تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الأول: الصحيفة
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الأول: الصحيفة

محمود علي مراد في الأحد ١٦ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل الأول

الصحيفة

تحليل النص

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم([1])

ملحوظات

هذه الجملة التي يقدم بها ابن إسحاق الصحيفة لا تتناول جميع ما ورد في الصحيفة من أغراض. كذلك فإن التنافر يشوب مادتها في عدة مواضع.

1- فبينما يظهر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها باعتباره مؤلفها الوحيد، وهو ما يجعل منها عملاً من طرف واحد وإعلاناً صادراً من سلطة عليا، يتحدث تعبير "بين المهاجرين والأنصار" عن طرفين متعاقدين عقدا معاهدةً فيما بينهما.

2- الطرفان المتعاقدان في هذه المعاهدة ليسا هما اللذان يعترفان بدين اليهود وبحقهم على أموالهم، بل الذي يعترف بذلك هو مؤلف الوثيقة.

3- اليهود لا يظهرون في هذه المقدمة ضمن الأطراف المتعاقدة بجانب المهاجرين والأنصار بل هم يشكلون، بشكلٍ ما، طرفاً غائباً.

4- مقدمة ابن إسحاق لا تذكر الأشخاص الذين يمثلون الأطراف المتعاقدة. كذلك فإنها لا تذكر إتمام إجراء التوقيع.

5- الصحيفة تفرض التزامات على طائفة رابعة من الأشخاص هم المشركون، ولكن مقدمة ابن إسحاق لا تقول ذلك.

6- المقدمة تتحدث عن "المهاجرين" و "الأنصار" بينما لا تستخدم الوثيقة هذين التعبيرين.

بسم الله الرحمن الرحيم

ملحوظة

هذه الصيغة ترد في صدر كل سور القرآن الكريم ما عدا سورة واحدة. وكان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبعه في ذلك المسلمون حتى اليوم، أن يقولها قبل البدء في التحدُّث أو الشروع في أي عملٍ  على قدرٍ من الأهمية. وكان يسجلها في جميع ما يصدر عنه من رسائل وكتابات. ووجود هذه الصيغة على رأس الصحيفة إشارةٌ إلى طابعها الإسلامي الخالص. وفي رأينا أن يهود المدينة ومشركيها ما كانوا يقبلون بمحض إرادتهم توقيع وثيقةٍ تحملها.

المادة 1

هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم،

ملحوظات

1- محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المادة يبدو باعتباره محرر الوثيقة ومؤلفها لا ضمن مَن تنطبق عليهم أحكامها. ولكي يكون ضمن هؤلاء، كان الواجب أن تضاف كلمة "بينه" و حرف "الواو" قبل كلمة "بين".

2- الازدواجية التي أشرنا إليها في تقديم ابن إسحاق فيما يتعلق بطبيعة هذه الوثيقة - وهل هي إعلان أم معاهدة - ظاهرة في هذه المادة.

3- ليس من الواضح في صياغة المادة 1، لو افترضنا أنها معاهدة، مَن هم أطرافها المتعاقدون. والواقع أن هناك تفسيرين ممكنين:

 أ ) الأول الذي يكون فيه الطرفان مسلمي قريش ويثرب من جهة و"من تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم"، من جهةٍ أخرى.

ب) الثاني تفسيرٌ تكون فيه الأطراف كل من ورد ذكرهم بعد كلمة "بين"، بلا استثناء.

4- المادة غير واضحة فيما يتعلق بهوية الأشخاص الذين تعنيهم فيما خلا المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب: هل هم اليهود والمشركون الذين ورد ذكرهم في بعض مواد الوثيقة؟ هذا شيء مستبعد إذ أنه لا اليهود ولا المشركون كانوا يعترفون بصفة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كنبي. ومن جهة أخرى لا يمكن، بأي صورةٍ من الصور، ادِّعاء أن اليهود أو المشركين لحقوا بالمسلمين أو جاهدوا معهم. إن الرسول صلى الله عليه وسلم ومسلمي المدينة لم يكن قد أصبح لهم، في اللحظة التي يضع فيها ابن إسحاق تاريخ هذه الصحيفة، أي خلال السنة الأولى من الهجرة، من السلطان ما يجعل اليهود والمشركين يرون من مصلحتهم أن يتبعوهم ويجاهدوا معهم.

5- نظراً إلى خاصية اللغة العربية في استخدام صيغة الماضي أحياناً للإشارة إلى المستقبل، هل كان الأمر يتعلق بالأشخاص في الجزيرة العربية الذين كان مقدراً لهم أن يعتنقوا الإسلام بعد التوقيع على الصحيفة؟ هذا الافتراض هو الآخر يقتضي استبعاده وذلك، من جهة، لأن مَن يعتنقون الإسلام في تاريخ ٍلاحقٍ على تاريخ الصحيفة لم يكن بوسعهم جميعاً أن يتْبَعوا مسلمي يثرب وأن يجاهدوا معهم، كما أن المادة، من جهة أخرى، لا تشير إلى من يستجد من اليهود ومن المشركين.

6- كلمتا "المؤمنين" و "المسلمين" ليستا مترادفتين. وكل من كانوا يسمون أنفسهم بالمسلمين أو الذين كان معروفاً أنهم مسلمون لم يكونوا بالضرورة مؤمنين، وقد رأينا أن من بين مسلمي المدينة نفراً كانوا منافقين. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم على وعيٍ شديدٍ بهذه الحقيقة، التي وردت فضلاً عن ذلك في القرآن الكريم. وفي رأينا أن من غير المتصور أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قدَّم المؤمنين كطرف متعاقد في هذه الوثيقة ولم يقدِّم المسلمين إلا في هذه المادة الأولى وفي المادتين 28 و 41.

المادة 2

إنهم أمة واحدة من دون الناس،

ملحوظات

كلمة أُمَّـة، من أم، التي ترجمها بلاشير بـ «Communauté»- ونحن نقره على ذلك - كلمة مركزية في هذه المادة، وفي الوثيقة كلها. لذلك فمن المهم معرفة معناها بدقة. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا لها عدة معانٍ:

1- فهي في الغالبية العظمى من الحالات تعني شعباً «Peuple»كما في الآيات التالية:

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿63﴾ [النحل]

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴿44﴾[المؤمنون]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِم وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِم لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلوا بِالْبَاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُم فَكَيْفَ كَاَنَ عِقَابِ ﴿5﴾ [غافر]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴿42﴾[الأنعام]

– …كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ … ﴿38﴾[الأعراف]

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ﴿36﴾[النحل]

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيةٍ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا اليَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴿28﴾[الجاثية]

وفي جميع هذه الأمثلة ينصرف القول إلى أممٍ أو شعوبٍ قديمة. على أن هناك آيات تتحدث عن الحاضر أو عن المستقبل، مثل:

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ﴿18﴾[العنكبوت]

–  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ﴿41﴾[النساء]

وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴿104﴾[آل عمران]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ … ﴿110﴾[آل عمران]

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا … ﴿143﴾[البقرة]

– … لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49﴾[يونس]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿141﴾[البقرة]

2- ويحدث أن يكون لكلمة أمة أحياناً معنى مجموعة «Groupe»تنتمي إلى كيانٍ أكبر، مثل:

لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَّتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
﴿113﴾[آل عمران]

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنـزلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴿66﴾[المائدة]

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَّهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿181﴾[الأعراف]

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿168﴾[الأعراف]

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا … ﴿160﴾[الأعراف]

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا…﴿164﴾[الأعراف]

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَّهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴿159﴾[الأعراف]

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ … ﴿23﴾[القصص]

3- وفيما عدا هذين المعنيين من الممكن أن يكون لكلمة "أمة"، طبقاً لـ "المنتخب في تفسير القرآن الكريم" معنى:

 أ ) الدينكما في:

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ([2]) أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴿52﴾[المؤمنون]

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً([3]) وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾[هود]

ب) فترة زمنيةكما في حديث يوسف عليه السلام:

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ([4]) أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾[يوسف]

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ([5]) مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ…﴿8﴾[هود]

4- وأخيراً فإن القرآن الكريم يخبرنا أن بني البشر ليسوا الأمم الوحيدة على الأرض وأنه:

مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَّطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم… ﴿38﴾[الأنعام]

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا … ﴿38﴾[الأعراف]

على ضوء ما سبق، ما الذي تعنيه لفظة أمة في المادة 2 من الوثيقة ؟

إن بالوسع بادئ ذي بدء استبعاد المعنيين الأخيرين، أي ذلك الذي يشير إلى الفترة الزمنية وذلك الذي يشير إلى جنس من أجناس المخلوقات. وينبغي أيضاً استبعاد المعنى الأول إذ أن يثرب كلها لم تكن تشكل شعباً أو أمة. وفضلاً عن هذا، فإن معنى الأمة باعتبارها ديناً يقتضي استبعاده، إذ أن المادة تتحدث عن بَشَرٍ لا عن معتقدهم الديني. والمعنى الوحيد الذي ينبغي في رأينا إعطاؤه لهذه الكلمة في المادة 2 هو مجموعة من الأشخاص داخل مجتمعٍ أكبر تتميز عن غيرها بسماتٍ خاصة. وهذا هو ما تعبِّر عنه المادة المذكورة بكلمة "واحدة" وبعبارة "من دون الناس".

ما هي السمات الخاصة التي تفصل هذه الأمة عن سواها من الناس في مجتمع المدينة أو الجزيرة العربية كلها؟ هذا هو كلّ السؤال.

