حوار مع عقل تونسىّ مسلم رائع :

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٧ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مقدمة  :

1 ـ جاءتنى هذه الرسالة من أخ مسلم تونسى ، أسعدتنى قراءتها ، وأمهلت الرد عليها الى حين ميسرة من الوقت . والآن أقوم بالرد شاكرا للأخ السائل معتزا بعقله ، وأحيّى فى شخصه كل الأحبّة فى تونس الخضراء .

2 ـ : يقول أكرمه الله جل وعلا :

( دكتور أو أستاذنا أحمد صبحي منصور:

 لقد قرات منذ ما يزيد عن السنتين أغلب ما كتبت ، وأتقدم لك بالشكر على مجهوداتك التي أنارت سبيل الكثير ، حيث وجدت في اغلبها الجواب الشافي لتساؤلاتي . كما تعلمت منكم (الإنصات) للقرآن "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" الاعراف 204 . وكانت لدينا عادة في تونس أنه في المساجد يوضع القرآن قبل صلاة المغرب ولا تجد من ينصت إليه ، فلما سألت احد الشيوخ عن مخالفة قول الله تعالى في الأمر بالإنصات أجابني بان المقصود هو قرآن الصلاة . لكنني لم أكن مقتنعا ، وتأكدت من ذلك حين قرأت قول الله تعالى "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين" الأحقاف 29 . والخلاصة أن الإنصات ليس بالسمع، وحين تعلمت الإنصات إلى القران الكريم صرت أربط بين ما تكتبون وبين القرآن والذي وجدت فيها تفسيرا لكثيرا من تساؤلاتي .

وقد أجد تاكيدا على ما تكتبون في القرآن ربما قد غفلتم عنها إدراجها ، ولا تأخذ كلامي بالتطاول على مكانتكم العلمية ، فما أنا بدارس ما درستم ، وليس لي شهائدكم الأكادمية . ولكن أنا إنسان عادي ، وعينة من عامة الناس ، فإذا اقنعتني بأسلوبك فقد أقنعت عامة الناس . وقد تغفل عن ذكر بعض الآيات لتدعيم كلامك لأنها معلومة عندك ، والحال غير ذلك بالنسبة للإنسان العادي .

وسأعطي مثالا على ذلك : ففي كتابك ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع ) تطرقت إلى الفرق بين الرسول والنبي وذهبت إلى استنتاج أن الرسول بعد وفاة النبي هو القرآن . وإن كنت مقتنعا بكلامك إلا أن بعض الغموض الذي اعترى تفسيرك لهذا الاستنتاج جعل من الصعب علي اقناع غيري بهذه الفكرة . والحال أن اهم آية تدعم كلامك لم تذكرها ، وهي قوله تعالى "واسأل من ارسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون" الزخرف 45 ) فكيف للنبي ان يسال من أرسل الله من قبله إن لم يكن بقراءة كتبهم اي بسؤال كتبهم . هذا بالنسبة لكتابكم ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع ) . أما كتابكم ( لكل نفس بشيرية جسدان ) وخاصة عندما شرحتم أنه في الآخرة لا وجود لإناث وذكور ولكل الحق في حور العين ؛ فقد فرحت بتفسيركم إذ كنت أؤمن بالفكرة من غير تفسير وذلك من منطلق إيماني بعدالة الله ، وقد تعلمت منكم ان كل ما هو متعلق بالموت والبعث والآخرة هي من علم الغيب ، ولا يمكن لنا أن نتحدث عنها إلا مما أخبرنا عنه الله تعالى في القرآن ، وأن جميع الآيات التي تتطرق للموضوع هي آيات متشابهات تصف لنا ما يمكن أن ندركه بعقولنا الدنيوية لمعاني أخروية . ولئن كان كتابك مقنعا إلا ان بعض الغموض يعتري الموضوع ، فحين تقرأ قوله تعالى " يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين" (45) يونس)  فكيف لإنسان مات وفي يوم الغد يبعث (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) وقد ترك ابنه في مقتبل العمر ومات بعد مثلا أربعين سنة شيخ هرم ، وحين يبعث الأول يبعث معه ابنه فكيف يعرفه ؟ ، هذا ناتج للفرق الزماني للوفات فكيف إذا إن كان لكل منهما جسد مختلف عن جسد الدنيا ؟ وكيف يفر من صاحبته في قوله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه" (36) عبس ) هنا أمه وصاحبته أليستا بإناث أم أن ذلك قبل دخول الجنة ؟ ومع هذا الغموض والذي ارجو من سيادتكم توضيحه إن أمكن فإني على يقين تام بأن في الآخرة لا إناث ولا ذكور إنما أنفس ، والغريب في الأمر أنه بتدبر الآيات التي تحكي عن الأنفس يوم القيامة نجدها تصف النفس في صيغة المفرد بالتأنيث في حين تصفها بالتذكير في الجمع كقوله تعالى " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيتكل نفس ما كسبتوهم لا يظلمون"ـ آل عمران 25 او قوله تعالى "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفىكل نفس ما كسبتوهم لا يظلمون" ـ البقرة 281 )

