الحلال والحرام في القرآن الكريم - مفردات
في البحث عن الإسلام – الحلال والحرام في القرآن الكريم - مفردات

غالب غنيم في الإثنين ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

في البحث عن الإسلام – الحلال والحرام في القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين


(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36
مقدمة :

هذه سلسلة من المقالات، التي أود من خلالها محاولة فهم الإسلام – دين الله القيم بشكل حنيف قريب الى المراد الإلهي الذي نبتغيه في بحثنا عن الحق، من منطلق عالميته واتساعه لنواميس الكون وسننه والتغيرات التاريخية في المجتمعات منذ نزوله حتى اليوم.

وأنوه أن فهمي لما ورد هنا هو نتاج تدبر خالص لله تعالى مني لكتابه العزيز فقط، حيث أنني لا أعرف غيره مرجعا لي ومصدرا لعلمي وفكري في دين الله تعالى ، وانا اعرض على الكتاب كل صغيرة وكبيرة حسب جهدي وما أوسعنيه الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو عبارة عن رأي – أراء لي في بعض المسائل في الكتاب، التي لم يتعرض لها الكثير ، وهي نتاج آنيّ في زمننا هذا وفي وقتنا هذا ، ولا يلزم كونه الحقيقة بل هو نسبي بحكم أن الحقيقة لله وحده تعالى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وهي ما نبحث عنه ونرجوا الوصول اليه.

وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبعد،

______________

مقدمة:

ورد في القرآن الكريم كلمات كثيرة تتضمن في مدلولها ما هو نوعا ما، مرفوض، من الله تعالى فعله أو اتباعه أو قوله، وهذه الكلمات هي ستكون هدف بحثنا هنا، ومما لا أعرفه، هو كم سيطول البحث فيها، وهذا سيتبين لنا من خلال سير البحث، فهناك كلمات كثيرة مثل "حرام، منكر، إثم، فواحش، بغي، ظلم، كره ... الخ"، وهي لا بد كلمات تدل على شيء ما، ولكن هل كل تلك الكلمات من نفس الصنف؟ من المؤكد النفي، فمنها ما يصف الشيء المأمور به أو عنه، ومنها ما هو يحوي الأمر ذاته، فكلمة إثم مثلا تصف قولا أو فعلا يرتكب، بغض النظر عن حجمه، ولكنه إثم، في نظر الخالق، وكلمة فاحشة كذلك، ولكن هل الفاحشة من نفس مستوى الإثم؟ وهل الفاحشة من نفس صنف الصفة الإثم؟ ومن هو يحوي الآخر؟ هل الفاحشة تحوي الإثم أم الإثم يحوي الفاحشة؟ ثم هناك كلمات تدل على الأمر مثل كلمة حرام وحلال، فهل كلمة حرام مثل كلمة إثم؟ وهل كل حرام "فيه" إثم؟ أم كل حرام هو إثم؟ وهل كل إثم هو حرام؟ ومن يحوي الآخر؟ هل الإثم يحوي الحرام أم الحرام يحوي الإثم؟

في محاولة لفك الخلاف عن كل هذه الأسئلة أتت الدراسة هذه من القرآن خالصة لوجه الله تعالى،لا يتم، لا فيها ولا في غيرها من مقالات البحث عن الإسلام العالمي والإنساني التعرض لأي فكر من حول القرآن أيا كان أصله ومنبعه، فكل ما أصبوا إليه من خلال سلسلة الدراسات هذه – في البحث عن الإسلام العالمي الإنساني – هو الوصول والقرب قدر الإمكان من مراد الله تعالى الذي أرادنا أن نصل إليه من خلال كتابه العزيز، ومخطيء من ظن أنه لن يصل إلى المراد الإلهي، فعلمنا، الذي نعلمه ونتعلمه، هو مما سمح لنا الله تعالى بعلمه من علمه سبحانه، أي أن علمنا في نهاية المطاف هو من علم الله تعالى الذي سمح لنا أن نعلمه، كما قال تعالى  (
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة - 255

الدراسة ستكون على النحو التالي
- بداية لا بد من تحديد المصطلحات القرآنية على أساس اللسان العربي المبين وليس على أساس دور تلك المصطلحات في الحكم والتشريع الإلهي، قدر الإمكان.
- ثم سنقوم بدراسة تاريخية من القرآن الكريم لعملية التحليل والتحريم بشكل تجريدي تاريخي بحت.
-  البدء في الفصل بين كلمات الصفات وكلمات الأمر، اي الكلمات التي تصف الأقوال والأعمال من الكلمات الآمرة التي تحمل أمر الله تعالى.
- فك الإرتباط في الخلط بين الصفة والأمر.
- الحلال والحرام في القرآن الكريم تفصيلا.

والله المستعان
______________

مفردات لا بد منها:


في هذا القسم سنحاول جاهدين أن نبحث عن تفصيل الله تعالى
في كتابه العزيز للكلمات موضوع البحث، وسأقوم بعرضها بلا تقسيم أو هدف من استخدامها في حكم أو وصف، بل فقط فقهها من القرآن الكريم كما هي مفصلة من عند الله تعالى، وما لم نجده منها في كتاب الله العزيز فهذا يعني أن الكلمة عامة وشائعة ولم تحتج لتفصيله سبحانه لها فنجدها في المعجم بسبب عدم تأثيرها على دين الله تعالى القيم.

وهذا العرض لها سيكون بحتي لا علاقة له بأوامر الله تعالى وبنا، بل لسانا عربيا مبينا، ومنه سنبني لاحقا العلاقات.

- حرام :
 الحرام هو ما يُمنع الشخص منه من فعل وعنه من شيء موجود، منعا باتا فلا يفعله ولا يستطيع ملكه بغض النظر عن ماهيته.

