معجزة اختيار اللفظ في القرآن: مدخل لعلم قرآنى جديد:( الجزء السابع )

آحمد صبحي منصور في السبت ٢١ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

ثامن عشر :

المطر بالأذى والعقاب ، وإنزال الماء رحمة من السماء

يقول جل وعلا عن رخصة القصر فى الصلاة فى الحرب ووقت المطاردة والخوف : ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ  ) (102) النساء ) ،  ماء المطر هنا يكون أذى يعيق التحرك ، ويكون هذا الأذى رخصة للجندى المؤمن لكى يتخفّف من أثقاله وسلاحه .

ولكن كان نزول الماء من السماء خيرا وقت معركة بدر ، حيث كانت الحالة المعنوية للمؤمنين مُنهارة وهم قلة عددية تواجه جيشا قرشيا يفوقها بثلاثة أضعاف ، علاوة على أنها ( قريش ) بجاهها وسطوتها . إستلزم الأمر أن تنزل الملائكة على قلوب المؤمنين البدريين لتطمئنهم وترفع ( روحهم المعنوية ) ليستعدوا للحرب الفاصلة ، خصوصا وقد كانوا فى غاية الرعب والفزع عندما علموا بقدوم جيش قريش ، حتى كانوا يجادلون النبى يريدون تحاشى المعركة ، كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) ( الأنفال ).

ليلة الاستعداد للمواجهة الحربية كانت فاصلة فى نفوس أهل بدر . إستيقظوا فاكتشفوا أنهم فى حالة ( جنابة ) تستوجب الاغتسال للصلاة . ولم يكونوا على ماء يتيح لهم الاغتسال . هذا الرجس الشيطانى جاء له الحل السريع ، بنزول ماء من السماء ، إستبشر به المؤمنون ، يقول جل وعلا : ( إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)( الأنفال ). 

هنا ماء نزل من السماء ليؤدى دورا هاما فى لحظة مصيرية . لم يقل رب العزة عنه أنه ( مطر ) . بينما قال عن الماء الذى ينزل من السماء ليكون عائقا للمؤمنين فى الحرب إنه ( مطر ) . لماذا ؟ لأن ( المطر ) فى الاصطلاح القرآنى هو للعذاب والعقاب . أما الماء الذى ينزل من السماء رحمة فلا يقال فيه ( مطر ) .

ونتتبع هذا فى السياق العام فى القرآن الكريم :

المطر فى العذاب والعقوبة :

1 ـ قوم لوط هم أشهر من أمطر الله جل وعلا عليهم حجارة من لهب تشبه الانفجار النووى فى مفهومنا . وتكرر فيهم هذا الوصف :( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) ( هود )، (  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) ( الأعراف )( فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) ( الحجر )( (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173)( الشعراء )(  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) ( النمل ) (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) ( الفرقان )

2 ـ وكفار مكة القرشيون فى تكذيبهم للقرآن دعوا الله جل وعلا أن يمطر عليهم حجارة من السماء إن كان القرآن حقا : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ( الأنفال ).

 

الماء الذى ينزل من السماء رحمة ونماءا وطهورا . 

لم يوصف بأنه ( مطر ) مع أنه تكرر كثيرا فى القرآن الكريم ، وفى سياقات شتى ، منها :

1 ـ  إخراج النبات والثمرات رزقا لنا : ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ  ) (99) ( الأنعام ) (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (32) ابراهيم )(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)( الحجر ) ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)( الحج ) (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) ( المؤمنون ) (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ) (27) ( فاطر )

2 ـ أى هو ماء طهور تحيا به الأرض ومن عليها : ( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49)( الفرقان )، ( خَلَقَ السَّمَوَاتِبِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) ( لقمان ). لذا يوصف بأنه ماء( مبارك ) لأن فيه الخير والنماء والرحمة والرزق : ( وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)( ق ).

2 ـ وعن الأمم السابقة يقول جل وعلا : ( وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ   (6) ( الأنعام ). وقال نوح عليه السلام لقومه : ( يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً )(52) هود ).

3 ـ دعوة للتفكر والتعقل : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)( النحل ).( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) الروم ). ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ (21)الزمر). وهو دعوة للإيمان بأنه لا اله مع الله جل وعلا :( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)(النمل )، ودعوة للتوبة:(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) غافر ).

