المقدمة والفصل الأول
كتاب الشورى الاسلامية ( اصولها – تطبيقاتها فى دراسة قرآنية )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٩ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب الشورى الاسلامية ( اصولها–تطبيقاتها فى دراسة قرآنية)

د. احمد صبحي منصور . القاهرة مارس 1990

بسم الله الرحمن الرحيم

ملاحظة:

كتبت هذا البحث فى عام من اعوام الضنك الشديد . الشيوخ يضغطون على ( أمن الدولة لاعتقالى ) ولا يجد ( أمن الدولة ) سببا لاعتقالى لأننى أعيش منعزلا فى بيتى لا عمل لى سوى الكتابة ، وأبحث عن عمل بلا جدوى فقد أغلقوا فى وجهى سبل الرزق ، ويكتفى (أمن الدولة ) بالاستدعاءات لارهابى ولاسكات الشيوخ . الأوجع من جو القهر والارهاب هو عجز الأب عن توفير المطالب الضرورية لأولاده الذين لا ذنب لهم فيما يحدث سوى أنهم أبناؤه . الشعور بهذا العجز كان يجعلنى أحيانا أفضّل العودة للسجن ليكون السجن ذريعة تبرر العجز . كان المتطرفون وقتها يضغطون بشدة على نظام مبارك بعمليات ارهابية ما لبث أن إتسعت بعد عام 1990 ، وكان هذا الارهاب يجرى فى تناسق مع حملة دعوية يقودها الاخوان وخلاياهم النائمة فى الصحافة والاعلان عن تكفير ( الديمقراطية ) و الحديث عن مناقب الشورى الاسلامية . وكان النظام سعيدا بالهجوم على الديمقراطية ، ولم يكن من المثقفين الليبراليين من يفهم حقيقة الشورى الاسلامية الحقيقية ، كان يعرف عنها الشائع فقط وهى أنها ضد الديمقراطية الغربية . لذا كتبت عام 1990 هذا البحث لهذا السبب ، ونشرته على الانترنت فى سنوات لاحقة . كان الاستغراق فى البحث مع الاستعانة بالصبر والصلاة سبيلى للتغلب على القهر والفقر . كان القلب يطمئن حين أقرا فى الصلاة آية الكرسى ، وأعايش قوله جل وعلا فى وصف ذاته (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ   ) كان يطمئننى أن ( الحىّ القيوم ) جل وعلا الذى ( لا تدركه سنة ولا نوم ) يعرف بحالى ، ولن يتخلّى عنى ، فليس بين وبين أولئك الناس خصومة شخصية . هى خصومة بسبب رب العزة ودينه ، هم يريدون تشويه دينه وأنا أقف ضدهم . ولا بد أن أتحلى بالصبر والصلاة ، ولا بد أن أرد بالصمود بالبحث والتأليف فهذا هو ما سيبقى منى ، وأما جهلهم وسوء عملهم فهو ما سيبقى منهم .وعشت لأرى ثمار القهر والفقر عشرات الأبحاث منها القصير ومنها مؤلفات بأجزاء منها ما تم نشره هنا ، ومنها الذى أبدأ الآن فى نشره مستعينا بالله جل وعلا رب العالمين .

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة ).

سبرنج فيلد ـ فيرجينيا ، الولايات المتحدة  ، 29 سبتمبر 2013 .

 مقدمة:

منذ قيام الدولة العباسية عرف المسلمون الحكم الثيوقراطيالاستبدادي الذي يتمسح بالدين ، ومنذ ذلك الوقت ارتبطت الدول الإسلامية بالحكمالمستبد ، وتم تصنيف التراث (الإسلامي ) في أحضان دول مستبدة ، لا تعبّر عن حقائق الاسلام . بل تأسس التراث والفقه في مناخ كان لا يرى تعارضا بين الاسلام والحكم الاستبدادي. والغريب ان الاسلام–في حقيقته- مع الشورى ، كأعظم صورة ديمقراطية ،ولم تكن تلك الشورى مجرد سطور في القرآن الكريم بل كانت حياة علمية عاشها النبي معاصحابه في مكة قبل ان يقيم له دولة ، ثم طبقها في دولته في المدينة .. ومارس  المسلمونبعده في عهد الخلفاء ( الراشدين) تلك الشورى  بصورة او بأخرى الى ان دخلوا في الفتنةالكبرى وانتهت الخلافة (الراشدة) وجاءت الخلافة (الأخرى) القائمة على القهروالاستبداد فدخلت الشورى الاسلامية في متحف التاريخ ، بل نقول ان التراث الذي كتبهالمسلمون في عصور الاستبداد استكثروا عليها دخول متحف التاريخ ، فتجاهلوا رواية ماينم عن تلك الحياة الديمقراطية في عصر النبي والخلفاء ، ولم يصل الينا الا بعضروايات هزيلة صاحبت بعض المعارك الحربية للرسول والمسلمين وفيها كان النبي يستشيرويخالفه اصحابه في الرأي وينفذ الرسول رأيهم. لكن يبقى القرآن الكريم هو الفيصل في الموضوع بما أورده من نظامالشورى في عهد النبي. ويبقى أن الشورى في الدولة الإسلامية الأولى هي التى ارتقت بالعربالى مستوى الدولة المتحضرة التى ترسم خريطة جديدة فيالتاريخ العالمى.

والتيار الديني الذي يسعى لتكوين دولة إسلامية لا يرى في الشورىالإسلامية إلا استبداد الحاكم المتأله مع اعوانه من اهل الحل والعقد ، وفقا لمبدأالحاكمية التى تعني ان الامام الحاكم هو الراعي والشعب هو الرعية ، وهو يحكمهمبسلطة إلهية وتفويض إلهي ، وليس مسئولا اما الشعب ، بل أمام الله .. وتلك هي مورثاتالخلافة العباسية ، التي أنتجت التراث وتلك المقولات ، وكلها تخالف القرآن العظيم ،وتخالف ما كان عليه خاتم النبيين عليه السلام.ومن هنا تكون الحاجة ماسة لهذه الدراسة .. ليس فقط لأنها تلقىالضوء على الشورى الإسلامية الحقيقية التي أهملتها أبحاث التراث .. ولكن أيضا لأنهاترد على دعاة الاستبداد الديني السياسي ممن يؤيدون الاستبداد القائم آو يحلمونبإقالة حكم ديني استبدادي تحت شعارات دينية يخدعون بها جماهير المسلمين.