وهو ما يمكننا فهمه من الآيات التالية المفصلة للحرمة للفعل أوالشيء، ومنها وصف الله تعالى لمجموعة كان لهم حدائق ومزارع فعصوا الله تعالى فأهلك الله تعالى أملاكهم فحرمهم منها، أي أنهم أصبحوا محرومين منها، أي لا يستطيعون الإستفادة منها أبدا، أي لا يملكون منها شيئا، فمنعت عنهم تماما وكاملا:

(
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ *  فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *  فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ *  أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ *  فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ  *  أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ  *  وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ *  فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ *  بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *  قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ *  فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ  *  قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ  *  عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ) القلم – 19:32

نلاحظ من الآيات أن الله تعالى حرمها عليهم بإهلاكها فأصبحوا محرومين منها، وهناك عرفوا خطأهم فدعوا الله تعالى أن يبدلهم بغيرها.
ومنها نرى أن التحريم هو المنع من الشيء أبدا، أي لا يمتلكون شيئا منها.
وهو نفس التوصيف الذي ذكره الله تعالى في سورة الواقعة – 63:66
(
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *  أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *  لَوْنَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *  إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *  بَلْنَحْنُ مَحْرُومُونَ)

كما لا يملك الإنسان المال فيكون محروما منه :
(
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ *  لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) المعارج – 24:25

فالحرمان هو المنع للشيء عن الإنسان منه، فيصبح محروما منه، كما حرم الله تعالى الأرض المقدسة على بني إسرائيل، حين رفضوا الدخول إليها، فمنعهم من دخولها :

(
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *  قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *  قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) المائدة – 24:26

ومن هنا، نرى أن الله تعالى أعطانا صورا بينة واضحة تبين ذاتها بذاتها عن مدلول كلمة الحرمة – حرام.

- حلال :
 من فهمنا للحرام يمكننا أن نفهم مدلول الحلال بعكس مدلول الحرام مباشرة، ولكن سنتدبر الكلمة بالرغم من ذلك، حتى يتبين لنا الحق.
والحلال من حلل يحل مكانا ما، فيكون في المكان، أي يملكه، ويحق له التواجد فيه، وهو كذلك يطلق على الفعل بأن يفعله.
فالحلال هو كل ما يملكه الإنسان من شيء أو يفعله لقدرته على فعله وملكه

ومن أشهر وابسط الصور في وصف الله تعالى لكلمة الحلال هي :

(
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِوَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) هود - 39
(
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًاوَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)إبراهيم - 28

(وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ) البلد - 2

من الآيات أعلاه نجد العلاقة بكل بساطة بين التحريم والتحليل، فالتحليل للشيء هو السماح بملكه والمكوث فيه وعمله وفعله، كما أحلَ الكافرون قومهم النار، وكما أحل الرسول في البلد الأمين، وكما يحل العذاب – فعلا – على الكافرين، أي مكوثهم في المكان وامتلاكهم القدرة على ذلك وحصول العذاب عليهم.



- إثم :
 الإثم لغة هو البطيء والتأخر – وكأن الإنسان يبطيء ويتأخر عن الخير، فهو مذنب، ولذلك في القرآن الكريم، الإثم يكتسب، أي يتم كسبه لسبب ما، من عمل ما يقوم به الإنسان، او قول يقوله، أو حتى فكرة يفكر بها، ومنه، هو بسبب ذلك العمل او القول يكتسب إثما، أي يكون مذنبا.
أي أن الإثم هو إكتساب معنوي ناتج عن عمل أو قول او فكر ما.

(
وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) النساء – 111:112

فإن كان الشيء أضيف له صفة سيئة فقد ينعت نفس الشيء - عينه -  بالإثم كاسم صفة ناتجة عن حمل الشيء - عينه -  لتلك الصفة!

وعلى سبيل المثال لا الجدال، إن كان القول بحد ذاته ليس فيه إثم، فهو لا يوصف بالإثم، فإن وصفنا القول بالزور، أصبح القول هنا إثما بسبب ما اتصف به من صفة سيئة كالزور.


- فاحشة : كل شيء جاوز حده في القبح والسوء من عمل أو قول فكثر وظهر وطغى.
ومنها لغة فاحش الثراء، أي كثير المال جدا.

وافضل تفصيل لله تعالى لها في نعته للزنى واللواط بفاحشة.

وتم وضع الفاحشة بجانب كبائر الإثم مرتين في القرآن الكريم، مما يدل على "عظم" الفعل المفعول، فالفاحشة لا يعملها مؤمن بل يفعلها.
(
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) الشورى – 37
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) الأعراف  – 8
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) الإسراء – 32
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الأعراف – 33


- السوء :
 هو نقيض الم
سَرَّه، وهو من عكس الإحسان، وهو ما قبح كذلك ولم يستحسن.

وقال عز مِن قائل: (إِنْ أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأَنفسِكم وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)
وقال: (ومَن أَساءَ فعليها)
وأساء إليه: نقيض أحسن إليه


والسوء ليس كالفاحشة فهو لا يفعل بل يعمل بضم الياء. أي هو وصف للأعمال وليس للأفعال.

(
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) المنافقون – 2
(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) الجاثية – 33

ولذلك اتى السوء في نقيض "العمل" الصالح :
(
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ)غافر – 58

- المنكر :
 ما هو غير معروف أو مجهول بين الناس.

والمُنْكَرُ: ضِدٌّ المَعْروفِ
والاسْتِنْكارُ: اسْتِفْهامُكَ أمْراً تُنْكِرُهُ

وأحسن وصف تفصيلي لله تعالى في المنكر هو قوله تعالى

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ) الذاريات – 25


- رجس :
الرجس هو إختلاط واضطراب والتباس في الوعي أو العقل لسبب ما.

ولغة أصل الرجس هو
صوت الرَّعد، وذلك أنه يتردَّد، والكلمة تدل في الأصل على اختلاطٍ. يقال هُمْ في مَرْجُوسَةٍ مِن أمرِهم، أي اختِلاط.
ومنه، هو الشيء المختلط، إي في اختلاط والتباس.

من أمثلة تفصيل الله تعالى للرجس في قوله عز وعلا:

تم ربط الرجس بتعطيل العقل عن التفكر والتدبر:
(
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) يونس – 100

وتم ربط الرجس بمرض القلوب – أي مقومات الوعي، أي تعطيل مقومات الوعي :
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة - 125

وتم وصف المنافقين في تذبذهم وتغير آراءهم المستمر بأنهم رجس بسبب هذا التذبذب المضطرب غير المسقر :
(
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) التوبة – 95



- فسق :
التَّرْكُ لأَمْرِ اللهِ تعالى، والعِصْيان له، والخُروج عن طَرِيقِ الحَقِّ وطاعة الله في أمره.

