كائنة الشيخ البقاعي فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٠ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الثانى : أحوال الشارع المصري في ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى:

الفصل الثالث عشر : كائنة الشيخ البقاعي فى عصر قايتباى

لمحة تاريخية

1 ـــ فى حربه للتشيع وبعد إسقاطه للدولة الفاطمية أغلق صلاح الدين الأيوبى الأزهر وسائر المؤسسات الشيعية ، وإستقدم صوفية أسكنهم خانقاه سعيد السعداء، ونشر التصوف السّنى ليواجه به:التشيع، والتطرف الصوفى والتطرف السّنى معا. يواجه التطرف الصوفى فى إعلان وحدة الوجود والاتحاد بالله ــ جل وعلا ــ والزعم بحلول الله ـــ جل وعلا ــ فى الولى الصوفى ، وأيضا يحارب التطرف السّنى الذى يفرض عقائده على الآخرين أو يتدخل بزعم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى شئون الناس أو فى تصرفات الحكام . بالتصوف السنى تنحصر السّنة فى مجال التقاضى فى الأحوال الشخصية والمدنية وتكريس طاعة الحاكم المستبد ، والايمان بأولياء التصوف وكراماته وغضّ الطرف عن التدخل فى حياة الناس مهما بلغ الفجور.

2 ـــ  بعد الأيوبيين ورث المماليك هذا التصوف السّنى. وباعتبارهم طبقة عسكرية مجلوبة من الخارج لا شأن لها بالخلافات الدينية بين التصوف والسنة والتشيع ولا تعرف الخلافات الدقيقة بين المذاهب السنية فقد كان المناسب لها وجود فقهاء جهلة سطحيين لا يعرفون سوى الطاعة للمستبد ، لذا راج فى عهدهم تلك النوعية من الشيوخ الذين جمعوا بين الجهل والسقوط الخلقى والوضاعة والحقارة .وقام مؤرخنا إبن الصيرفى بتسجيل بعض مساوئهم دون أن يتطرّق بالطبع لمساوئه هو الشخصية أو مساوىء سادته مثل كاتب السّر أو كبار المماليك من السلطان قايتباى فمن دونه ، بل ملأ كتابه نفاقا لهم وتعظيما لشأنهم ودعاءا لهم بالنصر. لم يكونوا ملائكة قليلة الحيلة فى غابة من الشياطين. بل كانوا عتاة الإجرام المحرّكين للمشهد والمسيطرين على الساحة ، وقد كانت بهم خاملة راكدة آسنة منحطّة.

3 ــ فى بيئة الخمول هذه سار عصر قايتباى . وكان من الممكن أن يظل عصر قايتباى يسير في طريق الجمود ويعيش في سكون رتيب لولا كائنة الشيخ البقاعى التى أحدثت هزة في تلك البركة الساكنة فاهتزت لبعض الوقت ثم عادت إلى سكونها وجمودها، وظلت هكذا تشد الناس إلى حضيض التأخر إلى أن استيقظ المجتمع المصري على زلزال الحملة الفرنسية فبدأ طريق الصحوة العلمانية الحداثية. ثم عادت مؤخرا ظلمات عصر قايتباى مع الوهابية منذ عهد السادات، ووصلت الى سدّة الحكم فى مصر تهدد حاضرها ومستقبلها.

4 ــ التطرف السّنى الحنبلى سيطر على العصر العباسى ثلاثة قرون تقريبا، من القرن الثالث الى القرن السادس ، ثم أخذ التصوف فى السيطرة إلى أن تحكم وتسيّد فى العصر المملوكى. ولكن إستيقظ العصر المملوكى مرتين على محاولتى ( ردّة ) قام بها السنيون الحنابلة لفرض دينهم السنى المتشدّد والثورة ضد التصوف السّنى المعتدل .الأولى فى حركة إبن تيميه ومدرسته في القرن السابع، وفي المرة الثانية بفعل كائنة البقاعي في أواخر القرن التاسع والتى نعرض لها هنا ، وكانت أقل من سابقتها تأثيراً مما أتاح لأعدائها أن يخمدوها مبكراً ، ثم حاولوا طمس معالمها في التاريخ فظلت مجهولة إلى أن كان لنا شرف اكتشافها في رسالة علمية ومؤلفات لاحقة.

كائنة البقاعى فى المصادر التاريخية المعاصرة لها

1 ـــ مؤرخنا ابن الصيرفي عاصر كائنة البقاعي وذكر أحداثها من موقع التحامل عليه كما فعله الآخرون ، ويبدو أنه قال بعض الحق في إنصاف البقاعي حين ترجم له في السنة التى توفي فيها وهي سنة 885، ولكن هذه الترجمة ضاعت بقيتها من الكتاب، ونبّه محقق كتاب الهصر على ضياعها دون تفسير.ولكن عندى التفسير، فقد تتبعتُ كائنة الشيخ البقاعي من خلال مصادر التاريخ المعاصرة للحدث، فوجدت بعض إشارات لها في تاريخ السخاوى "الضوء اللامع" فيما ترجمه للبقاعى بالإضافة إلى ما كتبه فيما بعد ابن إياس نقلاً عن السابقين، ورأيت في تلك الكتابات تحاملاً على الرجل يحاول طمس الحقيقة التى تلمع بين السطور.

2 ـــ وعدت إلى مؤلفات البقاعي لأفاجأ بوجود تاريخ له مخطوط كتبه بخط يده لم يكتشفه أحد من قبل ، وقد عرض فيه للحركة التى قام بها وكتب ذلك من وجهة نظره بالطبع . وكانت المفاجأة الأكبر أن أعداء البقاعي بعد موته قد عبثوا بذلك المخطوط كما عبثوا بتاريخ ابن الصيرفي، فقاموا بخلط أوراق المخطوط وكشط الأسماء التى ذكرها البقاعي عن أولئك الذين تآمروا ضده، خصوصاً اسم شيخ الطريقة الصوفية الذى قاد الحملة ضد البقاعي.. واستلزم ترتيب الحوادث التى ذكرها البقاعي في تاريخه منى وقتاً، ثم قارنتها بالأحداث التى ذكرها المؤرخون الآخرون المتحاملون على البقاعي، وخرجت بترتيب للحوادث يجعلها أكثر منطقية في ضوء الفهم الصحيح للعصر المملوكي وعصر قايتباى.

ونبدأ بالتعريف بالبقاعي:

1 ــ هو إبراهيم بن عمر بن حين، يقول عنه مؤرخنا الصيرفي "الإمام العلامة المحدث البقاعي الشافعي. اشتغل كثيراً ونبغ وفضُل . وقد ولد البقاعي بقرية خربة روحاً في البقاع بسوريا، ونشأ بها ثم دخل دمشق ، وفيها جوّد القرآن ، وجوُد حفظه ، وأفرد القراءات ، واشتغل بالنحو والفقه وغيرهما من العلوم، وتتلمذ على شيوخ عصره. ). ألى أن يقول عنه ابن الصيرفي : ( ولازم شيخنا مشايخ الإسلام قاضى القضاة حافظ العصر خادم السنة والأثر الشهير نسبة الكريم بابن حجر رحمهم الله وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين،) أى كان البقاعى زميلا لابن الصيرفى فى التتلمذ على يد إبن حجر العسقلانى . ويستمر ابن الصيرفى فى التأريخ للبقاعى فيقول : ( وصنّف وكتب ،وضبط أسماء الرجال، وخرّج في الحديث العالى والنازل، ورقّاه قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر حتى جعله قارئ البخارى في القصر بقعلة الجبل بحضور السلطان في دولة الظاهر جقمق، وكان يثني على قراءته وفصاحته، وهو كذلك، مع الدين والخير.)   ثم يسرع إبن الصيرفى فيناقض نفسه ويقول عن البقاعى (.إلا أنه سيئ الأخلاق جداً . نعوذ بالله.! ).ـ وهذه طريقة المؤرخين المتحاملين على البقاعي، يثنون عليه ثم سرعان ما يناقضون أنفسهم فيذمّونه، فبعد أن يمدح علمه ودينه ويقول عن أخلاقه: (وهو كذلك مع الدين والخير ) ثم يتذكر عداوته له فيقول مستدركاً: ( إلا أنه سيء الأخلاق جداً نعوذ بالله.). ولو لم يقم البقاعى بثورته تلك ما قيل فى حقّه هذا الذّم . لقد خرج البقاعى عن مألوف عصره ، وما وجدوا عليه آباءهم من تقديس لإبن عربى وابن الفارض ، فعوقب بالذم والشتم ، مع إعترافهم بفضله وعلمه. ( والتاريخ يعيد نفسه فى تعامل عصرنا معنا .!)

