تطبيق حد السرقة على طفل جائع من العوام فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل الحادى عشر : تطبيق حد السرقة على طفل جائع من العوام فى عصر قايتباى:

أحوال العوام  في القاهرة والمدن فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر قايتباى

ابن الصيرفي يظلم العوام في تاريخه:

1 ـــ إهتم مؤرخنا أحياناً بطوائف الشعب في القاهرة، وكانوا يعرفون بأهل الحرف أو الزعر والحرافيش والعامة والعوام. ويستطيع الباحث أن يتبين بعض ملامح الظلم الذى عاشه العوام من خلال إشارات فى تاريخ الهصر عن ظلم المماليك وأعوانهم من أرباب الوظائف. ومع ذلك فإن مؤرخنا (القاضى) ابن الصيرفي لم يكن عادلاً في إشاراته القليلة عن العوام، مع أنه ينتمى إليهم إذ عاش في أسواق القاهرة صيرفياً قبل أن يلحق بسلك العلماء والقضاة . وليس من السهل تبرير هذا الموقف من ابن الصيرفي إذ يتنكر للشعب الذى أتى منه في سبيل مرضاة الظلمة ، وإن كان من السهل تفسير موقفه من خلال الحياة في مجتمع يتنفس الظلم تحت شعار الشريعة التى ينفذها قضاة عرفنا نوعيتهم ، ويعبّر عنهم مؤرخون على شاكلة ابن الصيرفى . وحيث يعيش الشعب تحت ارهاب سلطة عسكرية تتمسح بالدين فلا سبيل لمخرج من هذا الظلم إلّا بتغيير ثقافى يقوم على إجتهاد يظهر حقائق الدين السماوى التى تؤكد على العدل والاحسان والحرية . وبدون هذا يزداد تلوث المناخ العام دينيا وخلقيا وسياسيا ويعلو أسافل الناس ويسود الأسوأ منهم فى ( الدين وفى الدنيا )، و تنتشر الأنانية ويسعى كل إنسان لمصلحته وصيانة نفسه وولده، بل ربما يتخلى عن أقرب الناس إليه إذا دهمه طوفان الظلم، أو على حد تعبير المثل الشعبي المصري: (يا روح ما بعدك روح..) ( إن جاك الطوفان حط ابنك تحت رجليك ). وكم اشتق شعبنا المصري من معاناته الكثير من أمثاله الشعبية.

2 ــ في غلاء سنة 873 وما حدث فيه من قطع مرتبات أرباب الوظائف وكان من بينهم مؤرخنا ابن الصيرفي يقول بعد وصف معاناة أهل طبقته:( مع أن جماعة ما طرق قلبهم الهمّ والغمّ، وهم العوام والفقراء فإنهم يتنزهون ويتفرجون فلا بارك الله فيهم، ما أقبح فعالهم.!). العوام كانوا يعيشون على الكفاف تحت سياط الظلم الذى يوقعه بهم أولئك الظالمون الذين قطع ( الظالم الأكبر ) بعض مرتباتهم، وليس متوقعا منهم أن يحزنوا لما أصاب بعض الظالمين من قطع بعض مرتباتهم. ويبدو أن مؤرخنا القاضى كان يتوقع أن يلطم العوام الخدود ويشقوا الجيوب أو أن يقوموا بمظاهرة تحتجّ على ما أصاب أرباب الوظائف الظلمة من قطع مرتباتهم، ولأنهم لم يهتموا فقد صبّ مؤرخنا القاضى جام غضبه عليهم، وكان أولى به أن ينتقد السلطان الذى أصدر قرار قطع المرتبات، ولأنه لا يستطيع فقد وجد في العوام الغلابة متنفساً لثورته المكبوتة.

السارق الأكبر يطبّق قطع اليد والأطراف على الجوعى من العوام

1 ــ وقد مر بنا أن أرباب الوظائف بما فيهم القضاة كانت لهم عادة سيئة هى أكل أموال العوام بالباطل، إذا كان للعوام أموال يمكن أكلها، ويسيئون معاملتهم ويتعالون عليهم في نفس الوقت الذى يذوبون فيه رقة في تعاملهم مع أولى الحيثية وأرباب النفوذ. وقد ذكر مؤرخنا إشارات عن ذلك في حديثه عن بعض أبناء طبقته مثل ابن المقسي وابن البارزي وعبد البر بن الشحنة . ولكننا نرى من خلال كتاباته  أنه كان يشارك أهل طبقته نفس النظرة للعوام ويتعالى عليهم ويستكثر عليهم التنزه على النيل بينما هو مهموم، وهو في نفس الوقت لا يطالب نفسه بما يطالبهم به من التعاطف والمشاركة الوجدانية، فما رأينا في كتاباته أسفاً وحزناً على مظلوم سجين أو صريع بيد زبانيه السلطان بل كان يذكر ذلك ببرود عجيب كما لو أن المقتول أو المسجون أو المضروب مجرد حشرات لا يؤبه بها، بل و قد يرصّع ذكر الحادثة التاريخية تلك بالدعاء للسلطان الظالم. وهو دائما يذكر إسم السلطان مقرونا بالدعاء له مهما فعل السلطان .