هذه السمات، لو كان "مَن تبع المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب" هم مسلمون آخرون، تنحصر في سمة واحدة هي صفتهم كمسلمين. على أن ذلك يثير سؤالاً آخر: هل يُستبعَد تلقائياً من الأمة مسلمو قريش ومناطق الجزيرة العربية الأخرى الذين، رغم اعتناقهم لدينهم، لم يلحقوا بهم في يثرب، أو المسلمون الذين كانوا في أرض الحبشة ولم يجاهدوا معهم؟ وهل كفَّت أمة الإسلام عن الوجود بموت محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه أم أنها بقيت بعدهم؟

والإجابة هي أن هناك تعارضاً أساسياً بين أمةٍ مسلمةٍ تتكون من مسلمي قريش ويثرب ومن غيرهم من المسلمين الذين لحقوا بهم في يثرب وبين الأمة المشار إليها في الآيات الكريمة [النساء: 41] و[آل عمران: 104 ، 110] و[البقرة: 143] السابق ذكرها. أولاً لأن هذه الأمة الأخيرة لا تقوم على الانتماء إلى مجموعةٍ محددة ولكن على الإيمان بعددٍ من المبادئ الدينية: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ" ﴿110﴾[آل عمران]. وتقع على كل مسلم مسئولية يسميها القرآن الكريم بالشهادة حيال الناس: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَّتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَّنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"﴿143﴾[البقرة]. وهي أمة تتكون من المؤمنين وحدهم ولا يمكن وفقاً لذلك أن يحاط بها في وثيقة ما.

وهناك اعتبار آخر يحملنا على الظن بأن هذه الوثيقة، أياً كان تعريفها، لم تكن من تحرير الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أنه لم يكن لها داع. فالمسلمون المؤمنون لم يكونوا بحاجة إلى وثيقة غير القرآن الكريم لكي يشكلوا أمة. لقد كان في يثرب أمة من اليهود وأمة مشركة أو لا دين لها، ولم تكن هذه الأمم بحاجة، لكي توجد، إلى وثيقة ما. فما هو الداعي الذي اقتضى أن تكون هناك وثيقة لوجود أمة إسلامية؟ الإسلام لم يكن جنسية. واعتناق هذا الدين كان قراراً شخصياً، وكان المسلم حراً في تصرفاته. ومكافأته على الصالح من أعماله وعقابه على خطاياه - إلا إذا كانت أعمالاً إجرامية - إنما كان يتلقاهما في حياته الآخرة. المسلم لم يكن مجبراً على الصلاة أو على القتال أو على دفع الزكاة على ماله أو على ما يكسب. وليس في القرآن الكريم على أي حال عقوبة توقع على من لا يؤدون واجباتهم الدينية.

وأخيراً فإن جميع القواعد المتعلقة بحياة المسلمين في المجتمع وبسلوكهم في علاقاتهم بإخوانهم في الدين أو بغير المسلمين واردة في القرآن الكريم؛ وكان هذا الكتاب هو دستور المسلمين وقانونهم الحق. ولم يكن بالرسول صلى الله عليه وسلم حاجة إلى وثيقة أخرى أو إلى عقد اتفاقات خاصة مع اليهود والمشركين بشأن الموضوعات التي نـزلت فيها توجيهات قرآنية. ولا يمنع هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد اتفاقات أو معاهدات بشأن مسائل خاصة مع هؤلاء أو أولئك؛ وهي التي يشير إليها القرآن الكريم في آياتٍ مثل: "الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ"﴿56﴾[الأنفال].

المادة 3

المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

ملحوظات

هناك تفرقة لابد من إجرائها بين الحالات التي تتمخض عن دفع العقل وتلك التي تتمخض عن دفع الفداء.

1-العقل:

أ ) كان هذا العقل يمثل التعويض الذي تدفعه قبيلة القاتل إلى قبيلة المقتول لتفادي أن تنتقم هذه الأخيرة لقتل عضو من أعضائها بقتل القاتل أو فردٍ من قبيلته. والعمل الذي يترتب عليه دفع هذا التعويض كان بالتالي عملاً غير قانوني ارتكبه فردٌ ضد فرد من قبيلة أخرى في زمن السلم. والحاصل أن مسألة دفع العقل (أي الدية) فيما لو ارتكب مسلمٌ من مهاجري قريش جريمة قتل لم تكن من بين المسائل التي كانت مطروحة في بداية الفترة المدنية بإلحاح يقتضي من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحلها على سبيل الأولوية بنص تشريعي كبير. لقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى دوره كرسول مكلف بإبلاغ رسالته، مع كل ما يقتضيه ذلك من لقاءات ومناقشات ومخاطر، كان عليه، باعتباره رئيس الأمة الإسلامية، أن يحل عدداً كبيراً من المشكلات العاجلة المتعلقة بالمهاجرين. ولو أنه عجز عن إيجاد هذا الحل لأصبحت الهجرة بليَّة كبرى له وللإسلام. وفي غمار جميع هذه المشاغل والمشكلات الحقيقية كانت المسألة الخاصة بمعرفة مَن الذي عليه أداء العقل لو أن أحد المهاجرين ارتكب جريمة قتل، غير مطروحة على الإطلاق. والمسلمون الذين قضوا الفترة المكية كلها دون أن يرتكبوا عملاً من أعمال العنف على الرغم من أنهم كانوا مضطهدين وكانوا يلاقون التعذيب والنفي بأيدي ذويهم، والذين هاجروا في سبيل الله، تاركين وراءهم أُسراً منكوبة لا عائل لها، لم يكن في الإمكان أن يصبحوا فجأة قتلة في المدينة التي استضافتهم.

ب) ومع ذلك فإذا حدث أن مسلماً قتل أو جرح شخصاً آخر، فإن قاعدة الجاهلية بشأن المسئولية عن العقل ما كان يمكن أن تنطبق إلا بالقدر الذي لم تكن تتعارض به مع قواعد الشريعة الإسلامية أو مع التحولات الناجمة عن تكوين أمة الإسلام. وقاعدة الجاهلية، التي كانت قاعدة التضامن التلقائي بين أفراد القبيلة الواحدة ، لم تكن سارية إذا كانت قبيلة الجاني مشركة. كذلك فإذا كانت جريمة المهاجر عمدية وبلا عذر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يقبل أن يطلب من سائر المهاجرين أن يدفعوا العقل لإنقاذه. ومعنى هذا أن وضع مثل هذا المجرم أصبح أسوأ من وضعه في زمن الجاهلية إذ أنه لم يكن باستطاعته أن يعتمد في دفع دية القتيل لا على قبيلته، التي قطع علاقته بها، ولا على المسلمين الذين كانوا يعتبرون فعلته جريمة في حق الدين.

ج) وإذا كان المؤمنون المسلمون من قريش ويثرب، كما تقول المادة 2، يشكلون أمة واحدة، فمن غير المفهوم لماذا يُفرَض نصٌ خاص لموضوع عقلهم. وكان المفروض أن تكون القاعدة بالنسبة لهم هي القاعدة المطبقة على جميع المسلمين.

2-الفداء:

الفداء كان الثمن الذي كانت قبيلة المحارب الذي وقع في الأسر تدفعه لإطلاق سراحه تفادياً لقتله أو لاسترقاقه من جانب العدو الذي أسره. والحاصل:

–  أن شيئاً ما في حديث السيرة عن السنة الأولى للهجرة لم يكن يحمل على الظن بأن حرباً كانت مرتقبة بين المسلمين وبين أعداءٍ أياً ما كانوا.

– على افتراض احتمال قيام حرب يؤسر فيها أحد المهاجرين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، باعتباره رئيساً للأمة، هو الذي كان يقع عليه عبء دفع الفدية اللازمة لإطلاق سراحه، وكان من واجب جميع المسلمين – لا المهاجرين وحدهم – أن يسهموا في دفع هذه الفدية.

المادة 4

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 5

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 6

وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 7

وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 8

وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 9

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 10

وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

المادة 11

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

ملحوظات على المواد من 4 إلى 11

هذه المواد الثماني تثير التساؤلات والملحوظات الآتية:

1- بنو عوف وبنو ساعدة وبنو الحارث وبنو جشم وبنو النجار وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت وبنو الأوس، مَن هم بالضبط: قبائل أم بطون؟ لقد كان عرب المدينة من غير اليهود، طبقاً للسيرة، منقسمين إلى قبيلتين كبريين كانت إحداهما تسمى بالأوس والأخرى بالخزرج؛ ولم تكن المجموعات الثماني السابقة بالتالي سوى فروع من هاتين القبيلتين الكبريين، أي بطون منها.

2- هذه البطون الثمانية، هل كانت تمثل بطون الأوس والخزرج كلها أم كانت تمثل جزءاً فحسب من هاتين القبيلتين؟ ليس هناك في أي مكان من "السيرة" قائمة تعطي أسماء بطون الأوس والخزرج بالكامل. ومع ذلك ففي الإمكان الرد على هذا السؤال بمقارنة قائمة البطون المسماة في الصحيفة بقوائم أخرى لبطون بالمدينة واردة في "السيرة". والحاصل أن هذه "السيرة" تقدم لنا قائمتين يمكن الاستفادة منهما: قائمة بمسلمي المدينة الذين عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بيعة العقبة الثانية المسماة ببيعة الحرب قبل الهجرة بوقت قليل، وقائمة "بالأنصار" الذين اشتركوا في غزوة بدر، بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة. والبطون التي كان ينتمي إليها الحجاج الثلاثة والسبعون والحاجتان في العقبة كان عددها خمسة عشر، ولكن من هذه البطون خمسة فقط ذكرت أسماؤها في المواد من 4 إلى 11 من الصحيفة، وهو ما يدل على أن البطون المذكورة في الصحيفة لم تكن تشكل سوى جزءٍ من البطون التي كانت حاضرة في بيعة العقبة. ويؤيد هذه النتيجة بصورةٍ أكثر دلالة، المقارنة بين بطون الصحيفة وبطون محاربي بدر الذين بلغ عددهم مائتين وواحد وثلاثين كانوا ينتمون إلى اثنين وستين من بطون الأوس والخزرج. والحاصل أن ستة فقط من هذه البطون وردت أسماؤها في المواد من 4 إلى 11 من الوثيقة. ومن هذه الإحصائية البسيطة نرى أن البطون الثمانية التي ورد ذكرها في صحيفتنا لا تمثل سوى أقلية من بطون المدينة: 13 في المائة فقط من البطون التي اشترك أفرادها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر، ونسبتها تكون أقل حتى من هذا الرقم لو أُخذت في الاعتبار البطون التي لم ترسل مقاتلين إلى بدر.

3- ماذا كانت الأهمية العددية لأعضاء البطون الثمانية المذكورة بالنسبة لمجموع سكان المدينة؟ ما مِن أحد يدري.