2 ــ ونعود لابن الصيرفى وهو ويقول عن مؤلفات البقاعى:( وصنّف كتاباً في مناسبات القرآن ، فقاموا عليه وأرادوا حرق الكتاب ، وتعصب عليه جماعة، وأغروا عليه الأمير تمربغا ، وكان إذ ذاك رأس نوبة كبيراً . وتعصب له جماعة وكتب لهم أسئلة بسببه وكتبوا عليها بمراده..). وبعد هذا انقطعت المخطوطة وضاع جزء من كتاب الهصر للصيرفي إلى أن بدأت أحداث شهر محرم 886 ، ونبّه علي ذلك محقق الكتاب د. حسن حبشى. ويبدو من السياق أن ابن الصيرفي كان يتحدث عن مؤامرة حكيت ضد كتاب البقاعي "مناسبات القرآن" وأن بعضهم تعصب عليه وأثار ضد السلطة المملوكية بينما استمال البقاعي له جماعة أيّدوا منهجه الجديد فيما يعرف بالتفسير. وفي الحقيقة فتلك قضية أخرى مجهولة من صراع البقاعي مع خصومه الصوفية والفقهاء المتأثرين بالتصوف ، ويجمعهم الجهل والحمق .

3 ـــ و(بالمناسبة) فكتاب:(المناسبات القرآنية) للبقاعى هو من أروع ما كُتب في بابه. وهو يبحث في المناسبة بين الآية القرآنية وما قبلها وما بعدها والمناسبات بين السور، وهو باب جديد في الاجتهاد القرآنى، ينبغى أن نقدره حق قدره إذا عرفنا أن ذلك الاجتهاد القرآنى الفريد ظهر في عصر التأخر والجمود والتقليد. وفي عصر سيطر عليه فقهاء الجهل والعار وكان مقياس النبوغ فيه هو حفظ المتون وتلخيص الشروح وشرح التلخيص لابد أن يعاني فيه المجتهد المفكر من حقد الشيوخ الكبار المقلدين الذين لا وقت لديهم للتفكير إلا في الحصول على المناصب والمرتبات والصراع والانحراف الخلقي. وبهذا نفهم لماذا ثأروا على كتاب المناسبات القرآنية للبقاعي، وتبقي التفصيلات الحقيقية التى أضاعوها من تاريخ ابن الصيرفي مجهولة لا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى.

4 ــ وكتاب البقاعي في المناسبات القرآنية لا يزال فيما نعلم محفوظاُ بمكتبة الأزهر ويقع في ستة مجلدات ضخمة، ولا يزال كنزاً يغترف منه الكثيرون المعرفة في تناسق الآيات والسور دون أن ينسبوها لصاحبها. والمؤسف أن  قام السيوطي ـــــ وهو من أعداء البقاعي ــ بتلخيص كتاب البقاعي في رسالة صغيرة سماها "تناسق الدور في تناسب السور" وحتى هذا العنوان سرقه من العنوان الأصلي لكتاب البقاعي في المناسبات القرآنية وهو "نظم الدرر" فيسرقه السيوطي ويلخص الكتاب وينسبه لنفسه تحت عنوان "تناسق الدرر في تناسب السور" . ومن العجيب أن يحظي كتاب السيوطي بالنشر والحمد بينما يظل كتاب البقاعى مخطوطاً بمجلداته الست دليلاً على استمرار مؤمراة التجاهل ضد ذلك العالم السّنى المفكر المجتهد.

5 ــ وللبقاعي تاريخ سجل فيه أحداث عصره باليوم على نسق الحوليات التاريخية. وبالتالى فصّل فيه أحداث الحركة التى قام بها وأحدث هزة في عهد قايتباى الساكن الراكد وتاريخ البقاعي اسمه " الزمان بتراجم الشيوخ والأقران". ووضع البقاعي كتابين في الهجوم على الصوفية هما "تنبيه الغبى فى تكفير ابن عربي" و تحذير العباد من أهل العناد" وقد قام الشيخ عبد الرحمن الوكيل رئيس أنصار السّنة بتحقيق الكتابين وأخرجهما في كتاب واحد عنوانه" مصرع التصوف" وهذان الكتابان أجرأ ما كتب في نقد ابن عربي وابن الفارض.

ونعرف مقدار شجاعة البقاعي حين نعلم أن عصر البقاعي كان ينبض بتقديس ابن الفارض ذلك الشاعر الصوفي المصري المتوفي 632 وأنه كان لابن عربي الشيخ الأكبر للصوفية تأثير هائل على العصر المملوكي برغم أنه قد توفي سنة 638، أى قبل العصر المملوكي، وقبل عصر قايتباى بأكثر من قرنين.

ولم يكتف البقاعي بالتأليف وإخراج كتاب يؤكد فيه كفر ابن عربي وابن الفارض في عصر يدين لهما بالتقديس، وإنما قرن العمل بالعلم وحاول أن يحقق عملياً ما أثبته نظرياً ، فنزل إلى الشارع المصرى في عصر قايتباى يعلن على الملأ الشعبي والملأ الرسمي كفر ابن الفارض ويواجه بمفرده اللعنات والمكائد والحروب والمؤمرات . وتلك ما يعرف بكائنة البقاعي وابن الفارض والتى حدثت سنة 874: 875هـ. ووصل العلم بها للسلطان قايتباى .

والآن إلى وقائع كائنة البقاعي من خلال ما قاله البقاعي وخصومه.

خطوات كائنة البقاعي:

1 ــ بدأ الموضوع يوم الاثنين 14 شوال 874، إذ انتهز البقاعي فرصة تكريم السلطان لكاتب السر إبن مزهر الأنصارى فذهب لكاتب السر وهنّأه ، وطلب أن يخلو به ليسلمه رسالة تتضمن الحكم في تكفير ابن الفارض بسبب ما قاله في قصيدته التائية الكبرى من شعر فيه كفر صريح في أنه لا فارق بين الخالق والمخلوق جلّ في علاه . ويقول البقاعي: ( وفي يوم الاثنين رابع عشر الشهر ألبس السلطان القاضى كاتب السر خلعة بسبب أنه بني له صهريجاً وسبيلاً وكُتّاباً تحت الربع ، وجا في غاية الحسن ، فهنأته بذلك ، وقلت:" نحن باقون على طلب الخلوة للتعريف لما أسند إليه."، فقال نعم ، ففارقته.)

2 ــ وأورد البقاعي في تاريخه نص الرسالة التى وجهها لكاتب السر بالكامل، ولا مجال هنا لنقلها بالنص، ولكنه أورد فيها أبياتاً من ابن الفارض المشهورة تبدأ بقوله:

 

وجُل في فنون الاتحاد ولا تحُد
 

 

إلى فئة في غيره العمر أفنت
 

 

وفيها:

 

وإن عبد النار المجوس وما انطقت
 

 

كما جاء في الأخبار من ألف حجتي

فما عبدوا غيرى وما كان قصدهم
 

 

سواى ولم يعقدوا عقد نيتي
 

وإن خرَ للأحجار في البيد عاكف
 

 

فلا تعد بالأنكار بالعصبية
 

فما زاغت الأبصار في كل ملة
 

 

وما زاغت الأفكار في كل نحلة
 

 

ثم قال "هذا القول يكفر قائلة" واسهب في الرد على من يدافعون عنه ، وأورد أراء الذين يكفرون ابن الفارض من علماء الشرع مثل ابن حجر والقاياتي وابن الأهدل وسراج الدين البلقيني وابن حيان وابن النقاش، ثم دخل في جدل فقهي مع المدافعين عن متطرفي الصوفية عموماً مثل ابن عربي، وأورد أراء الصوفية المعتدلين في تكفيرهم، وفي النهاية طلب من كاتب السر الرد على أسئلته قائلاً "وأجيبوا على كل سؤال ذكر في هذا الاستفتاء لا تسقطوا منه سناً وصرحوا بالأمور وبينوها بياناً شافياً، ومن كان عنده علم فليقل به، ولا يمجمج فيحيد يميناً وشمالاً، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم. )، وبذلك ألقي البقاعي بقفاز التحدى لعلماء عصره ورئيسهم ابن مزهر الأنصاري كاتب السر.