الفصل الأول:أصول الشورى في الإسلام

أولا–ماهية الشورى في المنظور القرآني:الشورى فى الاسلام : فنّ ممارسة السلطة والقوة

 1 ـ الشورى عندنا تقابل الديمقراطية في التراث الغربي .. وقديجادلنا البعض في هذه المقولة ، وذلك ليس مستغربا ، لأن الديمقراطية نفسها فيالتطبيق الغربي تختلف من دولي لأخرى ، فشتان بين ديمقراطية إنجلترا وديمقراطيةفرنسا ، وبينها وبين أمريكا قمة الديمقراطية في العالم ، آو هكذا يقولون. تتعدد الديمقراطيات الغربية ، ولكنها تشترك في أسس عامة–في الأغلب- تقوم على مسئولية السلطة التنفيذية أمام ممثلي الشعب .. بما يعني خضوع الحاكم للشعبأو ممثليه .. واستمداده السلطة منه أو منهم .. أو هكذا يقولون. ولسنا في مجال المقارنة بين الشورى الإسلامية في المنظور القرآنيوالديمقراطية الغربية النيابية ، ولكن نتوقف مع القدر المشترك بينهما وهو المعنىالحقيقي للشورى والديمقراطية ، وهو فن ممارسة السلطة والقوة ، لأن الجهة التي يخضعلها الحاكم هي المصدر الحقيقي للسلطة والمنبع الذي يستمد منه الحاكم سلطانه.

 2 ـ إن الحكم هو القوة والسلطة .. أو ممارسة القوة والسلطة.. والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطة ومدي وجود الشورى (أوالديمقراطية ) في تلك العلاقة.

  • هناك الحاكم المستبد الذي يتأثر بالقوة والسلطة ، وليس لشعبه عندهوزن ، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب الذي لم يبلغ بعد درجة المسئولية والأهلية، وهذا الحاكم المستبد يعتبر نفسه مصدر السلطات كلها ، فهو نفسه مجلس الشورىوالمشير وهو المستشار وهو الحاكم بأمره في كل شئ ، ومن هنا تكون المشورة في نطاقسلطاته التي يمنحها لنفسه ، غاية ما هنالك انه يستشير نفسه أو يعين مجموعة من الخدملتفكر له فيما يرضيه .. وعلى الشعب الطاعة لأنه مجرد من القوة ، فقد احتكر الحاكمالقوة لنفسه.
  • ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعي ويستحوذ على بعض التأثير والقليل منالقوة مما يجعل الحاكم المستبد يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب مع بعض القوة التيينتزعها الشعب لنفسه ، ولذلك تتغير مجالس الشورى ، من مجرد العبيد والخصيان الذينيتفانون في التفكير لأرضاء الملك المستبد ألي مجالس شورى لها بعض الحرية في الحركةألي دور أكبر ، وهذا مرهون بقدرة الشعب على انتزاع حقوقه ، وهل يرضى الشعب بوجود مجالسصورية تعطى شرعية زائفة لدكتاتورية الحاكم وتغطي عورة الاستبداد ، أم تتطور هذهالمجالس لتحاسب الحاكم وتقلص سلطاته .. وفي كل الأحوال فالشورى هنا هي فن ممارسةالقوة .. وتلك الممارسة يتجاذبها الشعب والحاكم كل منهما بحسب ما لديه من قوة وصمود.
  • وقد تكون القوة–كل القوة–للشعب ، فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحاكمويسائله ويعزله ويعين بدله ويراقبه ويحاكمه ، والحاكم هنا يعتبر نفسه موظفا في خدمةالشعب ، أجير لديه ، والشعب هنا يمارس بمشورته فن القوة.

وهكذا فلدينا ثلاثة أنواع من الشورى:

  • الشورى الحقيقية للشعب القوى الذي يملك إرادته بنفسه والذي يقوم بتعيين الحاكمويعتبره أجيرا لديه ويحاسبه ويقرأ ويعزله ويعاقبه إذا اخطأ.
  • والشورى الصورية لحاكم يدعى التمسك بالديمقراطية وهو يضطر لذلك لمواجهةالانتقادات واحتمالات التمرد من بعض طوائف شعبه ، ويدور صراع ( القوة) بين الحاكموالشعب وبقدر ما للشعب من قوة وصمود ينتزع حقوقه في المشاركة والشورى.
  • و أخيرا لدينا الدكتاتور الفج المطلق الذي يحكم بالقوة ويستشير نفسه أو خدمةوحاشيته والشعب مجرد قطيع وقع في أسره وتحت هيمنته وسيطرته ، حيث احتكر ذلك المستبدلنفسه القوة ومارس من خلالها الشورى .. لنفسه.

إذن فالشورى هي لعبة القوة أولا و اخيرا .. القوة بكل أشكالها ،قوة السلاح وقوة المال وقوة التأثير في الجماهير .. وقوة الجماهير نفسها أو ضعفهاوقوة الحاكم أو قوة شعبه. وحيث توجد القوة تكون القدرة على المشورة ، لأن المشورة هي فنممارسة القوة . وهذه هي ماهية الشورى في المنظور القرآني. ومن هنا كانت تنشئة المؤمنين على أتساس القوة ، وكانت المشورةنابعة من عقيدة الإسلام القائلة انه " لا اله إلا الله" .

3 ـ وقبل أن ندخل في أسلوب القرآن في تربية وتنشئة الشورى في تكوينالعقل المسلم . نتوقف مع بعض الآيات القرآنية التي تؤكد علاقة الشورى أو (الاستبداد) بالقوة مما يعنى أن الشورى هي فن ممارسة القوة.

ففرعون موسى وصل به الاستبداد ألي درجة ادعاء الألوهية والربوبيةالكبرى " فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) " (النازعات ) " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي   (38) " القصص   .وبذلك الاستبداد الذي وصل به ادعاء الألوهية  كان يتعامل مع الحاشية حوله ، أو الملأ الذي يفكر فيما يرضى الفرعون ،وكانت آراء الملأ أو الحاشية تأتى طبقا لما يريده الفرعون حتى أن القرآن الكريمينسب الأقوال الواحدة مرة لفرعون ومرة أخرى للملأ ليدل على أن الملأ أو الحاشية جزءلا يتجزأ من الفرعون ، وان فرعون حين كان يستشيرهم لا يسمع صدى صوته أو صدى صوتهم:  راجع سورة الأعراف  (قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)    ) وسورة الشعراء  : ( قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) . أيضا راجع سورة الأعراف  ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) ، وسورة غافر  ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)  وفي النهاية فان فرعون يقول لهم " ما أريكمإلا ما أرى وما أهديكمإلا سبيل الرشاد " قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)  غافر .  أي انه  لا يتصرف ألا برأيه ، ورأيه هو الهدي وسبيلالرشاد ، وذلك هو نهاية المطاف في الشورى عنده .