المادة 12

وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أو: مفرجاً) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل،

ملحوظات

 أ ) المسلمون، باعتبارهم أخوة في الدين، من واجبهم أن يتعاونوا في جميع الظروف: 

وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ …﴿2﴾[المائدة]

ومن ثم فقد كان من واجب المسلمين الديني أن يساهموا في دفع فدية مَن يؤسر منهم في حرب من أجل الدين. على أنه كان محظوراً عليهم أن يقدموا يد المساعدة لمن يرتكب منهم عملاً إجرامياً، سواء ٌ بقتل شخص أو بالاعتداء عليه أو على ماله. وهذه المادة لا تضيف شيئاً إلى القواعد التي نص عليها القرآن ولم تكن هناك حاجة إلى تكرارها في وثيقة مستقلة.

ب) مسألة المسئولية عن دفع فدية الأسرى لم تكن، كما سبق القول، مطروحة على المسلمين في السنة الأولى من الهجرة.

المادة 13

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه،

ملحوظة

هذه قاعدة بديهية لم تكن ثمة حاجة إلى النص عليها في وثيقة تشريعية. وهي مترتبة على منطق الرق ذاته فإن المولى (العبد)، لكونه تحت سلطة مولاه المطلقة، لم يكن حراً في تصرفاته ولم يكن باستطاعته أن يدخل في أي حلف دون موافقة هذا الأخير. وإذا فعل ذلك فقد كان لدى سيده من الوسائل ما يسمح له بمنع مثل هذا الحلف من إنتاج آثاره بل كان باستطاعته أن يعاقبه.

المادة 14

وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم،

ملحوظات

 أ ) الشخص الذي يرتكب عملاً من الأعمال المنصوص عليها في هذه المادة يضر بالجماعة، ومن الطبيعي أن تتصدى له هذه الجماعة. هذه قاعدة أولية في المجتمعات كافة، حتى في أكثرها بدائية. ولم تكن ثمة حاجة إلى تسجيلها في وثيقة.

ب) وهي على أي حال تستخلص من الآيتين 229 ، 251 من أولى سور الفترة المدنية:

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَّتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿229﴾[البقرة]

وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴿251﴾[البقرة]

ج) نص هذه المادة وخاصة العبارة التي تقول "وإن أيديهم عليه جميعاً" تعطي انطباعاً بأن جمهرة المؤمنين هي التي تباشر السلطة القضائية، الأمر الذي يتعارض مع قواعد السلطة الأساسية في شتى المجتمعات. وكانت السلطة القضائية في الإسلام منوطة بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يتعين على المسلمين طاعته، بموجب عديد من الآيات القرآنية.

المادة 15

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن،

ملحوظات

 أ ) الإسلام، على غرار جميع القوانين وجميع الديانات، يحرِّم القتل:

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالحَقِّ ومَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴿33﴾[الإسراء]

والتفرقة المقررة بالجزء الأول من المادة، إذا كانت تعني أن المسلم الذي يقتل كافراً دون مسوغٍ شرعي ينجو من القصاص المنصوص عليه في القاعدة القرآنية المشار إليها، لا تستند إلى أي نص قرآني؛ والواقع أن آيةً من الآيات لا تورد تحفظاً ما على نهي: "لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ" أو على تطبيق قانون القصاص على المسلمين في حالة القتل المتعمد لسببٍ شخصي. وما من آية ترخص للمسلم أن يقتل غير المسلم إلا في حالة الدفاع الشرعي عن النفس أو الدفاع عن الدين في حربٍ أعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم وفقاً للتوجيهات القرآنية. 

ب) هذه المادة تغفل، مرة أخرى، دور الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره القاضي في مجتمع المدينة. والأمر هنا يتعلق بفعلٍ معاقبٍ عليه، بمقتضى قانون القصاص وبمقتضى الشريعة، بالقتل إلا إذا دُفعت الدية. على أن هذه التسوية لم تكن تتم في المدينة، كما كانت تتم أيام الجاهلية، بين قبيلة المقتول وقبيلة القاتل. ونظراً إلى أن هذا الأخير كان مسلماً فقد كان يقتضي محاكمته، وإذا ثبت جرمه فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بإعدامه أو يتحقق من دفع الدية حتى إذا كان المقتول مشركاً أو يهودياً. ومن المستحيل تصوُّر أن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم في وثيقة على حكم قانوني لا تؤيده شريعة القرآن الكريم لمعاقبة أكبر الجرائم التي يمكن أن ترتكب ضد نفس بشرية. أما الجزء الثاني من المادة فإنه تحصيل حاصل، ولكن بشرط: ألا يكون المؤمن الذي لا يجوز أن يُنتَصَر للكافر عليه قد أهدر القوانين الإلهية.

المادة 16

وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم،

ملحوظتان

 أ ) نظام "الإجارة" الذي كان الشخص يسبغ بمقتضاه حمايته على شخصٍ آخر ويجهر بذلك على الملأ، نظام قبلي قديم كان يشبِّه الشخص المجار بأعضاء قبيلة من يجيره. ولابد أن هذا النظام قد اختفى في الإسلام حين حلَّت الأخوة في الدين محل التضامن القبلي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو المخوَّل بتحميل المسلمين تبعات الإجارة.

ب) حديث السنة الأولى من الفترة المدنية ليس فيه أي إشارة إلى حالة إجارة واحدة من جانب مسلم من المسلمين. 

المادة 17

وإن المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون الناس،

ملحوظات

 أ ) رأينا من قبل أن كلمة "المولى" تعني العبد، ولكنها من الكلمات العربية التي تحتمل عدة معانٍ. وهي في القرآن الكريم مستخدمة في الآيات التالية:

– فيما يتعلق بالإرث:

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ … ﴿33﴾[النساء]

– فيما يتعلق بزكريا:

وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرَا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً ﴿5﴾[مريم]

ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ…﴿5﴾[الأحزاب]

والاسم المفرد للكلمة مستخدم خمس عشرة مرة كما في:

يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَولىً شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴿41﴾[الدخان]

ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَولَى لَهُمْ ﴿11﴾[محمد]

وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿40﴾[الأنفال]

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾[الحديد]

– … أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ﴿286﴾ [البقرة]

ب) هذه المادة ليست إلا تكراراً للآية الكريمة (71) من سورة التوبة من القرآن الكريم التي تقول:

وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ … ﴿71﴾[التوبة]

مع فارق بسيط هو أن الكلمة المستخدمة في المادة هي "موالي" وليس "أولياء" كما في الآية القرآنية. ولكن هذا مجرد اختلاف في الشكل.

ج) القاعدة التي تنص عليها هذه المادة تترتب بصورة طبيعية على فكرة الأمة.

 د) هناك تعارض بين هذا الحكم الذي يجعل الأمة الإسلامية كياناً قائماً بذاته وبين المواد من 3 إلى 11 التي تؤكد قاعدة التضامن القبلي بدفع العقل (أي الدية) والفدية والتي لا تأخذ في حسبانها انقطاع رابطة الولاء بين المسلمين وقبائلهم المشركة المترتب على دخولهم في الدين الجديد.

المادة 18

وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم،

ملحوظات

هذه المادة تثير مشكلة. ذلك أنها:

1- لا تحدد مَن هم اليهود الذين تتحدث عنهم: اليهود عموماً أم أولئك الذين سيرد ذكرهم في المواد من 28 إلى 34؛

2- لا تحدد بالضبط ما المقصود بعبارة "من تبعنا":

– هل تعني: أولئك الذين اتبعوا ديننا؟ كلا، فإن اليهود لو كانوا قد اتبعوا دين محمد لما بقوا يهوداً ولأصبحوا مسلمين. إذاً في أي مجالٍ آخر "تبعونا" ؟

– إلى من يشير ضمير الجمع "نا" بعد فعل تبع ؟ إلى محمد؟ إلى المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب؟

– أهناك صلةٌ بين اليهود الذين "تبعونا" في المادة 18 وأولئك الذين تنص عليهم المادة 1، الذين استخدم فعل "تبع" فيما يتعلق بهم في جملة "فمن تبعهم فلحق بهم"؟ بعبارة أخرى، هل اليهود المشار إليهم في المادة 18 هم كلهم أو جزء منهم الوارد ذكرهم في المادة 1 أم أنهم مجموعة مختلفة؟

3- سواء ٌتعلق الأمر باليهود عموماً أو بيهود بعض البطون المدنية، ليس في القرآن الكريم ما يسمح للمسلمين بإساءة معاملتهم أو بمعاملتهم على أنهم نفرٌ أدنى منهم، أو بنصرة أحدٍ ضدهم، أو يحظر عليهم مد يد المساعدة إليهم. والمسلك الذي قرره القرآن حيال اليهود، والنصارى بل وحتى المشركين هو ما يأتي:

لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴿8﴾[الممتحنة]

وللاستفادة من هذه المعاملة ليس من المطلوب من غير المسلم أن يتبع المسلمين كما تنص هذه المادة.

4- المادة لا تبيِّن:

– مَن هو العدو الاحتمالي المطلوب أن ينصر مسلمو مكة ويثرب اليهود عليه والذي من المحظور على المسلمين نصرته؟

– ما هو المجال الذي أُريد أن تُكفَل الأسوة فيه لليهود؟

5- استخدام صيغة الجمع في كلمة "تبعنا" تشير إلى أن الأمر هنا لا يتعلق باتفاق أو بمعاهدة ولكن بإعلان من جانب المسلمين أو رئيسهم.

6- لهجة المادة هي لهجة رئيس مدرك لقوته يريد أن يهدئ من روع مجموعة من الأشخاص الخاضعين لسلطته. والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال السنة الأولى من الهجرة لم يكن قد أصبح له من القوة ما يسمح له باستخدام هذه اللهجة مع اليهود. وليس في "السيرة" على أي حال ما يشير إلى أنه كان يعتبر أنه نظير لهم من حيث عدد مَن اتبعوه أو من حيث قوة السلاح.

