البراجماتية وسذاجة التطبيق

كمال غبريال في الخميس ١١ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً


 
البرجماتية نظرية فلسفية شأنها شأن كل مثيلاتها، عبارة عن بلورة فلسفية حديثة ناضجة لأفكار قديمة سبق وأن توصل لها الإنسان، لتعطيها الصياغة الجديدة دفعة تطبيقية ونقدية تؤدي للمزيد من التطوير والتنقيح لها، لذا سوف نبدأ هنا بتقديم البراجماتية عبر ما تعرفه الثقافة الجمعية العربية عنها، فنحن نقول "النجاح دليل الصلاح"، وتقول الحكمة المصرية الشعبية "إللي تغلب به إلعب به". . هذه هي البرجماتية في صورتها الأولية الخام، والتي تجعل مرجعية الحكم على الصواب/ الخطأ هي النتائج العملية للمقولة محل النظر، أما الصياغة الفلسفية لهذا المنهج وتسميته بالبرجماتية Pragmatism فترجع في بدايتها إلى تشارلز بيرس (1839 – 1914 م.)، الذي استخدم المصطلح عام 1878 م. في مقال بمجلة علمية بعنوان "كيف نوضح أفكارنا"، ويذهب بيرس في هذا المقال إلى أن صحة القضية تتحدد بالسلوك والنتائج التي يمكن أن تترتب على تطبيقها، فالسلوك هو المعنى والمعيار الوحيد للقضية.
يقول جون ديوي (1859- 1952 م.) أن البراجماتية "فلسفة معاكسة للفلسفة القديمة التي تبدأ بالتصورات، وبقدر صدق هذه التصورات تكون النتائج، فهي تَدَعُ الواقع يفرض على البشر معنى الحقيقة، وليس هناك حق أو حقيقة ابتدائية تفرض نفسها على الواقع"، ويقول أن العقل ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها، فليس من وظيفة العقل أن يعرف. . . . وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة، ويذهب وليم جيمس (1842 - 1910 م.) إلى أن المنفعة العملية هي المقياس لصحة هذا الشيء، ويقول عن البراجماتية: "إنها تعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة المتاحة، ضد الموثوقية التعسفية واليقينية الجازمة والاصطناعية وادعاء النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد، وهي في نفس الوقت لا تدعي أو تناحر أو تمثل أو تنوب عن أية نتائج خاصة، إنها مجرد طريقة فحسب، مجرد منهج فقط، ويؤكد أن البراجماتية لا تعتقد بوجود حقيقة مثل الأشياء مستقلة خارجة عن التموضع العيني، فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير، كما أن الخير هو منهج للعمل والسلوك، فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ غداً أو بعد غد، لينزع عن المنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية حقائق مطلقة كينونتها المقدسة.
البراجماتية هكذا لا تلتفت "للبراهين القبلية" التي نؤمن بصحتها وننطلق منها لاستنتاجات نعتقد في صحتها التامة وفقاً للمنطق الأرسطي، ذلك المنطق الذي احتفظ بالفكر الإنساني منذ العصر الإغريقي وطوال العصور الوسطى وعصر النهضة داخل زنزانته، حتى اتضحت مسئوليته عن بقاء الفكر الإنساني أسير قضايا ومطلقات الماضي، وعجزه عن التحليق في آفاق جديدة، فهذه القضايا المرجعية المسلم بصحتها قد تكون خيالية أو خرافية أو فلنقل خاطئة، وبالتالي ستقودنا إلى نتائج وتطبيقات خاطئة، لكن لعل الأخطر من هذا يحدث في ظل افتراض صحة هذه المرجعيات، لأننا وفقاً لمنطق المرجعيات القبلية ومنطق أرسطو لا نستطيع أن نقفز في الفراغ خشية الضلال أو الضياع، وهذا معناه حرمان طائر العقل من جناحيه اللذين يحلق بهما، لمجرد خوفنا من ضياعه في الفضاء الفسيح، لهذا كان لابد للعلم من منطق جديد يحرر العقل من سيطرة المقدمات الأرسطية الشهيرة، ليتخذ لنفسه منهج "افتراض الفروض"، والتي هي بمثابة قفزة في الفراغ أو الفضاء، لكنها لا تؤدي للضياع، فعلى العالم الذي "افترض" أن يرجع للمعامل لإجراء التجارب العملية التي قد تثبت صحة أو خطأ فروضه، وهنا نكون قد "ضربنا عصفورين بحجر واحد"، تجنبنا اللجوء لمرجعيات أو مقدمات قد تكون زائفة، وحررنا العقل من البقاء أسير القديم حتى الصحيح منه، والذي أعاقنا منطق أرسطو ذو البراهين القبلية (التي تسبق التطبيق) عن تجاوزه إلى آفاق أكثر رحابة.