فلكل الحق في حور العين وكذلك بما ان النفس هي التي ستجزى ما كانت تعمل وان الأنفس خلقهم جميعا من قبل واشهدهم جميعا " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) او تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" (173) الأعراف إذن لا علاقة هنا للعمر بشئ فكل الأنفس متساوية في العمر فلا وجود لسيد شباب أهل الجنة أو سيد كهول أهل الجنة أو سيدة نساء أهل الجنة ثم إنه عانينا في هذه الحياة الدنيا من الأسياد لكون لنا في الجنة أسياد آخرون ؟

سؤال اخيرا كنت دائما تدعو الله ان يجعلك من الاشهاد وانا ادعو الله كذلك ان يجعلك من الاشهاد علينا فهل يمكن اعتبار الشاهد على قومه حجة عليهم يوم القيامة استنادا إلى قوله تعالى "إنما انت منذر ولكل قوم هاد" الرعد 07 ) .

ختاما أستاذنا تقبلوا سيدي مني كامل احترامي وارجوا أن لا أكون قد قصرت في حقكم ومكانتكم العلمية وذلك مرده لما تعودناه منكم من رحابة الصدر وقبول النقد كما أني حريص على ان لا أنعتكم كما يفعل بعض الاخوة بـ"شيخنا" حتى لا يقع تشبيهكم بمشائخ أهل الديانات الأرضية .) إنتهت الرسالة .

3 ـ ويسعدنى بالحوار مع هذا العقل التونسى المسلم  :

 

أولا : يقول أخى العزيز : ( وقد أجد تاكيدا على ما تكتبون في القرآن ربما قد غفلتم عنها إدراجها ). وأقول أننى مجرد باحث يخطىء ويصيب ، ويحتاج للنقد البنّاء والتوجيه ، ودائما أؤكد أننا جميعا أمام القرآن تلاميذ نتعلم من بعضنا ، ولقد تعلمت الكثير من تعليقات القرّاء ، ويشهد موقع ( أهل القرآن ) على إعترافى بأخطاء لى بناء على تعليقات الأحبّة فى الموقع . والعادة أننى أغفل عن الكثير من الآيات القرآنية ، وهذا دليل على تقاصر أفهام البشر أمام المجالات اللانهائية للتدبر فى القرآن . وأؤكد أننى وبعد معايشة للتدبر القرآنى وتخصص فيه من أربعين عاما فلا زلت أكتشف فيه الجديد ، ولا زلت أحسّ بالجهل كطفل يقف أمام ساحل محيط هائل ، يتعامل فقط مع ما تصل اليه يداه .

ثانيا : ـ ويقول :(ولا تاخذ كلامي بالتطاول على مكانتكم العلمية ، فما أنا بدارس ما درستم ، وليس لي شهائدكم الأكادمية . ولكن أنا إنسان عادي وعينة من عامة الناس فإذا اقنعتني بأسلوبك فقد أقنعت عامة الناس . وقد تغفل عن ذكر بعض الآيات لتدعيم كلامك لانها معلومة عندك والحال غير ذلك بالنسبة للإنسان العادي . ).

