول عن طبيبه سلمويه : ( هذا عندي أكبر من قاضي القضاة لأن هذا يحكم في مالي وهذا يحكم في نفسي ، ونفسي أشرف من مالي. ) . وحين مرض سلمويه ذهب إليه المعتصم يزوره ، وبكي عنده وطلب مشورته. ولما مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته ، وأمر أهل القصر بحضور جنازته ، وأن يصلوا عليه بالشمع والبخور وأن يرتدوا جميعا زى النصارى بالكامل فنفذوا أوامره ، وأشرف بنفسه عليهم وهو يشاهد جنازة سلمويه . ومات المعتصم بعد موت صديقه سلمويه بعشرين شهرا . وكان موت المعتصم سنة 227 هـ. وسنرى كيف إنقلب الحال فى عهد المتوكل الذى سيطر عليه أرباب الكهنوت السّنى .!
رابعا : حنق الكهنوت السّنى من أسيادهم الخلفاء العباسيين
1 ـ لم يكن الفقهاء السنيون سعداء بهذا التكريم للنصارى والمعتزلة والمثقفين المتأثرين بالثقافات الأجنبية . والجدل بين أنصار الانفتاح والمقلدين موجود فى كل عصر ، ولكن الجدل هنا إحتدم بسبب الفجوة الهائلة بين أصحاب الحديث وأصحاب الاتجاه العقلى والعلمى . أصحاب الحديث لا علم حقيقيا لديهم ، هى مرويات يخترعونها ويختلفون فيها ، فى إسنادها وعنعناتها وفى الحكم على رواتها بالصدق والتوثيق أو بالكذب والتضعيف . وبينما تجد أصحاب الاتجاه العلمى والعقلى يعولون على المنطق والعقل والتجربة والخطأ والقياس العقلى والبرهان فإن أصحاب الكهنوت السّنى يعتبرون ما يقولون دينا بنسبته وحيا للنبى عليه السلام كى يؤكدوا لأنفسهم وغيرهم أن ما يفترونه هو صحيح ، بل هو الدين الصحيح . وبينما عاش أصحاب الاتجاه العقلى العلمى متفرغين للبحث فى تخصصاتهم وإبتكاراتهم فإن أصحاب الكهنوت السّنى أنفقوا أعمارهم فى رحلات شاقة ليسمعوا فيها من فلان وفلان أقاويل يزعم هذا الفلان أنه سمعها من فلان عن فلان عن فلان . ولكن هذه الرحلات قوّت الاتصالات بينهم ، وعزّزها أنهم أصلا من العوام الذين تكاثر دخولهم فى الدين السّنى بالذات ، ويعرف أرباب الدين السّنى كيف يؤثرون فى أولئك العوام وكيف يسيطرون عليهم ، ثم هم يحترفون الوعظ والقصص ، أى كانوا المسيطرين على الشارع والذين يصيغون عقليات العوام من بنى جلدتهم ، ويُقنعونهم ان ما يقولونه هو الدين . وبينما إنعزل عن الشارع أرباب الاتجاه العقلى العلمى وعاشوا بالقرب من الحكام إلتصق أرباب الكهنوت السُّنى بالناس فى الأسواق والمساجد والشوارع . لذا أصبحوا بمرور الزمن نجوم عصرهم . ويذكر ابن الجوزى فى ترجمة عبد الله بن المبارك أنه جاء للعراق أستاذا معلما سنة 141 تسبقه شهرته فالتف حوله الناس التفافا عظيما، ويروى ابن الجوزى: ( قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة ، فانصرف الناس إلي عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال وارتفعت غبرة التراب من كثرة ازدحام الناس حوله ، فأشرفت زوجة للرشيد من برج قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان ..). قد يكون فى هذه الرواية نوع من المبالغة ، ولكن فيها أيضا قدرا من الصحّة يعززه تلك الشهرة التى حظى بها ابن المبارك الفارسى فى بغداد ، بما يُعدُّ دليلا على أن أرباب الكهنوت السُّنى كانوا نجوم الشارع العباسى فى مواجهة البلاط العباسى الذى وقع فى هوى الأطباء والعلماء النصارى والمعتزلة المتأثرين بالثقافات الأجنبية .
2 ـ وطالما لم يكن الفقهاء السنيون سعداء بهذا التكريم العباسى للنصارى والمعتزلة المتأثرين بالثقافات الأجنبية فالمنتظر أن يحدث تصادم بينهم وبين سادتهم العباسيين .
3 ـ فكيف حدث ؟    

اجمالي القراءات 10567