والأرضية التي كان يستمد منهافرعون سلطته الاستبدادية أو يمارس من فوقها فن الشورى هي انفراده بكل عناصر القوة. والتاريخ الفرعوني يؤكد أن عصر الزعامة–ومنهم فرعون موسى–شهد انفرادالفرعون بالملك والحكم وقيادة الجيوش وتحول مصر ألي وحدة واحدة في قبضة الفرعون علىحساب حكام المقاطعات الذين اصبحوا خدما للفرعون. والقرآن يؤكد على أن هذه المعاني قبل أن يكتشفها علم المصرياتبعشرة قرون . فالقرآن يؤكد أن فرعون موسى عقد مؤتمرا حاشدا لقومه وأعلن فيهم انهوحده يملك مصر وخيرها " وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51)   الزخرف  . والقرآن يؤكد النزعة الحربية لفرعون وقيادته للجيوش التي كانتأقوى جيوش ا"لأرض ، يقول تعالى عنه : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) " القصص  . وكانت صفة الجندية من صفات فرعون موسى في القرآن " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)   " البروج   . " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً (90)   " يونس   . " فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)  " طه   . " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)  " القصص   / فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذارات   . أيارتبط فرعون بالجنود وكانوا جنوده…أي يملكهم ويقودهم ، وبذلك اجتمع لفرعون ملك مصروقوتها الحربية.

ولذلك كانت سلطته طاغية ، وكانت رهبته ما حقه ألي درجة أن موسىخاف مواجهته وطلب من الله تعالى أن يبعث معه أخاه هارون ، ولكن الخوف تملكها معا منمواجهة فرعون فأمرهما الله تعالى أن يذهب إليه ، " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)  " طه  .

 4 ـ  ونصل ألي درجة اقل استبدادا ، حكاها القرآن في قصة ملكة سبأ. وكان استبداد هذه الملكة مستمدا من ملكيتها لكل شئ ؟ يقول القرآن عنها فى سورة النمل " إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)   " . لذلك كان الملأ– أو الحاشية حولها– يدينون لهابالولاء ، وحين استشارت الملأ أكدوا لها أنها صاحبة الأمر " قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)   " . النمل . كانت تطلب رأي الملأ من قادة الجيش أولى البأس الشديد لتتوثق منتأييدهم لها ، وجاءها التأكيد بالولاء المطلق لكل ما تراه .. أي كانت المشورةمحصورة في الملكة والملأ حولها أما الشعب الذي يتربعون على صدره فلم يكن له منالأمر شئ .. لأن الشعب كان مملوكا للملكة.وقد تسلمت الملكة رسالة النبي سليمان نيابة عنذلك الشعب ، مثلما كان موسى مرسلا الي فرعون وليس للشعب المصري ، لأن الشعوب في تلكالعصور كانت مجرد رعية من الخراف والمواشي يملكها الحكام المستبد . ونزل القرآن لكييحول تلك الرعية ألي بشر مسئولين أحرار . وندخل بذلك على أسلوب القرآن في تربيةالفرد المسلم والأمة المسلمة على أساس الشورى . ليدخل به في عصر جديد.

ثانيا–الشورى في تربية المسلم:

1 ـ البداية في عقيدة الإسلام : إلا اله إلا الله ، والتي تعنى أن البشر كلهم عبادالله ، ولا يجوز لإنسان مهما كان أن يسمو فوق مستوى البشر ويصير إلها مع الله . لأنلا اله مع الله ولا اله إلا الله. وصلة الشورى هنا أو نظرية الشورى القائمة على إنها فن ممارسةالقوة أن الله تعالى وحده هو الذي بيده ملكوت كل شئ وانه القاهر فوق عباده وان له القوة جميعا ، لذلك فهو وحده الذي لا يسأل عما يفعل وما عداه يمكن مساءلتهم ،فالقاهر فوق عبادة لا يمكن أن يسائله عباده ، ولا يمكن أن ينتظر منه عباده أن يكونواشركاء له في ملكه وسلطانه أو أن يستشيرهم في أي أمر من أموره ، لذلك فأنه تعالى هوالفعال لما يريد وهو يأمر عباده وعليهم الطاعة والخضوع .وذلك الذي يحكم مستبداوينتظر من الناس أن يطيعوه ويخضعوا له إنما ينتحل لنفسه صفة من صفات الله تعالى.

2ـ والله تعالى خلق البشر أحرارا في أن يطيعوا أمره أو أن يعصوا شرعه ، وفي مقابلحرية الإرادة التي يتمتع بها الإنسان فانه سيأتي أمام الله تعالى يوم الدين آو يومالحساب ليحاسبه ربه على طاعته آو عصيانه. وهكذا فإن الخالق القاهر فوق عباده الذي بيده ملكوت كل شئ هو الذيشاء آن يكون العباد أحرارا في الطاعة والمعصية ولم يلزمهم بقهره وجبروته في الدنياعلى الطاعة مكتفيا بمسئوليتهم يوم القيامة على اختيارهم في حياتهم الدنيا. وإذا كان الخالق جل وعلا لم يتدخل في حرية البشر في الطاعةوالمعصية فانه من الحمق آن يخضع البشر باختيارهم لواحد منهم ادعى لنفسه ما ليس لهمن صفات الله ، واستولى لنفسه ما ليس له من حقوق الآخرين في الثروة والسلطةواحتكرها لنفسه دونهم وأرغمهم على طاعته من دون الله ، بل وانتزع لنفسه ما رغب عنهرب العزة وهو التحكم في حرية الناس ومصادرتها.

3 ـ ثم إن الله تعالى حين خلق الأرض وقدّر فيها الأقوات فانه جعل الأقوات آوالإمكانات المادية حقا مشاعا للجميع لجميع الخلق الساعين للرزق السائلين عنه ، يقولتعالى عن الأرض "وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)   " فصلت   . آي كل الإمكانات في الأرض حق لكل البشر وليست حكرا على واحد بعينهآو جيل محدد وإنما هي للبشر جميعا سواء لكل السائلين الباحثين عنها . ولكن البحث عنتلك الموارد والسعي في ذلك الرزق يتفاوت من شخص لآخر حسب الإمكانيات الجسديةوالعقلية وحسب طبيعة المكان وما فيه من ثروات ، والقران يعترف بذلك التفاوت بينالناس في الرزق " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ   (71)    " النحل   . ولكن القرآن في نفس الوقت يضع التشريعات الاقتصادية التي تمنعتركيز الثروة في يد فئة أو شخص ، أو بتعبير القرآن " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ   (7)  " الحشر   . فحيث تتركز الثروة والقوة في يد فئة بعينها على حساب أخرى ينشاالترف والاستبداد ، ويأتي الحاكم المستبد والملأ الذين حوله . وبالتالي فان وجودفئة مترفة حاكمة تفرز الاستبداد يعتبر خروجا على شرع الله تعالى.