وأقول إن تقييمى للمثقف هو بمقدار علمه وعقله وشجاعته فى إعلان رأيه . وآخر ما أفكر فيه هو شهادته العلمية ، وخبرتى تؤكد ان الجامعات العربية يتخرّج فيها مئات الألوف من الجهلة . وقد كتبت هذا فى مقالات عن إصلاح التعليم واصلاح الأزهر فى مصر . وأنا سعيد بالتحاور مع عقلك الرائع أخى العزيز ، وأُحييى فى شخصك كل عقلية عربية وتونسية رائعة .

ثالثا : ـ ويقول :( ففي كتابك ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع ) تطرقت إلى الفرق بين الرسول والنبي وذهبت إلى استنتاج أن الرسول بعد وفاة النبي هو القرآن . وإن كنت مقتنعا بكلامك إلا أن بعض الغموض الذي اعترى تفسيرك لهذا الاستنتاج جعل من الصعب علي اقناع غيري بهذه الفكرة . والحال أن اهم آية تدعم كلامك لم تذكرها ، وهي قوله تعالى "واسأل من ارسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون" الزخرف 45 ) فكيف للنبي ان يسال من أرسل الله من قبله إن لم يكن بقراءة كتبهم اي بسؤال كتبهم . ) .

وأقول : إن موضوع الفرق بين النبى والرسول إستلزم أن أكتب مقالا لاحقا للتوضيح والتاكيد ، وهو منشور فى الموقع ، وبرجاء الرجوع اليه . وعموما فإن كتاب ( القرآن وكفى ..) كما أشرت فى مقدمته ، تمت كتابته على عجل وفى زمن قياسى تنفيذا لطلب ليببى وقتها ، وكنت تحت ضغوط من أمن الدولة بمصر ، أخشى من الاعتقال ومصادرة الكتاب فى المطبعة حيث كان ( أمن الدولة ) يراقب طباعته ، وبعد أن تمت طباعته قام أمن الدولة بشحن كل النسخ الى ليبيا ، ووصلتنى من ليبيا نسخة فاستطعت فيما بعد إعادة نشره . ظروف مثل هذه من القلق والعجلة أثّرت على كتابتى له ، وبالطبع فإننى لم أستشهد بكل الآيات ، واكتفيت بالقاعدة البحثية التى تجيز للباحث الاكتفاء بمعظم الأدلة لاثبات ما يقول طالما أن الباقى يؤكد نفس الرأى .

رابعا : ـ ويقول : ( والخلاصة أن الإنصات ليس بالسمع . ) .

وأقول : هناك فرق بين سمع وإستمع . ( سمع ) قد تأتى بمعنى السمع المادى بالأذن ، وقد تأتى بمعنى الطاعة والايمان . وسيأتى بعون الله جل وعلا تفصيل ذلك فى مقال من ( القاموس القرآنى ) .

أما ( إستمع ) فهى بمعنى الإنصات والتنصّت المادى بالأذن . و( السين والتاء ) تأتى فى مقدمة الفعل لتفيد غالبا طلب الشىء ، فالفعل ( مات ، أو قتل ) معروف معناهما ، ولكن حين تقول ( إستمات ، أو إستقتل ) فالفعل هنا يفيد طلب الموت وطلب القتل ، دليلا على الشجاعة . وبهذا يكون ( إستمع ) بمعنى طلب السمع ، والحرص على السمع . ولذلك يأتى العطف بالواو فى قوله جل وعلا :( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الأعراف ). والسياق القرآنى الجزئى فى ألايات هنا هو عن آية أو ( معجزة ) القرآن الكريم ، والاكتفاء به آية بدلا من أى معجزة حسّية مادية كان المشركون الرافضون للقرآن الكريم يطالبون بها النبى . يقول جل وعلا : تى تفصيل ذلك بعونه جل وعلا فى مقال خاص من مقالات ( القاموس القرآنى

 

 

 ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203). ولأن القرآن الكريم هو بصائر من رب العزّة وهدى ورحمة للمؤمنين فقط ، فلا بد للمؤمنين من الاستماع له والانصات لمن يقرؤه عسى أن تعمّهم رحمة الله جل وعلا : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204). وهو نفس الحال مع عبادة الذّكر ، التى يجب أن تكون بتضرع وخيفة وبصوت خافت صباحا ومساءا ، ليخرج المؤمن بالقرآن وبذكر الرحمن من غفلته : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) الاعراف ).

