العسكر سبب خراب الريف المصرى.. فهل سيقوم الاخوان بتعميره ؟

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٤ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أوّلا : بعد60 عاما من حكم العسكر ( 1952 : 2012) ماذا جرى للريف المصرى ؟

1 ــ قام عبد الناصر بإيجابيات منها إعادة توزيع الثروة الزراعية بما يعرف بالاصلاح الزراعى ، بتحديد الملكية الزراعية وتوزيع أراضى على الفلاحين ، وأقام السد العالى ، وأنشأ الجمعيات التعاونية ، وجعل للعمال والفلاحين نسبة النصف فى مجلس الأمة ( الشعب ) وتعليم أبناء الفلاحين والعمال ، ولكن إستحدث سلبيات أهمها تحكّم الحكومة فى الفلاح فأصبح مجرد ( حائز ) للأرض وليس مالكا لها ، وتدخلت الحكومة فى كل شىء من خلال الجمعيات التعاونية وتحديد الدورة الزراعية وإرغام الفلاح على مقاومة دودوة القطن بالبوليس والتعذيب ، وإلزامه بتوريد المحصول بالسعر الذى تحدده . أى أعاد عبد الناصر نظام الاسترقاق بصورة عصرية شيوعية . والايجابيات التى حققها عبد الناصر أثمرت سلبيات خطيرة ، فالسد العالى كان لا بد من مواجهة آثاره السلبية فى ضعف التربة بعد توقف السماد الطبيعى ( الغرين الذى كان يأتى مع الفيضان من قبل ) وإرتفاع مستوى المياه الجوفية بما يهدد الأرض الزراعية وأراضى العمران والمساكن ..وكان مفروضا علاج هذا بشق ترعة تلتف حول السد العالى تحمل فرعا جديدا يجلب الغرين السماد الطبيعى و يفتح طريقا جديدا للعمران موازيا للنيل . واصلاحات أخرى لم يقم بها عبد الناصر بسبب نكسة 1967 وبسبب العادة المصرية الأصيلة فى عدم الاهتمام بالتشطيب ، وإفساد الطبخة الفخمة بسبب قليل من الملح. كما إن تعليم وتوظيف ابناء الفلاحين أدّى الى تحولهم الى عمالة زائدة من الموظفين تسهم فى تدخل البيروقراطية للدولة المصرية العميقة فى كل شىء لتعطّل كل شىء وتعقّد كل شىء وتفسد كل شىء . هذا مهّد  الطريق السريع للإنحراف ، فالموظف راتبه قليل ونفوذه هائل ، وعلاج الفجوة بين المرتب القليل والنفوذ الكبير بالرشوة واستغلال النفوذ، خصوصا مع التوسع فى الادارة المحلية وتضخم نفوذها . 2 ــ سيئات هذا النظام الناصرى ظهرت فى عصر الانفتاح الذى جمع بين الأضداد :( رأسمالية السادات وإنفتاحه الاقتصادى مع نظام عبد الناصر وقوانينه الاشتراكية ) ، وعلاج الفجوة بين النقيضين وقوانينهما وقرارتهما المتضاربة يكون فى يد المسئولين من صغار كبار الموظفين وكبار صغار الموظفين ، وهذا العلاج المطلوب للإستثمار يستلزم (تفتيح المخ )، فالموظف المسئول الذى بيده تعطيل المشروع بل وحبس صاحبه بالقانون هو نفسه أيضا الذى يملك إقرار المشروع بالقانون، ولأنّ مرتبه قليل بل زهيد بالنسبة للقرار الذى سيتخذه والذى يمكن أن يدرّ عائدا بالملايين على صاحب المشروع فلا بد أن يستفيد من صاحب المشروع ، إما إستفادة مالية مباشرة أو مشاركة له عن طريق الزوجة والأبناء. وهكذا مهّد عبد الناصر لفساد عصر السادات. 3 ــ وكان الريف المصرى الأكثر تأثرا بهذا الفساد ، فتعاظمت الهجرة من الريف للقاهرة والمدن الكبرى فأحاطتها بالعشوائيات وسكن القبور ، ونشرت بؤر الاجرام وملأت الشوارع بالمتسولين والبلطجية وأطفال الشوارع . وجاء الحل جزئيا فى هجرة العمالة المصرية والفلاح المصرى الى دول الخليج والاردن ، وأثمر هذا عن هجر الأرض الزراعية وعودة المغترب ليبنى بيتا جديدا من الطوب الأحمر على الأراضى الزراعية فتضاءلت مساحة الأرض المزروعة وتم تجريفها فى صناعة الطوب الأحمر ، وتحولت القرى المصرية الى نظام مشوّه ، لا هى بالمدينة ولا هى بالقرية . انتشرت فيها المخابز والعمارات وفى شوارعها الضيقة يجرى التوكتوك بينما تضاءل عدد الزرائب وعدد الأبقار والماشية والأفران المنزلية ، وأصبح الريف مثل المدن يعتمد على مزارع الدواجن والماشية بعد أن كان يزوّد المدينة بمنتجاته من الحبوب واللحوم البيضاء والحمراء ومنتجات الألبان . بل صارت مصر كلها تعتمد على الخارج فى توفير رغيف الخبز الذى أصبح سلعة سياسية يستلزم المليارات لتدعيمه بحيث لو توقف دعمه سقطت الحكومة .