7- وأقرب إلى الظن من ذلك أن يكون القصص القرآني الذي يتحدث عما أصاب اليهود من ظلم على يد فرعون، وأن تكون قصة موسى عليه السلام مع فرعون، ومعجزة البحر وخروج اليهود من مصر قد جعلت المسلمين يشعرون بالتعاطف مع اليهود الذين كانت تجربتهم مع فرعون تشبه تجربة المسلمين ذاتهم مع قريش في مكة. وحقيقة أن اليهود كانوا مثلهم مؤمنين ومن أهل الكتاب كانت تعطي للمسلمين عنهم فكرة طيبة. على أن اليهود لم يكونوا يشاطرونهم هذه المشاعر ولم يكونوا يعترفون بدينهم، ومن هنا قوله تبارك وتعالى:"هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ …"﴿119﴾ [آل عمران].

8- صيغة المادة توحي بأن اليهود الذين تتحدث عنهم كان يمكن أن يكون لهم عدو يتعهد المسلمون بنصرتهم ضده أو بالتحالف معهم. والحاصل أن المرء، مهما بحث في "السيرة"، لا يجد لليهود عدواً: لا في المدينة، حيث كان المشركون أصدقاءهم وحلفاءهم، ولا في مكة حيث كانوا مستشاريهم في الشئون الإسلامية وحلفاءهم فيما بعد في معركة الخندق. لقد كان المسلمون أعداءهم الوحيدين.

المادة 19

وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم،

ملحوظات

1- هذه المادة توحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان، في السنة الأولى للهجرة، يتوقع أن يدخل المسلمون في حرب لا تقتصر على معركة واحدة بل تمتد فترة من الزمن. والحاصل أن شيئاً في "السيرة" لا يشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفكر في مثل هذا الاحتمال، أو إلى أن الظروف في المدينة كانت تدفعه إلى التفكير فيه. لقد كان جهده، كما أوضحنا، يتجه خلال هذه الفترة إلى حل المشكلات الناجمة عن الهجرة وإلى تكوين جماعة مسلمة ذات مستقبل في المدينة. وما أتيح للمسلمين في نظرنا أن يحققوه في المجال الاقتصادي، بفضل خبرتهم التجارية ووفود أعداد كبيرة من "الحجاج"، كان يحدُّ منه حدوث ظاهرة النفاق بين مَن دخلوا الإسلام بعد الهجرة وعداء اليهود الذي زادت حدته. كان المسلمون في مهب الريح، وكانوا في المدينة من الضعف بحيث لا يُتصوَّر أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى مصلحة في شن حرب أياً كانت. إن ما أُنـزل عليه من قرآن في الفترة المكية ليس فيه إطلاقاً حديث عن الحرب، و"التربية" التي تلقاها المسلمون من القرآن الكريم في مكة كانت تربية للسلم. ولم يتخذ جهادهم أبداً شكل اللجوء إلى السلاح. وفي الفترة المدنية دعا القرآن الكريم المسلمين إلى القتال، بل جعل من القتال التزاماً دينياً، ولكن في حالات الضرورة القصوى فقط، وأحاطه بقيود تكفل منع الاعتداء وتفادي أن تطال الحرب الأبرياء. وعلى الرغم من أن الترتيب الزمني للآيات القرآنية التي تتحدث عن الحرب وعن الجهاد العسكري والقتال لم يوضع بصورة مؤكدة إلا أن بالإمكان القول بأن آية "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ"﴿190﴾ [البقرة]كانت من أوائل هذه الآيات إن لم تكن أولاها. ومن المحتمل أن تكون قد نـزلت في صدد غزوة بدر بعد الهجرة بسنة ونصف. ولم يكن "القتال في سبيل الله" الذي تشير إليه المادة 19 ممكن التصوُّر خلال السنة الأولى من الهجرة التي يدرج فيها ابن إسحاق حديث الصحيفة.

2- على فرض أن هذه الحرب كانت موضع تفكير في هذه الفترة، فإن قانون الأحكام العسكرية ما كان يمكن أن يقتصر على المادة التي نحن بصددها وكان لابد أن ينص على عقوبات لجرائم عسكرية أخرى، الأمر الذي نفتقده هنا.

3- المقاتل الذي يعقد سلماً منفصلاً مع العدو مقاتلٌ يكف عن القتال أثناء معركة محتدمة. وفعله هذا يسمى بالخيانة، إذ أن كفَّه عن القتال يعطي ميزة للعدو. ومنذ أن كانت هناك حروب بين الناس، كان مثل هذا الفعل يُعتبَر خيانة عظمى، فأي جندي يعلم أنه إذا أقدم عليه يتعرض للعار ويُحكم عليه بالإعدام. لذلك فإن النص في وثيقة على الالتزام بعدم الكف عن القتال والحرب دائرة، يبدو شيئاً في غير محله.

4- هذا النص يتجاهل حقيقة بسيطة هي أن لكل جيش قائداً أعلى وأن هذا القائد هو الوحيد الذي يملك التعامل مع العدو، وافتراض أن شخصاً غير القائد يستطيع عقد سلم انفرادي افتراضٌ غير واقعي.

المادة 20

وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً،

ملحوظات

1- فعل (غزا)([6]) يعني "سار إلى قتالهم وانتهابهم في ديارهم". ولم يرد هذا الفعل في القرآن الكريم، وإنما ورد فيه اسم (غُزَّى) في آية واحدة من الآيتين الكريمتين التاليتين:

 إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿155﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾ [آل عمران]

لقد نـزلت هاتان الآيتان، طبقاً للمفسرين، بعد غزوة أحد في السنة الثالثة. وقد استخدم ابن إسحاق وغيره من المؤرخين اسم غزوة، المشتق من الفعل ذاته، بمعنى "معركة".

2- المادة لا توضح مَن هي الغازية التي "غزت معنا". هل هي قوات شكلها اليهود حسب المواد 18 و27 و41 و43 أم هي قوات من مصدر آخر؟

3- هنا أيضاً لا يعرف المرء إلى مَن تشير صيغة الجمع في لفظة "معنا": إلى مسلمي قريش ويثرب أم إلى جميع الأطراف الوارد ذكرهم في المادة 1.

4- الحرب الوحيدة المسموح بها للمسلمين في القرآن الكريم هي الحرب في سبيل الله؛ أي الحرب من أجل الدين. لذلك فمن الصعب تصور أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر في موقف تشترك فيه قوات غير إسلامية مع المسلمين في قتال. ومن جهة أخرى فمن الصعب تصور أن يقبل اليهود والمشركون الاشتراك في حرب دينية إلى جانب المسلمين.

المادة 21

وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله،

ملحوظة

حين يُقتَل محارب في سبيل الله يجد أعضاء أسرته أنفسهم، لاسيما إذا كان دخولهم في الإسلام قد تمخض عن قطع علاقاتهم مع قبيلته، دون عائل. وكان مد يد المساعدة إلى مثل هذه الأسرة الواجب الأول لمجموع المسلمين. ولم تكن هناك حاجة لذكر هذا الواجب على وجه التحديد في وثيقة، لأن الإنفاق على ذوي الحاجة أمرٌ لعل القرآن الكريم لم يكرر الأمر بشيء كما كرره. ومن المؤكد كذلك، في مثل هذه الظروف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر وسعاً في تذكير المسلمين بهذا الواجب وفي تنظيم المساعدة لمن كانوا بحاجة إليها.

المادة 22

وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه،

ملحوظة

هذه الجملة لا تضيف شيئاً إلى عشرات الآيات التي تثني على المؤمنين المتقين.

المادة 23

وإنه لا يجير مشرك ٌمالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن،

ملحوظات

1- هذه المادة:

– موجهة إلى المشركين؛ ومعنى هذا أن الوثيقة تعترف بوجودهم في يثرب، هذا الوجود الذي أنكره ابن إسحاق حين قال: "فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة…، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها …"([7])؛

– تفرض على المشركين قاعدة للسلوك لابد أنها كانت ولا شك ضد مشاعرهم وضد مصالحهم: كانت ضد مشاعرهم إذ أنهم كانوا ولابد يحسون بالتضامن مع من هم على مثل ملتهم من قريش في أي نـزاع بين قريش ومحمد؛ وضد مصالحهم إذ أنهم إذا ما نكلوا عن حماية أموال قريش وأشخاصها، الذين كانت لهم معهم علاقات شتى، فإن حجاجهم وتجارهم وزوارهم وأموالهم كانت تُحْرَم بدورها من حماية القرشيين في مكة.

– تُعَيِّن قريشاً، كمجموع، على أنها عدو الأمة الوحيد. كان يكفي إذاً أن يكون المرء قرشياً، حتى إذا لم تكن قبيلته قد اضطهدت أفرادها المسلمين أو نفتهم، للتعرُّض للقتل أو لفقد لمال إذا وطئ أرض المدينة. 

2- "السيرة" لا تتحدث عن حالة واحدة اعتدى فيها مسلم من يثرب في وقت السلم على شخص قرشي أو على ماله أو عن مشرك من أهل المدينة منح حمايته لقرشي.

3- إزاء هذا الحظر، كان لابد أن يكون لقريش رد فعل وأن تعقد اجتماعات في مكة مع ممثلين لمشركي المدينة لمناقشة الوضع الناشئ عن مثل هذا الإجراء وعن التدابير التي يقتضي اتخاذها لتلافي ما ينتج عن تطبيقه. وإذا لم تسفر هذه الاجتماعات عن حلول تتفق مع مصالح مكة كان لابد أن تعقد اجتماعات أخرى بين قبائل قريش للنظر في وسائل للانتقام من محمد ومشركي المدينة الذين يطيعون أوامره. والحاصل أن "السيرة" لا تذكر شيئاً عن هذا الموضوع.

4- "السيرة" لا تتحدث عن حالة واحدة رفض فيها مشركٌ من أهل مكة، كرد فعل لما كان يعتبر خيانة من جانب مشركي المدينة الذين يطيعون أوامر محمد، أن يمنح جواره إلى مشرك من أهل المدينة.

5- لم يرد في أي مكان من القرآن الكريم أن قريشاً، بوصفها هذا، تعتبر عدواً لمحمد أو للإسلام. كذلك فإن القرآن الكريم لا يصرح في أي آية منه للمسلمين بالاعتداء على مشركي قريش أو مصادرة أموالهم في زمن السلم.