3 ــ ويبدو أن السياق أن الصوفية بدوا باستعداء السلطان على البقاعي بعد أن ألف كتابيه "تنبيه الغبي" "تحذير العباد" في تكفير ابن عربي وابن الفارض مما دفعه إلى منازلتهم في الشارع بالحجة والفكر. ويبدو أيضاً أنه كان يعلن أراءه في المسجد الذى كان يتولى إمامته. ونحن نضطر لهذه الافتراضات بسبب العبث بتاريخ البقاعي المخطوط، وضياع بعض الأحداث المدونة فيه حتى أنه في الصفحات التى عرض فيها لقضيته يبدو مفهوماً منها أنها تتحدث عن وقائع سبق ذكرها، ولا نجدها في المخطوط، فهو يقول أنه قال لكاتب السر في اجتماعه: "إن كنت تريد الحق فأرسل بهذا إلى علماء البلد ، وأولهم الذين كتبوا على سؤال عبد الرحيم ، فإن كتبوا عليه علمت أنهم على هدي من ربهم، وإلا علمت يقيناً أنهم على ضلال ". واسم عبد الرحمن مكشوط في المخطوط مع تكراره في تلك القضية، وهو شيخ الطريقة الفارضية، وبسبب تكراره في المخطوط عرفت اسمه بعد جهد جهيد. والوقائع التى ضاعت قبل ذلك الكلام نفهمها من خلال تلك الفقرة السابقة، أى أن عبد الرحيم الفارضى سبق له أن أخذ توقيع بعض الأشياخ على ورقة تفيد تبرئة ابن عربي  وابن الفارض من التهم التى نسبها لهما البقاعي في كتابيه "تنبيه الغبي" "وتحذير العباد" ، وربما تفيد الحكم بالطعن في عقيدة البقاعي نفسه ، لأنه يعترض على الأولياء المقدسين، مما دفع بالبقاعي إلى كتابة رسالته المطولة التى أثبتها بالتفصيل في تاريخه والتى وزع منها نسخاً لدى آخرين، وربما يكون ذلك السبب في أنهم لم يعبثوا بتلك الرسالة ونصها فى مخطوطة تاريخ البقاعي ، على أساس أنها موجودة ومعروفة ومتداولة بين أشياخ عصره، وقد لخصنا هذه الرسالة.

4 ــ وقد استفاد البقاعي من الصراعات والخصومات والأحقاد التى تضطرم بين الأشياخ، ولعب عليها بمهارة، ومن ذلك أنه استفاد مناصرة برهان الدين الديري له، وقد كان في آخر أيامه معزولا من قضاء الحنفية إلا أنه كان كما يقول ابن الصيرفي تحدثه نفسه بالعودة إلى المناصب ، ( فكان يظهر الشمم الزائد والترفع على الأكابر وكان يدخل في جدال معهم . ) ، وجاءته الفرصة في كائنة البقاعي فانضم إليه ليشفي غليله من كاتب السر، وهو من الأكابر عند ابن الصيرفي . كما انضم إلي البقاعى قاضى قضاة الحنفية ابن الشحنة وابنه عبد البر، وكانت علاقتهما سيئة بابن مزهر كاتب السر أيضاً، ويقول البقاعي أنه كان معه قاضى الحنفية المحب بن الشحنة وولده السرى عبد البر والكمال ابن إمام الكاملية وقاضى الحنابلة المشار إليه والبرهان الديريى والبرهان اللقاني.

5 ــ وابن إياس كان معاصرا للموضوع ، ويذكر فى تاريخه أسماء من اتبع البقاعي في حركته، يقول: "كثر القيل والقال بين العلماء في القاهرة في أمر عمر بن الفارض ، وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية.. وصرحوا بفسقه بل وتكفيره ، ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد . وكان رأس المتعصبين عليه برهان الدين البقاعي وقاضى القضاة ابن الشحنة وولده عبد البر ونور الدين المحلي وقاضى القضاة عز الدين المحلى . وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه.) أى إستطاع البقاعي أن يضم إليه كل هذا الرعيل من الفقهاء والقضاة ، ويحيي الصراع الذى خمد من قبل بين الفقهاء والصوفية.

6 ــ ومن مكر البقاعي أنه قبل أن يرسل رسالته إلى كاتب السر أرسل نسخة منها إلى بعض مؤيديه، ومنهم ابن الديري ليكتب عليها تأييده، وأرسل تلك الرسالة مع مبعوث خاص يقول: ( ثم أرسلتها إلى برهان ابن الديري لأنى كنت خايفا من أن لا يثبت معى، فرجوت أن يكتب فلا يقدر بعد هذا على الرجوع، فأخذها بالقبول ووعد بالكتابة، ثم تأملها فإذا هى تحتاج إلى أمر كبير فطلب الفتوحات لابن عربي، (أى كتاب الفتوحات المكية وهو أشهر كتب ابن عربي)، وغيره من كتبهم لينظره.).

7 ــ وكان الصوفية وعلى رأسهم أرباب الطريقة الفارضية يتابعون خطوات البقاعي فعلموا بما أرسله إلى البرهان بن الديرى فحاولوا خداعه والحصول منه على رسالة البقاعي التى أرسلها له، يقول البقاعي: ( فعلم الفارضيون ذلك، فقصده أحدهم ،وقال له: كاتب السر يسلم عليه ويسألك أن ترسل إليه السؤال الذى أرسله إليك البقاعي ،فكاد أن يفعل، فكان عنده الذى أرسلت السؤال معه فقال له: هذه الورقة ملكي لا يجوز له أن يدفعها إليك بغير أذنى وأنا لا آذن له، فحينئذ تشدد وامتنع من إعطاءه إياها بعد أن كاد يعطيه.). واستأذن ذلك الرجل الصوفي في نقل الرسالة وكتابتها فأذنوا له بنقلها .

8 ــ وطلب منهم البقاعي أن يردوا عليها فعجزوا ، فتوقع البقاعي أنهم طالما عجزوا عن الرد العلمى فسيلجأون للمكر والكيد واستعداء السلطة والعوام ضده، يقول في تاريخه : ( فاستأذن في كتابة السؤال فأذن فكتب ثم أوقفه عليه، فأرسلت إليه أن الأمر ينفصل بالكتابة على هذا السؤال فاكتبوا عليه (الرد) وإلا فقد عجزتم . فلم يكتب أحد منهم عليه ولا ادعي أنه يقدر على الكتابة، فعُلم من ترك الكتابة على شدة الخصومة والمشاررة ( أى المبالغة فى الشّر ) والانتقال إلى الفحش أن يغلبوا بالباطل، لأنهم يعلمون أن العامة معهم وكثير من الجند ممن يحسن له أتباعه زيارة الأموات (أى الأضرحة ) ،ويوقع في قلبه أن بيدهم الإسعاد والإشقاء، فشرعوا يشنعون علىّ وعلى من أيّد مقالتى ، وأنبثّوا في البلد ، وهم كثير ، ومعهم الجاه ، وهم أهل مكر وكذب ، لا يتوقّفون في شيء، يقولون ما لا يقبله عقل. وأصحابي قليل ، ولا جاه  لهم ، وهم مقيدون بقيد الشرع ، لا يقولون إلا ماله حقيقة ، سواء كان يعجب المخاطب أو يكرهه، فكثر الشغب في ذلك وانتشر القال والقيل وعظُم الشّر.).