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) الكهف – 50

وتم نعت أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى بأنه فسق، أي عصيان لأمره :
(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) الأنعام – 121

والخروج عن طريق الحق كذلك فسق :
(
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) الأعراف – 163


______________

تاريخ التحليل والتحريم:

لقد تم ذكر تاريخ التحليل والتحريم الإلهي المصدر – قطعا –  بالتفصيل في القرآن الكريم الذي لم يفرط الله تعالى فيه من شيء.
فمنذ بداية خلق الله تعالى للسماوات والأرض، أي منذ تم خلق الكون، وعليه، تم وجود الزمن الكوني، وتقدير الزمن من سنين وشهور، قام تعالى بوضع أول حرماته، فكان من أول حرمات الله تعالى هي الأشهر الحرم الأربعة في كل عام منذ خلق الله تعالى السماوات والأرض.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة – 36

ثم ذكر الله تعالى التحريم  
قبل اصطفائه لآدم في قول الملائكة عن سفك الإنسان للدماء بغير حق، ولا أود الخوض في مسألة آدم واصطفاءه هنا فليس محله.

 ثم في أول بيت وضعه الله تعالى للناس مثابة وأمنا، البيت الحرام في البلد المحرم.

(
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) المائدة – 97

ولكن أول ظهور للتحريم مصدرا ونصا كان في قول الأنبياء بينا واضحا وذكره الله تعالى في الأقوام من بعد إبراهيم، اي من إسرائيل وحتى تنزيل القرآن الكريم.

وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك تحريم وتحليل فيمن سبقهم، ولكن الله تعالى لم يفصل تلك الأمور وهو العليم الخبير، ونستشف تلك الأمور من قصصهم فقط، بأنهم لم يتبعوا الله تعالى وأوامره.

إسرائيل، بكل وضوح، هو أقدم مصدر لنا تاريخي بعد آدم، فبالإضافة لذكر البيت الحرام والشهور الحرم، فبعد ذلك تم ذكر ما حرم إسرائيل على نفسه من طعام يطعمه، ثم بعد ذلك ورد كثير من تاريخ التحريم والتحليل في القرآن الكريم.

وهي المرحلة التي يعظنا الله تعالى بها ويذكرنا بها دائما لكونها مرحلة سنن الأولين، أي مرحلة المعجزات الحسية والعقاب المباشر النكالي من الله تعالى بسبب الجحد البين والواضح لمعجزاته سبحانه. وفي تلك المرحلة كان بني إسرائيل، وهم أهم مثل لنا لكونهم حملوا إصرهم بسببهم وبسبب إعراضهم المتكرر والمتعمد لمعجزات الله تعالى بينهم في الأرض من بعد أن نجاهم من فرعون وعذابه، ومن قبل، فهم آكثر من رأى معجزات حسية مباشرة، ولهذا تم جزائهم بشرعة الإصر والأغلال بما كسبت أيديهم.

ونركز هنا على حادثة الجبل حيث تم التبشير بالرسول الكريم محمد ليكون هو من سيخفف عنهم الإصر والأغلال التي عليهم، أي يحل لهم طيبات كانت حرمت عليهم من قبل بسبب جحدهم وكفرهم المستمر.

أما مسألة القول بحرمة الأشياء عامة فهو ليس بصحيح، وهو من باب الإفتراء البين على الله تعالى، لورود آيات كثيرة "تحدد" ما حرمه الله تعالى بشكل دقيق معدود من الله تعالى – مطلقا - في كتابه العزيز، ومن هذا المنطلق، لا بد أن نخرج بفهم يقول ان كل ما هو ليس محرم فهو إما حلال، وإما قد يحمل في طياته إثم من درجة أقل من الحرمة وهذا ما سنراه أدناه.
______________

صفات الأعمال والأقوال:

مما سبق من تعريفات أعلاه، علينا العمل بجد وجهد لكي نصنف تلك الكلمات إلى أنواع أو مجموعات مختلفة، لكونها لا تحمل جميعها نفس الصفة والصنف والنوع، بل تلتقي هنا وتتفرق هناك، وعليه، وجدت أن أفضل وسيلة لكي نكمل بحثنا هنا هو أن نفقه تلك الكلمات كمفاهيم عامة – لغة ولسانا عربيا - أولا  كما فعلت أعلاه، محاولا الإبتعاد قدر الإمكان عن نقاش الكلمة نفسها من منظور قرآني تشريعي أو غيره، ثم التفريق بينها من حيث أن فيها كلمات تدل على الأمر والنهي – أفعال أمر – وهناك كلمات تدل على التوصيف الحسي أو المعنوي للفعل نفسه – أي الحدث نفسه – وهنا هي تكون في قسم آخر هو قسم كلمات الوصف – بشكل مجازي – ومن هذه مثلا، كلمة "حرم عليكم"، "إجتنبوا"، ومن تلك مثلا "إثم"، "منكر" و "فاحشة".

القول هو صدور أصوات من أفواهنا يعبر عما يعتمل في داخلنا من أفكار، وقد يكون القول صوتا من أفواهنا فيكون قولا مسموعا اي كلاما وقد يكون مكتوبا فيكون قولا فقط.
العمل هو ما نقوم به من حركات مستخدمين أجسادنا أو فكرنا أو الإثنين معا للقيام بشيء.
الفعل هو أن نطبق العمل بعلم وتخطيط وقرار بحيث يؤثر على ما هو حولنا. فالفعل فيه تدبير وتخطيط وليس كالعمل الذي لا يشترط فيه تدبير وتخطيط، ولهذا، الله تعالى فعال لما يريد ولا يعمله بل يفعله بأمر منه، ولهذا، المؤمن يعمل الصالحات لأنها في قلبه وهي عمل الخيرات ذاتها ولا يحسب ويخطط لعملها.