6- من التعديلات الكبيرة التي أدخلها الإسلام على الأخلاق القبلية فضيلة العفو. والقرآن الكريم يصور هذه الفضيلة بأحكام مثل:

ولا تَسْتَوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾[فصلت]

جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾[الشورى]

–  …وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ﴿14﴾[التغابن]

ومن المحتمل جداً أن الرسول صلى الله عليه وسلم، متحلياً بروح العفو هذه وهي الروح التي سيطبقها في السنوات التالية وفي مناسبات عديدة لاسيما عند فتح مكة، حيال عدوه المغلوب، أوصى أصحابه القرشيين بنسيان مآخذهم على مَن عذبوهم ونفوهم من مكة أو استحوذوا على أموالهم. ولابد أنه شرح لهم أن من الأفضل، خلال إقامتهم في المدينة، أن يعملوا على التعريف بديانتهم وأن يشتركوا في الجهد العام الذي يرمي إلى حل مشكلاتهم العاجلة ومشكلات جماعتهم بدلاً من التفكير في الانتقام من أعدائهم القرشيين. ولكن شيئاً من هذا لم يرد في الصحيفة.

7- وأياً ما كان الأمر، فإن المسلمين لم يكونوا في حِلٍّ من مهاجمة مَن يريدون للقصاص لأنفسهم. ذلك أن أي محاولة هوجاء للانتقام كان من الممكن أن تمس مصالح الجماعة. ولابد أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتفظ لنفسه بالكلمة الأخيرة فيما يتعلق بهذه الأمور ولابد أن هذا كان واضحاً في نفوس جميع المسلمين. ولابد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرهم به في خطب يوم الجمعة وفي محادثاته الخاصة.

المادة 24

وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قوْد به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه،

ملحوظة

القاعدة التي وضعتها هذه المادة هي، من جميع النواحي، القاعدة العرفية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بوقت طويل. وقد أقرها القرآن الكريم في الآيات الكريمة التالية:

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالحَقِّ ومَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴿33﴾[الإسراء]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿178﴾[البقرة]

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَّقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَّصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿92﴾[النساء]

وَمَن يَّقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴿93﴾[النساء]

ومن الجائز، والمرجَّح، أن هذه الآية أو تلك من الآيات المذكورة قد نـزلت بعد السنة الأولى من الهجرة. ومع ذلك فإنها تؤكد عرفاً قديماً، فيما يتعلق بدفع الدية إلى أسرة القتيل، كما أنها تضيف إلى العقوبات القديمة عقوبة إضافية هي تحرير رقبة مؤمنة.

المادة 25

وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل،

ملحوظات

1- من الواضح أن الحظر هنا ينصرف إلى الأشخاص الذين يُدخلون في الدين مفاهيم تتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم أو في تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم. والمادة لا تضيف شيئاً إلى ما يجده المرء بوفرة في القرآن الكريم.

2- كان هناك في المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى منذ السنة المدنية الأولى، شكل من أشكال الإحداث الذي لم يحمل هذا الاسم. وقد أشار القرآن الكريم إليه في ما وجهه من تقريع للمشركين ولأهل الكتاب في آيات كريمة مثل:

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ …﴿46﴾[النساء]

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا … ﴿79﴾[البقرة]

–…فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ … ﴿7﴾[آل عمران]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنـزلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً …﴿174﴾[البقرة]

ومن الصعب تصوُّر مسلم مؤمن ينصر صاحب مثل هذه الأفعال أو يؤويه. وهو إن فعل ذلك غدا منافقاً. وليس من بين حالات النفاق الواردة في "السيرة" عملٌ من هذا النوع: وبناءً على ذلك فإن هذه المادة لم يكن لها داع.

المادة 26

وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم،

ملحوظة

هذا تحصيل حاصل وهو ما تنص عليه الآية:

ومَا اخْتَلَفْتُم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ …﴿10﴾[الشورى]

وآياتٌ أخرى عديدة بعدها مثل:

فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ …﴿65﴾[النساء]

المادة 27

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين،

ملحوظات

هذه المادة لا تحدد اليهود الذين تتحدث عنهم: هل هم اليهود عامة ً أم يهود البطون المدنية التي أسلمت، الوارد ذكرهم في المواد 28 إلى 34.

فإذا كانوا اليهود عامة ً:

1- فمن غير المفهوم:

– لماذا، نظراً إلى أن الالتزامات التي تقررها التزامات مالية، لم تُذكر قبائلهم بالاسم؛

– كيف، على الرغم من كونهم يُقدَّمون في السيرة باعتبارهم أكبر أعداء الرسول وقطب العداء للإسلام، وكون الجزء الأكبر من حديث الفترة موضوع بحثنا مخصص لذكر أسماء أحبارهم، وأولئك من بينهم الذين أسلموا نفاقاً، وأسماء المنافقين الذين انضموا إليهم، وآيات القرآن التي تحمل عليهم، يمكن أن يحاربوا مع المسلمين.

2- المرء لا يراهم أبداً في "السيرة" ولهم وللمسلمين عدوٌ مشترك.

3- "السيرة" لا تصورهم أبداً في مفاوضات مع الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن حلف عسكري أياً كان.

وإذا كانوا يهود البطون المدنية التي أسلمت:

1- فمن غير المفهوم:

– أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد تصور، على الرغم من عداء اليهود لشخصه ولدينه، أن ينهض إخوانهمفي الدين من البطون المدنية يوماً من الأيام للقتال إلى جانب المؤمنين؛

– أن شيئاً في "السيرة" لا يُظهر من جانب هؤلاء اليهود مسلكاً حيال الرسول صلى الله عليه وسلم يختلف عن مسلك غيرهم من اليهود أو يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في احتمال أن يقاتل معهم عدواً مشتركاً؛

– أن أياً من حالات الدخول في الإسلام لم تُذكر في "السيرة" من جانب هذه المجموعة اليهودية المتعاطفة مع الإسلام إلى درجة إظهار الاستعداد للقتال في صف المسلمين.

2- لابد أن حالات اليهود الذين ينتمون إلى بطون مدنية أسلمت قد أسفرت، في الحروب التي قامت بين الرسول واليهود في سنوات المدينة التالية، عن مشكلات خطيرة لهم ولبطونهم وللمسلمين ولإخوانهم اليهود الآخرين. وكان المفروض أن تخصص أخبار المدينة حيزاً كبيراً للحديث عن حرجهم وانقسامهم وحيرتهم بشأن القرار الذي كان عليهم أن يتخذوه. وواقع الأمر أن شيئاً من هذا لم يرد في السيرة، بل إن باستطاعتنا القول إن هذه المادة والمواد التي تليها هي المكان الوحيد في "السيرة" الذي يظهر لهم فيه وجود ملموس.

المادة 28

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته،

المادة 29

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف،

المادة 30

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف،

المادة 31

وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف،

المادة 32

وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف،

المادة 33

وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف،

المادة 34

وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته،

ملحوظتان على المواد من 28 إلى 34

1- معنى عبارة "أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم" في المادة 28 يثير مشكلة، إذ أنه لا يتفق إطلاقاً مع تعريف الأمة الإسلامية الوارد في المادتين 1 و2 من هذه الصحيفة الذي يقرر أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم أمة ٌمن دون الناس، أي مع استبعاد غيرهم من الناس. والمسألة ليست مسألة ألفاظ فحسب. إن المادة 28 إذا كانت تعني أن يهود بني عوف وغيرهم من البطون المذكورة في الصحيفة، على الرغم من دينهم، يشكلون أمة مع المؤمنين لأنهم مؤمنون شأن المسلمين، فللمرء أن يتساءل: لماذا هم، من دون جميع يهود المدينة الآخرين وغيرهم من اليهود، يشكلون هذه الأمة؟ لماذا لم يُعتبر اليهود مؤمنين في المادة السابقة، بل اعتبروا كياناً مختلفاً عليه أن ينفق مع المؤمنين أي المسلمين؟ والمعيار بين اليهود المؤمنين واليهود غير المؤمنين هل هو إذاً حقيقة الانتماء أو عدم الانتماء إلى بطن من بطون المدينة التي أسلمت؟ إن من المستحيل تصور أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان هو ذاته وعدد كبير من صحابته المكيين، ممن نفتهم قريش قد سجل مثل هذه التفرقة ذات الطابع القبلي في وثيقة هامة. وحتى لو كانت كلمة "أمة" قد استخدمت في القرآن بمعنى "مجموعة" كما في الآية: "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَّهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" ﴿159﴾ [الأعراف]

فإن المشكلة تظل قائمة: ما هو الاختلاف بين يهود البطون المسلمة هؤلاء وبين غيرهم من اليهود، وما الذي يجعلهم مع مواليهم يستحقون أن يكونوا أمة مع المؤمنين دون باقي اليهود.

2- الفقرة الثانية من المادة 34 ليست في الواقع سوى صياغة لمبدأ عام في مسئولية الجاني عن فعله الإجرامي، وهو يسري على جميع المجتمعات وينطبق ليس على بني عوف ويهود باقي البطون المذكورة فحسب، بل أيضاً على غيرهم من اليهود وعلى المسلمين وعلى المشركين. أما أهل البيت، أي الأسرة، فإنهم يتحملون دائماً نتائج ما يرتكبه أفرادها من جرائم.

المادة 35

وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم،

ملحوظة

ليس من الواضح لماذا أُدرجت هذه المادة ضمن مجموعة المواد التي تنصرف إلى يهود بعض البطون المدنية. ونظراً إلى أنها تأتي مباشرةً بعد المادة 34 التي تتحدث عن يهود بني ثعلبة فمن المحتمل أن يكون الغرض منها هو جعل يهود جفنة يستفيدون من الوضع الذي يتمتع به يهود البطن الرئيسي أي يهود بني ثعلبة. ولكن إذا كان هذا هو المقصود فلماذا لا يطبق الحكم ذاته على فروع البطون الأخرى الوارد ذكرها في المواد من 28 إلى 34 ؟ لا إجابة.

المادة 36

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بين عوف، وإن البرَّ دون الإثم،

ملحوظتان

1- من هم بنو الشطيبة؟ إن المعنى الظاهر لهذه المادة يحمل على افتراض أنهم ليسوا بطناً من بطون اليهود. وإذا صح هذا كان بنو الشطيبة البطن اليهودي الوحيد المسمى في الصحيفة بأكملها. وهم يشبَّهون بيهود بني عوف على الرغم من أنهم لا ينتمون إلى هذه القبيلة وهو أمر في غاية الغرابة.