9 ــ وحضر زعيمهم الشيخ عبد الرحيم شيخ الطريقة الفارضية فوجد أرض المعركة صالحة له وكل العوام معه بالإضافة إلى جملة من الأشياخ الفقهاء والأمراء بالإضافة إلى كاتب السر. ففكّر في أن يقود مظاهرة ضد البقاعي، تبدأ بحفلة ذِكْر ، ثم تسير في الشوارع لتجتذب العوام ، ثم تذهب إلى بيت البقاعي، ليتيحوا للعوام أن ينبهوه ويقتلوا البقاعى  ثم يذهبون فيما بعد إلى بيت ابن الشحنة، وكادوا أن يفعلوا ذلك، ثم خافوا من النتائج . يقول البقاعي : ( وجا عبد الرحيم من رزقته التى كان ذهب إلي قسمتها ، فوجد الأمور على أشد ما هى، والناس قد أطبقوا معهم ، وقد صاروا يؤذون من يعلمونه من أهل الحق أنصار الله ورسوله في الطرقات، فاتفق مع جماعة أنهم يذهبون إلى المؤيدية، (أى الخانقاة المؤيدية شيخ) بمربعات وأعلام ، ويعقدون مجلس ذكر ويدعون، أن هذه غيرة على مقام ابن الفارض ، فإذا اجتمع عليهم الناس أتوا على الشارع الأعظم على حالهم ذلك ، ووقفوا عند بيتى يذكرون ويستغيثون ليقتلنى العوام وينبهوا بيتى، ثم يذهبون إلى بيت ابن الشحنة كذلك لذلك، ثم تأملوا عاقبة الأمر فأضعفهم الله وأوهنهم فكفّوا.).

10 ــ ثم لجاوا إلى حيلة أخرى. زعموا أن البقاعي قد أعلن تكفير من يساعد خصومه وتكفير المحايدين الساكتين ، وذهبوا بهذه الإشاعات إلى الأشياخ الذين وقفوا على الحياد فأثاروهم ضد البقاعي، فضموا إلى جانبهم الشيخ زين الدين الأقصرائي فكتب لهم يؤيدهم ويحرّضهم ضد البقاعي. والطريف أن البقاعى قد ذهب إليه يستميله وهو لا يعرف بالانقلاب الذى أحدثه فيه أعداؤه، فحدث بينهما في ذلك اللقاء سوء تفاهم طريف. يقول البقاعي:( ثم رأوا أن يستكتبوا بقية الناس (يقصد المشايخ) فألحّ عليهم كاتب السر فكتبوا ). أى ضغط كاتب السر على أولئك المشايخ فكتبوا يؤيدون الصوفية.ويقول (وأشاع أتباعهم أنى ذكرت القضية في ميعادى (أى فى الندوة التى يعقدها)، وكفّرت المساعد لهم والساكت عنهم.وكان الشيخ زين الدين الأقصرائى من الساكتين فاستشاط غضباً، وكتب لهم بما أرادوا،وكتب أن السراج الهندي من علماء الحنفية عزّر(أى عاقب بالتعزير ) ابن أبى حجلة لأجل كلامه في ابن الفارض ،يعديهم، (أى يستعديهم) بذلك علىّ ، ثم قدّر الله أنى قصدته في ذلك الوقت الذى أثبتوافيه أنى كفّرته ، ولا أشعر. فلما دخلت لاقانى بوجه عبوس،وشرع يصيح :" أنت تُكفّر الناس؟ "، فأظن أنه يعنى ابن الفارض ،فأقول: "هذه أقوال العلماء أريكها بذلك"، فيقول: لا . قلت "هذا أبو حيان"، قال: "السراج الهندي أعلم منه"، قلت : هذا البلقيني وابن حجر :فقال: "حاش لله ما قالا شيئاً..". فلم أجد مساغاً لكلامه فرجعت.).

11 ــ وحاول البقاعى الاتصال بالداودار الكبير يشبك من مهدى أو حتى بالداودار الثاني تنبك قرا فلم يستطع، كان له صديق ذو صلة بالداودار الكبير وقد عده بأن يصله بالداودار الكبير، ولكنه خاف من تهديد الطلبة بالجامع الأزهر وقد كانوا صوفية ، وقد هددوا بإحراق بيته، فرجع عن تأييد البقاعي. وحاول البقاعي أن يجتمع بالداودار الكبير بنفسه فلم يستطع، ومع ذلك فقد جاءته أخبار سارة بأن بعض العلماء اجتمعوا بالداودار الكبير وأخبروه بالحق.ولكن ظل كاتب السر ابن مزهر الأنصاري يضغط على أتباعه من المشايخ لإصدار الفتاوي التى تؤيد الصوفية وأتباع ابن الفارض مما سبب في اشتعال الموقف ضد البقاعي، يقول البقاعي: ( ثم سألت بعض أصحابي ليذهب معى إلى الداودار الكبير لأريه بعض ما أعلمه من كفر تائيتهم الصريحة (يقصد قصيدة التائية لابن الفارض) لأن ذلك الصاحب كانت له وصلة، فمنعه أصحابه أن يذهب معى، وقالوا : إن أهل جامع الأزهر هددونا بأنهم يحرقون بيتنا .) وصمّم البقاعى على أن يقصد الداودار الكبير بلا واسطة. يقول : ( فلم يُقدّر الاجتماع به، وجدته مغلقاً عليه بابه ، وعند بعض الأمراء، وكان قصدي له بعد أن بلغني أن بعض من يسّره الله للخير قد اجتمع به وأخبره أن ما نحن فيه هو الحق، وحدّثه بأقوال أهل الوحدة،(أى مذهب وحدة الوجود كابن عربي وابن فارض الذين لا يرون فارقاً بين الخالق والمخلوق ) فقاله له : "لعلهم مثل النسيمية "؟ ( النسيمية كانوا طائفة صوفية ملحدة منحلة خلقياً وقتها)، فقال نعم: فقال ( أى الداودار الكبير) :" إن النسيمية يتكلمون بأشياء صعبة". وكذا قال ذلك الرجل. فشدّ بذلك قلوبنا بعض الشّد.  وقصدت الداودار الثاني تنبك قرا ، فلم يقدّر به اجتماع. فرجعت إلى بيتى وأنا في غاية الكسرة.! .وكان ذلك يوم الجمعة ثاني عشر من ذى الحجة من هذا العام 874 ، وكان الأمر يتزايد كل يوم ، بل كل لحظة ، بما يظهره كاتب السر من الفتاوي في القلعة ويقرره من الكلام في ذلك، فصار البلد كله شعلة نار، القلعة وما دونها، وأرسل السلطان إلى قاضى الحنفية ابن الشحنة يعقوب شاه المهمندار وكان مغرضاً معهم، فإنه كان صديق الخطيب ابى الفضل النويرى خطيب مكة وكان معه لإرادته الدنيا.. ).

12 ــ وبعد ذلك ضاع بقية المخطوطة.!..ولا نعرف ما حدث بعدها، ثم يأتى تاريخ حسب الشهور لأحداث متفرقة. والمهم مما سبق أن كاتب السر كان يهدّد ويضغط ويصعّد الأمور ضد البقاعي، والبقاعي قد أوصدت في وجهه أبواب السلطان الداودار الكبير والداودار الثاني، وأصحابه يتخلون عنه خوفاً من تهديد طلبة الأزهر بإحراق بيوتهم، وبعض الأشياخ من الفقهاء يهمسون بالحق في أذن الداودار الكبير، والسلطان قايتباى يبعث لابن الشحنة المتحالف مع البقاعى رسولاً هو من أعداء البقاعي ولا نعرف بقية الموضوع بسبب ضياع أوراق مخطوطة تاريخ  البقاعي.