4 ـ والمؤمن يقول في صلاته يخاطب ربه ج وعلا " إياك نعبد " أى انه لا يعبد مع الله أحد ،والعبادة تعنى أيضا الخضوع والذل والدعاء . صحيح أن البشر يتصارعون حول اكبر كمية من الرزق ويتقاتلون في سبيلاكبر نصيب من الممتلكات والمتع ، ولكن ينسى الإنسان انه مهما جمع من أموال وممتلكاتفأنه سيتركها للموت أو تتركه بالخسارة ، وان أمواله التي يتركها لذريته من بعدهستسهم في فسادهم وتنازعهم ، كما أنّ إمكاناته الجسدية لا تساعده على اغتراف ما يشاءمن مُتع ، وحتى لو قضى حياته يغترف من المتع فأنه يفقد الإحساس بها ويستهلك جسدهوحيويته سريعا ولا يبقى له مع الأرض إلا الندم والحسرة في نهاية العمر. وفي النهاية فإن الرزق الذي ضمنه الله له هو مقدار ما يأكل ومايشرب وما يغطى جسده وما يستهلكه ، وفي ذلك لا يستطيع إنسان أن يأخذ فوق طاقته. وعليه فالمؤمن يعتقد أن لكل إنسان بطاقة رزق إلهية أو ( كارت)مسجل فيه مقدار ما يستهلكه من حطام الدنيا وأموالها ، ومنذ ولادته وهو ينفق من هذهالبطاقة ألي آخر ما بتنفسه من هواء في الدنيا ، وحينما يتوفى آخر مقدار مقدر له منرزقه ومن عمره وعمله .. يموت ويتوفى ، وذلك معنى الوفاة. وهكذا فالمؤمن يدرك انه إذا صار من الملأ أو حاشية السلطان أو إذاصار من أعداء السلطان فان ذلك لن يغير شيئا في كمية الرزق المسجلة في بطاقته ، وانالسلطان لا يملك أن يزيد في رزقه شيئا ، ولو أعطاه السلطان الملايين مما ليس مكتوبافي بطاقة رزقه   فان تلك الملايين لن تصل الى جوفه ، قديصيبه موت او افلاس او مرض او نكبة او مصادرة لأمواله ولن يأخذ شيئا من هذهالملايين الا الوزر ، او الذنب الذي دفعه في مقابل تأييد الظالم في استبداده وظلمه. ولسان حال المؤمن يقول : اذا كان الرزق من الله وحده ، وقد حدده ربىسلفا قبل ان يخلقني فلماذا أؤيد حاكما مستبدا ظالما لن أستفيد منه في شئ في رزقي ،ولن اجنى منه الا اللعنة؟.

5 ـ وقد يهلل الناس للمستبد خوفا من الاضطهاد والابتلاء ، ولكن المؤمن يعلم انالابتلاء يأتى من الله وحده ، وقد يكون الابتلاء للناس بالخير او بالشر " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً   (35)" الانبياء  . وكشف ذلك الابتلاء يأتى ايضا من الله وحده " وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" الانعام  .  ثم ان الابتلاء والمصائب والمسرات شانها شأن الرزق كلها مكتوبةومسجلة قبل ان نولد ولا مناص من مواجهتها لأنها قدر مكتوب . يقول تعالى " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51)" التوبة   . اى انه من بين كل المصائب التى نتوقعهاويهددنا بها الآخرون فلن يصيبنا منها الا ما هو مكتوب علينا ، ولن نستطيع الفرار منذلك المكتوب علينا. ولذلك فالمؤمن يتخذ موقفا محايدا وسيطا بين المصائب والمسرات التىتواجهه لأنها قدر مكتوب لا فرار منه ، ولذلك لا ينهار عند المصائب ولا يختال سروراعند النعمة ، يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)   ."الحديد . وطالما وقر في يقين المؤمن هذا فلن يخشى تهديد المستبد وحاشيتهلأن المستبد يتعرض للمصائب والمسرات مثل كل انسان ، بل هواكثر فزعا منها ، بل ان ضحايا بطشه تتحول الى كوابيس مفزعة وتحيل ليله ونهاره الىجحيم ، ويجعله اسيرا سجن الحراسة والخوف ، فكيف يخشى الناس من هو اكثر منهم خوفاوجبنا .؟؟

6 ـ الحرص على الحياة وغريزة حب البقاء غالبا ما يدفع الناس الى الصبر على الطغيان ، اذيخشون الموت والقتل على يد الطاغية وزبانيته ، هذا مع انهم في النهاية لابد انيموتوا ، واذا كانوا يخشون من الحكم عليهم بالاعدام ، فكل البشر محكوم عليهم بالموتوالاعدام. وكل الشعوب التى استكانت للطغيان ماتوا وانتهوا الى نفس المصيرالذي كانوا من أجله يخشون الطغيان ويرضون به املا في حياة لم تدم لهم ولن تدوملغيرهم ، لأنها حياة مؤقتة نهايتها الموت. والقرآن يقول لكل من يريد لكل من يريد الفرار من الموت ان الموتلابد ان يقابله في طريق فراره " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ  (8)  " الجمعة  . ويقول " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ  (78)  " النساء  .  وقد يقول قائل قائل ان من يصبر على الطغيان يخشى القتل لا الموت ،ولكن ليس هناك فارق بين القتل والموت ، فالأجل محدد بالزمان والمكان ولن يستطيعانسان ان يفلت من موعد موته ومن المكان المحدد له ان يموت فيه او يقتل فيه. وفي غزوة أحد قال بعضهم .. لو ظللنا في المدينة ما حدثت الهزيمةوما فقدنا القتلى والضحايا ، ورد عليهم القرآن " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ   (154)  " آل عمران    . اى ان الذي قدر الله عليه القتل سيذهببنفسه الى المكان الذي حدده الله لمصرعه وفي نفس الوقت المحدد ، ولا يمكن ان يتخلفعن ذلك. و لا يستطيع المستبد ان يقتل احدا قبل موعد موته ، ولا تستطيع قوةفي العالم ان تؤجل موعد موت احد او ان تزيد دقيقة في عمر أحد ، لأن أجل الموت اذاحلّ  لا يمكن تأجيله او الفرار منه ، فذلك حكم الله " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) " المنافقون ." إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4)" نوح .   7 ـ

