أتابع حديثي حول المعاني التي إستثنى بها الله المؤمن من الذم بعد أن ذمّ الإنسان بأبشع الصفات والأوصاف ،( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر.
1-- الصبر يرتبط بالصعاب فلا يكون الصبر صبرا إلا عند الشدائد والمحن فهو يتطلب العزم والمجالدة والمثابرة ، كما يرتبط بالوقت ، فهو آنيٌّ مرحلي و إن طال ، فلا يحمل صفة المداومة الى ما لا نهاية فيقال :(الصبر مفتاح الفرج)، فالصبر صفة المؤمن والقنوط صفة الكافر، والتواصي بالصبر ينطبق على الفرد والمجتمع والحكومة والمحكومين ، (..وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران ، (..إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) الأنفال ، فمن أحبه الله عز وجل وكان معه فهو حسبه وكافيه .
2-- الصبر يرتبط بالصلاة فهما متلازمان متحدان ، يُستعانُ بهما لمواجعة مشاكل الحياة وصعابها ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ، الله سبحانه و تعالى مؤيد ومؤآزر وداعم للصابرين ، كما هو معهم أينما كانوا لمواجهة صعابهم ومتاعبهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، مقررا أن الإلتزام بإقامة الصلاة ، أمركبير، صعب إلا على الخاشعين، فهو سهل، هين ، ينبع من الذات المؤمنة ويتفق مع هواها وملذاتها ، ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )45 البقرة .
أمر اللهُ المؤمن بعبادته والصبر عليها ، فالعبادة تحتاج الى الإيمان القوي الراسخ ، تُطمئن القلب وتريح النفس فيُثابر المؤمن على تأدية العمل الصالح ، فلا عبادة مقبولة دون إيمان وصبر ، كما أمر الله جل و علا ، النبيّ محمد عليه الصلاة والسلام بالصبر على عبادته وقد ملئ قلبه بالإيمان ، ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ..) طه ، فكيف بنا و نحن الفقراء الى الله عز وجل ، وأصحاب ما قلّ وما كثر من الإيمان ، فنحن أحوج ما نكون الى الصبر والمثابرة على الطاعة والتقوى ، ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ .. )65 مريم .
3-- كما اُمر النبيُ محمد عليه الصلاة والسلام والأمر ينسحب على كل مؤمن بالله عز وجل ، (وهو أمر واجب التنفيذ وليس إختيار بأن يفعل أولا يفعل)، ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) النحل ، أمر بالدعوة الى عبادة الله الواحد الأحد وبالدعوة الى الطريق الموصل الى تقواه ورضاه ، عبر الحكمة التي تظهرالحق الذي لا شك فيه عقلا ومنطقا ، والموعظة الحسنة التي في بيانها القدوة الصالحة ، التي تُرقّ القلب وتُخضع النفس والمجادلة بأحسن سبل المجادلة ،الرقيقة ،التي لا تهين الخصم ولا تحط من قدره و مكانته ، إذ الهدف هدايته لا إهانته ، فالدعوة الى سبيل الله عز وجل لا تكون بالقوة والإجبار ، أوالإيمان بمقولة : من ليس معي فهو بالضرورة ضدّي و من الفجّار الكفار ، أستبيح دمه وعرضه وماله ، كما يؤمن السلفيون الوهابيون والإخوان ، فالله عز وجل ، (هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، حتى انسحب أمر الله عز وجل الى المسامحة والتجاوز عن عقوبة من آذانا وظلمنا ، فهو أفضل للصابرين و أحسن عملا ، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126) النحل ، تطبق العقوبة على الجاني الذي أرتكب ذنبا ضد الغير من الناس، ولا تطبق على مذنب في حق الله جل وعلا إلا فيما شرعه وبينه في قرآنه المجيد ، المؤمن والكافر مردّهما الى الله العزيز الحكيم و هو خير الحاكمين ، ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت .
كما جاء أمر الله جل وعلا من قبل الى موسى وهارون عليهما السلام أن يدعوان فرعون و هو من أظلم الظالمين وأشدهم قسوة عبر التاريخ البشري ، بأن يقولا ، ( .. لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ، ولكن الصبر، لا يكون الى ما لا نهاية له ، كما لا يكون على تجاوز شرع الله عز وجل أو تجاوز القانون والدستورالذي إرتضاه المجتمع لذاته ، فالصبر محله المسائل الفردية ، الشخصية ، لا العامة التي تحكم المجتمع بأسره .
4-- صبر المؤمن ليس على الأذى المادي أو الجسدي فقط بل صبر على كفرالآخرين ، كذبهم ، إفترائهم وقولهم ، بهتانا و زورا، ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) طه ، أمرنا بالتسبيح ، فالتسبيح يطفئ الغضب ويهدئ النفس ويحقق الرجاء والأمل من عند الله جل وعلا ، فوعده حق متحقق على أرض الواقع لا محالة ، كما هو حق بصدقه وثبوته ، ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الروم ، فلا يقرب وهن النفس وعدم يقينها ولا يقرب منها الشعور بخفة الرأي والعقل ، إذا ما جوبهت بالمشككين الكافرين .
5-- صبر المؤمن مدعوم من الله عز وجل ، فيذهب ضيقة الصدر والغم مما يمكر الكافرون والظالمون ، ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) النحل ، المؤمن محفوظ برعاية الله سبحانه وتعالى ، منتصرٌ في الدنيا قبل الآخرة ، ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ..) (48) الطور .
أمر الله عز وجل رسوله الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام ، أن يتبع و يلتزم بما يُوحي إليه وهو القرآن الكريم ، فهو وحي واحد فقط لا غير، ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) يونس ، والمؤمن يلتزم بما أمر الله العليّ العظيم به ، ) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) هود .
عتاب من الله الرحمن الرحيم على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ، كيف يضيق صدره بما يوحى له ، حتى تساءل رب العالمين ، مُأنبا (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ؟ ) ، ( لعل ) تفيد هنا الشك مع إستبعاد التحقق ، ذلك أن هذا الضيق ليس لأنه لا يوافق هوى الرسول الكريم وتطيب نفسه به ، بل لأن ما يوحى له ، لا يلقى الرضى والقبول من المجتمع الكافر الذي من حوله ، مما يصعب على نفسه الشريفة الصادقة تكذيبهم لها .
كما تمنى الرسول ، أن ينزّل عليه مما يطلبون ويسألون ، كإنزال كنز أوملك من السماء ، كآيه حسية دامغة ، ولكن الأمر ليس له ولا بيده وما هو إلا نذير وبشير، مبلغ ما يوحى له دون زيادة أو نقصان ، أمر بالصبر الجميل ، الذي لا تأفف ولا ضيق فيه ، (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا (5) المعارج ، فما يسري على النبي عليه السلام يسري على عباد الله جل وعلا من المؤمنين ، فلما نحن تاركون بعض ما اُنزل في القرآن الكريم وراء ظهورنا ، مفضلون ومصدقون قول القصاصين على قول الله عز وجل ، سبحان الله عما تصفون !
6-- الكافر يريد آية حسية تهبط من السماء ، دون بذل عناء التفكر والتبصر ، بينما الله عز وجل شاء أن يستخدم المؤمنُ بصره وبصيرته وعقله وفكره ، فجاءت الآيات القرآنية تترى ، متسائلة ، ألا يتفكرون ، ألا يعقلون ... ، وقد أنزل رب العالمين آياته الحسية ، وما على الإنسان الا أن يُعمل بصره وبصيرته وعقله وخياله ، ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) لقمان ، ( إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) الشورى ، ولكن الكافرون لهم آذان لا يسمعون بها وعقول لا يفقهون بها ، هم كالأنعام ، بل أضل سبيلا ، جريان السفن الشراعية في البحر بفعل دفع الريح لأشرعتها ، هي نعمة من نعم الله عز وجل وآية من آياته الحسية، عبر خلقه وتفعيله سنته في الطبيعة والكون، خدمة ونعمة للإنسان ، فهذه الآيات لا يبصرها ولا يعقلها إلا المؤمنون ، الصابرون ، الشاكرون .
7-- الصبر والثقة الكاملة بآيات الله جل وعلا ، يجعل من المؤمن ، إماما ونبراسا ، يحتذا ويُهتدى به ، إذ أن قلبه وفكره إمتلئ إيمانا وثقة بالله عز وجل ، ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) السجدة .