13 ــ ثم تأتى أوراق أخرى في مخطوطة البقاعي تتحدث عن حربهم النفسية ضده ومخاوفه ثم محاولات بعض أصدقائه إثنائه عن أرائه وتهديده وإغرائه. ويرسم البقاعي صورة صادقة لما اعتمل لنفسه من مشاعر انتهت إلى تمسكه بالحق مهما حدث له، فنراه يخيّرهم بين ( المجادلة أوالمباهلة أوالمبارزة بالسيف.!)، ولا زال بأولئك الذين أتوا للتأثير عليه إلى أن تأثروا هم به وأصبحوا من مؤيديه. يقول البقاعى : ( صاحوا وأجلبوا وأظهروا أنهم أظفروا بى، فيرسل لى كاتب السر من يخيفني ، وأنا في غضون ذلك أسأل الله أن ينزل على السكينة ويلزمنى كلمة التقوى، فألقى الله سبحانه في قلبي من الثبات ما لا يحصر. فآخر ذلك أنه (أى كاتب السر) أرسل إلى الناصري محمد بن جمال الدين الشهابي أحمد بن السخاوي.. وهما من أصدقائى، فقالا كلاماً كثيراً منه: إنا رأينا ما لم تع وسمعنا ما لم تسمع ،والأمر عظيم ،ونحن نشير عليك أن ترجع عما أنت فيه، وقد فعلت أكثر مما يجب عليك، والقاضى (أى كاتب السر) يريد أن ينصحك ويقول أن الناس كلهم عليك، السلطان فمن دونه، وأصحابك كلهم صاروا عليك، فقلت: أنى والله قد وضعت بين عينى القتل بالسيف والضرب إلى أن أموت منه ، فرأيته أهون عندي من أن يُجهر بالكفر في بلد أنا فيه، ويقال أن الصلاة حجاب والصوم حجاب والقرآن باطل أو شرك (وهذه شطحات الصوفية من أصحاب وحدة الوجود) ويُراد خلع الشريعة المحمدية ويظهر دين على دين محمد ( ص)، فإما أن يعيننى الذين يريدون سكوتى بمال أقدر به على الانتقال من هذا البلد ، فإنه والله لو كان معى مال أتجهز به هاجرت منها ، وإما أن يختاروا منى واحدة من ثلاث بحضره السلطان والقضاة الأربعة وساير العلماء : وهى المجادلة ثم المباهلة ثم المقاتلة، فيعطينى السلطان سيفاً وترساً ويعطي أشبّهم ( أى أكثر شباباً) سيفاً وترساً ، ويخلى بيننا قُدّامه في حوش القلعة، وينظر ما يكون منى على شيخوختى ، فإن قُتلتُ كنت شهيداً ، وإن قتلت خصمى عجلت من أقتله في النار، والأمر كما قال الله تعالى: "قل هى تربصون بنا إلا إحدي الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا"، ثم قلت لهم: أنى أطلب منكما أن تسمعا لى في هذا المذهب الخبيث( أى التصوف )، فقالا:"إنهم (أى الصوفية ) يؤوّلون ما في التائية (أى قصيدة التائية لابن الفارض)، ويتناشدونها بحضرة كاتب السر ويطيبون ( أى ينشرحون ) لما ينشدونه منها"، فقلت: "إسمعا"، وقرأت لهما من كلام ابن عربي فصلاً، فكان ابن جمال الدين يذكر بعض ما سمع من تأويلاتهم فأرخى له، وأقول له اسمع، فلما تكرر على سمعه كفّره وقال بحدة مفرطة: "لعن الله من يقول هذا أو يستجيز سماعه"!، وتفرّقا وهما يكادان يتزايلان غضباً ،فحلفت أنه لابد أن يجلسا حتى يسمعا تطبيق الناس عليه، فرجعا بعد جهد وأسمعتهما ذلك ) .

14 ــ ووصلت نتائج هذا الاجتماع الى كاتب السّر، فخشى تطوّر الأمر بسبب تصميم البقاعى وفدائيته وقوة حجّته ومقدرته على إقناع الآخرين، لذا رفض كاتب السّر أن يكتب تقريرا ضد البقاعى، وقال:(لا أكتب حتى أسمع مستند البقاعي بما يقول،). أى طلب أن يجتمع بالبقاعى.ويقول البقاعى فى تاريخه:( فقلت: قولاً أن ذلك لا يكون إلا بخلوة كما قرروا له علم ما عندهم في خلوة، فمتي رأي نفسه فليرسل ويختل معى لأقرر له ما ينفعه إن شاء الله. ). وعرف الصوفية فبذلوا جهدهم حتى لا يحدث اجتماع بين البقاعي وكاتب السر مخافة أن ينجح البقاعي في إستمالة كاتب السر إليه، يقول البقاعي: ( فكأنهم سعوا في عدم إرساله إلىّ ، فإنهم يعلمون أن ما أقوله لا يسمعه مسلم إلا نفر منه أشد نفرة، ولما عملت الميعاد (أى الندوة ) في جامع الظاهرى الحسينية يوم الجمعة.. وكان في قوله تعالى في سورة التغابن: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا.. إلى قوله تعالى: وعلى الله فيتوكل المؤمنون"، قررت لهم أمر البعث وأمر التوحيد وقلت أن فرعون ادعى أنه الرب الأعلى فعليه لعنة الله، وثمّة طائفة تنصر مذهبه ويدعون أنهم يصلون إلى الله من طريق غير طريق نبيه محمد ( ص) وقد كذبوا وكفروا وهم أذلّ وأقلّ عددا، ووصلت هذا بما يلائمه من إحاطة رسالة النبى ( ص) ومن وعد الله بإظهار دينه على الدين كله، إلى غير ذلك من المرققات ( أى المواعظ )إلى أن ضجّ الحاضرون ، ودعوا على من يتمذهب بذلك المذهب الأخبث، ودعوا لى بالنصرة ونحو هذا، وكان مجلساً حسناً.).!

15 ــ وبسبب ثبات البقاعي بدأت المشاعر تتجه نحوه وتميل عن الصوفية، وذلك هو الشأن في دعوات الإصلاح التى تواجه العقائد الضالة، فتلك العقائد الضالة تستند إلى خرافات اكتسبت قدسية لمجرد أن القرون مرت عليها دون أن تجد من يتصدى لتنفيذها، فإذا وجدت عالماً شجاعاً يفعل ذلك ثار عليه المدافعون عن تلك الخرافات والأشياخ الذين يستفيدون منها وحاولوا إخافته بما ترسب في وجدانهم من خوف من الاعتراض على تلك الخرافات، فإذا ثبت صاحبنا على مبدئه ورأوا أنه لم تحدث له كارثة بسبب اعتراضه يبدأ الموقف يتغير لصالح، وذلك بالضبط ما حدث في كائنة البقاعي وما يمكن أن يحدث في أى حالة مماثلة.

ولذا نرى العوام في بداية الأمر كانوا ضد البقاعي حتى لقد كانوا يؤذون أتباعه في الطرقات، وحتى لقد فكر خصمه عبد الرحيم أن يقودهم في مظاهرة لتقوم بقتل البقاعي وتنهب بيته، ثم بعد أن ظل البقاعى متماسكاً صامداً يقرر رأيه في المسجد جاءوا إليه يستمعون، و( ضجّوا) يؤمّنون على دعواه على خصومه، يقول البقاعي يصف ذلك التطور لمبشر في قضيته: ( وكان مجلساً حسناً، ثم أُطلعت على أن الله تعالى أيدنى عليهم حال استفتائهم بأمور منها: أنهم استفتوا قاضى الحنابلة المعز ابن نصر الله الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه، واحتج لذلك ،وذكر من قال به من العلماء، وأطال في ذلك، وأن البرهان بن العبري قال لعبد الرحيم: "والله أنى لأخاف على رقبتك أن تضرب فاستمع منى فإني ناصحك ولا تغتر بمن يغرّك"، وكذا قال لهم البرهان اللقاني .).

إذن تشجع بعض الساكتين فأفتوا فتوى البقاعي، بل وبدأ بعضهم يخوّف عبد الرحيم بعد أن كانوا يخوّفون البقاعي من قبل. وازداد أنصار البقاعي وتحول الرأي العام نحوه، يقول:( ثم عدّوا.. من معى ، ستة: قاضى الحنفية المحب بن الشحنة، وولده السرى عبد البر ، والكمال ابن إمام الكاملية، وقاضى الحنابلة المشار إليه، والبرهان اللقاني. ولما رأى الناس تطاول القضية وهم دايرون، (أى منهزمون)، ولا يظهر لهم أثر مع أى جالس في مجلس، على حال لم اجتمع بأحد، علموا أنه لا في أيديهم ، ولا قوة لهم ،فأطلق الله ألسنتهم بالثناء علىّ ، وبان العزّ.!....). وما بعد ذلك ضائع منن المخطوطة.

17 ــ كان الأولى بقاضى الحنابلة عز الدين الكناني أن يكون أول من ينكر على الصوفية تِأسياً بابن تيمية الحنبلي في القرن السابع ومدرسته من الفقهاء، ولكن الجهل الذى حاق بأولئك الفقهاء منع أكثرهم من المعرفة بالفروق بين المذاهب ، وكان الوصول الى المنصب ليس بالكفاءة ولكن بالرشوة ، ومن يصل بالرشوة لا يهمّه المذهب الذى ينتمى اليه ، المهم عنده المنصب نفسه ، لذا كان من المهتاد تحول الفقيه السّنى من  مذهب الى آخر فى سبيل المنصب .