إنّ لسان حال المؤمن يقول :  اذا كان الله وحده هو النافع الضار الذي يبتليبالخير والشر والذي بيده الموت والحياة والرزق والاعطاء والحرمان . فكيف اخشى غيره؟واذا كان الطاغية لا يختلف عنى في احتياجه لله تعالى وفي ان اللهتعالى قادر عليه بقهره ويعطيه ويحرمه ، فكيف اخشى ذلك الطاغية ؟ وكيف اعصى اللهتعالى في طاعتى وخضوعى لذلك الطاغية الذي يسلبنى حقي في شرع الله ؟ ؟. ولذلك فان المؤمن فى عقيدة الاسلام لا يمكن ان يكون سلبيا او خاضعاللاستبداد او مشاركا للمستبد في ظلمه واستبداده ، وطالما تسود عقيدة الاسلامالحقيقية فلا مجال لاستبداد او طغيان وحيث تربى المؤمن على تلك العقيدة ستجدهايجابيا في مواجهة الطغيان.

ثالثا : الشورى وايجابية السلوك عند المسلم:

1 ـ الطغيان السياسي يستند دائما الى طغيان دينى او مؤسسة تبارك ظلمه وتعطيهمشروعية دينية زائفة ، ويجنى رجال الدين المكسب تقديسا لذواتهم احياء وامواتا . والشعب المقهور يدفن احزانه واحباطاته لدى العتبات المقدسة للأضرحة ويتوسل بالأولياءالموتى يرجوهم العون والمدد ، وتضيع اعمار الأجيال في انتظار حلم لا يتحقق ، والطغيانيزداد ويزداد معه نفوذ الهيئة الدينية وسلطانها وثرواتها ، ويزداد معها بؤس الشعبوهوانه .

هذا السكوت والخنوع والرضى بالمقسوم لا يمكن ان يوجد في مجتمعيقدس الله وحده ويخشاه وحده ويطلب منه المدد وحده ولا يستعين الا به ، فأياه تعالىيعبد ، واياه تعالى يستعين .. في ذلك المجتمع الحر لا مجال لتقديس البشر سواء كانواحكاما في الدنيا ( اى السلاطين) او يعتبرهم ملوكا في الأخرة ( اى الأولياءوالقديسين والأئمة )، وانما التقديس فيه لله وحده. وهذا الشعب الذي لا يخضع الا لله وحده لا يسمح بوجود شخص يدعىلنفسه ماليس له من حقوق الله او حقوق البشر .. وذلك الشعب يعيش حياته آمنا اذ انمصيره في يده وليس متوقفا على نزوة فرد مستبد يستطيع ان يدمر الحاضر والمستقبل فيلحظة . وكم يحفل تاريخا بأمثلة دامية لما احدثه حكم الفرد المستبد بثروة أمتهالبشرية والمادية ، ولو استطاع الشعب ان ينتزع حقوقه من ذلك الطاغية لتجنب الدماروالخزى والعار.ـ وما يحدث في تاريخنا المعاصر حدث قبل ذلك مع فرعون موسى النموذجالكلاسيكي لكل حاكم مستبد ، والذي ذكره القرآن اماما لكل حاكم مستبد ظالم ، ومعروفان نتيجة استبداد فرعون وظلمه لم يدفعها فرعون وحده ، بل دفعه معه قومه وآله وجنده . وتتكرر قصة فرعون وملائه مع كل طاغيةيدمر قومه لأنه لم يجد امامه من يقف في وجهه ويمنعه من العبث بكيان الشعب ومقدراته.

2 ـ والشعب المؤمن بالله تعالى–حق الايمان–يعلم ان الله تعالى أوكل المبادرة بالتغيير الىالانسان ، وجعل الارادة الالهية في احداث ذلك التغيير تالية او نتيجة للتغيير الذييحدثه الانسان ، وهنا يكون التقدير الكامل للحرية الانسانية ، وتكون ايضا المسئوليةالخطيرة الملقاة على عاتق الانسان. يقول الله تعالى يحذر من تكرار قصة فرعون وقومه "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)  ( الأنفال  ).  فالأية الاولى تتحدث عن مصير آل فرعون ، والآية التالية تتحدث عناهمية العامل الانساني في التغيير ، وان الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم. ويقول تعالى مؤكد على نفس القانون الالهى " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ  (11)   "الرعد   . ولو قام الشعب بتغيير ما في الانفس من خضوع واستكانة وخوف وسلبيةوتطاحن على الصغائر وأنانية وبحث عن المكاسب الشخصية دون نظر لمصلحة المجموع–لو تغيرتالأنفس من كل ذلك ، ولو تطهرت من كل ذلك لامتلك الشعب من اسباب القوة المعنوية التىيتحول بها الطاغية المستأسد الى قط أليف. والتراث الشعبى المصري له تاريخ طويل في الصبر على الاستبدادوالخنوع له ، ومن هذه التجربة الطويلة يقول المثل الشعبى يفسر الطريقة المثلىلصناعة الفراعنة " قالوا لفرعون مين فرعنك ؟ قال مالقيتش حد يقف في طريقي.."وقد لا يوجد حاكم مستبد بالفطرة ، ولكن من المؤكد ان شعبا خاضعامستكينا يخلق عشرات من الفراعنة ، وكلما هلك فرعون انتصب بعده فرعون ، ولا يمكن انيتغير الحال الا اذا بدّل ذلك الشعب وغير ما بنفسه اولا ، وحينئذ تاتى ارادة اللهبتنفيذ ذلك التغيير ومباركته.