فعلينا التمييز بين فعل الشيء وعمل الشيء. فالقول عمل والتفكير والظن عمل، ولكنها ليست أفعالا. والإنفاق والصدقات عمل والصلاة عمل، وكل الصالحات اعمال، والقتل والسرقة والزنى واللواط كما الزكاة أفعال.
(وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) البروج – 7
(كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف – 3
(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الشعراء – 19
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران – 135

فرجم المحصنات فعل بالرغم من كونه قول، لأن فيه إرتداد "فعلي" على من رجمت به. والزكاة والصدقات أفعال لكونها تؤثر في حياة الأخرين بما يغير طبيعة حياتهم.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) المؤمنون – 4
فالزكاة التي تفعل هنا هي التي تؤتى وليس تزكية النفس:
(وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الروم – 39
فآتى الشيء أي أعطاه ووهبه (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا).
والزكاة فعل لأنها تحتاج لتخطيط وتدبير وليست مثل الصدقات والإنفاق الذي يجب ان يتم بشكل عفوي.

اكتفي بهذا المقدار من التوضيح، وانتقل للجزء المهم، وهو ما توصف به الأعمال والأفعال:
إن الأعمال والأفعال قد تم وصفها في كتاب الله تعالى بأوصاف مختلفة، منها ما هو منكر ومنها ما هو إثم ومنها ما هو خير ومنها ما هو شر! فهل جملتي هذه سليمة؟ بالطبع لا، فهي ينقصها البعد القرآني في استخدام هذه الكلمات! وكيف ذلك؟ هذا ما سنراه لاحقا إن شاء الله تعالى.

______________


الخلط بين الصفة والأمر:


علينا أن نعي جيدا أن هناك ما هو "أمر" من الله تعالى لنا وأن هناك توصيف من الله تعالى للأفعال والأعمال. فحين يقول الله تعالى عن شيء أنه فسق أو منكر فهو لا يعني الأمر بعد، فالأمر هو استخدام الله تعالى لكلمات النهي والأمر، والتوصيف هو تذكير ووعظ من الله تعالى بكون هذا الشيء يحمل الصفة الفلانية كذا، فإما أن نفعلها أو لا نفعلها.
في الجملة أعلاه، انا اخطأت في كتابتها لأن فيها خلط بيِن في قولي "منها ما هو منكر ومنها ما هو إثم"!، والذي يعني التفكير بلا فهم لشمولية وحدودية الأوصاف! فأخرجت المنكر عن الإثم فيها! ولهذا لا بد لنا من تقسيم تلك الكلمات إلى مجموعات مختلفة، بشكل هرمي، حتى نستطيع فقهها، وسأقوم بتقسيمها حسب فهمي لقوة الأمر فيها من القرآن الكريم :

الصفة الشاملة : وهي كل صفة تقع في اعلى مستوى من مستويات التوصيف، وهي في مستوى الحق نفسه سبحانه. حيث نسب لنفسه الحساب من خلالها.
أي هي "معيار" قياس كل فعل وعمل وقول عند الله تعالى يوم القيامة.

ومنها "حسنة و سيئة"

كل ما ورد في القرآن الكريم من كلمات تقع تحت سيطرة إحدى هذه الكلمات الشاملة العامة. فهي كلها تحمل في طيها جزئين، التأكيد والنفي، نعم و لا، حق و باطل.أي هي كلمات مطلقة، وهي لا يمكن ان تكون تحت بقية الكلمات أبدا، فما هو فسق مثلا ينتمي لكونه سيئة، وهكذا.

وهذا المعيار – كما علينا التنبه له – إلهي بحت لا يحق لأحد منا التدخل فيه أبدا، لكونه من علم الغيب، ولكون الله تعالى أوحى لنا أن الحسنة تدفع السيئة وتمحوها أحيانا حسب شروط وضعها سبحانه!

ومنه ننتقل إلى مستوى مطلق آخر، بحكم ارتباطه بالله تعالى مباشرة، ولكنه بحكم كونه غيبي إيماني، وليس غيبي فقط، فهو أقل من المستوى المطلق، للحسنة والسيئة كمعيار، وهو :
مستوى الغيب الإيماني: الحق والباطل

المستوى الغيبي الإيماني ضم في داخله كلمات مثل "حق وباطل "، ومن الواضح أنه يمكننا هنا أن نتدخل بحكم إعمال عقلنا وتدبرنا للقرآن وكلام الله تعالى المنزل إلينا، بل وظيفتنا التمييز بين الحق والباطل.

المستوى الإجتماعي البشري : الخير والشر

وينطبق عليه ما قلته عن المستوى الغيبي الإيماني تماما، ولكنه هنا على مستوى الواقع الإجتماعي البشري، منسوبا إلى تأثير الأعمال والأفعال فيهم،وكأنه إرتداد الحق والباطل على المجتمع نفسه.

المستوى التطبيقي لجزء من الأعمال والأفعال : حلال و حرام
وهو مستوى اختص الله تعالى به بعض الأعمال والأفعال من حياتنا، وهي أمور لا يشترط فيها أن تكون شرا أو خيرا مثلا، أو أن تكون حقا أو باطلا، لكونها مردودة تماما إلى حكمة الله تعالى وإرادته، مثل تحريم بعض الأكل مثلا، فهو من الأمور البينة التي لا خلاف فيها، أن حكمه مردود إلى أمر الله تعالى وليس لكون ما حرم خير أو شر من غيرها من الأمور، ، وأبسط مثال على ذلك هو ما حرمه من الطيبات من الطعام على بني إسرائيل، ولم يعط الله تعالى الحق لا لموسى ولا للذين هادوا، عند لقائهم بالله تعالى، عند الجبل، بأن يغيروا منها أي شيء! بل امرهم باتباعها كما هي، وسنعود لهذا الأمر لاحقا إن شاء الله تعالى.