2 ـ يقول إبن الصيرفى في أحداث أول صفر 874": ( وفيه رسم السلطان نصره الله بشنق حرامى وهو مستحق لذلك فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه فسرق ثالثاً فرسم فشنق ، وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف). ولم يسأل مؤخنا نفسه عن حالة ذلك اللص المشنوق ، هل كان محتاجاً للسرقة أم لا، كيف كان يعيش بعد أن قطعوا يده ورجليه، وهل عضّه الجوع فاضطر للسرقة بعد أن فقد ثلاثة من أطرافه ولم تبق له إلا يد واحدة تناول بها ما يسد رمقه فجعلوه، سارقاً وشنقوه.. والذى أمر بشنقه هو الذى كان يسرق الجميع ويبيح له شرعه السّنى قتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين ، وبالتالى فمن حقه قتل الجميع إذا اضطرهم الجوع للسرقة.

3 ـ ونتوقّف مع قول إبن الصيرفى فى أحداث نفس اليوم : (وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف.)!! .

لم يسأل مؤرخنا القاضى نفسه هل يجوز قطع يد صبي صغير حتى لو سرق ؟ وهل يجوز تطبيق الحدّ على غير المكلّف؟.!!. لم يسأل نفسه شيئاً، واكتفي بالدعاء للسلطان نصره الله ولم يأبه بالمخلوقات الآدمية التى تحطمها أقدام السلطان الذى نسي من أجله الشعب الذى أنجبه واحتضنه. إنّ قطع يد طفل صغير بعد إتهامه بالسرقة والدعاء للسلطان بعدها يعطى جوهر الشريعة السّنية التى تقوم على أساس العبودية للحاكم المستبد وحقه فى أن يفعل ما يشاء بالشعب ، فهو لا يسأل عما يفعل . ومن هذا الاقتناع ( لا نقول : القناعة لأن إستعمالها هنا خطأ لغوى  ) ومن هذا ىالاقتناع فإن إبن الصيرفى لا يرى بأسا بقطع يد طفل صغير جائع . لا يرى بأسا فى ذلك وهو قاض ، ولا يرى بأسا فى ذلك وهو مؤرخ .

ولا عزاء للعوام ولا قيمة لهم عند المؤرخين

1 ـ لقد كانت عادة سيئة للمؤرخين فى العصور الوسطى ـ خصوصا فى الحوليات التاريخية ، أن يطوفوا حول الحاكم تمجيدا ؛ يذكرون كل أخباره ، التافه منها والهام . أما آحاد الناس من الشعب فلا نصيب له  من الاهتمام . المؤرخ وقتها كان يولّى وجهه شطر الحاكم آناء الليل وأطراف النهار ، لا يلتفت الى آحاد الناس إلّا إذا وقعت له مصيبة ، عندها فقط يستحق الاهتمام وأن يأتى ذكره بين سطور التاريخ .أى كان لا بد لآحاد الناس من القتل أو الشنق أو قطع الأطراف حتى يتكرّم عليه المؤرخ بتسجيله فى التاريخ . بل حتى عندما يكتب عنه سطرا أو سطرين فالمؤرخ لا يذكر أسماء أولئك الضحايا المساكين. ونستعيد ما كتبه مؤرخنا:( وفيه رسم السلطان نصره الله بشنق حرامى وهو مستحق لذلك فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه فسرق ثالثاً فرسم فشنق ، وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف)، فلا نعرف إسم المشنوق ولا إسم الصبى الذى قطعوا يده ، ولا نعرف تفاصيل القصة ، وكيف سرق هذا ومن حكم عليه ، وممّن سرق وما هو المسروق ..