8-- الصبر يرتبط بالصدق قولا وعملا وبتقوى الله سرا وعلانية ، (..وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة ، الصابرون على صعاب الحياة الدنيا والذين بلا قدرة على الهجرة فرارا بدين الله عز وجل ، والصابرون على ظلم الآخرين لهم ، نتيجة لضعفهم وقلة حيلتهم ، يُعطون أجرهم ولكن بغير حساب ولا محاسبة ، فهو عطاء غير محدّد بأي شكل من الأشكال ، لا بالكمية ولا بالنوعية ولا بالكيفية ، فلهم ما يطلبون ويتمنّون ، بينما المؤمن المتقي المحسن الى نفسه بإختياره دين الله عز وجل والمحسن الى الآخرين بأي شكل من أشكال الإحسان ، فله في حياته الدنيا حسنة ، ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) الزمر .
9-- الصبر يرتبط بالتوكل والثقة بالله عز وجل ، ( الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل ، كما يرتبط بثواب الله وعطائه سبحانه وتعالى فلا يُلقّى الثواب إلا الصابرون ، يعلمها أهل العلم والمعرفة بدين الله عز وجل ، ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ )80 القصص .
10-- الإيمان ينقص بالجهل وإغفال العقل و يذداد بالطمأنينة واليقين ، ويتولدُ عن ذكر الله سبحانه وتعالى عبر الصلاة والتسبيح وقراءة القرآن ، ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )28 الرعد ، قلب المؤمن يحتاج الطمأنينة والإطمئنان وهو ليس بأفضل حال ولا أكثر إيمان من سيدنا ونبيّنا إبراهيم عليه السلام ، ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )260 البقرة .
أرسل له ربُ العزة والجلالة (أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ) آية معجزة تُطمئن قلبه ، أدركها واختبرها بنفسه وهذا من عطاء ورحمة الله سبحانه وتعالى ، ليكون صلبا علما ، لا تهزه الصعاب ولا المحن ولا النكبات ، ليكون قدوة ، قائدا لأمة بأسرها ، بينما المؤمن العادي يكفيه أن يقود نفسه و ذاته وأسرته ما أمكنه ذلك ، وكل هذا يحتاج الى جهد و مثابرة و صبرعلى الطاعة والعمل الصالح .
سلسلة متصلة تبدأ بميل النفس والذات الإنسانية بالإقبال على طاعة الله عز وجل ، حتى تستشعرالطمأنينة والرضا الى أن يمتلئ القلب بها الى حد الإطمئنان والخشوع لله سبحانه وتعالى ، ومن ثمّ تذداد النفس بالإقبال على إقامة الصلاة بعمق وصلة وحب ، في حركاتها ومناجاتها لربها وتفاعلاتها مع غيرها في الحياة الدنيا ، في ليلها ونهارها ، و في سرها وعلنها ، وحيثما كانت راضية مرضية ، وكل ذلك مغلف بالصعاب والمجاهدة و الصبر والمصابرة ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )200 آل عمران .
11-- إن دخول الجنة ، لم يكن فوزا عظيما لولا أن الجنة ذات قيمة عظيمة عالية ، فهي ثواب الله العليّ القدير وحسابه ، وهذا الدخول يحتاج الى جهاد وصبر عظيمين ، فلا دخول بالمجان دون مجاهدة وصبر و دون حساب و مساءلة ، ولا دخول دون اختبار وفتنة ، ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )142 آل عمران ، ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ .. (31) محمد ، ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) البقرة .