18 ــ صمود البقاعي أمام حرب التخويف والأعصاب جعلته يكسب في النهاية ولما تطاول عليه الأمر دون أن يحدث له سوء بدأ العوام يغيرون رأيهم فيه فمالوا نحوه، وتعين على أعدائه من الصوفية أن يقبلوا المجادلة معه حسبما طلب، فأصبح ذلك مشكلة عويصة لهم، فهم يدافعون عن دين لا يعرفون عنه شيئاً ويؤمنون بعقائد لا تستقيم مع العقل ولا مع الدين الحقيقي، وخصمهم البقاعي أعرف بدينهم الصوفى منهم، وأقدر على إفحامهم في الجدال مستشهدا بأقاويل ابن عربى وابن الفارض التى يقشعرّ منها قلب من لديه ذرّة من إيمان . يقول البقاعي عنهم:( عقدوا المشورة في أمرى عدة مرات، يديرون الرأى فيمن ينتدب لى في المناظرة وقت عقد المجلس، وكلما أعدوا واحداً للمناظرة قالوا : "هو فقيه فج يفوقه البقاعي بالمعقولات"( أى بعلم المنطق )، وإن ذكروا واحداً جمع النقل والعقل قالوا : "يفوقه بالتبحر في السّنة" ، وإن رأوا آخر ظنوه جامعاً لذلك قالوا : "يفوقه بالتفوق وقوة العارضة والصلابة"، فكان ذلك من أعظم المؤيدات. وازدادت قوتى وضعفت قوتهم، فسافر عبد الرحيم إلى رزقه له في الريف. وخف الهرج والمرج في ذلك.).

إبن الصيرفى والتأريخ لكائنة البقاعى

1ــ والعجيب إن كل ذلك الهرج والمرج الذى حرّك البركة الراكدة لم يذكر عنه مؤرخنا إبن الصيرفى شيئاً،مع أنه كان لصيقاً بكاتب السر ومهتماً بما يحدث في مجتمع الفقهاء والأشياخ، ولا شك إنه كان منغمساً فيما يحدث، إلا أنه على العكس من ذلك تجاهل كل ما حدث من أحداث كائنة البقاعي سنة 874، بل أنه اختصر أخبار شهور شوال وذى القعدة وذى الحجة التى حدثت فيها كائنة البقاعي في هذا العام سنة 874 فاحتلت صفحتين فقط  في كتابه مع أن العادة أنه يكتب عشرات الصفحات في أحداث الشهر الواحد، وخصوصا ما يتّصل منها بسيده إبن مزهر الأنصارى كاتب السّر. فهل إنشغل إبن الصيرفى مع كاتب السر فى الكيد للبقاعى؟ هل إنشغل عن تسجيل أحداث (كائنة البقاعى) لأنه كان منشغلا بالكيد للبقاعى؟هل إستغرق فى خلق أحداث فى أرض الواقع وتشاغل بها عن تسجيلها ؟

2 ــ بدأ البقاعي يذكر أول أخبار عن كائنة البقاعي في أول محرم 875ن فهو يقول "فيه صعد قضاة القضاة ومشايخ القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئتة السلطان بالشهر العربي على العادة ولم يتكلموا في شيء من أمر ابن الفارض لا بنفي ولا إثبات. وطلع البرهان البقاعي في هذا اليوم قبل كل أحد، وجلس بالجامع وصحبته كتب كبيرة، وليس راجعاً عما قاله في كلام الشيخ ابن الفارض وتكفيره، وبلغني من عدة جماعات أنه أوصى، وعنده أن هذا الأمر ليس التكلّم فيه إلا قربة محضة، فإن قُتل قُتل شهيداً.). وواضح مما ذكره ابن الصيرفي أن الشيوخ دخلوا على السلطان يهنئونه بالشهر على العادة وقد تجنبوا الخوض في قضية البقاعي وتكفيره لابن الفارض، وفي نفس الوقت استعد البقاعي للمجادلة، وسبق الحاضرين في الحضور، واستحضر معه الكتب التى تؤيد كلامه، ولا ريب أن منها ديوان ابن الفارض وفيه التائبة الكبري بالإضافة إلى نصوص الحكم لابن عربي والفتوحات المكية له، وغيرها من مؤلفات الصوفية أو مؤلفات المنكرين عليهم، وهو مصمم على رأيه، وقد بلغ ابن الصيرفي أنه قد كتب وصيته كأنه يتوقع الموت ويستعد له، وأنه يعتقد أن الأمر بالنسبة له قرية يتقرب بها لله، وهذا ما قرره ابن الصيرفي وهو كما سنعلم خصم في هذه القضية للبقاعي.

3 ــ ونعود إلى البقاعي في تاريخه وهو يسجل بطريقة أخرى نفس ما حدث في أول محرم 875، يقول : ( واستهل عام خمس وسبعين وثمانمائة ..، وكان قد بلغنا أن السلطان يعقد المجلس بسبب ابن الفارض في أول الشهر، وأن كاتب السر سأله في تركه، أكتفاء بما أحضر إليه من الفتاوي، وأخبره إنه لم يبق من شيوخ البلد أحد إلا كتب بولاية ابن الفارض إلا من شذ فلا عبرة بهم، ولا يلتفت إلى قولهم. وقال بعض الناس للسلطان:" هؤلاء الذين كتبوا أكثرهم كتب للغرض، فبعضهم يبغض من ضلاله وبعضهم خوفاً ورجا في كاتب السر وهيبة له، فإنه كان إذا امتنع أحد من الكتابة قال له رسوله: إن لم تكتب جا القاضى إليه ولا يفارقك حتى تكتب، وبعضهم يوهمه أنه يوليه القضاء، إلى غير ذلك في التعليلات.". فحمل السلطان على التصميم على عقد المجلس. فلما أيس ( كاتب السّر ) من تركه( عقد المجلس ) سعى في تأخيره إلى بعض العشر . وطلع القضاة بكرة يوم السبت هذا لتهنئة السلطان بالعام .وحسبت أنه سيقع في المسألة كلام فيحتاج إلى حضورى، فطلعت إلى القلعة وأقمت في الجامع وحملت.. كتباً تحتاج إلى النقل منها في أشياء.. لابد منها. وكان كاتب السر قد اجتهد في نصب أسباب الأذى ..) الى أن يقول البقاعى عمّن أرادوا منعه من الصعود للقلعة:( ..وقالوا كلهم:"لا تطلع ولا تتلق الركبان وأقنع بالعافية فإنما المراد غيرك"، يعنون ابن الشحنة لتصويب كاتب السر إليه سهامه، فقلت:" أخشى أن أتخلف فيؤخذ كل واحد على انفراد، ونحن أنصار السنة فلا يتوجه علينا لأحد مقال بحق أصلاً ولا بشبهة مقبولة، فإنّا ما كفرنا ابن الفارض إلا بما أقله أنا متأولون وتابعون لمن سبقنا من سلف الأمة، وإن وقع ظلم صرف فلسنا أول من أوذى في الله.. فاستصوب أكثر الناس ذلك، ونطقت ألسنتهم بأنى محق.).

3 ــ وواضح أن سكوت القضاة أمام السلطان عن الخوض في ذلك الموضوع ــ وهو موضوع الساعة ــ إنما كان بتأثير كاتب السر، وقد سعى في تأخير عقد ذلك المجلس ما استطاع خوفاً من أن ينتصر عليه البقاعي أمام السلطان قايتباى فيهتز مركزه وتضيع مكانته. ولا شك أن مبادرة البقاعي بالمجيء مبكراً ومعه تلك الكتب قد أفزع كاتب السر، فذلك من شأنه أن يثبت للسلطان جهل خصوم البقاعى كلهم وأولهم كاتب السر. ومن أسف فإن باقي الصفحة ضائع فى تاريخ البقاعى ، وبعدها نقرأ قول البقاعى:(  وأنا وحدي، وهم أهل البلد كلهم . وطار في البلد خبر الكتب التى كانت معى ، وزادوا في ذلك ، ونطقت ألسنة الخاص منهم والعام إلا ذووا الأغراض الفاسدة.).