2 ـ وابن الصيرفى ليس بدعا فى هذا فى تجاهله للعوام وآحاد الناس وطوفانه حول الحاكم . كان على نفس الطريق أساتذته المؤرخون الفقهاء المحدثون ، وأهمهم ابن حجر العسقلانى . وعلى نفس السّنة تسير أجهزة الإعلام فى الدول المسنبدة حتى الآن . إنها ثقافة سائدة ترسّبت بفعل دين أرضى تحكّم وتسيّد ، وتأثر به فى العصر المملوكى ( قضاة الشرع ) الحاكمون ، بل وتأثر به العوام المظاليم أنفسهم ، إذ كانوا يحبون الظالم الأكبر قايتباى .!!

حب العوام للسلطان قايتباى:

1 ــ ومهما يكن فإن موقف مؤرخنا القاضى ابن الصيرفي المعادة للعامة يجعله وثيق الصلة بالعامة! كيف.

فابن الصيرفي الذى تنكر لأهله وشعبه وحابي الظلمة على حسابهم إنما كان يصدر في حقيقة موقفه عن نفس موقف العوام في القاهرة، إذ كانوا يحبون السلطان قايتباى ويتجمعون في الشوارع للترحيب به والهتاف باسمه. ومن ثقافة العبيد المتأصّلة أن يتحمل الظلمة من أعوان المستبد كراهية المظلومين بينما يظل السلطان الظالم الأكبر متمتعاً بحب الناس طالماً بقي في الحكم، فإذا ولى السلطان بالموت أو بالعزل انطلقت فيه الألسنة بالتجريح والسخرية، وهكذا كانوا يفعلون في العصر المملوكي. وربما لا يزالون.

2 ــ ومن العجيب أن جماهير القاهرة ومصر كانت تلاحق السلطان بالتجمهر حوله إذا شق موكبه القاهرة، ليس للفرجة والتنزه وإنما أيضاً للدعاء له.  في يوم السبت 6 ربيع الأول سنة 873 ركب السلطان للنزهة في خانقاه سرياقوس وشق القاهرة إلى موضع الخانقاه، ومكانها الأن مدينة الخانكة بالقليوبية، وفي هذه المدينة سار مع السلطان نفر يسير وترجّل ومشى في شوارع المدينة حتى شق شارع الخانقاه وقد اجتمع الخلق ( وكثر الدعاء له منهم) على حد قول مؤرخنا. وفي يوم الأربعاء 18 ذى الحجة 873 عاد السلطان من جولة له في الشرقية والغربية ونزل بالمطرية وتغدى بها وركب أخر النهار وتوجه إلى الريدانية ومكانها الآن مدينة نصر، وبات بها ، ودخل القاهرة صباح الخميس، ووصف مؤرخنا هيئة الموكب السلطان وقد كان حاضراً مع القضاة الأربعة، يقول "وركب معه- أى السلطان ــ قضاة القضاة الأربعة ونوابهم ، وكنت صحبتهم ، وسار في هذا الموكب العظيم الضخم حتى دخل من باب النصر ، ففرشت له الشقق الحرير تحت رجل فرسه ، ونثر على رأسه الذهب والفضة، وكان لدخوله يوم مشهور.)، وينقل مؤرخنا رأى المؤرخ أبى المحاسن بن تغري بردى في التهوين من استقبال الناس لقايتباى ويرد عليه فيقول: ( وقال الجمال يوسف بن تغري بردى في تاريخه:" وكان الدعاء له قليلاً، وإنما غالب ازدحام الناس للفرجة" قلت: أنا شاهدت الركبة وركبت فيها مع نواب قاضى الحنفية المحب بن الشحنة ورأيت العالم يبتهلون ويدعون للسلطان بدوام البقاء والعلو والارتقاء.). ونحن نصدق رواية مؤرخنا ابن الصيرفي فهي أكثر تعبيراً عن الشعب المصري الطيب فكم صفق للطغاة وفق ثقافة العبيد المتأصلة فيه .وقد قالها من قبل عمرو بن العاص: مصر مطية راكب.

3 ــ وكان قايتباى يشعر أحياناً بالملل من احتفال الناس به وتجمعهم لرؤيته حين يرجع من احدى نزهاته الكثيرة، فقد حدث أن رجع من احدى هذه النزهات يوم الخميس 19 جمادى الآخر 875 فصعد للقلعة من الصحراء ولم يدخل البلد مع أن أهل البلد قد تجمعوا لرؤيته. يعنى بالبلدى.. (إداهم بمبة).