وإذن فالعطف بالواو فى قوله جل وعلا (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا )، هو للبيان والتوضيح ، والأغلب أن يأتى العطف بالواو للبيان والتوضيح ، وقد أوضحنا هذا فى كتاب ( القرآن وكفى ) فى موضوع وصف القرآن بالحكمة ، وأن الحكمة من أوصاف القرآن وليست شيئا خارجا عن القرآن . ومنه أيضا قوله جل وعلا فى أوصاف النبى محمد عليه السلام :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46)( الأحزاب ) وعن ما انزله جل وعلا على موسى وهارون (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)  ) ( الأنبياء ) فالضياء والفرقان والذكر أوصاف لموصوف واحد .

وطلب الاستماع يعنى الاهتمام بالانصات كقوله جل وعلا لموسى عليه السلام عليه السلام :( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) ( طه )، وقوله جل وعلا لنا فى الأمر بالتعقل فى نفى تقديس البشر : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) ( الحج ). وكالعادة فالمسلمون لا يتعقلون بدليل تقديسهم للنبى والأئمة والصحابة والأئمة والأولياء الصوفية ، وكل أولئك لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا ولو إجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا فلا يستنقذوه منه لأن الذبابة تسارع بتحليل قطعة السُّكر مثلا الى عناصرها الطبيعية فلا تصبح قطعة سكر ، وهذا قبل أن تبتلعها . 

وطلب الاستماع والانصات قد يكون للهداية كقوله جل وعلا عن المتقين من الجن:( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1)( الجن)(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)(الاحقاف)،أوالمتقين البشر:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (18)( الزمر ). وهناك إستماع بغرض المجادلة والتكذيب : كقوله جل وعلا فى وصف المشركين المعادين للقرآن :

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) ( الأنعام ) ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) يونس )( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)( محمد )(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) ( الاسراء ).

خامسا : ـ ويقول : ( فحين تقرأ قوله تعالى " يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين" (45) يونس)  فكيف لإنسان مات وفي يوم الغد يبعث (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) وقد ترك ابنه في مقتبل العمر ومات بعد مثلا أربعين سنة شيخ هرم ، وحين يبعث الأول يبعث معه ابنه فكيف يعرفه ؟ ، هذا ناتج للفرق الزماني للوفات فكيف إذا إن كان لكل منهما جسد مختلف عن جسد الدنيا ؟ ).

وأقول : قوله جل وعلا فى سورة يونس : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) (45) نفهمه من خلال محدّدات مذكورة فى الآية الكريمة نفسها ، وهى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ )، أى أن الكلام هنا محُدّد بيوم الحشر ، وقوله ( كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ) هو تشبيه بحالهم وقتئذ حيث يتخيلون ويتصورون ذكرياتهم عن الدنيا التى تمرّ عليهم كأنها الأمس ، لأن البرزخ الذى ظلوا فيه لا إحساس فيه بالزمن ، ومهما مرّ الزمن الأرضى على الأحياء فإنه لا زمن للموتى فى البرزخ ، وحين يستيقظون أو يُبعثون يتخيلون أنهم ماتوا أو ناموا من يوم أو بعض يوم . وهذا الشعور يصاحبهم من يوم البعث الى يوم الحشر ، حين يجتمع معا الأمم ، والعائلات و (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ )، والتعارف من صيغة ( التفاعل ) أى محاولة هذا وذاك أن يتعرف بهذا وذاك ، وهذا التفاعل بالتعارف يستلزم السؤال والاستفهام عمّن مات صغيرا ومن مات كبيرا . هذا أولا . وثانيا ، فقد قلت إن النفس البشرية لها نفس ملامح وجهها الجسدى ونفس أعضائه ، وبهذا يتم التعارف بينهم :( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ  ). وأيضا يتم فى مرحلة أخرى أن يفرّ المرؤ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه .

سادسا : يقول : ( وكيف يفر من صاحبته في قوله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه" (36) عبس ) هنا أمه وصاحبته أليستا بإناث أم أن ذلك قبل دخول الجنة ؟ ومع هذا الغموض والذي ارجو من سيادتكم توضيحه إن أمكن فإني على يقين تام بأن في الآخرة لا إناث ولا ذكور إنما أنفس . ).

واقول : بالتدبر فى قوله جل وعلا : (يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه" (36) عبس ) يتضح حسبما أفهم الآتى :

1 ـ هنا يوم آخر مختلف ، والعادة فى النسق القرآنى أن القيامة أو يوم القيامة يتكون من أيام تبدأ بيوم البعث الى يوم الحشر الى يوم العرض الى يوم الحساب ، من ذلك قول رب العزة : (  وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)ق )، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) المعارج ) . الزمن فى ( اليوم الآخر  ) مختلف عن زمننا فى هذا اليوم ( الأول ). زمننا ( الآن )متحرك دائما الى الأمام . الزمن فى اليوم الآخر لا نستطيع تخيل خلوده وبقاءه وتداخله لأننا محكومون بإدراكات زمننا الراهن . ومن هنا يأتى حديث رب العزة عن أحوالنا المختلفة فى (اليوم الآخر ) بصورة تقريبية بأنه يوم كذا ويوم كذا ، وفى كل حالة يختلف وضعنا عما قبلها وما بعدها ، مع التسليم بأنه فى الزمن الخالد ليس فيه ( قبل )ولا ( بعد ) ، كيف هذا ؟ لا نستطيع إدراكه ، ولا يستطيع اللسان البشرى التعبير عنه .

 2 ـ تاسيسا على ما سبق نربط الآية بما قبلها ، وهى قوله جل وعلا فى سورة عبس : (فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)) فهنا حديث عن قيام الساعة ويوم البعث ، وبما بعدها عن يوم الحساب ودخول الجنة أو النار : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)) الحديث هنا شامل عن يوم القيامة ، يبدا بتسميته بالصاخّة ، التى تشير الى انفجار يهز سمّاعة الأذن ، وهى الصيحة الثانية ، فالصيحة الأولى أو الانفجار الأول هو قيام الساعة وتدمير العالم ورجوعه الى نقطة الصفر التى كان فيها ، ثم الانفجار الثانى وهو البعث ، ويأتى التعبير عن الانفجارين بصورة مجازية لتقريبها الى أذهاننا ، وهى ( نفخ الصور ) يقول جل وعلا فى سورة الزمر : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68).  الانفجار الأول تدمير للعالم وموت للجيل الأخير من البشر بالصعق، أما الانفجار التالى فهوبالعكس ؛أى إحياء للبشر وإعادة لخلق العالم بأن يكون عالما أزليا ، إذ ينتج عن إنفجار البعث هذا أن يستيقظ البشر بسماعه ( الصّاخة ) التى تزلزل الأذن .