مستوى الأمور والأحداث نفسها :وهي اقل مستوى في الأصناف ولكنه بحد ذاته هرم جديد

واعلى مستوى منها هو إثم أو غير إثم. فكل ما تحت مستوى الإثم هو من صنف الإثم أو من غير الإثم. أي أنه يتصف بكونه إثما

وفيها تدخل كل الصفات الأخرى الدالة على سوء الحدث أو الفعل أو العمل أو القول من عدم سوءه "منكر، فاحشة، لمم، فسق، رجس، سوء، ظلم، بغي، عدوان ... الخ"

وميزة هذه الصفات الأقل مستوى في توصيف الشيء أنها كلها إثم، وأن منها ما هو إثم مبين، وما هو لمم من الإثم، وما هو كبيرة من الإثم ... الخ، أي أنها لاحقة لكلمة الإثم، فالزنى فاحشة من الإثم، بينما التقاسم بالأزلام فسق ورجس من الإثم، وهكذا.
ومن العباطة أن نجعل كل الآثام في نفس المستوى، فهو مما فصل الله تعالى وبين لنا في تصنيفه لما يحمل إثما في داخله أو بارتكابه. فالقاتل آثم ولكنه ليس مثل من طعم خمرا مثلا، كلاهما فيه إثم، ولكل حالته الخاصة، ولن يتسع البحث هنا لتفصيل الأمور كلها، وسأناقش مسألة الإثم في الطعام المحرم والخمر فقط لاحقا. ولكن كل باحث نبيه يجب عليه التفريق بين إثم وإثم حسب درجته ومستواه وصنفه، فالله تعالى لم يذكر كل هذا عبثا وحشوا، بل فصله لقوم يعقلون ولقوم هو يعلم ما يسرون وما يعلنون!
(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الأنعام - 132
ومن العباطة، الإثم في الظن الذي لم يخرج عن كونه ظنا أن نضعه بجانب الرجس أو الفسق أو الفاحشة، كما رأينا أعلاه في حجم الفرق بين كل تلك الصفات لغة فكيف عند الله تعالى؟!
 
وعلينا التذكر دائما، أن معيار القياس الإلهي من حسنات وسيئات لكل صفة على حدة ليس سواء! ولكننا لا نعرف هذا المعيار بدقة فهو معيار مطلق كما قلنا أعلاه.
______________

أمر الإجتناب في القرآن الكريم:

ورد أمر الإجتناب في كثير من الآيات في القرآن الكريم، وكلها في مجملها لا تنادي بالتحريم لكل ما وردت فيه، بل الإجتناب فقط، أي الإعراض والنأي قدر الإمكان عنها ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) فصلت - 51

بل من تلك الأمور، ما حرمه الله تعالى أصلا، فلا يمكن ان يأمر الله تعالى باجتناب ما قد قام بتحريمه على أنه تحريم له! فهذا يفقد النص قيمته ومدلوله!
 ولكن القول بأنه تم التذكير والوعظ بالأمر باجتنابه أيضا، هو أقوم وأكثر عقلا للأمر، وفي أغلب هذه الآيات تم ذكر كبائر الإثم والفحشاء من عبادة الطاغوت وكثرة الظن السيء والأخلاق السيئة المسيئة لصاحبها وللمجتمع كله في عملية وعظ للتخلق بأخلاق حميدة والإبتعاد عن الرجس:

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الشورى – 37
(إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) النساء – 31
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ) الزمر – 17
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ) النجم- 32  
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) الحجرات- 12

ومن الآية الأخيرة نستنتج بكل بيان أنه لا يمكن جعل أمر الإجتناب مساويا لأمر التحريم أبدا! فليس كثيرا من الظن حرام أبدا، ولكنه "مدعاة" للإثم، وفي هذه الآية لا يختلف إثنان!
فالتجسس والظن والغيبة ليس حراما في هذه الآية إلا إن ورد في آية أخرى تحرم منها ما تحرمه! ولكنها من أبواب الدخول في الإثم بسبب طبيعتها البشرية التي تفتح للإنسان أبواب الإفتراء والخيال والأخلاق السيئة غير الحميدة.
ثم ننظر لقوله تعالى في مورد الزمر عن اجتناب الطاغوت أن يعبدوها! من القرآن الكريم مجملا وتفصيلا نفهم ان عبادة غير الله تعالى هو الكفر والشرك بعينه! فهل يأمر الله تعالى مرة أخرى بتحريم ما قد حرمه أصلا؟ أم هو هنا يعظنا ويذكرنا بأن نجتنب ما قد تم تحريمه اصلا؟!
فكما قلت سابقا أعلاه في مستويات الأمور والأوصاف، أنه قد يجتمع أمران أو أكثر من صفة في شيء واحد! اي أمر الإجتناب وأمر التحريم معا، وهذا لا يعطينا الحق في تعميم الخاص، بأن نحرم ما أمر الله تعالى باجتنابه.
فما هو محرم تم تفصيله وعده بشكل محدد من الله تعالى وتحدى الله تعالى به اليهود والنصارى ومن يريد ان يفتري على الله تعالى الكذب بأنه لم يذكر في الكتاب انه حرم غير ما عده وذكره وحدده على لسان رسوله الكريم!

______________

الحلال والحرام في القرآن الكريم:

حين يصف الله تعالى أمرا فهو قمة الدقة في التعبير عنه، أي مطلق القول، وليس كما تصف ألسنتنا!

ننظر إلى بعض الأمور كأمثلة على دقة الوصف الإلهي لما حرم وحلل، فالله تعالى لم يحرم الأزلام والأنصاب والأوثان أبدا! ومن قال بذلك فإنه يفتري على الله الكذب، ويدعم رأي من يقولون بهدم كل الأنصاب والأوثان! والتي قد تكون أحيانا من آيات الله تعالى في الأرض، التي تركها لنا شاهدة على حضارات اندثرت ولم يبق منها سوى تلك الأنصاب والأوثان!
الله تعالى بدقة عالية مطلقة نص على تحريم "
وَمَا ذُبِحَ عَلَىالنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ " وليس الأزلام والأنصاب أبدا! وكذلك نص على إجتناب الرجس في الأوثان "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَالْأَوْثَانِ"، فحرف كثيرون قول الله تعالى من بعد موضعه بتحريم النصب والأزلام والأوثان! ومنه تم هدم كثير من المعالم والآثار في بلاد المسلمين.

وعملية تصنيف الكلمات ليست بيدنا أبدا، بل هي من حدود الله تعالى التي لا يجب أن نتعدى عليها أبدا، لأننا لا نعلم علمه وليس عندنا حكمته، فوصفه تعالى للإستقسام بالأزلام على أنه فسق ورجس ليس مثل وصفه لشيء آخر بأنه فسق فقط، فهي، لمن لم يعتبط في التدبر، عبرة وحكمة في مقدار إحتواء الأمر المحرم أو المنهي عنه من إثم، فتم وصف الإستقسام بالأزلام على أنه فسق أي فيه عصيان وترك لأمر الله تعالى والإبتعاد عن أمره وبالتالي الوقوع في الرجس أي إختلاط الفكر والعقل في عبادة الله تعالى بسبب الإشراك به عن طريق الفسق نفسه! فالإستقسام بالأزلام فسق بين لكون الإنسان يطلب نصيبه من غير الله تعالى وكأن رزقه ليس على الله تعالى بل على شيء آخر وهنا الشرك.