4 ــ وكان المصريون في الأقاليم أكثر ابتهاجاُ برؤية السلطان. في يوم الاثنين 13 شوال 876 ( ركب السلطان من القلعة وعدّى من بولاق إلى أوسيم ، حيث استضافه الأمير خشقدم الساقى ؛ (فاجتمع له الخلائق والعوالم .. واختلطالنساء بالرجال بالوالدان فلما رأوه صاحوا بالدعاء له وعجّوا وضجّوا ، وهو ينظر إليهم ، وهم حول فرسه ،ولا يمكن أحداً من ضربهم ولا إبعادهم عنه)، أى منع حرّاسه من ضرب الجماهير . وأسهب مؤرخنا في نفاق السلطان والتعجب من شجاعته أثناء روايته لهذه الحكاية مع إشارته الطفيفة إلى أن حرس السلطان اعتادوا ضرب الناس الذين يهتفون باسمه.

5 ــ بل وصل كرم هذا الشعب إلى الاحتفاء بمن يرضى عنه السلطان من أتباعه الظلمة.. في يوم الخميس 8 محرم 876 خلع السلطان على موسى بن غريب متحدثاً في الاستادارية والوزارة عوضاً عن الداودار الكبير الذى سافر إلى الشام، فأقاموا له زفّة هائلة وأوقدوا له الشموع حتى وصل لداره.ربما حتى ينسى ما تعرض له من ( بهدلة ). وتيمناً وتفاؤلاً بسفر الداودار الكبير يشبك من مهدى لحرب شاه سوار الثائر على الدولة فى شمال العراق فإن أهل القاهرة ومصر زينوا جميع الحوانيت والأزقة والدور وصنعوا تماثيل على هيئة شاه سوار وإخوانه تعبيراً عن التفاؤل بالنصر، ويقول مؤرخنا : (واستمرت حوانيت مصر وشوارعها وأزقتها مزينة بأنواع الحلل الفاخرة.. الذى لم يسبق له مثيل بحيث لم يعهد أن وقع نظير ما ذكر في عصر من الأعصار ولا دهر من الدهور ولا في محمل ولا في حضور قائد تمرلنك ولا في عود سلطان من السفر بمثل هذه الزينة والوقيد الذى بسائر المدينة".) . والوقيد يعن الإضاءة ليلا ..

طوائف العوام رفضت الظلم:

1 ــ وبعض الحرفيين من طوائف العوام وجدوا من الجرأة ما جعلهم يرفضون الظلم. يقول مؤرخنا:( وأصبحت مصر وأهلها ( يقصد ما يعرف الآن تقريبا بالقاهرة الكبرى ) في ألم شديد من عدة وجوه : وهو أن ساكفة رُمى عليهم من ديوان الدولة جلود ( أى ألزمتهم الدولة بشراء جلود ليصنعوا منها الأحذية ) وأخذوا منهم عدة زرابيل نحو كل زربول بستة أنصاف تحت ستة آلاف زربول ، وأما الخياطون والجوخيون ( صنّاع الجوخ ) وأرباب الصنائع فيهم مجتمعون في عمل احتياج عظيم الدنيا الدوادار الكبير لأجل سفره ( أى تم تسخيرهم فى إعداد الحملة الحربية المتوجهة لقتال شاه سوار بقيادة الداودار الكبير يشبك ) ومصروفه في كل يوم على ما بلغني يصل إلى ألف دينار، ولا يقطع لأحد منهم درهماً واحداً ( أى لا يعطيه ) ..، وأما التجار الذين بالحوانيت فإنهم من أول شهر رمضان (875) إلى نصف الشهر المذكور بطّالون ( أى عاطلون ) بسبب بيع تركة الكفيلى بردبك الفارسي.. وإلى الآن ما انتهى المبيع، واتفق أن الأمير شرف الدين موسي بن غريب المتكلم في الوزارة عوضاً عن قاسم ، رمى الجلود التى أخذها منه من المدابغ على الأساكفة الذين بين القصرين وعلى أهل الصليبه: الدرهم بمثله مرتين على ما بلغني ، ( أى باعه لهم قسرا بثمن مضاعف ) ، وغرموا لأعوانه وقربائه ما لا يطيقونه،( أى أرغموهم أيضا على دفع الرشوة )، فأما أساكفة بين الصورين   فإنهم اخذوا الجلود ووعدوهم ببعض الثمن ، وأما أساكفة أهل الصليبة فقد أصبحوا فوقفوا للسلطان فردهم خدام الحوش السلطانى فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطانى الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروهم بحالهم، فغضب السلطان- نصره الله ــ على ابن غريب وانتهى الأمر بإنصاف الأساكفة.). والفضل لأساكفة الصليبية.. الذين لم يرضوا بالظلم وصمموا على الاحتجاج فأنصفهم السلطان.