2- كون البر أفضل من الإثم شيءُ معروف لم يكن بحاجة إلى التسجيل في وثيقة رسمية.

المادة 37

وإن موالي ثعلبة كأنفسهم،

ملحوظات

1- إذا كانت ثعلبة في هذه المادة هم بنو ثعلبة الوارد ذكرهم في المادة 34 فمن غير المفهوم لماذا رؤي أنه من الضروري أن تسجَّل في مادة مستقلة حقيقة أن مواليهم يتمتعون بالمركز ذاته المعترف به لهم هم. والواقع أن موالي يهود بني ثعلبة إذا كان لهم، وفقاً للمادة 28، التي هي الأصل، المركز ذاته الذي يتمتع به سادتهم، فمن الطبيعي، من باب أولى، أن يكون لموالي بني ثعلبة المركز ذاته المعترف به لسادتهم المسلمين.

2- أما إذا لم تكن ثعلبة الوارد ذكرها في المادة 37 هم بنو ثعلبة المشار إليهم في المادة 34، أي إذا كانوا مَثلاً بطناً لقبيلة يهودية، فإن المادة 37 لا يكون لها معنى لأن الصحيفة لا تحدد مركزهم الذي يشبَّه به مركز مواليهم.

3- ما الوضع بالنسبة لموالي اليهود من البطون الأخرى المشار إليها في المواد من 28 إلى 34؟ الصحيفة لا ترد على هذا السؤال.

المادة 38

وإن بطانة يهود كأنفسهم،

ملحوظة

هذا تحصيل حاصل.

المادة 39

وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم،

ملحوظة

من المفترض أن كلمة "منهم" تنصرف إلى يهود البطون السبعة المدنية المذكورة في المواد من 28 إلى 34. ومعنى هذا أن هذه المادة تورد تحفظاً على الاعتراف بأن اليهود يشكلون جزءاً من الأمة مع المؤمنين (المسلمين) في حالة الحرب، إذ أن بعضهم قد يُرفَض طلبه في الانضمام إلى معسكر المسلمين. وأياً كان الأمر، فإذا كان لهؤلاء اليهود وجود فعلي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم لم يكونوا يتزاحمون للانضمام إلى معسكر المقاتلين المسلمين، وما من أحد منهم مُنع من ذلك. و"السيرة" على أي حال لا تتحدث عن شيء من هذا.

المادة 40

وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظُلم، وإن الله على أبرِّ هذا،

ملحوظات

1-  ليس لهذه المادة طابع تشريعي أو اتفاقي. وهي لا تضيف شيئاً إلى قواعد الأخلاق والحكمة التي يجدها المرء في جميع الثقافات كما يجدها في القرآن الكريم. ذلك أن:

– عبارة "وإنه لا ينحجز على ثأر جرح" طريقة أخرى للتعبير عن معنى الآية الكريمة السابق ذكرها: "وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ…" ﴿179﴾ [البقرة]

– وعبارة "وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته" طريقة أخرى لقول:"…إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ألاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ" ﴿45﴾[الشورى]

2- وجملة "وإن الله على أبرِّ هذا" طريقة أخرى لقول: "… إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ … ﴿10﴾ [فاطر].

3- الاستثناء الذي تعبر عنه عبارة "إلا من ظلم" غير مفهوم.

4- عبارة "إن الله على أبرِّ هذا" صيغة غير معتادة لطلب البركة الإلهية، وليس لها صلة بالسياق الذي وردت فيه، كما أنه ليس لها موضع في محرر كالصحيفة.

المادة 41

وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم،

ملحوظات

1- نحن هنا، من جديد، إزاء المعضلة التي طرحتها المادة 27 أعلاه والسؤال المتعلق بمعرفة اليهود الذين تتحدث عنهم المادة: هل هم اليهود عموماً أم أعضاء البطون المدنية التي أسلمت من اليهود.

2- وإلى هذه المعضلة تضاف معضلة أخرى هي: مَن هم "أهل هذه الصحيفة"؟ هل هم المؤمنون والمسلمون من قريش ويثرب ومَن جاهد معهم … ممن جاء ذكرهم في المادة 1، أم ينبغي أن يضاف إليهم:

– المشركون الوارد ذكرهم في المادة 23؛

– يهود بني عوف والبطون الأخرى المسماة في المواد 28 إلى 34؛

– اليهود عامة ً، إذا كانوا هم الذين تنصرف إليهم المادة 27؛

– موالي ثعلبة و، على سبيل الاحتمال، موالي البطون اليهودية الأخرى التي تتحدث عنها المادة 37، أم أخيراً:

– بطانة اليهود التي تشير إليها المادة 38؟

وإذا كان المقصود هو جميع هذه الفئات، وإذا نحينا جانباً الموالي والبطانة، ستكون النتيجة أن المسلمين واليهود كان يقتضي، وفقاً لهذه المادة، أن يتعاونوا ضد كل من يحارب أحدهما أو يحارب المشركين. ولكن، في هذه الحالة، ما هي الحالات المتصوَّر أن تحدث؟ إن الحالات الوحيدة التي يمكن افتراضها هي ما يأتي:

–  الحالة التي يدخل فيها المسلمون الموجودون في المدينة في حرب ضد عدو خارجي، وهي الحالة الوحيدة التي تحققت عملاً؛

–  الحالة التي يدخل فيها يهود قبائل المدينة المذكورة - أو اليهود جميعاً - في حرب ضد عدو خارجي؛

–  الحالة التي يكون المشركون فيها موضع هجوم من الخارج.

–  الحالة التي يكون فيها المسلمون واليهود والمشركون ثلاثتهم مهددين من قبل عدو خارجي مشترك.

أما حالة نشوب نـزاع مسلح بين المسلمين واليهود أو المشركين فلم يرد لها ذكر في هذه المادة. وواقع الحال أن نـزاعات مسلحة نشبت بالفعل بين المسلمين واليهود.

3- أن يتحمل اليهود نفقتهم والمسلمون نفقتهم في حرب يقاتل المسلمون واليهود فيها جنباً إلى جنب ضد عدو مشترك، وأن يتشاور المحاربون فيما بينهم، شيء ٌطبيعي، ولم تكن هناك حاجة إلى النص عليه تخصيصاً في وثيقة رسمية.

4- ألفاظ العبارة القصيرة التي تقول "والبر دون الإثم" وتُختتم بها المادتان 36 و 41 والتي نجدها في المادة 51 مقتبسة من الآية التي تقول:"… وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ …" ﴿2﴾[المائدة]

المادة 42

وإنه لم يأثم أمرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم،

ملحوظات

1- الشطر الأول من هذه المادة غير مفهوم. وإذا كان المقصود به أن المرء حين يتخذ حليفاً لا يتحمل وزر التصرفات السيئة التي يكون قد ارتكبها، فهذا ليس أمراً بديهياً. ويلاحظ أن حكم هذه المادة وارد في الماضي، بحرف "لم". وهذا يضيف إلى الصعوبة المتعلقة بفهم المادة، سيما وأنه ليس هناك شرح للملابسات التي أدت إلى النص عليها.

2- الأحلاف، كما سبق القول، كانت سمة من سمات المجتمعات القبلية في الجاهلية، والسيرة تورد بعض أمثلتها. على أن ظهور أمة تقوم على أسس دينية في الجزيرة العربية والاتساع التدريجي لهذه الأمة لابد أن يكونا قد قللا كثيراً من أهميتها فيما بين القبائل. لذلك فإن ضرورة إدراج نص بشأنها في وثيقة كبرى ليست ظاهرة.

3- تقرير مبدأ أن النصر للمظلوم في وثيقة "دستورية" أو في معاهدة شيء لا داعي له إذا عرفنا ما يوليه القرآن الكريم من أهمية لهذا الموضوع في عشرات من آياته البينات. ذلك أن الظلم يعتبر في هذا الكتاب خطيئة من الخطايا الكبرى. تشهد على ذلك آيات مثل:  

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ … ﴿54﴾[يونس]

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا …﴿13﴾[يونس]

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا العَذَابَ … ﴿85﴾ [النحل]

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴿82﴾[الأنعام]

ونصرة المظلوم واجبٌ قررته الآيات:

ولَمَن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّنْ سَبِيلٍ ﴿41﴾[الشورى]

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ … ﴿42﴾[الشورى]

بل إن الظلم إذا استشرى يُسَوِّغ اللجوء إلى القوة. ذلك أنه:

–…َلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ … ﴿251﴾[البقرة]

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  ﴿39﴾[الحج]

المادة 43

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين،

ملحوظة

هذه المادة لا تضيف شيئاً إلى المادة 41.

المادة 44

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة،

ملحوظات

1- معنى هذه المادة يشوبه غموض.

2- ليس في ما ورد في "السيرة" عن الفترة المدنية ما يساعد على فهمها.

3- لا يمكن فهم هذا المعنى كذلك بالرجوع إلى الحرم المكي، لأن الوضع من وجهة النظر هذه لم يكن واحداً في المدينتين.

4- فكرة الحرم واردة في القرآن. وفيما يلي بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عنها:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُّضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلعَالَمِينَ ﴿96﴾ [آل عمران]

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً …﴿97﴾ [آل عمران]

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ …﴿150﴾ [البقرة]

وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾ [البقرة]

إِنمَّا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا…﴿91﴾ [النمل]

أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ …﴿67﴾ [العنكبوت]

–…وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ … ﴿191﴾[البقرة]

–…وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا…﴿2﴾[المائدة]

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ …﴿34﴾ [الأنفال]

–…إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ …﴿28﴾ [التوبة]

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ …﴿30﴾ [الحج]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ …﴿36﴾ [التوبة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ …﴿95﴾ [المائدة]

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُّجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا …﴿57﴾ [القصص]

5- ويتضح من هذا أن فكرة الحرم ترتبط في القرآن الكريم بالكعبة التي شيَّد إبراهيم عليه السلام حولها المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس. وهو القبلة التي يتجه إليها جميع المسلمين للصلاة، وهو مركز شعائر الحج القديمة، التي تقام خلال شهر من الأشهر الحرام الأربعة والتي يحرَّم فيها الصيد. ولقد أُقصي المسلمون عن المسجد الحرام خلال الفترة المكية وخلال شطر من الفترة المدنية. ولأن المسجد الحرام موجود في مكة اعتبرت هذه المدينة حرماً آمناً. ومسجد مكة مكان مقدس محظور فيه القتال إلا دفاعاً عن النفس. وحين فتح الرسول مكة أُعلن أنها محرمة على المشركين.