وحين يقول الله تعالى عن الفاحشة، فهو أعلم بأمرها، فليس كل إثم فاحشة وهذا من بديهي الأمور! فكلمة الإثم عامة شاملة لكل ما نهى عنه الله تعالى بغض النظر عن "حجم النهي" !
الخلاصة هي أن لا نخلط الأوصاف بعضها ببعض وأن نتدبر طريقة وصف الله تعالى لها محاولين التدبر والتفكر وفهم الحق من خلال دراستنا تلك، وليس من خلال مجتمعاتنا وما تعودنا عليه من حولنا من أمور.

الأوامر الإلهية:
 حين نقول كلمة أوامر الله تعالى فعلينا الوقوف عندها على أنها من الله تعالى وليس من فهمنا الإعتباطي أو من أسلوب تدبرنا للقرآن بل من القرآن نفسه الذي هو بين ومبين ومفصل بلا إضافات منا!

فالقاعدة الذهبية هي قوله تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل – 116

هناك أمر نهي، وأمر إجتناب، وأمر عدم إقتراب، وأمر تحريم! وربما هناك غيرها!

السؤال الأول الذي يطرح علينا نفسه، لم تم ذكر أكثر من أسلوب في الأمر الإلهي؟ ألا يوجد حكمة في ذلك وعبرة لأولي الألباب؟ فليس الأمر حشوا وليس مجرد أوامر نجعل منها في النهاية أمرا واحدا بوصف كاذب لألسنتنا، فلا بد أن أمر النهي غير أمر التحريم غير أمر الإجتناب! وإلا كان فهمنا ناقصا واعتباطيا.
 
ومن هنا نبدأ في الحاجة إلى ما قمت به أعلاه من تقسيمات مختلفة وتصنيف للصفات ودرجات لها، فلا يمكننا أن نطلق على كل ما نهي عنه حراما لعدم إطلاق التحريم عليه! وإلا نقص فهمنا وأصبحنا نفقه القرآن بشكل اعتباطي، حين نجعل من المحرم منهي عنه، ومن المنهي عنه مأمور إجتنابه، ومن المأمور إجتنابه نجعل منه محرما!
نحن نتبع القرآن ولا نتدخل في الصيغة، بل نأخذها كما هي، فإن إجتمع أمرين إلهيين في نفس الشيء فذلك له حكمة وعبرة، وإن كان فيه أمر واحد فله حكمته كذلك.
فما حرمه الله تعالى فهو من حرمه ونهانا عن أن نحرم بأنفسنا ما لم يحرمه هو وذلك بالكذب والإفتراء عليه وأحيانا بسبب الفهم الإعتباطي للقرآن ولكلمه، فكل كلمة في القرآن لا يمكننا أن نبدلها أو نغيرها بغيرها أبدا! بأن نبدل كلمة اجتنبوا بكلمة حرم عليكم وهكذا ... !

ومنه، سنصل بعد كل هذا النقاش المنطقي والعقلي، الذي اختزله الله تعالى في مورد النحل – 116 بكل دقة وتعبير محكم، لما جاء في الكتاب إلى قلب البحث.
قلت أعلاه عن الإثم، وأنه ليس كل الإثم بنفس المستوى الحسابي للسيئات، وليس كل الإثم من الكبائر، وليس كل الإثم من اللمم، فما حدده الله تعالى في القرآن على أنه من الكبائر فهو من الكبائر، وما حدده من الفواحش فهو من الفواحش، وما حدده من اللمم فهو من اللمم، وما حدده من الفسق فهو من الفسق، وهكذا، ومعيار حسن من سوء ذلك الإثم لا نعلمه نحن بل هو عند الله تعالى وهو من سيقوم بالحساب على أساس معياره الذي وضعه في الكتاب من حسنة أو سيئة، ولكننا نستطيع علم مستواه في احتوائه الإثم فقط، من خلال توصيف الله تعالى له.
ومن هذا المنطلق يجب أن ندرس كل ما وُصِفَ بأنه يُكسِبُ إثما لمرتكبه، فالزنى وقتل النفس بغير حق إثم كبير وفاحشة وظلم .. الخ، بينما الإستقسام بالأزلام ليس فاحشة بل فسق وفيه رجس، والخمر فيه رجس، وهي درجات مختلفة لأمور مختلفة، وليس مقامها هنا أبدا، فلكل مقام مقال، وحين يقول تعالى أن من يأكل الميتة مضطرا فلا إثم عليه، فهو وصف الله تعالى للحدث، حتى لو كان تجاوز الخطوط الحمراء من المحرم، فبالفعل لا إثم عليه، فخرق أمر الله تعالى بتحريم الميتة من اللحم يؤدي إلى إكتساب إثم بارتكاب ذلك الخرق!
 فكما قلت، الإثم في كل خرق لأي أمر من أمور الله تعالى التي فيها نهي أو تحريم أو بيان بكون ذلك الشيء يحمل فيه إثما كما في الظن السيء، فالظن ليس إثما ولكن قد يحمل في بعضه الإثم إن كان ظن السوء! فكلمة إثم مرتبطة بكل الأوامر الإلهية بأنواعها.ومثل هذا "الحدث أو الأمر" ورد في القرآن الكريم مرتين، الأول بلا ربط للإثم ابدا، والثاني أكثر تفصيلا بأن تم نفي الإثم عنه، وهذا بحد ذاته من رحمة الله تعالى في عباده بأن لا يقيسوا ولا يجتهدوا فيما هو بين للجميع، أي ما قد قرره تعالى بذاته:

(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النحل – 115
نلاحظ أنه تم عدم ذكر كلمة إثم هنا! ثم تم تفصيل هذه الاية في موضع آخر:
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة – 173

ثم تم تفصيل الأمر كله وتفصيل كلمة إثم نفسها في مورد آخر:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) المائدة – 3

سبحان الله تعالى عما يصفون، بل هو كتاب مفصل مبين يبين لنا ما فيه! فصل الله تعالى ربط الإثم بالتجانف فيه أي بالتعدي على حد الله تعالى في حرمة ما حرمه، فحين تأكل مضطرا فلا إثم عليك، ولكن حين تتعدى حد الله تعالى مراوغا في الإثم فتكسب إثما، كما اهل السبت، وهذا من طبيعي الأمور! فإن بعض الظن إثم!