3 ـ يأتى يوم البعث والحشر وفيه هلع ، يأتى التعبير عنه بقوله جل وعلا : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)). ( المرء ) يعنى الرجل بالتحديد ، لأن الضمير يرجع عليه بالمذكر (  أَخِيهِ) (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ)(وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) ( يُغْنِيهِ). وترتيب الأقارب هنا على حسب مدة الصلة فى الدنيا ، وليس مقدار الحب بين الرجل وأقاربه . لذا جاء ( الأخ ) أولا ، لأن العادة فى الأغلب أن يعيش الأخوة مع بعضهم على قيد الحياة أكثر من بقاء أحدهم مع والديه وأبنائه . ويقال ( صاحبته ) وليس زوجته بمعنى الأنثى التى صحبته وعايشته أطول مدة فى الدنيا بزواج أو غيره . وبسبب الهلع يومئد يفرّ منهم جميعا . وكلمة ( المرء ) تنطبق على جميع أبناء آدم الذكور ، من الأنبياء وغيرهم ، أى سيفر محمد عليه السلام أمه وأبيه وأزواجه وبنيه ، وهكذا ابراهيم ونوح وموسى وعيسى ...الخ .. عليهم جميعا السلام . كل منهم سيكون منشغلا بأمره ونجاة نفسه .!

 

سابعا : ـ ويقول : ( والغريب في الأمر أنه بتدبر الآيات التي تحكي عن الأنفس يوم القيامة نجدها تصف النفس في صيغة المفرد بالتأنيث في حين تصفها بالتذكير في الجمع كقوله تعالى " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيتكل نفس ما كسبتوهم لا يظلمون"ـ آل عمران 25 او قوله تعالى "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفىكل نفس ما كسبتوهم لا يظلمون" ـ البقرة 281 ).

واقول توضيحا :

1 ـ الأسماء فى اللسان العربى للأعلام أى الأشخاص والصفات تنقسم من حيث الذكورةوالأنوثة الى : مؤنث لفظى : أى يكون صاحبه ذكرا ، ولكن تلحقه تاء التأنيث ، مثل حمزة ، ومعاوية ، وعطية . ومؤنث معنوى حقيقى بلا تاء التأنيث مثل زينب وسعاد ، ومؤنث حقيقى ولفظى معا مثل فاطمة وعائشة . أما غيرها فالأغلب أن تكون بالمعنى من حيث الذكورة والأنوثة ، أى ليست ذكرا أو أنثلى على الحقيقة ، فالشمس والسماء والنجوم تأتى مؤنثة ، بينما يأتى القمر والجبل والنور والضياء والضوء مذكرا . وتأتى ( النفس ) بصيغة المؤنث ، وليس المذكر ، كقوله جل وعلا : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) البقرة  72 )، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة:  48 )

2 ـ   والأسماء تنقسم أيضا الى مفرد ( محمد ، صالح ) ومثنى يُرفع بالألف ، ويُجرُّ ويُنصبُ بالياء :(محمدان ، محمدين ، صالحان ، صالحين ) وجمع مذكر سالم ، يرفع بالواو ، وينصب ويجر بالياء ( محمدون ، محمدين ، صالحون ، صالحين ) وجمع مؤنث سالم ( صالحات ، زينبات ) ( يرفع بالضمة وينصب ويجر بالكسرة) . وهذا بالقياس . ويأتى جمع التكسير وأوزانه بالسماع ، وليس له قياس ، ( صالح : صلحاء ، رجل : رجال ) بل قد يأتى جمع التكسير ولا يكون له مفرد ، مثل ( نساء ، ونسوة )( ناس ، أناس ). وبالنسبة للمفرد ( نفس ) وهى مؤنث معنوى فلا يأتى جمعها بجمع المؤنث السالم ، فلا يقال ( نفسات ) ولا بجمع مذكر سالم ، فلا يقال ( نفسون ، نفسين ) لكن بجمع التكسير : ( أنفس ) كقوله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ  )البقرة:54 ، ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)البقرة:57 ) ، (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ .)البقرة:44 )

ثامنا : ـ ويقول : ( سؤال اخيرا كنت دائما تدعو الله ان يجعلك من الاشهاد وانا ادعو الله كذلك ان يجعلك من الاشهاد علينا فهل يمكن اعتبار الشاهد على قومه حجة عليهم يوم القيامة استنادا إلى قوله تعالى "إنما انت منذر ولكل قوم هاد" الرعد 07 ).

وأقول : أرجو هذا ، وإن كنت لا أستحق هذا ..

أخيرا

تحية صادقة الى هذا العقل التونسى المسلم الرائع .

اجمالي القراءات 14847