4 ـ وصلت مصر الى الحضيض خلال ثلاثين عاما من حكم مبارك؛ تناقصت مساحة الأرض الزراعية التى يتقوّت منها ملايين المصريين ، وأنفق مبارك البلايين فى تعمير الساحل الشمالى وخليج السويس وسيناء والبحر الأحمر ليس فى استصلاح الأراضى والتعمير ، ولكن لراحة الفاسدين من عصابته .

 ثانيا : هل سيقوم الاخوان بإصلاح ما أفسده العسكر ؟

1 ــ  ترك مبارك تركة مثقلة ليقوم بحلّها أعجز الناس عن الحلّ ، وهم الاخوان والسلفيون.

حتى الآن نراهم ينشغلون عن مواجهة كارثة المجاعة القادمة بأخونة الدولة وسيطرة السلفيين الوهابيين على الاعلام والتعليم وشتى مفاصل الدولة ، وجعل الوهابية الشريعة الدستورية لمصر. هذا هو طريقهم فى مواجهة المجاعة القادمة . منهم من تخرّج فى كليات الطب والهندسة والزراعة والاقتصاد وشتى الكليات العملية الحديثة ، ولكنهم عاشوا على قشور من كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب ، وأنفقوا حياتهم جهادا فى سبيل نشر الوهابية (كما يفعل السلفيون) والوصول للحكم (كما فعل الاخوان)، وبالتالى فلا يعرفون فى تخصصهم السابق فى الطب والهندسة وغيرها ، وليسوا متخصصين فى تراث الوهابية التيمية الحنبلية السّنية دينهم الأرضى. هم رقصوا على السّلم ، ولا يزالون يمارسون هذا الرقص فى عملهم السياسى، وسيظلّون الى أن ينتهى بهم الحال فى الرقص على جثة مصر.!!

2 ــ هؤلاء الوهابيون المصريون يتعلّقون بالماضى ويريدون إرجاع مصر اليها ، ولكنهم فى جهلهم وتخلفهم يعجزون عن الاستفادة من بعض الايجابيات التى كانت فى هذا الماضى .

دعنا نعطى لمحة عن بعض إيجابيات الماضى التى لا يعرفون عنها شيئا مع تعلقهم بهذا الماضى .

ثالثا : لمحة تاريخية عن الريف المصرى بعد الفتح العربى

1 ــ بعد الفتح العربى لمصر أبقى الخليفة عمر بن الخطاب الأرض الزراعية في أيدي الفلاحين المصريين ووضع عليها الخراج ، إلا أنه ساوى بين الأرض العامرة والأرض المعطلة في استحقاق الخراج عليها حتى يضطر صاحب الأرض المعطلة إلى إصلاحها والعمل فيها. ثم أفتى الإمام أبو حنيفة بإعفاء الأرض من الخراج إذا تعرض المحصول للآفات أو الغرق أو أية كوارث. وتتابعت الولاة على مصر من أمويين وعباسيين وثارت بينهم الفتن والإضطرابات ، وقام الأقباط بثورات متتابعة ، ولكن استمر الفلاح المصري في إنتاج الخير لأن الولاة وخصومهم ابتعدوا عن الفلاح بمشاكلهم وتركوه يزرع . واهتموا في اغلب الأحوال بالإصلاحات العامة في الري وإقامة الجسور والكباري ، وكان من العادة أن يتم الاقتطاع من دخل الخراج للإصلاحات الزراعية ، وبذلك اكتفى الفلاح شرهم ونعم بإصلاحاتهم فأنتج وزرع وحصد . ومن هنا لم يكن غريبا أن تعم الثورات في المدن المصرية فى القرنين الأول والثانى من الهجرة بينما يظل الريف ينتج الخير كما اعتاد ونضرب لذلك أمثلة تاريخية .