3 ـ وذلك التغيير المطلوب لا يأتي الا عن طريق نهضة ثقافية فكرية او دعوة ترتفعبوعي الشعب توضح له حقوقه وترد على غسيل المخ الذي يقوم به الملأ والحاشية من خدمالحاكم المستبد . وترد على التأويلات الدينية للكهنوت الدينى الذي يخدم الاستبدادالسياسي .  او بمعنى آخر دعوة دينية سياسية ثقافية تهدف الى تغيير ما بأنفس الناس منسلبية وخضوع وانانية. وتلك الدعوة لن يسكت عنها المستبد وأعوانه والكهنوت الذي يخدمه ،واصحاب تلك الدعوة مرشحون لاتهامات سياسية ( الخيانة والعمالة ) واتهامات دينية (الكفر والألحاد) وكلها تؤدي الى طريق واحد وهو القتل . ولأنها دعوة حق لا تمتلك الاالحجة والبرهان امام القوة والسلطان فالمنتظر ان تصادرها قوة السلطان المستبدبالقوة والقهر . ولكن اخمادها بالقوة وسفك الدماء لا يعنى اجتثاث جذورها لأن تجربةالبشر التاريخية تثبت ان الاضطهاد هو اكبر عوامل انتشار الافكار واستمرارها ، وهكذافكلما اسرف المستبد في مطاردة تلك الافكار القويمة وحربها واغتيال اصحابها مادياومعنويا انتشرت تلك الافكار وتنبه الشعب واستمع لها ، خصوصا وان الشعبالساكن الساكت يعرف التعاطف مع كل ما يكرهه الحاكم المستبد الظالم ، ويتعاظم تعاطفهمع اولئك الدعاة الابرياء المسالمين الذين يضطهدهم المستبد بالحديد والنار لمجردكلمات يقولونها وصفحات يسطرونها. وباستمرار الاضطهاد بالحديد والنار تنتشر الدعوة السلكية أكثروأكثر .. ويزداد انصارها .. وتتحول من الضعف الى القوة ، ومن الصبر على الأذىوالأضطهاد الى المقاومة ورد الاعتداء. ويصبح التغيير امرا حتميا .. ليس تغيير الحاكم المستبد وحده.. وانما تغيير النظام المستبد برمته واستبدال نظام آخر يعبر عن الشعب وبخدم الشعب–اى نظام شورى–بالمفهومالذي عرفه المسلمون في عصر النبي عليه السلام.

4 ـ فالنبي محمد عليه السلام ظهر في مكة حيث لم تكن فيها دولة بالمعنى المألوف ، ولكننوع من الحكومة القبلية تقوم على البيت الحرام وتتكسب من ايرادات الحج اليه ومنالاصنام المقامة حوله ، وتكونت تلك الحكومة من اشراف قريش ، ولم يكن للضعفاء دورالا مجرد الخدمة بجانب الرقيق والعبيد ، وجاءت دعوة الاسلام فاعتبرتها قريش تهديدالوضعها الاقتصادي والاجتماعي في مكة وفي الجزيرة العربية .. وقابلت الدعوة الجديدةبالاضطهاد ، وأدي الاضطهاد والأذى الى نشر الدعوة وتحولها الى هجرة ودولة ، ثماصبحت الدولة الجديدة–برغم استمرار الحصار حولها–موطنا لكل الاحرار ، وانتصرت في النهاية. والقرآن الكريم صاحبت آياته الكريمة خطوات النبي في مكة وفيالمدينة .. وعلى اساسه تربى المسلمون وعرفوا الشورى ضمن قيم أخرى عظيمة ، وتعلموامن القرآن السلوك الايجابي في مقاومة الظلم والاستبداد .. كما تعلموا منه عدمالاعتماد على الغير وان يكون الجهاد بهدف تقرير حرية العقيدة في الايمان وفي الكفر، وتلك قصة اخرى تتداخل احيانا مع موضوعنا عن الشورى.

5 ـ والفلاسفة العمليون والخياليون يقولون ان وظيفة الدولة هي اقامة العدل ،والقرآن يؤكد هذه الحقيقة ، بل يجعل الهدف من ارسال الانبياء والرسل وانزال الكتبالسماوية هو ان يقوم الناس بالقسط والعدل ، يقول تعالى " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ   (25)   " . (الحديد ). وقيام الناس بالقسط معناه ان لا يكون هناك حكم مستبد ولا طائفة اوطبقة تحتكر لنفسها الروة والسلطة .و قيام الناس بالقسط و العدل معناه سريان قاعدةالعدل في التعامل مع الله تعالى فلا مجال لاتخاذ اولياء وآلهة مع الله من البشروالكهنوت السياسي والكهنوت الديني.وتسرى قاعدة العدل في التعامل السياسي والاجتماعى والاقتصادي ،وذلك في التعامل البشري يستلزم نظاما للتشاور والديمقراطية يحكم فيه الشعب نفسهبنفسه بحيث تسير الأمور على قاعدة الشفافية والصراحة والمساواة واعطاء كل ذي حق حقه. واذا تحقق هذا فان المجتمع الذي يريده القرآن قد تحقق .. وتلتقىبذلك احلام الفلاسفة والمصلحين مع الهدف من اقامة الشرع والدين .

6 ـ فكيف اذا لم يتحققذلك الهدف .؟كيف اذا احتكرت طائفة الثروة والقوة والسيطرة واستبدت بالأمروأكلت على الناس حقوقهم في الثروة وفي المشاركة السياسية ؟ وكيف اذا سيطرت تلكالفئة على مقاليد السلطة واصبح زحزحتها عن السلطة لأقامة العدل وتستلزم اللجوءللقوة والحديد والنار ؟ هل يكون مشروعا ان يلجأ المستضعفون للحديد والنار لتحقيقميزان العدل ؟…القرآن الكريم يقول نعم ؟؟‍‍!!.نرجع الى الاية السابقة ونكملها الى نهايتها :  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد   . فكما ارسل الله تعالى الرسل وكما انزل الكتاب ليكون ميزانا للقسطوالعدل فكذلك انزل الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وبالحديد يستطيع منيريد العدل المفقود ان ينصر الله تعالى ورسله ويقيم شرعه. وهنا تصل ارادة التغيير الى ذروتها ، بأن يتحول تغيير ما في النفسالى تغيير الواقع واقامة العدل بدلا من الظلم ، وتأسيس حكم الشعب على اشلاء استبدادالفرد . وبعد ان كان المستبد يحاور ويشاور نفسه اصبح الشعب يستشير نفسه ويملك مصيرهبيده ولا يخضع الا للخالق وحده جل وعلا ، هذا ما ينبغى ان يكون.