6- أما المسجد الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فلم يرد ذكره في القرآن ولم يُنَص على كونه حرماً آمناً. ولم يقل القرآن عن المدينة إنها حرم آمن كما لم تكن قبلة ولا كانت زيارتها شعيرة من شعائر الحج. لهذا فإن المادة التي تعنينا لا يمكن فهمهما على ضوء إشارة ما إلى القرآن الكريم. وليس في اللغة القرآنية، فيما يتعلق بالحرم ما يشبه صياغة المادة المذكورة.

المادة 45

وإن الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم،

ملحوظة

هذه المادة تعود بنا إلى موضوع الإجارة الذي تحدثت عنه المادة 16. والأرجح أن الغرض منها هو تعريف وضع الشخص المشمول بالإجارة، ولكن تعريفها غير يقيني. وتعبير "ولا آثم" في نهاية المادة، على الأخص، يثير مشكلة: إنه يغسل هذا الشخص، إن صح هذا التعبير، من كل إثم لمجرد أن شخصاً آخر شمله بحمايته.

المادة 46

وإنه لا تجار حرمة ٌإلا بإذن أهلها،

ملحوظتان

1- هذه المادة لا تُدخل أي تعديل على الممارسات القديمة في هذا الشأن؛ ومن الصعب تصور أن رجلاً أو قبيلة ما كانا يسمحان لنفسهما قبل هذه المادة بإجارة امرأة ما دون موافقة ذويها.

2- وكما سبق أن ذكرنا بشأن المادة 16 أعلاه، فإن ما جاء به الإسلام إلى الجزيرة العربية من قواعد جديدة للمجتمع تعطي الانتماء إلى الأمة الغلبة على الانتماء إلى القبيلة جعل نظام الإجارة يفقد أهميته، ومن غير المفهوم أن يكون محرر الصحيفة قد رأى فائدة في إعادة تأكيد هذا النظام في وثيقة رسمية.

المادة 47

وإنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه،

ملحوظات

1- كل ما تفعله هذه المادة هو نقل معنى عددٍ من الآيات القرآنية الكريمة مثل:

ومَا اخْتَلَفْتُم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ …﴿10﴾ [الشورى]

إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿105﴾ [النساء]

2- إن قبول المشركين وقبول اليهود بالذات لأحكام هذه المادة شيءٌ يبدو غريباً. ذلك أن قبول الاحتكام إلى الله معناه قبول الأحكام القرآنية في شتى ضروب النـزاعات التي كان من الممكن أن تقوم ليس بين المسلمين فحسب بل بين اليهود والمشركين وكذلك بين أعضاء ديانة بذاتها. ومن جهة أخرى فإن قبول الاحتكام إلى محمد كان معناه قبول دوره كحائز وحيد للسلطة القضائية.

3- نـزاعات الأشخاص والمصالح، كما في جميع المجتمعات البشرية، شيءٌ عادي؛ وتطبيق هذه المادة، التي ترسي دعائم نظام قضائي ونظام لإدارة القضاء، كان المفروض أن يتخذ شكل عدد من القضايا المرفوعة. ولكن سيرة ابن إسحاق لا تتحدث عن أي قضايا رُفعت للرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذه المادة.

المادة 48

وإنه لا تجار قريش ولا مَن نصرها،

ملحوظة

هذه تكملة للمادة 23 التي تحظر على المشركين إجارة قريش وأن يحُولوا بينهم وبين المؤمنين. وفي المادة الحالية عُمِّم هذا الحظر؛ وهو لا يوجه إلى المشركين وحدهم بل يعمم على كل أهل الصحيفة. وهو لا يقتصر على قريش بل ينسحب على كل من نصر قريشاً. والعدو في هذه الصحيفة ليس مشركي المدينة ولا اليهود ولا المشركين عامةً وإنما قريش ومن نصرها. والحاصل، كما لاحظنا من قبل، أن مثل هذا الحكم غير وارد في القرآن الكريم.

المادة 49

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب،

ملحوظات

1- هذه المادة تكمل المادة 44 وتفرض على أهل الصحيفة واجب الدفاع عن يثرب ضد المعتدي الخارجي؛

2- هكذا تصبح المدينة حرماً، لا بسبب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بداخلها، ولا بسبب المسجد الذي بناه فيها كمكان للصلاة وللاجتماع مع المسلمين، بل باعتبارها مدينة.

3- وإذا فسرنا هذه المادة مع المادة التي سبقتها، لوصلنا إلى المحصلة الآتية: إذا دهمت قريش المدينة، فإن أهل هذه الصحيفة أي المسلمون واليهود والمشركون يشكلون جبهة للدفاع عنها. والذي حدث هو أن قريشاً، التي ذكرت ضمناً في المادتين 23 و 48 باعتبارها العدو ليس فقط لمحمدٍ والمسلمين بل أيضاً لأهل هذه الصحيفة، أرسلت ضد يثرب، المدينة التي أعلنت المادة 44 أن جوفها حرم، ثلاث مرات، جيوشاً كان غرضها هو مهاجمة طرف من الأطراف "الموقِّعة" على الصحيفة أي مهاجمة المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم. والحاصل أنه لا المشركون ولا اليهود نصروا المسلمين إعمالاً لنص المواد 27 و41 و43. وفي بدر وفي أُحُد وفي حملة الأحزاب، وجد المسلمون أنفسهم وحدهم في مواجهة جيوش قريش.

المادة 50

وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا مَن حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلهم.

ملحوظات

1- هذه المادة غير محددة المعنى؛ والمرء لا يدري إلى مَن تشير صيغة الجمع في عبارة "وإذا دُعوا": إلى اليهود أم إلى مسلمي قريش ويثرب أو إلى "أهل هذه الصحيفة" الذين تشير إليهم المادة 47؛

2- استثناء "إلا من حارب في الدين" غير مفهوم ومعناه الظاهر هو أن أي مسعى، في حربٍ من أجل الدين، يهدف إلى الصلح أو المصالحة، غير مقبول. ولكن هذا المعنى يتنافى مع الآية القرآنية الكريمة التي تقول: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا …" ﴿61﴾ [الأنفال]

3- وأخيراً فإن هذه العبارة بالذات تسمح بافتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يدخل في حرب لغرضٍ غير ديني. والحاصل أن الحالات التي كان مرخصاً للمسلمين فيها باستخدام السلاح كلها حالات للقتال في سبيل الله. والدفاع الشرعي عن النفس من هذه الحالات، ولكن هاهنا، أي حين يكون المسلمون موضع الهجوم، فإن افتراض وجود عرض للمصالحة من جانب العدو المعتدي، لا يكون وارداً.

4- عبارة "على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم" شديدة الغموض. فالأمر هنا لا يتعلق باقتسام نفقة الحرب، لأن هذه المسألة سبق أن تناولتها المادتان 27 و 43.  

المادة 51

وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

ملحوظات

1- اليهود الذين يُشار إليهم في الشطر الأول من هذه المادة، هل هم يهود قبيلة الأوس، إحدى قبيلتي المدينة الكبريين، أم أنهم البطن الملقب، في المادة 33، ببني الأوس؟ وإذا كان المقصود هو الافتراض الأول، فما بال يهود قبيلة الخزرج وهي قبيلة المدينة الكبرى الثانية؟

2- ماذا كان وضع يهود الأوس في الصحيفة بالضبط؟ هل كان مطابقاً لوضع يهود البطون؟ المادة 28 تقول إن يهود بني عوف ويهود البطون المذكورة، مواليهم وأنفسهم، أمة مع المؤمنين. وحين تقرر المادة الحالية أن يهود الأوس على مثل أهل هذه الصحيفة. فهل هو نفس الوضع؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يظهروا مع يهود البطون؟ وإن كان الأمر خلاف ذلك، فما هو وجه الخلاف؟

3- "لا يكسب كاسب إلا على نفسه" تكرار ٌلمعنى الآيات الكريمة:

–  …كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21﴾ [الطور]

 وَمَن يَّكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ … ﴿111﴾ [النساء]

–  …وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا … ﴿164﴾ [الأنعام]

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ …﴿286﴾[البقرة]

4- جملتا "وإن البر دون الإثم" و "وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره" سبق التعليق عليهما.

المادة 52

وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن برَّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ملحوظات

1- عبارة: "وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم" لا داعي لها بعد أن ألزمت المادة 14 من الصحيفة المؤمنين بالوقوف في وجه "من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين".

2- تأكيد أن من خرج من المدينة أو قعد فيها آمن، المفروض أنه مرتبط بالمادة 44 التي تنص على أن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة. وهو مرتبط أيضاً بالمادة 49 التي تدعو إلى التعبئة العامة فيما إذا هوجمت يثرب. على أن من المشكوك فيه أن يكون في قدرة "الموقِّعين" على الصحيفة أن يكفلوا الأمان لمن يخرج من المدينة من سكانها.

3- تأكيد أنه "لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم" تكرار، إذ أن المادة 14، كما رأينا، تحث المؤمنين على الوقوف في وجه الظالم والباغي والآثم والمعتدي والمفسد، كما أن المادة 42 تدعوهم لنصرة المظلوم. 

4- عبارة "وإن الله جارٌ لمن برَّ واتقى" عبارة نجدها في عشرات آيات التنـزيل المكي والمدني وهي تطمئن المؤمنين الذين يعملون الصالحات إلى رضاء الله سبحانه وتعالى عنهم.