2 ــ في خلافة المأمون العباسي ثار الأقباط ثورات متتابعة كان أعتاها في الصعيد حتى لقد استطاعوا طرد الموظفين العباسيين من المدن ، وجاء الخليفة المأمون الى مصر بنفسه في 10 محرم 217 هـ ، فعزل الوالي العباسي عيسى بن منصور الرافقي وعاقبه وحمّله مسئولية الثورة لأنه ظلم الناس وحمّلهم ما لا يطيقون. وبعد أن قضى المأمون على الثورة أخذ يطوف بالقرى المصرية ، ومرّ بقرية صغيرة اسمها ( طاء النمل ) فلم يدخلها لأنه إستحقرها ، فخرجت له صاحبة القرية واسمها مارية القبطية ، تصيح فيه أن ينزل عندها ، فاستجاب لها ، ونزل عندها بعسكره وقواده ، وكان معه أخوه المعتصم وابنه العباسي والقاضيان يحيى بن أكثم وأحمد بن داود. وقد ذكرت الروايات أصناف الطعام الذي قدمته لهم المرأة مما ابهر الخليفة ومن معه . وعندما عزم الخليفة على الرحيل جاءته بعشر وصيفات مع كل واحدة منهن كيس من ذهب قد تم ضربه في عام واحد . أي انه إيراد عام واحد . ومازالت بالخليفة حتى رضي بأخذ المال ، وقد أخذت المرأة قطعة من الطين وقالت يا أمير المؤمنين هذا ( وأشارت إلى الذهب ) من هذا ( وأشارت إلى قطعة الطين ) ثم من عدلك.!. فأخذ منها المال واقطعها عدة ضياع ومائتي فدان بغير خراج . ومن هذه الرواية تعرف أن الثورات والفتن في المدن المصرية لم تؤثر على وجود الرخاء في الريف طالما تركوا الريف في حاله وأصلحوا شأن الرى والصرف والكبارى والجسور، وعدلوا فى أخذ الضرائب بلا إرهاق للفلاح .

3 ــ  وعمرو بن العاص أعطاه معاوية مصر طُعمة له ، أي يستأثر لنفسه بخراجها بعد أن ينفق على الجند ومصالح الريف. وأحسن عمرو إصلاحات الريف وجنى الخير لنفسه . وحين مات عمرو ترك عند وفاته ( 140 ) إردبا من الدنانير ، جاءته من خيرات الريف المصري !!

ويذكر المقريزي أيضا أن أبا الحسين المارداني أحد الموظفين الكتاب لمؤنس الخادم كان إيراده من قرية مشتول وحدها ستين ألف إردب قمحا ، ويقول المقريزي " فتأمل ما أشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح " !! ). وكان أبو بكر المارداني قد حج اثنتين وعشرين حجة متوالية انفق في كل حجة مائة وخمسين ألف دينار ، وقد كان ذلك الرجل يصنع في العيد الكعك المحشو بالسكر المسمى " افطن له " وكان يخبئ فيه الدنانير الذهب ولذلك سمي " افطن له " . والمقريزي بعد أن أورد هذه الأخبار وغيرها  عن رخاء مصر في العصر العباسي الثانى قال يتحسر على أحوال مصر في عصر عسكر المماليك الجراكسة " فتأمل ـــ أعزك الله  ــ ما يشتمل عليه عظم ما كانت عليه مصر وسعة حال الديوان .. ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية أخذوه من الناس بغير ثمن .. "

4 ــ والأسباب كثيرة في تدهور مصر في عصر المماليك ، أهمها وصول الفتن المملوكية إلى الريف المصري وتدخل الحكومة المملوكية في حياة الفلاح المصري حيث تم توزيع الأراضي الزراعية أقطاعات على الأمراء المماليك من الصغير للكبير ، فدخلوا إلى أعماق القرى فأفسدوها بظلمهم وحمقهم وفسادهم. ولو اقتصر فسادهم وظلمهم وتدخلهم على المدن والقاهرة وظل الريف بمنأى عن فسادهم لعاشت مصر كلها في رخاء مثلما كان عليه الحال قبل الدولة المملوكية .ـ

5 ــ ويبقى لنا من التاريخ العظة والاعتبار ، وعنوان كتاب المقريزي هو " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".