وهناك أنواع من الإثم كما ذكرت أعلاه، منه ما هو إثم، ومنه ما هو إثم مبين، ومنه ما هو إثم عظيم، ومنه ما هو كبائر الإثم ... وهكذا، وكذلك ليس من المنطق والعقل وفقه القرآن أن نجعل من الإثم إثما عظيما، فالشرك إثم عظيم، والشرك ورد نص صريح بتحريمه! (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الأنعام – 151
 
ومنه، أرى والحمد لله بكل بيان، أن ربط كلمة إثم بكلمة حرام هو من باب عدم التدبر لأوامر الله تعالى المختلفة الأنواع والمستويات، منها ما قد نفقه مستواه، ومنها ما هو من الغيب لا شأن لنا به، فنؤمن به على أنه من العلي القدير. بل وليس علينا الخوض في شيء بين من بحث وقياس واجتهاد في قوله تعالى (وَمَا بَطَنَ ) حين يوردها تعالى في مقابل (مَا ظَهَرَ ) منها!


بناءا على كل ما سبق، سآتي ببعض الآيات التي قد يبدو للوهلة الأولى، لمن اختلطت عليه الأمور، أن فيها إختلاف أو تعارض لما قمت به من دراسات هنا وفي مقال عن الخمر والطعام، وذلك بعدم التفريق بين حمل الشيء للإثم وكونه إثما بحد ذاته!

لنتدبرها ونرى هل فهمنا يخالفها أم يتفق معها:
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الأعراف – 23
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الأنعام – 151
وفي هاتين الآيتين ورد أسماء بعض الأشياء، منها الفواحش والإثم والبغي بغير حق وان نشرك بالله تعالى ما لم ينزل به من سلطان ولا نقتل النفس التي حرم إلا بالحق وأن لا نقول على الله تعالى ما لم نعلم!

من الضروري لكل من يقول في الحرام والحلال في دين الله تعالى القيم أن يعي جيدا تحذير الله تعالى في الإفتراء عليه الكذب وحرمته، فأن تقول على الله تعالى ما لا تعلم هو محرم قطعا، وبهذا أي اجتهاد ليس مذكور صراحة في القرآن الكريم هو محرم لا يجوز الخوض فيه فإنه من باب عدم العلم، والعلم نستقيه من القرآن الكريم وحده وليس من فهمنا ورأينا وما عهدناه من مجتمعاتنا ومما هو حولنا من عادات وتقاليد.

أولا، هي انقسمت إلى جزئين، جزء يحمل طابع المسميات وجزء يحمل طابع الفعل، فكان الفواحش والبغي والإثم من "أسماء" أشياء حرمت "بذاتها - عينها"، وورد الفعل في "تشركون و تقتلوا وتقولوا". من الطبيعي أن نفقه سبب هذا التقسيم وعلته، فلا بد من عبرة وحكمة في هذا النوع من التعداد، ومن فهمي لما تم تعداده، أرى أن الله تعالى يحرم أن نشرك به ما لم ينزل به من سلطان، فإن نزل به سلطان فلا بأس، وإلإشراك بالله تعالى أنواع، منه أن نشرك معه آلهة أخرى، أو نشرك معه من له حكم معه، أو نشرك معه رب آخر، فهو ثلاث مستويات من الإشراك بالله تعالى حسب سورة الناس، ولهذا ورد الشرك والقتل والقول على الله تعالى بشرط، فهي أفعال بينة هي بذاتها محرمة وإثم كما تم وصفها فقط، وليس بشكلها المطلق. فهناك قتل خطأ وغيره من أنواع القتل التي هي ليست محرمة، أي القتل بالحق وتم تفصيله، ولكن، وبشكل عام، هذه التي تم ذكرها هنا هي من كبائر الأفعال.
والإثم هنا الذي تم ذكره يقع مع البغي والفواحش كأسماء وليس هو إثما يكتسب وإنما الإثم كعين الشيء!
اي الشيء الذي يكون بذاته إثم، ولا يمكننا التلاعب فيه، ومن الجديربالذكر هنا أيضا، أن كل ما ذكر في هاتين الآيتين "فيه إثم"، وإلا كانت النتيجة أن بعض الحرام، مما ذكر، ليس إثما بسبب ذكر الإثم الإسم معه!

 وهذا الفهم ناتج من الخلط في فهم كلمة "الإثم" هنا مع مما فيه إثم منها كلها، فكل ما هو محرم أساسا، إن عصينا تحريمه وارتكبناه، فيه إثم مكتسب، أي أن القتل فيه إثم والشرك فيه إثم وغيرها مما ورد فيه إثم، فلم تم تسمية الإثم هنا؟ لأنه ليس صفة بل إسم لشيء يحمل الإثم في ذاته! وفيه إثم كما القتل والبغي وغيره.
 
أن اسمي شيئا بصفة ما، هو أن اجعل من ذلك الشيء عين الصفة، فأن اقول ان اسم شخص "كريم"، هو ان اجعل ذاته من حامل الكرم في ذاته، فهو بذاته كريم ويكرم ويتصف بالكرم.
ومن ذلك تسمية الله تعالى للقرآن الكريم بأنه (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )، أي اصبح القرآن بعينه مجيدا لا يبلى ابدا يحمل صفة وعين المجد في ذاته!
وردت الفواحش، وورد أمرين بها هنا، أمر بعدم الإقتراب منها، وأمر بتحريمها، وهذا يدل على مكانة ومستوى التحريم، ولمن شاء الإستزادة في فقه الفواحش وحرمتها ومستوى إثمها فما عليه إلا أن يبحث عن كل أمر يتعلق بها وسيعلم أن الله تعالى فصلها في كتابه العزيز، وهي أمور تم وصفها في القرآن الكريم بفاحشة، ومنه، كل فاحشة فهي حرام، فأينما وصف الله تعالى عملا أو قولا أو فعلا بفاحشة فيكون حراما! هذا هو الحد المسموح لنا بالقياس والإجتهاد فقط، ولن نغلو في ديننا كما فعل من قبلنا من شرع الإصر والأغلال والشرع الأرضية.