4 ــ وانتهى الأمر إلى لا شيء إذ أن خصوم البقاعي قالوا لكاتب السر: "إن طلوع البقاعي على هذا الحال معناه أننا عنده أقل القليل ، وهذا ازدراء عظيم لا يحتمل"، فقال لهم كاتب السر: "لا أقدر أرد أحداً عن اعتقاده." يقول البقاعي معلقاً: ( فعلم الآن أن لا شيء بيده .). وانتهى الأمر رسمياً بالأغضاء عن الموضوع وعدم عقد مجلس بشأنه، ولكن ابن الصيرفي لم يسكت ولم يسكت معه بعض ذيول الصوفية، يقول ابن الصيرفي ينشر دعايته ضد البقاعي : ( وقع لى من وجه صحيح أخبرنى به الشيخ العلامة الرباني شيخ الإسلام زكريا الشافعي أبقاه الله تعالى أن الجناب العالى العلائى على بن خاص بك صهر المقام الشريف نصره الله، أنه ركب إلى جهة القرافة ورأى شخصاً أمامه عليه سمت وهيئة جميلة، فصار يحبس لجام الفرس وهو خلفه إذا وافي الرجل رجل عظيم الهيئة جداً ، فتحادثاً ، وانصرف الرجل المذكور أعنى الثاني، فسأل سيدى على من الأول: من هو هذا الرجل؟ فقال له: أنت ما تعرفه؟ ثلاث مرات، وهو يقول لا. فقال: هذا عمر بن الفارض في كل يوم يصعد من هذا المكان وهو يسعى في أن الله تعالى يكفيه فيمن تكلم فيه" وذهب الرجل فلم يعرف من أى مكان توجه والله أعلم.).هذه أسطورة حيكت لتجعل ابن الفارض يخرج من قبره ليدعو على من أنكر عليه، ومن شأنها أن تخيف أولئك الذين يقدسون الأولياء ويعتقدون في نفعهم وضررهم، وبعض من يقرؤها في عصرنا قد يتأثر بها، فكيف بهم في عصر قايتباى.

5 ــ وذكر ابن الصيرفي حادثاً وقع يوم الجمعة 2 رمضان 875 يقول " أن البرهان البقاعي عمل ميعاداً بالجامع الظاهرى بيبرس البندقدارى خارج القاهرة بالحسينية (حى الظاهر الآن) فحضر جماعة إليه قصداً (أى عمداً) من معتقدى سيدى الشيخ عمر بن الفارض نفع الله به، وأساءوا عليه على ما بلغني، فشكاهم لقصروه الحاجب فطلبهم ورسم عليهم، ثم أن البقاعي طلب جماعة من جهته وأوقفهم في عدة مواضع ومفارق ومخارص من الطرقات وبأيديهم العصى والخشب، وقرر معهم إذا مروا عليهم فيضربونهم وينكلون بهم، فبلغ ذلك رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر الشريف عظم الله شأنه فأرسل إليهم بداوداره بركات فأطلقوهم، ( أى أطلقوا أولئك الذين قبض عليهم قصروه الحاجب)، وتكاثرت الأدعية له، حفظه الله تعالى على المسلمين.) ويستمر إبن الصيرفى : ( ثم في يوم السبت ثالثة (أى 3 رمضان) أصبح البقاعي على ما أمسى ، وشكى خصومه لبيت الأمير تمر حاجب الحجاب وأعلمه بما أراد، فاجتمع الجم الغفير والخلائق أفواجا ، وحضر من العلماء والفضلاء جماعات ، منهم الشيخ بدرالدين بن القطان والشيخ تاج الدين ابن شرف والشيخ الخطيب الوزيري. وبرزوا للبقاعي وطلبوه، فحضر بين يدى الأمير المذكور، وأراد الطلوع من المقعد، فما مكّنه خصومه . ووقف من تحت المقعد .وجلس المشايخ المذكورون. وادعى على جماعة منهم ، فيهم شخص شريف، حضروا إليه إلى مسجده ليقتلوه بطبر، فقال له الشيخ بدر الدين إبن القطان: "لا تقل مسجدى فإن المساجد لله"، وترضّوا عن الشيخ عمر بن الفارض، ولعنوا وكفّروا من يكفّره، وحصل له (أى البقاعي) بهدلة ما توصف، وانفصلوا على غير طائل، ولم يحصل للبقاعي مقصوده، ولا غرضه، فإنه مخمول سيماً أنه يتعرض لجناب سيدى الأستاذ العارف بالله عمر بن الفارض )..والصيرفي يوضّح انحيازه ضد البقاعي في الفقرة الأخيرة، ويجعلنا لا نثق في صدق روايته للحادث، فلم نعرف منه أقوال البقاعي ولا رده على خصومه ، وإن كنا قد فهمنا منه أن بعضهم حاول إيذاءه وأنه استعان بأعوانه في حماية المسجد الذى يقرر فيه دعوته، وإن كاتب السر تدخل لإطلاق سراح أولئك المعتدين، وكذلك فعل أخرون حينما اشتكي البقاعي أولئك الذين حاول قتله في المسجد، وانتهى الأمر علي غير طائل حسبما يقول ابن الصيرفي. وتعرض ابن الصيرفي فيما بعد للبقاعي فترجم له في السنة التى مات فيها وحاول إنصافه، ثم ضاعت بقية الترجمة مثلما ضاعت صفحات من كائنة البقاعي في تاريخ البقاعي.

تأثير كائنة البقاعى

1 ــ وقد أثمرت حركة البقاعي هزة في تلك الحقبة الراكدة، ظهر أثرها بين القضاة، فرجع بعضهم إلى الحق فكون منهم البقاعى (جماعة أهل السنة) على حد تعبيره، يقول في تاريخه:( تخاصم شخص من جماعة أهل السنة يقال له محمد الشغرى مع جماعة من الفارضيين من سويقة صفية، فرفعوه إلى قاضى المالكية البرهان ، وأدعوا عليه أنه كفّر ابن الفارض، فأجاب بأنه قال: بأن العلماء قالوا بكفره ، فضربه القاضى بالسياط وأمر بتجريسه بالمناداة عليه في البلد :"هذا جزاء من يقع في الأولياء"، ثم توسط القاضى الشافعي لدى المالكي حتى أطلقه من الحبس، وقال الشافعي: أيفعل مع هذا هكذا ولم يقل إلا ما قاله العلماء؟، ويرفع إليهم حربي استهزأ بدين الإسلام في جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثل ما فعلوا بهذا؟. مع أنه حصل اللوم في أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شيء من ذلك.. هذا كله والحال أن البرهان المذكور قال لغير واحد: أن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض.)

2 ــ إن آثار حركة البقاعي لم تقتصر على الصراع السياسي وإنما امتدت إلى الناحية الثقافية والعقلية في ذلك العصر الراكد الساكن، فقد نشط خصومه فيما بعد للرد عليه فكتبوه "ترياق الأفاعي في الرد على البقاعي" والسيوطي الذى لخص كتاب البقاعي في المناسبات القرآنية لم يتورع عن الهجوم على البقاعي وحركته فألف كتاب "قمع المعارض في الرد عن ابن الفارض" وبذلك حاولوا الرد على البقاعي وكتابيه "تحذير العباد" "وتنبيه الغبي".

3 ــ وكأنها كانت قطعة حجر سقطت في بركة ماء ساكنة فأحدثت تموجات على السطح ولكن إلى حين،  إذ ما لبث السكون أن عاد والحجر نفسه ما لبث  أن غطته القواقع والطحالب، واستمرت البركة ساكنة بقواقعها إلى أن دهمها نابليون بونابرت فهرعوا إلى مقاومته بالأوراد وصحيح البخارى.

 كائنة البقاعى تفصيلة ضمن صراع الأديان الأرضية للمسلمين

1 ــ وفى النهاية نضع ( كائنة البقاعى ) فى سياقها التاريخ الأفقى أى بنظرة أفقية فى تاريخ المسلمين وصراعهم السياسى الذى كان ــ ولا يزال ــ يستخدم الدين الأرضى فى الوصول للسلطة والثروة.