7 ـ ولكن الأغلب ان الثائرين على الحاكم المستبد يجيدون فن اللعب على آلام الشعبوحين يصلون به للسلطة يعيدون سيرة الاستبداد والظلم ، وينتظر الشعب ثائرين آخرينيعيطيهم ثقته ليتخلص بهم من المستبدين الجدد . وتظل مسيرة الظلم مستمرة طالما انالشعب سائر في غفلته وسلبيته مكتفيا بالتفرج على الصراع بين القائم في الحكم والطامع فيالحكم.،وطالما ظلّ الوعى الشعبي قاصرا لم يرتفع بالناس الى درجة الاحساسبالمسئولية الجماعية وضرورة التصدي لها بوضع نظام للشوري قائم على العدل وخضوعالسلطة التنفيذية للشعب وتداول السلطة في اطار خدمة الشعب. وقد شهدنا في تاريخنا المعاصر قيام ثورة عسكرية ترفع شعاراتاجتماعية وسيلة لتحظى باجتماع الشعب حولها ، وتحولت الثورة الى دولة مستبدة تحطمتعلى قلعتها السميكة كثير من الأحلام الاجتماعية والسياسية التى طالما نادت بها.. وجاء ثوار جدد يرفعون شعارات دينية سياسية جديدة ، والخطورة في اولئك الثوار انهملا يخفون رغبتهم في العودة لتراث العصور الوسطى حيث سادت مفاهيم الحاكمية والراعيالمسئول عن رعيته امام الله وحده والذي لا يسال عما يفعل ، والذي يملك الأرض ومنعليها ، واقام الجناح المدنى لاولئك الثوار دولة موازية للدولة القائمة وسيطر علىالاعلام والتعليم ، واتيح له بذلك ان يصيغ المجتمع والشباب على مفاهيم العصرالعباسي التى تخالف القرآن وما كان عليه النبي عليه السلام. وبذلك تم قلب الحقائق ، فأصبح الاسلام القائم على السلام عنواناللأرهاب وسفك الدماء ، وتحولت سماحة الاسلام الى تعصب ، وابدلوا الشورى الاسلاميةالى الحاكمية والاستبداد…وندخل بذلك الى موقع الشورى في عقيدة الاسلامورسوم العبادة فيه ، ليتضح الفارق بين الاسلام الحق وذلك الزيف الذي يخدعون الناسبه.

 رابعا : موقع الشورى في عقيدة الاسلام ورسوم العبادة:

الشورى في عقيدة الاسلام:

1ـ اشرنا فيما سبق الى صلة الشورى بعقيدة الاسلام ، فالله تعالى هو وحده الذيلا يسال عما يفعل ، لأن الاله هو الذي لا يملك احد مساءلته ، وتلك صفة يتميز بها عنالمخلوقات ، ولذلك يقول تعالى في معرض انفراده وحده بالالوهية ": (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) الأنبياء ) ، أي لو كان هناك آلهة مع اللهلفسد نظام الكون ، من السموات والارض وتقول الآية التالية عن الله تعالى : ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ). وهنا ارتباط بين وحدانيته تعالى وانفراده وحده تعالى بأنه الفعّاللما يريد دون ان يكون مسئولا عما يفعل امام غيره ، اما اولئك الغير فهم مسئولون امامالله خالقهم في يوم الحساب. وتتعاظم مسئولية البشر بقدر ما يناط بهم من اختصاصات ، ولذلك فالانبياء–مثلا- اكبرمسئولية من الافراد العاديين ، والله تعالى يقول عن مسئولية الانبياء والبشر" فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) الاعراف ). اى ان مسئولية الامم التى ارسل اليها الانبياء في كفة وتعادلها فيكفة أخرى مسئولية الانبياء ، وهذا بالنسبة لليوم الآخر ، والدنيا يقاس حالها علىحال الآخرة ، وحقوق العباد يقاس اعتبارها على حقوق الله تعالى ، بل ان الله تعالىيجعل العقوبات الدنيوية في تشريع الجرائم ، فيما يخص حقوق العباد من السرقة والزناوالقتل والقذف .

2 ـ والاستبداد هو نوع من ادعاء الالوهية ، فالشخص المستبد يرفع نفسه فوق النبي الذيكان مأمورا بالشورى .. والمستبد المتأله يبدأ بزعم انه قائد ملهم ، وينتهي به الأمرالى انه يحكم بتفويض الهى ، او بمفهوم الحاكمية او الحق الملكى المقدس الذى عرفتهاوربا في العصور الوسطى وعرفه المسلمون في الخلافة العباسية. و لو  كان هناك تفويض الهى بالسلطة السياسية فان النبي محمدا كان هوالأولى بذلك التفويض حين كان قائدا في المدينة . والمعروف ان الحاكم الديمقراطييستمد سلطته من الناس الذين يملكون توليته ويملكون مساءلته ويملكون عزله. ونطرح هنا قضية مصدرية السلطة ، هل هي من الله كما يقول دعاة الاستبدادالثيوقراطي او الحاكمية ؟ او هى من الناس والشعب كما تؤكد الديمقراطية الحديثة. وبمعنى آخر ، ونحن نتحدث عن الشورى في الاسلام وفي عقيدته القائمة على انه لا الهالا الله ، هل كان النبي ( وهو صاحب الوحى السماوي ) يحكم المدينة بتفويض الاهىويستمد سلطته السياسية من الله ؟ ام يستمد سلطته السياسية من اجتماع الناس حوله ؟. الذي يتبادر الى الذهن انه كان يستمد سلطته السياسية من الوحىالالهى ومن التفويض الالهى لأنه كان نبيا حاكما وكان الوحى يصاحب خطواته وحركاته. وذلك الرأى يسعد أنصار الاستبداد الديني ويرونه مؤكدا لنظريةالحاكمية ، وقد يرد عليه انصار الشورى والحرية السياسية ان ذلك يعتبر خصوصية للنبيلأنه كان نبيا اولا وحاكما ثانيا ، ولأنه ليس بعد محمد عليه السلام نبي ولأنه خاتمالنبيين فأن التفويض الألهى بالحكم انتهي يموته لأنه لا وحى بعد كتاب الله ولا نبيبعد خاتم النبيين. ولكننا نعرض صفحا عن هذا الرأى ، ونعود الى الآية الكريمة التىامرت النبي بالشورى ، فهى قبل ان تأمره بالشورى أكدت على التربة تنبت فيها شجرةالمشورة وتثمر ، وتلك التربة هى استمرارية السلطة ومصدريتها ، هل هى من اللهبالتفويض الالهى او من الناس  .