لكي يفوز المؤمن بالجنة ويُؤتى كتابه بيمينه ، واثقا بما قدم في حياته الدنيا ، قائلا ، (..هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ (19) الحاقة ، فلا بدّ له من النجاح في تكوين رصيد متراكم من الأعمال الصالحة خلال حياته والصبرعليها ، ليدخله الله جل في علاه جنته عن بيّنة واستحقاق و جدارة ، فلا بد أن يكون عبدهُ أهل لدخول الجنة ، وأهل لمقامه ومكانته ، فكل إنسان مؤمن يحجز مكانته ومقامه بإيمانه وعمله وصبره في حياته الدنيا قبل مماته ، ويأتي رد ملائكة الرحمة على النفس المؤمنة ، ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) الحجر، ( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد ، ( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) المؤمنون
المؤمن الواعي المتقي يعلم ذلك الأمر ، فيلتزم الأمر وينهى النفس عن الهوى ويجاهد حق الجهاد ويصبر محتسبا أجره على الله رب العالمين ، دخول الجنة يحتاج الى المجاهدة و الصبر إلا أن هذا لا يعني أن الدخول ، كان نتيجة لعمل المؤمن ولا فضل لرب العالمين عليه سبحانه وتعالى ، إذ مهما عمل العبد المؤمن من أعمال المجاهدة والتقوى والصبر فلن تكفيه للفوز بجنة الخلد ، نحن لا ندخل بأعمالنا فقط بل برحمة من ربنا سبحانه وتعالى تغلفها وتدعمها ، (..وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) النحل ، ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) التوبة ، بينما الإنسان الغافل تمتع وانقاد لهواه وحب دنياه ، إتكل وتغافل حتى رأى العذاب المهين .
12-- المجتمع المسلم المسالم يتواصى أفراده بالصبر ويُآزر بعضهم بعضا في المحن والمصائب والنكبات ، فتخف الأوجاع والمحن وتستمرالحياة بحلوها ومرها ، إذ يعلمون أن مردهم جميعا ، قويّهم وضعيفهم الى الله العزيز الجبار، سحرة فرعون علموا تفاهة الحياة الدنيا إذا ما قورنت بالحياة الآخرة الخالدة ، لذا ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )72 طه ، ( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الأعراف ، آية واحدة ، بجلسة واحدة وفي يوم واحد ، فازوا الفوزالعظيم ، بينما الإنسان العاصي الكافر، يقضي حياته كاملة ، فلا يرى ولا يتفكر بأي آية من آيات الله عز وجل وهي من حوله و بين يديه .
13-- يتواصى أفراده المجتمع المسلم بالصبر على الطاعة وترك المعصية وفقا لشريعة الله جل وعلا ، التي أقرها في قرآنه الحكيم ، فالإنسان المؤمن يصبرعلى نزع شيئ من الرحمة منه ، فلا ييأس ولا يكفر ، يعلم أن الرحمة جميعا بيد الله عز وجل يعطيها لمن يشاء من عباده وقت ما يشاء وبقدر ما يشاء ، إذ لا يأتي من الله الرحمن الرحيم إلا الخير لعباده المخلصين ، بينما الكافر يؤس كفور ،( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )11 هود .
14-- كما المؤمن إذا أذاقه رب العالمين نعمة بعد نصب وضر وتعب في الحياة الدنيا يعلم أن الأمر بيد الله عز وجل يهب لمن يشاء ويحرم من يشاء ، وما يشاء الله العزيز الحكيم إلا الخير لعباده المؤمنين ، فلا يفرح ولا يتفاخر بما أعطيّ ولا يأس بما حرم ولا يكفر ، يكمل حياته صابرا محتسبا ، عاملا الصالحات ، كل على قدره وقدرته ، مؤمنا ، واثقا، ومنتظرا المغفرة والأجر إن لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة حقا على الله العزيز الحكيم ، بينما الكافرفرح فخور، يريد الكسب المادي ، العظيم لذاته ونفسه وعلمه وقدره ، فهو كاذب مدعي ، ويسخرالله عز وجل من الكافرين، قائلا ، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة،التي إرتضوها واختاروها لأنفسهم ، مسبقا في حياتهم الدنيا ، إذ لا سبيل للخروج من النار في الآخرة ، ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) الشورى .
لا يكتفي المجتمع المسلم المؤمن بالصبر والمثابرة وتحمل الصعاب والمرابطة والتقوى بل يُصبّر بعضهم بعضا على كل ذلك حتى يغدو مجتمعا يخيم فوقه غمامة من الأمن والأمان والرحمة والعدل والتقوة والعلم ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )200 آل عمران.
(.. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) البقرة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أكمل البحث إنشاء الله تعالى في المقال القادم .