4 ـ ثم هو دليل على البعث من القبور ، وهذا موضوع شرحه يطول ، وهو يدخل فى أحد ( علوم القرآن ) التى لم يتعرض لها أحد بعد ، وسنكتب فيها بعونه جل وعلا . ولكن نكتفى بذكر بعض الآيات : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)( الزخرف )، ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)( الاعراف )(وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق )

 تاسع عشر

التذييل فى الآيات :. والمقصود بالتذييل هو ختم الآية بما يناسب السياق . هذا موضوع طويل ، نقتصر منه على بعض أمثلة :

1 ـ عن قيام ابراهيم وابنه اسماعيل برفع قواعد البيت يقول جل وعلا :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة ) نلاحظ أنه جل وعلا لم يقل ( وإذ يرفع ابراهيم واسماعيل القواعد من البيت ) وهذا هو الاسلوب المتّبع . ولكن جاء تأخير إسماعيل فقال جل وعلا : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ )، لماذا ؟ ليتفق مع التذييل فى نهاية الآية : ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). فقد تم إختيار إسمين من أسماء الله الحسنى ( السميع العليم ) لأنهما يوافقان ما قبلهما من حيث المعنى ومن حيث اللفظ . من حيث اللفظ فالسميع العليم فيه نفس حروف ( اسماعيل ) الذى جىء به متأخرا ، ومن حيث المعنى فالله جل وعلا السميع العليم هو الذى يسمع الدعاء ويستجيب له وهو الأعلم بحال ابراهيم واسماعيل ومعاناتهما .

وفى تكملة دعاء ابراهيم واسماعيل تقول الآية التالية : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) هنا يأتى إسمان من أسماء الله الحسنى ( التواب الرحيم ) ليناسب ما قبله من طلب التوبة (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

ونفس الحال فى الآية التالية :( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) ، فقد جىء بإسمين من الأسماء الحسنى ( العزيز الحكيم ) لمناسبة التزكية و تعليم الكتاب والحكمة : (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ   ).

2 ـ وقد يأتى التذييل بما لا يتفق مع السياق . فيوم القيامة سيسأل الله جل وعلا عيسى عليه السلام عن أولئك الذين ألّهوه وأمّه ، وسيعلن عيسى عليه السلام تبرأه منهم ، وجاء الحديث بالماضى طبقا للمتبع فى القرآن عن أحوال اليوم الآخر . يقول جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) المائدة ) . الشاهد هنا فى موضوعنا هو الآية التالية ، وهى قول عيسى عليه السلام : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . السياق أن يقال : ( إن تعذبهم فانهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ) . لكن التذييل هنا بالغفور الرحيم يعنى تعاطف عيسى معهم ، وهذا لا يناسب تبرأه منهم ، لذا كان التذييل مخالفا للمتوقع فى السياق ، وهو الاتيان بإسمى الله جل وعلا ( العزيز الحكيم ) ، أى إن غفر لهم فبعزّته جل وعلا وبحكمته .!

3 ـ نفس الحال فى دعاء ابراهيم عليه السلام ، وقد بدأه بقوله عن رب العزة جل وعلا : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الشعراء ) . الشاهد هنا هو أنه قال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ، والسياق المتوقع أن يقول ( والذى يُمرضنى ويشفين ) . ولكن هذا ليس أدبا فى الدعاء . لذا جاء التعبير بأن ينسب المرض لنفسه وينسب الشفاء لربه جل وعلا ، مع أن هذا وذاك من عند الله جل وعلا .

4 ـ ويقول جل وعلا يخاطب مشركى العرب : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) الحاقة ). تذييل الآيات هنا غاية فى الاحكام . فقد إتهموا النبى بأنه شاعر ، وهم أعرف الناس بالشعر ، وهم الأعرف بإختلاف القرآن عن الشعر والأعرف بأن محمدا الذى عاش بينهم وصحبوه لم يكن شاعرا . وإذن فهذا الاتهام للقرآن بأنه قول شاعر هو كذب واضح وفاضح  يؤكّد أن دافعه هو عدم الايمان الذى يدفع صاحبه للكذب المفضوح ، ولذا جاء التذييل بأنهم قليلا ما يؤمنون (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ )  . هم أيضا إعتادوا إستشارة الكُهّان ، وإعتادوا حفظ أقوالهم وأسجاعهم وتنبؤاتهم ، وهم يتذكرون هذا ويستشهدون به ، ولكنهم لم يتذكروا هذا حين أتهموا القرآن بأنه قول كاهن ، فكان التذييل : (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ).