والآية الكريمة تقول : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)آل عمران )  والشاهد فيالآية الكريمة قوله تعالى : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)  فقد جعله الله لينا هينا معهم ولم يجعله فظا غليظ القلب ، لأنه لوكان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله . وماذا يحدث لو انفضوا من حوله ؟ لن يكون لهسلطان ولن تكون له دولة ، وما كان حاكما مطاعا ، اذا فاجتماعهم حوله هو الذي اقامله دولة وجعل له سلطة ، وقبل ذلك كان في مكة مضطهدا ، واذا انفضوا عنه عادت اليهقصة الاضطهاد والمطاردة . اذن هم مصدر السلطة له باجتماعهم حوله ، وليست مصدريةالسلطة بتفويض الله تعالى له ، ويكفي ان الله تعالى هو الذي جعله لينا هينا معالناس حتى تجتمع عليه قلوب الناس ، وحذره من ان يكون فظا غليظ القلب حتى لا ينفضوامن حوله ، وامره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الأمر ، لأنهم شركاؤهفي الأمر ولأنهم مصدر سلطته وكيان دولته واسباب عزته وقوته. وهكذا فإن امر الله تعالى له بالشورى تأكيد على استمدادية السلطةمن الناس ، الذين اجتمعوا حول النبي ، وألف الله تعالى بين قلوبهم فأصبحو بنعمتهاخوانا ، والله تعالى يمتن على النبي أنه جعله رحيما هينا بالناس حوله وأنه الف بينقلوبهم ، ولو أنفق النبي ما في الارض جميعا ما استطاع ان يؤلف بين قلوب الذين آمنوامعه : (  هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) الانفال  ) . ومعناه ان العناية الالهية تركزت على الشعب الذي اقام النبي فيوسطه حاكما عليه . ركزت بتأليف قلوبهم وبجعل النبي لينا معهم ، والهدف ان يكونوا مع النبىقلبا وقالبا .. والمعنى انهم مصدر السلطة ، ولأنهم لو انفضوا من حول النبي وتركوهفلن تكون له دولة .. ولن تكون له ايضا…دعوة. واذا كان هذا حال النبي وهو يحكم المدينة .. فكيف بغيره من البشر؟ واذا كان النبى لم يدع التفويض الالهى في الحكم ، واذا كان القرآن أكد علىاستمداده السلطة السياسية من الناس فأى حجة لأصحاب الحكم الثيوقراطي والاستبدادالدينى والكهنوت السياسي ؟

الشورى في رسوم العبادة الاسلامية:

ظهر كما سبق ان الشورى عنصر من عناصر العقيدة الاسلامية ، فالله تعالى هو وحدهالذي لا يسأل عمل يفعل ، والنبي نفسه كان مأمورا بالشورى ويستمد سلطته السياسية منالشعب ، وذلك المستبد يقتفي أثر فرعون ويسير في طريق ادعاء الألوهية. والمؤمن بالله ايمانا حقيقيا لا تشتمل عقيدته على الاعتقاد فيحاكم مؤله مستبد ولا يرضى بالخضوع له. وطالما ان للشورى هذا القسط في عقيدة الاسلام فالمنتظر ان يكونلها نصيب في تشريعاته ورسوم العبادة فيه ، اى ان تكون الشورى فرضا من فرائض الاسلام، فرضا لازما كالصلاة والزكاة . ونستغرب من هذا الكلام. هل الشورى فرض من الفروض كالصلاة والزكاة ، او فريضة اسلامية علىكل انسان ؟ واذا كانت كذلك فلماذا سكت عنها الفقهاء ؟

نبدأ بالجواب عن السؤال الثانى : لقد سكت عنها الفقهاء لأن الفقه وباقىمصادر التراث ومؤلفاته–كالحديث والتفسير–قد صيغت في عصور الاستبدادالسياسي–الذيلم يكن قصرا على الحكام ، بل ان الثوار على الحكام–من الشيعة وغيرهم–كانوا يؤمنونبالاستبداد بل كانت العصور الوسطى كلها تنبض بالحق الالهى للسلطان ، سواء الخليفةالعباسي أو الفاطمى او امبراطور الدولة الرومانية المقدسة او ملك انجلتره او فرنسا. والاستثناء الوحيد كان في دولة الاسلام الأولى التى كان القرآن هو الكتاب الوحيدالذي يعبر عنها.

والجواب على السؤال الأول : ان القرآن الكريم في آياته المكيةأوضح صفات المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية قبل ان يقيم المسلمون دولتهم فيالمدينة . يقول تعالى في سورة ( الشورى ): (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)  الشورى  ). والمعنى ان المجتمنع المسلم له متاع الحياة الدنيا ، وله ايضا ماعند الله تعالى من متاع الآخرة التى هى خير وأبقى . ولكى يستحق هذا المجتمع خيرالدنيا والآخرة معا فلابد أن يتصف بعدة صفات هى الأيمان والتوكل على الله تعالىواجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو عند المقدرة ، وطاعة الله تعالى والاستجابة له ،واقامة الصلاة واقامة الشورى والزكاة والعزة او الانتصار عندما يقع عليهم بغى اوعدوان.

وتلك الصفات يمكن تقسيمها الى صفات ايمانية وصفات اخلاقية وعبادات، فالصفات الايمانية هى قوله تعالى " للذين آمنو وعلى ربهم يتوكلون " ، والذيناستجابوا لربهم " والصفات الأخلاقية " والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ماغضبوا هم يغفرون " ، : والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون " . اما العبادات فهىالصلاة والشورى والزكاة او قوله تعالى " واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممارزقناهم ينفقون" .

والمعنى ان الشورى جاءت فريضة بين أشهر فريضتين من فرائض الاسلاموهما الصلاة والزكاة ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها فاصل بين الصلاة وايتاءالزكاة معا وبالترتيب وبدون فاصل بينهما ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها ذكرالشورى مع الصلاة والزكاة ليؤكد رب العزة على أنها فرض تعبدي مثل الصلاة والزكاةوبنفس الملامح.

فاذا كانت الصلاة فرض عين لازما واجبا فكذلك الشورى واذا كانتالصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة وجوبا ذاتيا وشخصيا وعينيا فكذلك الشورى ، واذا كانت الصلاة واجبة فيكل الأحوال في السفر والحضر وفي الصحة والمرض وفي السلم وفي الحرب .. فكذلك الشورى. ثم اذا كانت الاستنابة لا تصح في الصلاة اى لا يصح ان يصلى احد عنك .. فكذلك لايصح في الشورى الاسلامية ان يكون فيها نظام نيابي او أهل الحل والعقد الذين يفكرونبالنيابة عن الناس وانما مجتمع المسلمين كلهم اعضاء في مجلس الشورى ، كل واحد فيموقعه . ولأن الشورى في الاسلام عبادة فالمسلم عليه ان يمارسها في كل موقع ، في بيتهومصنعه ومعمله ومجتمعه ، أي يتنفس الشورى وينبض بها قلب المجتمع ، حيث لا مجال فيهالأى عذر شأن الصلاة .. فكذلك كان النبي والمسلمون يمارسون فريضة الشورى. 

اجمالي القراءات 11753