فالمماليك سلطة عسكرية تذكّرنا بحكم العسكر المصرى : ( 1952 : 2012 ) . احتكر العسكر المملوكى كل السلطات  وتدخلوا بعقليتهم العسكرية في كل شيء لتفسده وتزيده ظلما. وباستمرارهم في الحكم ازدادت الأحوال سوءا وازداد الناس فقرا وازدادت الأسعار ارتفاعا..

 ونضرب لذلك بعض الأمثلة : فالمقريزي يذكر أن الأسعار ارتفعت في شهر رمضان سنة 783 حتى بلغ الإردب القمح أربعين درهما ثم وصل في ذي القعدة ستين درهما ، ويقول إنّ ذلك جعل الناس يجأرون بالشكوى بعد أن كانوا يستنكفون منها ، يقول " وكثرت الشكاية في الناس جميعهم .. فكانت الشكاية مما تجّدد ولم يكن يعرف ، بل أدركنا الناس إذا شكا الناس أحد من الناس حالة عُدّ عليه ذلك ( أى عابوا عليه أنه يشكو )، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو .. " .!!.

ألا يصف المقريزى بالضبط ما يحدث الآن فى مصر ؟ .

وبعد المقريزي ازداد الغلاء فقد وصل إردب القمح في أول رمضان سنة 873 في عصر قايتباي 1300 درهما !! أي ارتفع القمح في نصف قرن من أربعين درهما إلى 1300 درهما.

أليس هو نفس ما يحدث الآن ؟ حين نقارن بين الأسعار فى عهد عبد الناصر وقيمة الجنيه المصرى وقتها بأسعار هذه الآيام ومسكنة الجنيه المصرى فى مواجهة الأسعار وسعر الذهب وسعر العملات الأخرى من الدرهم والدينار والدولار ؟ .

فى العصر العسكر المملوكى والعسكر المصرى استمر السعر في ازدياد لأنه لا تغيير في السياسة التي لا تجيد إلا الفساد وضيق الأفق .ولو اكتفى المماليك بإصلاح الري وتركوا الفلاح في حاله ينتج الخير لما تفاقم الأمر إلى هذا الحد. وانظروا إلى حال الريف بعد قيام ثورة العسكر 1952 . فقد أعادت فلسفة الحكم العسكري وتدخلت في كل شيء لتفسد كل شيء فأصبحنا نتمتع بالغلاء والديون والتضخم والتسول من الخارج .

أخيرا : نصيحة لغلمان إبن عبد الوهاب وإبن تيمية فى مصر  

1 ــ طالما تقدّسون الماضى و( السلف الصالح )، ماذا لو استفدنا من التاريخ وتقلصت سلطات الحكومة وتركت الناس يزرعون كما أرادوا ، ويبيعون أنتاجهم كما شاءوا وتركتهم يستصلحون الصحراء بدون إذن من إحدى عشر جهة حكومية ؟ وبدون آلاف التوقيعات والتأشيرات والاسترحامات والوساطات ؟ . أليس من الأفضل ــ بدلا من أخونة الدولة ـ أن تركّزوا على إصلاح الدولة بعد أن أفسدها جراد عسكر يولية 1952 ؟   

أليس من الأفضل فتح الطريق للهجرة الداخلية فى مصر الى الصحراء وسواحل البحرين المتوسط والأحمر وسيناء ، وذلك بإلغاء كل المعوّقات البروقراطية وتسهيل السّبل أمام القطاع الخاص والاستثمارى لبناء المرافق وشق الطرق السريعة المجهّزة التى تصل من عنيبة وشلاتين وحلايب جنوبا على البحر الأحمر الى وادى حلفا على النيل وبحيرة ناصر وشمالا الى سيوة والسلّوم فى الساحل الشمالى وشرقا الى طابا وراس محمد والطور والعريش فى سيناء مرورا بقناة السويس والقاهرة والاسكندرية ودمياط والواحات والدلتا والصعيد ؟؟

2 ــ إرحموا أنفسكم من الوادى الضيق الذى أفسدتموه ، وإرحموا أنفسكم من القاهرة وزبالتها ومن الريف وتشويهاته وانطلقوا الى 96 % من مساحة مصر البكر النقية التى تنتظر سواعدكم وإهتمامكم .

اجمالي القراءات 11491