وتبقى علينا مسألة الإثم في الآية!
أولا: الإثم في مورد الأعراف جاء معرفا.
ثانيا: وجاء إسما وليس صفة لفعل او قول أو عمل.

أي ليس صفة بل إسما لشيء، فالله تعالى لم يحرم كل ما اتصف بالإثم، وإلا جعلنا من دين الله تعالى القيم المخفف دين إصر وأغلال بكل ما تحمله الكلمة هذه من ارتدادات!
وهنا يكون فهما إعتباطيا محضا لدين الله تعالى المخفف للإصر والأغلال! فكلمة الإثم هنا لم تطلق على كل ما اتصف بإثم صفة مكتسبة بل الإثم الذي يجعل صاحبه أثيما!
 والإثم هنا لم يرد مع شيء ملحق به، مثل إثم عظيم، كبائر الإثم، إثم مبين، بل جاء معرفا بالألف واللام لوحده إسما!

وللتبسيط، اقول، القرآن لا يبلى وهو صالح لكل زمان ومكان لأن اسمه القرآن المجيد وليس صفته المجيد!
 
أي أن من يحمله يصبح كما الإسم، فقولنا فاسق جاء من الإتصاف الدائم بالفسق، فكان في عينه الفسق، وقولنا لئيم جاء من الإتصاف الدائم باللؤم، وقولنا بخيل جاء من حمل إسم بخيل، وهو كثرة البخل المتأصلة في الإنسان فيكون إسمه من اسم الصفة!

ومن هو يكثر في فعل ما يكسبه الإثم حتى يكون في دمه وحياته فهو أثيم عند الله تعالى كما بخيل وكريم ولئيم وغيرها.
وهو ما نص عليه الله تعالى هنا، فالإثم الذي حرمه هو الإثم الذي لا يتركه صاحبه ويتصف به أيا كان نوع هذا الإثم وحجمه مما نص عليه القرآن الكريم. وهذا ما يجب أن نبحث عنه.

فحين قال تعالى (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) القلم – 12، كانت هذه إحدى صفات الأثيم، وله صفات كثيرة لمن اراد البحث في صفاته، فتم تسميته بالأثيم، وطعامه في جهنم طعام الأثيم (الدخان – 44) ، وهو من كان الإثم مرافقا له في حياته كلها، بل الأفضل أن نفصل صفاته هنا حتى يتبين لنا الفرق بين الإسم والصفة للشيء:
(وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) المطففين – 12
(مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) القلم- 12
(وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) الجاثية- 7
(طَعَامُ الْأَثِيمِ) الدخان- 44
(تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الشعراء- 222
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) النساء- 107
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) البقرة – 276

وبكل بيان نرى من الآيات السابقة أن الأثيم هو من كان الإثم يجري في دمه ليلا ونهارا ، فمن يتعامل بالربا هو يعيش على الربا ليل نهار، وكل خوان لا يكون خوانا إلا إن كانت نفسه قد جبلت على الخيانة، وكل مناع للخير لا يرجو لقاء ربه، وهي كلها أمور حملت إثما بارتكابها، فلما تأصلت في نفس من يرتكبها، دعت المسألة إلى تسميتهم بالأثيم، لكثرة عتيهم في الإثم، وليس بسبب إرتكابهم إثما ما!


______________

تعميم المخصص:


الإثم كإسم معرف هنا – أكرر- ليس هو نفس ما نكتسبه من إثم نتيجة عمل شيء ما من أعمال السوء.
وإلا كان كل ما ورد في القرآن من نهي وأمر ومكروه واجتناب وعدم اقتراب وكثرة ظن بل وقلة ظن وغيرها، كله من  لمم أو غير لمم فكله فيه إثم، وكان حراما! وهذا يخالف كثير من الآيات التي تحدد ما حرم الله تعالى علينا! فهناك آيات بينات عما حرمه الله تعالى علينا، ولا أعرف كيف نتخطاها ونغض البصر عنها! هي آيات بينات لا يختلف عليها إثنان، وكأن في القرآن اختلافا كثيرا!، ولكن الإختلاف في فهمنا للكلمة وموضعها ومساقها وماهيتها وما تختلف فيه عن غيرها وليس في القرآن الكريم بحمد الله ونعمته.

ولكل كلمة مقامها، ولا تبدل بكلمة غيرها!

وتعميم التحريم يدخلنا في متاهات لا نهاية لها من إصر وأغلال مما رغب فيه وتمناه أهل الكتاب حسدا لكي يقنعوا من حولهم أن هذا الدين ليس هو الدين المخفف بل هو من وضع أرضي، وأن الدين المخفف غيره، وهو ما حاولوا فعله مما شرحته في مقالات سابقة بإسهاب.

ويكفينا ما أورد الله تعالى من قول أدناه عن منعه النبي من تحريم شيء حلله الله له، بسبب رغبة في إرضاء أزواجه! فكيف بنا نرضي من حولنا من عشائرنا، ممن اعتاد على عادات وتقاليد محصورة فيه، وليس في سكان الأرض كافة! وكتاب الله تعالى بين أيدينا بين مفصل!


وأذكر وأكرر قبل إنهاء البحث من أنه لا حق لأحد في تحريم شيء لم يرد تحريمه، بل القيام بذلك هو من باب القول على الله بما لا نعلم وهو محرم فعل ذلك:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التحريم – 1
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل – 116
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النحل – 35
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ
 هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) الأنعام - 148
(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ
 آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْأَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) يونس – 59
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) التوبة – 37
(قُلْ
 مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
 قُلْ
 هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأعراف – 32

(قُلْ
 هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا
فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * قُلْ
 تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الأنعام – 150:150

ولن أعلق على هذه الآيات التي هي بينات بحد ذاتها، والعاقبة للمتقين.


إنتهى.

والله المستعان

ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه –فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.

مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرآن الكريم

اجمالي القراءات 23784