بهذا التحرر العلمي التجريبي للعقل يكون قد آن أوان البرجماتية كفلسفة تشير إلى منهج عقلي وسلوكي يشمل كل مناحي الحياة، وليس فقط معامل الأبحاث البيولوجية والفيزيائية، وتنتهي معها عصور البراهين اليقينية "القبلية" التي يتأسس برهان صحتها على الانتساب لماض قريب أو بعيد، ليبدأ عصر الافتراضات الحرة المنطلقة ببراهينها "البعدية" العملية التجريبية.
البرجماتية هكذا لا تشكل قطيعة مع الماضي عبر رفض مقولاته جملة وتفصيلاً، لكنها تنتزعه من موقع المرجعية، وتسحبه معها إلى ساحة الرهان المادي المصلحي، فما ينفع الناس يبقى في الأرض، وما يضرهم يذهب هباء غير مأسوف عليه، وهذا قريب إلى حد ما من المذهب الفقهي الإسلامي الذي يقول "حيث المصلحة فهناك الشرع".
إلى هنا يبدو الحديث سلساً لا إشكالية فيه، كما يبدو جلياً أن هذا المنهج العملي هو الذي سار بموجبه الإنسان طوال مسيرته الحضارية، بغض النظر عما قد يردد في بعض المناسبات من أقوال أو نظريات ومقولات فلسفية ودوجماطيقية، يتزين بها أمام مستمعيه، بل وأمام ذاته المثقلة بثقافة منافقة مفارقة للواقع ولاحتياجاته العملية الحياتية، لكن تلك الفلسفة "بعدية البرهان" تأتي مشاكل تطبيقها "بعدية" أيضاً، وتظهر تلك المشاكل عند تقييم "نجاح" أو "صلاح" ما تم تطبيقه من أفكار بما ترتب عليها من "سلوكيات".
ما هو معيار تحقيق "النجاح"، فهل يقاس إلى مصالح "فرد واحد" أو مجموعة طائفية أو وطنية واحدة، أم تقاس صلاحيته بناء على نتائجه على كل من يشملهم دائرة تأثيره، فالسارق يحقق نتائج نجاح لنفسه بما اغتصبه من أموال، فهل هذا يكفي للحكم بالصلاحية على سلوك السرقة، أم أنه يلزمنا أن نضم لمبحث نتائج السلوك المجني عليه أيضاً، بل ونضم من ينزعجون لسلوك السرقة وما يسببه لهم من هلع أو قلق على ممتلكاتهم؟
الإشكالية الثانية والأخطر في التقييم البرجماتي للسلوك تأتي من الفترة الزمنية التي نحكم على الصلاحية من خلالها، فهناك نتائج سريعة قد تحكم على "سلوك السرقة" بالصلاحية، إذا ما توقفنا عند تمكن السارق من الاحتفاظ بما سرق أو التمتع به لبعض الوقت، لكن إذا ما طالت فترة الحكم بالصلاحية بضعة أيام أو شهور أو حتى سنوات، فقد نرى السارق خلف قضبان العدالة ليحاسب عما جنت يداه.