2 ــ ونوجزها فى أن الأمويين والشيعة إستخدموا الأحاديث فى صراعهما السياسى ، ثم تأكّد أستخدام الأحاديث بقيام الدولة العباسية وصراعها ضد الشيعة، بينما نجح الشيعة فى إقامة ملك لهم فى الشرق على حساب الدولة العباسية ودينها السّنى فى بغداد . واستخدم الخليفة المتوكل العباسى التطرف السنى الحنبلى فى إحكام قبضته واضطهاد الشيعة فى دولته. ثم ظهر التصوف فى عهده يعانى الاضطهاد مثل التشيع ، وأصبح التصوف مجالا للإستغلال السياسى من جانب الخصمين المتحاربين: السّنة والشيعة،فظهر التصوف الشيعى والتصوف السّنى .

3 ـ  أتيح للشيعة الفاطميين إستغلال (التصوف الشيعى) فى إقامة دولتهم فى شمال أفريقيا وفى تدعيمها فى مصر حتى وصل نفوذهم الى ضواحى بغداد فى لمحة من الزمن . ولكن ما لبث صلاح الدين الأيوبى أن قضى بهدوء على الدولة الفاطمية ، وإستخدم (التصوف السّنى) فى حرب التشيع وتصوفه الشيعى. 

4 ــ وجاءت الدولة المملوكية تستخدم (التصوف السنى) تحارب به التشيع والتطرف السنى الحنبلى والتطرف الصوفى على السواء. وحاول الشيعة باستغلال التصوف الشيعى إسقاط الدولة الأيوبية فى فترة ضعفها ، ولكن قضى على حركتهم وصول المماليك للحكم وقهرهم للمغول وللصليبيين. وفصّلنا ذلك فى كتابنا ( السيّد البدوى بين الحقيقة والخرافة).هذا الموقف المملوكى المناوىء للتشيع شجّع على ظهور حركة للتطرف السّنى تزعمها إبن تيمية الذى إشتهر بعدائه للتشيع وللتطرف الصوفى معا. وبعد إخماد حركة إبن تيمية جاءت حركة أو كائنة البقاعى فى عصر قايتباى .

5 ــ  وبعد إخماد حركة البقاعى التى تمثّل التطرف السّنى ظهر فى إيران حركة شيعية تستخدم التصوف الشيعى ، أقام بها الشاه إسماعيل الصوفى ( الصفوى ) دولته الصفوية الشيعية ، والتى تسببت فى أنهيار الدولة المملوكية بعد موت قايتباى بعشرين عاما . وأصبحت مصر ولاية عثمانية ولكن ظلّت بذور التشيع كامنة فيها برعاية التصوف الشيعى ممّا أعلى من مكانة الأزهر فى العصر العثمانى الذى شهدت بدايته فى مصر محاولة شيعية لقلب نظام الحكم قام بها الوالى العثمانى نفسه بتأثير الشاه إسماعيل الصوفى الصفوى. 6 ــ على أى حال فقد كان التشيع وتصوفه الشيعى أقوى وأعمق تأثيرا فى بيئته الأصلية فى ايران والعراق فى العصر العثمانى، فاضطهد فقيها سنّيا حنبليا متأثرا بإبن تيمية، هو ابن عبد الوهاب لأنه إنتقد التصوف والتشيع معا فى رحلته للعراق ، ففرّ هاربا عائدا الى منطقته نجد حيث تحالف مع ابن سعود. وباستغلال ( الوهابية :الدين السّنى الحنبلى التيمى ) تأسست الدولة السعودية الأولى 1745 ثم أسقطها الوالى العثمانى فى مصر (محمد على باشا) عام 1818 ، ثم أعيد إنشاؤها ثم سقطت ، ثم أعاد عبد العزيز آل سعود تأسيس الدولة السعودية الثالثة الراهنة والتى حملت إسم المملكة السعودية عام 1932. وعمل المؤسس عبد العزيز آل سعود على تحصين دولته من السقوط بنشر دينه الوهابى السّنى الحنبلى التيمى الوهابى فى مصر والهند وما بينهما ، وانتهى الأمر بتأسيس باكستان والاخوان المسلمين فى مصر وتنظيمهم الدولى، وإسهامهم فى قيام حركة الجيش فى مصر عام 1952 .

7 ـــ  وبسبب علوّ نفوذ الوهابية ظهر التيار القرآنى رد فعل إيجابيا يدعو للعودة ، لا لدين أرضى يتصارع مع دين أرضى آخر فى سبيل حطام الدنيا والجاه والثروة ، ولكن يدعو للسمو بالاسلام عن حضيض التنافس السياسى، وأن نرجع للقرآن الكريم الرسالة السماوية الخاتمة التى يجب أن يحتكم اليها المسلمون وأهل الكتاب مخلصين ليهتدوا الى الصراط المستقيم فى الدنيا والآخرة ، وأن يتعرف المسلمون على حقائق الاسلام ، وأنه دين السلام والرحمة و العدل والحرية الدينية المطلقة فى الدين والفكر والعبادة والعقيدة ودين الحرية السياسية فى الديمقراطية المباشرة ، ودين العدل الاجتماعى بالتكافل الاجتماعى والعدل السياسى بالديمقراطية المباشرة ، وهو دين حقوق الانسان وتكريم الفرد البشرى بغض النظر عن الجنس (ذكر أو انثى) أو العنصر أو اللون او المستوى الاقتصادى والاجتماعى . وأهل القرآن فى دعوتهم لا يفرضون رأيهم على أحد ، ولا يفرضون أنفسهم على أحد ، ولا يطلبون من الغير أجرا ، ويتحملون ما استطاعوا الأذى. وقد تعرضوا لأربع موجات من الاعتقال ، كان أولها فى نوفمبر 1987 أى منذ ربع قرن ، حين كان كاتب هذه السطور رهين سجن طرة ومعه 62 شخصا متهمون بأنهم من (القرآنيين )، فى قضية حملت هذا الاسم ، وكان من المتهمين أساتذة جامعات ومحامون وموظفون و فلاحون وحرفيون . وتتابعت موجات الاعتقال ، وتعكسها مقالات منشورة هنا ، وكانت هذه الاعتقالات المتكررة فى نظام  حسنى مبارك، وهو أحقر مستبد مصرى طيلة تاريخها المكتوب حسب علمى بالتاريخ المصرى ، وأنا متخصص فيه. كان مبارك يقدّم إعتقالنا هدية مدفوعة الأجر للدولة السعودية ، محور الشّر فى العالم وفى هذا العصر. وأسفرت إعتقالات اهل القرآن ومطاردتهم وتكميم أفواههم الى علو النفوذ السلفى ، أو الدعاة الوهابيين داخل المجتمع المصرى والمتحكمين فى أجهزة الاعلام والتعليم والأزهر والمساجد ، وقد تحالف معهم مبارك فى الوقت الذى اضطهد فيه الاخوان ، وهم أيضا سلفيون وهابيون، ولكن لهم طموحاتهم السياسية التى أقلقت الأسرة السعودية والمستبدين العرب.

8 ــ وبعلو نفوذ الوهابية عانى الشيعة من الاضطهاد فى مصر والسعودية والخليج وتم حصار التصوف ، وأوذى البهائيون والأقباط وبقية الأقليات الدينية والمذهبية . وبدأ الربيع العربى فاختطفه الاخوان والسلفيون . وأصبحت المنطقة العربية مرشحة لنضال طويل قد يصل الى حرب أهلية وإعادة رسم الخريطة .

9 ــ وفى رأينا فإنّ النجاة هى بالاصلاح من داخل الاسلام ، وفق رؤيتنا القرآنية التى تؤكد على علمانية الاسلام ، ومنع أديان المسلمين الأرضية من التحكم فى الناس سياسيا واجتماعيا ، وأن تظل محصورة داخل معابدها حتى يتطهّر التنافس السياسى من إستغلال الدين فى تحقيق مصالح شخصية أو حزبية أو طائفية.

وأخيرا  :

 فإن حركة البقاعى تعتبر جملة قصيرة فى هذا السياق من الصراع الدينى السياسى الممتد والمتّصل من القرن الأول الهجرى حتى الآن.

1) تاريخ البقاعي: مخطوط بدار الكتب، مجلد رقم 5631 تاريخ- ورقات رقم: 8، 9، 54، 56، 134، 135.

2) الهصر: 186، 190، 256، 257، 508، 509.

3) تاريخ ابن اياس: 2/119، 120، 121. 

اجمالي القراءات 9289