العشرون :

الاعجاز فى الصياغة وتركيبة الجملة . وهذا أيضا منوضوع طويل نكتفى بالاشارة اليه  بهذه الأمثلة :

1 ـ يقول جل وعلا عن القرآن الكريم :  (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة ). روعة الصياغة هنا أن المعنى يتنوع فى نفس إطار التمجيد للقرآن الكريم . فيمكن أن تقرأ (ذَلِكَ الْكِتَابُ ) وتتوقف ، ويكون المعنى بالتعظيم لذلك الكتاب . ويمكن أن تقرأ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ) وتتوقف ، ويكون المعنى تمجيدا فى الكتاب أى هذا هو الكتاب بلا ريب . ويمكن أن تقرأ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) وتتوقف ، وهنا يكون المعنى أن القرآن لا يب فى محتواه ، ثم تقرأ تكملة الآية ( هدى للمتقين ) على أنها وصف للكتاب الذى ( هو هدى للمتقين ) . ولكن يمكن أن تتوقف عند (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ) ، ثم تقرأ التكملة جملة منفصلة (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) أى أن محتوى الكتاب فيه هدى للمتقين . وهكذا فى جملة قرآنية من ست كلمات يتنوع المعنى فى إطار المدح والتمجيد . وهنا روعة فى الصياغة فوق مستوى البشر ..!

2 ـ ومثل ذلك قوله جل وعلا : (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) النحل ) . ممكن أن تقرأ (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا ) وتتوقف فقد إكتمل المعنى . ثم تكمل الجملة التالية لتفيد معنى جديدا : (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) أى لنا فيها دفء ومنافع ... وممكن أن تقرأ (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ) أى هى مخلوقة لنا . ثم تأتى الجملة التالية (  فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون ) بتقرير أن فيها الدفء والمنافع . 3 ـ ونفس الحال فى قوله جل وعلا : ( فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) المؤمنون ).  ونترك تدبرها للقارىء اللبيب .

4 ـ ويقول جل وعلا فى نفس السورة عن كفر العرب بالقرآن : ( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) المؤمنون )، أى كانوا ينكصون على أعقابهم حين يُتلى عليهم القرآن ، وفى نفس الوقت يتسامرون بالسخرية من القرآن . وهو نفس حال أتباع الديانات الأرضية من مسلمى اليوم . إذا تلوت عليهم القرآن بالوعظ ، أو إذا طلبت منهم قراءة ما نكتب فى إصلاح المسلمين بالقرآن نكصوا على أعقابهم وولّوا مستكبرين ، هذا مع أنهم يعقدون حفلات السمر فى مناسبات الأفراح والتعازى يستمعون الى ( مُنشد ) أو ( مُطرب ) يتغنى لهم بالقرآن .!! وهو نفس الهجر الذى كان يفعله مشركو العرب فى عهد النبى محمد عليه السلام .

يهمنا فى موضوعنا هنا فى روعة الصياغة فى الآتى : اسلوب السخرية فى وصفهم حين ينكصون على أعقابهم مستكبرين رافضين سماع تلاوة القرآن ، بقوله جل وعلا عنهم: ( فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ  )  وخصوصا حين يوصف المستكبر بهذا الوصف الذى يتناقض مع هيبته المزعومة . و التناقض الآخر  بين حالهم حين ينكصون على أعقابهم مستكبرين رافضين سماع تلاوة القرآن وحالهم حين يتسامرون بالسخرية من القرآن . والأروع هو أن كلمة وحيدة تجمع بين الجملتين المتناقضتين ، وهى ( به ) أى بالقرآن . (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ  ) إى إستكبروا بالقرآن وأيضا ( سمروا ) بالقرآن .  

 5 ـ  وقد تأتى كلمتان من أصل واحد وفى موضوع واحد ولكن بمعنيين مختلفين . وهذا أمر عجيب .! يقول جل وعلا عن التسبيح (  وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) ق  ). (أَدْبَارَ ) هنا بفتح الهمزة هى ( جمع ) للمفرد ( دبر ) ، أى بعد السجود ، أى أن تسبح ربك جل وعلا فى الليل وأيضا بعد السجود . ويختلف المعنى فى قوله جل وعلا فى نفس الموضوع : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور ) هنا كلمة : (إِدْبَارَ ) بكسر الهمزة هى مصدر من ( أدبر )(أدبر إدبارا ) ، أى تولى وذهب ، وبالتالى فإن (َإِدْبَارَ النُّجُومِ ) يعنى غياب النجوم ، أى مجىء الفجر ، أى أن تسبّح ربك جل وعلا حين تقوم وعندما تغيب النجوم .

ودائما : صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 12257