الإشكالية الثالثة تأتي من ضرورة أن يرتبط الحكم بالصلاحية على سلوك ما بقابليته للانتقال من الخصوصية للتعميم، فالسلوك الذي نحكم عليه بالصلاحية لا يكون صحيحاً إذا ما كان هذا السلوك يجلب المنفعه لفرد واحد أو مجموعة، لكن إذا طبقه جميع الناس فستكون النتائج سلبية أو حتى كارثية، ونستشهد هنا بمثالنا عن "سلوك السرقة"، الذي قد يأتي بنتائج إيجابية لفرد أو عصابة إجرامية، لكنه يأتي بنتائج كارثية إذا ما طبقه جميع أفراد المجتمع، الذي يتحول عندها لمجتمع من اللصوص يسرقون بعضهم بعضاً.
الطريف هو أن أفضل ختام لهذه المقاربة التبسيطية للفلسفة البرجماتية استعراض بعض خطايا وليس أخطاء الإدرات الأمريكية المتعاقبة باسم البرجماتية، فباسمها استخدمت الولايات المتحدة أم البرجماتية الجماعات الجهادية لتضرب بها الماركسية في أفغانستان، وقد تحقق لها بالفعل ما أرادت، لكنها سقطت في الإشكاليات الثلاث التي أشرنا إليها عاليه.
فمن حيث الإشكالية الأولى وهي قياس ليس مصلحة فرد واحد ولكن مصالح جميع من يدخلون في دائرة التأثر بالسلوك محل النظر، فلقد أضرت الولايات المتحدة بالدول التي خرج منها المجاهدون، وقد عادوا إليها قتلة محترفين ومخربين، ليمارسوا فيها ما قد تدربوا عليه برعاية الولايات المتحدة الأمريكية راعية البرجماتية والليبرالية وقاطرة الحضارة البشرية.
الإشكالية الثانية المتعلقة بالفترة الزمنية التي يحكم من خلالها على السلوك وقعت فيها أيضاً الإدرات الأمريكية، والتي حققت نتائج جيدة قصيرة المدى، بلغت مثلاً في الحالة الليبية بضعة شهور قليلة خالت فيها أنها حققت النصر على نظام القذافي المجنون عبر نصرتها لجماعات ثائرة، ومالبثت بعد تلك الشهور القليلة مما بدا نجاحاً أن وجدت ذات تلك الجماعات تذبح أربعة من بعثتها الدبلوماسية وتمثل بجثثهم، وقد يحدث بمصر التي ساندت الولايات المتحدة فيها الإخوان المسلمين حتى وصولهم للحكم شيئاً مثل هذا أو قريباً منه الآن أو غداً، إذا ما تمكنت جماعة الإخوان من السيطرة الفعلية على البلاد.
لم تخل سياسات أو سلوكيات الإدرات الأمريكية البرجماتية أيضاً من السقوط في الإشكالية الثالثة، والمتعلقة بارتباط صلاحية السلوك بصلاحيته للتعميم ليصير سلوكيات الجميع، وليس فرداً أو مجموعة واحدة، فالنظام الإيراني الديكتاتوري المعادي للحضارة والمتحضرين يستخدم أيضاً ذات التكتيك أو السلوك لتدعيم نفوذه وتحقيق أغراضه، فيستخدم "حزب الله" لتحطيم الدولة اللبنانية والسيطرة عليها، كما يستخدم حماس لتهديد إسرائيل ومصر وشق الشعب الفلسطيني وإفشال مسيرة السلام بالمنطقة.
العيب إذن ليس في البرجماتية، ولكن فيمن يسيئون استخدامها، فيجلبون على أنفسهم وعلى غيرهم الكوارث بدلاً من تحقيق المنافع والمصالح. . هو في قصر النظر عند حساب المكاسب والخسائر، أي في التطبيق بالغ الغباء من قبل من يفترض امتلاكهم لناصية العلم والعقلانية.
kghobrial@yahoo.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
 
اجمالي القراءات 9590