2 ــ وتكرر نفس الموقف من تجار الأخفاف أو الأحذية في 8 أو 9 جمادى الآخر 876 ، فقد وقفوا للسلطان يشتكون الوزير لأنه استجد عليهم ضرائب جديدة، فقد كان عليهم في كل شهر أربعمائة درهم فزادها عليهم إلى ثلاثة آلاف، فأمر السلطان الوزير ابن غريب أن يرفع عنهم الزيادة ، وذهبوا لابن غريب فجعل المبلغ ألفاً وخمسمائة درهم فعادوا يستغيثون بالسلطان للمرة الثالثة فيما يحكيه مؤرخنا، فما كان من السلطان إلا ألغى ضرائب الأخفاف مطلقاً، يقول مؤرخنا "فالله ينصره ويحفظه ويخذل أعداءه .. آمين".

عوام وصلوا لمناصب عليا:

1 ــ وبالرشوة وصل بعض أصحاب الحرف من العوام لأعلى المناصب الديوانية في الدولة، وأشهرهم الوزير محمد البباوى الذى تولى الوزارة في ربيع الأول 868 في سلطنة خشقدم. وكان البباوى في الأصل جزارا ً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وعندما تولى الوزارة استحدث ألفاظاً عامية في خطابه مع أرباب الوظائف لديه كأن يقول: اضرب بالقلم بدلاً من أن يقول اكتب، ويقول عنه مؤرخنا أنه : ( صار يتحايل على الناس ويأخذ منهم المال الجزيل بغير طريق شرعي ، ويتكلم بكلام لا يجوز شرعاً ولا عرفاً ولا عادة ولا مادة ولا طبعاً ولا مروءة، وهذا مشهور من الخلائق ).

2 ــ وفي عصر قايتباى تولى نظر الدولة أحد العوام من أتباع البباوى، وقال عنه مؤرخنا:( نظر الدولة بيد شخص عامى لحّام زفورى،( أى جزّار زفر الرائحة )، وكان مقدم الدولة في وزارة البباوى، والجنسية علة الضيم.). ولم يذكر ابن الصيرفي اسم ذلك الرجل وتبدو كراهيته له خصوصاً في عبارته الأخيرة ( والجنسية علة الضيم) التى تعكس إحساس مؤرخنا بالتعالى على البيئة الشعبية التى خيل إليه أنه انفصل عنها واعتبرها "جنسية" أخرى مع أن ابن الصيرفي هو أيضا من العوام الذى وصلوا.

إشاعات العوام:

1 ــ والعوام كانت لهم مشاركتهم في الحياة السياسية عن طريق الإشاعات التى كانوا يطلقونها والتى كان لها أحياناً تأثير إيجابي في تشجيع بعض الطموحين من المماليك على الثورة، وإثارة ( البلبلة السياسية )، وكان يحدث ذلك في فترات الاضطراب السياسي خصوصاً قبل تولى قايتباى السلطة، وتغير الوضع في عصر قايتباى الذى أمسك بزمام الأمور طيلة عهده، ومع ذلك فإن ابن الصيرفي في تعصبه لقايتباى كان يتخوّف من هذه الإشاعات.  خشية على سيّده السلطان قايتباى ، ففي شهر ذى الحجة 885 توجه الأمير قجماس إلى الإسكندرية ثم حضر للقاهرة، وكان العوام قد أشاعوا أنه ذهب للإسكندرية ليعتقل المنصور عثمان بن جقمق وقانصوه الأحمدى الخسيف والمؤيد أحمد بن انيال، ولم يحدث ذلك، ويعلق ابن الصيرفي قائلاً "نعوذ بالله من كلام العامة". ويوم الخميس أواخر جمادى الثانية 873 حدث سوء تفاهم بين السلطان والأمير قرقماس الجلب واجتمع قرقماس بزملائه (خشداشيته) يقول مؤرخنا "فأشاع السخيفو العقول أنه لابد من ركوب- أى ثورة  ــ على السلطان ويأبى الله ذلك والمسلمون.)

2 ــ وقد تأتى الإشاعات على هوى السلطان فيشيد بها ابن الصيرفي، فقد اشيع أنهم قبضوا على شاه سوار، ولم يحدث ذلك، يقول مؤرخنا: ( لم يصح شيء مما قالوه العوام من القبض على شاه سوار ولكن السلطان تفاءل.).

اجمالي القراءات 11700