5- ويلاحظ في هذا الصدد أن كلمة "جار" التي، كما رأينا، تعني الشخص الذي يعلن حمايته لشخص آخر، لم ترد أبداً في القرآن الكريم لوصف حماية الخالق للبشر، وإنما الشيطان هو الذي ادعى هذه الصفة لنفسه في الآية الكريمة التي تقول:

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ …﴿48﴾[الأنفال]

والكلمة التي يستخدمها القرآن الكريم لهذه الصفة من صفات الله عزَّ وجل هي "ولي" مثل قوله تعالى:

  اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُلُمَاتِ إِلَى النُّورِ …﴿257﴾[البقرة]

–  …وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوليَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴿19﴾[الجاثية]

6- أما عن فعل "برَّ " فهو غير مستخدم في القرآن سوى مرتين بمعنى الإحسان، كما في قوله تعالى:

لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ …﴿8﴾[الممتحنة]

والعبارة التي يستخدمها القرآن الكريم عادةً في هذا المعنى هي "عمل الصالحات" كما في:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ … ﴿25﴾[البقرة]

  وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ …﴿57﴾[آل عمران]

  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿9﴾[المائدة]

  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴿96﴾[مريم]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دَيْنَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا…﴿55﴾[النور]

والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿7﴾[العنكبوت]

7- كلمة الختام في الصحيفة هي تقرير أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت هذه الوثيقة صحيفة صادرة عن محمد كان هذا التأكيد شيئاً طبيعياً. أما إذا كانت معاهدة فإن هذه الجملة تثير مشكلة، إذ أنه لا المشركون ولا اليهود - كما سبق القول - كانوا على استعداد لقبول هذا التقرير.

تلخيص وملحوظات عامة

هذه الصحيفة في مجموعها تستوجب الملحوظات الآتية:

1- هي، منذ بداية "السيرة"، أول وثيقة تقدَّم بكامل نصها. وخلافاً للصحيفة التي فرضت بها قريش مقاطعة بني عبد المطلب وبني هاشم، التي كان غرضها، في نص "السيرة"، مبيناً في جملة واحدة، فإن جميع مواد هذه الصحيفة واردة بالكامل.

2- هناك ازدواج عميق فيما يتعلق بالطبيعة القانونية لهذه الوثيقة. إن من سماتها ما يوحي بأنها إعلان ذو طابع دستوري صادر عن رئيس دولة؛ ولكن بعض سماتها الأخرى تجعلها أشبه بالمعاهدة. ولو لم تكن هناك جملة "بين …و … و…" في صيغة المادة الأولى من الصحيفة لكان من السهل اعتبارها مرسوماً أو إعلاناً صادراً عن محمد صلى الله عليه وسلم. والواقع أن مجموعتي موادها الكُبْرَيَيْن، تلك التي تتعلق بالعقل والفداء وتلك التي تتعلق بالمركز القانوني لأعضاء البطون المسلمة المسماة من اليهود، ليس فيها شيءٌ يمكن أن يوصف بأنه تعاقدي بين مختلف المجموعات المذكورة، فالأمر هنا لا يعدو أن يكون مجرد تقنين لحالة أو لعرف موجود بالفعل. حالة أو عرف غير ناتجين عن كون هاتين المجموعتين جزءاً من أمة تجمع خليطاً من الناس. ومعظم الأحكام الأخرى أشبه بقواعد الأخلاق الدينية أو بالتوجيهات العامة منها بمسائل جرت بشأنها مفاوضات كان الغرض منها إرساء قواعد تترتب عليها التزامات قانونية متبادلة يُعرِّض الإخلال بها الطرف المخالف لجزاءات أو لعقوبات. على أن لبعض المواد مظهر اتفاقي كالمادة 18 التي تتحدث عن "مَن تبعنا من يهود" والمادة 20 بشأن "كل غازية غزت معنا"، والمادة 23 التي تحظر على المشركين إجارة موالي قريش ونفوسهم، والمادة 39 التي تقضي بألا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والمادة 47 التي تنصِّب محمداً صلى الله عليه وسلم قاضياً وحكماً في النـزاعات التي تنشأ بين أطراف الصحيفة، والمادة 48 التي تعمم الحظر الخاص بقريش، والمادة 49 بشأن الدفاع المشترك عن يثرب. إن هذه المواد توحي بأن الصحيفة معاهدة ولكنها، إذا اعتبرت كذلك، تفتقر إلى بعض العناصر الأساسية في كل معاهدة، أي تحديد الأشخاص الذين يمثلون كل طرف من الأطراف المتعاقدة وذِكر أن المعاهدة قد استوفت إجراء التوقيع.

3- فئات ومجموعات الأشخاص الذين تخاطبهم الصحيفة أو أطرافها المتعاقدة، لو أن هذه الوثيقة كانت معاهدة، ليست محددة بالدقة المطلوبة في مثل هذه الأمور، ذلك أن:

 أ ) الجملة، بالذات، المتعلقة بـ "من تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم"، من المادة الأولى، غامضة أشد الغموض.

ب) فيما يتعلق بالمسلمين:

– ليس في الصحيفة أي ذكر لمسلمي مكة ومسلمي الجزيرة.

– مِن العشرات من بطون القبائل التي أسلمت في المدينة لم يُسَمَّ سوى ثمانية؛

– هم يُسَمَّوْن بالمؤمنين في المادة 1 وفي معظم مواد الصحيفة. وواقع الأمر أن المؤمنين لا يمكن أن يكونوا أطرافاً في مرسوم أو في معاهدة إذ أنه ليس لهم سمات تميزهم عن غيرهم، وكل مسلمٍ ليس بالضرورة مؤمناً.

ج) فيما يتعلق باليهود:

– قبائلهم الثلاث الكبرى، أي بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، التي تحتل مكاناً هاماً في أخبار المدينة، غير مذكورة في الصحيفة، شأنهم في ذلك شأن باقي القبائل اليهودية الأقل أهمية؛

– الفئة الوحيدة التي تتحدث عنها الصحيفة - أي يهود البطون المدنية المسلمة وبطون الأوس - لم تلعب أي دور في السيرة؛

– ورد في الصحيفة اسم بطن واحد من بطون اليهود هم بنو شطيبة. وهم مشبَّهون بالبطون العربية التي أسلمت. ولكن هذا البطن أيضاً لم يلعب أي دور في السيرة.

د ) ليس هناك أي تفصيل يتعلق بالمشركين الذين ورد ذكرهم في المادة 23.

4- المواد من 28 إلى 34 تشبِّه يهود سبع بطون مدنية مسلمة بالمسلمين المؤمنين من هذه البطون، في مجال محدد بالذات: هو حرية العقيدة. وهذا شيءٌ شديد الغرابة، إذ أن هذه الحرية مقررة في الإسلام دون تفريق لجميع اليهود سواء ً كانوا ينتمون إلى قبائل يهودية أو كانوا أعضاءً في بطون مشركة اعتنقت الإسلام.

5- أمة الإسلام كيان ديني بحت. وليس في الإمكان أن تتضمن عناصر يهودية أو مشركة إذ أن القرآن حظر على المسلمين أن يتخذوا هاتين الفئتين أولياء، وإن كان هذا لا يمنع من أن يدخلوا في علاقات حسن جوارٍ وبرٍ معهم وفقاً للآية (8) من سورة الممتحنة السابق ذكرها.

6- كل قواعد السلوك المتعلقة بعلاقات المسلمين مع اليهود ومع الكفار واردة في القرآن الكريم بأوضح صورة وبيان؛ والصحيفة لا تشتمل على أي زيادة في الأحكام القرآنية بشأن أي جانب يتعلق بهذه العلاقات.

7- اللغة التي صيغت بها بعض المواد أو العبارات لغة غامضة أحياناً بل هي أحياناً غير مفهومة. وهذا ما يلاحظه المرء حين يقارن ترجمة المستشرقين للمواد 20 و21 و25 و40 و42 و48 و50.

8- الصحيفة تبدو كجسم غريب أضيف إلى الحديث الذي أُدرجت فيه. ذلك:

– أن شيئاً في موادها لا يشير إلى الأوضاع التي يصفها جزء النص الذي يسبقها، وهو الجزء الذي يتحدث عن الهجرة وعن دخول المدينة في الإسلام. كذلك فإن حديث الفترة المدنية الأولى، التي كانت الاتصالات بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى خلالها مباشرة وعديدة لا يتضمن أية معطيات تسمح بتصور أن العلاقات بين اليهود والمسلمين كانت ودية لدرجة تفضي إلى عقد حلف عسكري بينهم أو لتصور أن يتناصروا في حرب ضد عدو مشترك.

– إن مادة من هذه المواد لا تشير إلى الحالة التي يصفها جزء "السيرة" التالي للصحيفة، والذي يتحدث عن اليهود وعن المنافقين وعن النصارى والذي يظهر فيه اليهود على أنهم أكبر أعداء الإسلام.

9- الصحيفة، في مسألة كبرى، هي تلك التي تتعلق بالمشركين، تناقض نص "السيرة": إنها تقرر وجودهم في المدينة، وتعتبر أنهم أحد مكونات سكان هذه البلدة، وتفرض التزامات عليهم، وتشركهم في الدفاع عن المدينة بل وتعتبرهم جزءاً من الأمة، بينما تقول "السيرة" إنهم، مع استثناءات لا تذكر، قد دخلوا في الإسلام.

10- الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر في الصحيفة على أنه الرئيس الأعلى، ليس لجماعة المسلمين فحسب بل للمدينة بأكملها بمختلف مكوناتها، كما يظهر فيها كحائز لسلطة التشريع. ولكن "السيرة" لا تقول كلمة واحدة عن العملية التي جعلت، في ظرف أحد عشر شهراً، من محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان لاجئاً لدى وصوله إلى المدينة، رئيس هذه البلدة دون منازع. لقد سبق أن أبدينا تحفظات كبيرة على عملية دخول المدينة بالكامل في الإسلام ولكن، إذا سلمنا بصحة "هذه الأسلمة"، فإنه لم يكن يترتب عليها تلقائياً الاعتراف بمحمد من جانب اليهود باعتباره حاكماً وحائزاً للسلطة التشريعية. إن مثل هذا الاعتراف، لاسيما حين يترتب عليه التزامات مالية وعسكرية، يفترض أن يتأتَّى في ختام عملية طويلة كثيراً ما تتخللها نـزاعات مسلحة أو مفاوضات معقدة على أعلى المستويات. والحاصل أن أخبار المدينة التي تقدمها لنا "السيرة" لا تتحدث عن نـزاعات مسلحة في هذه المرحلة من الفترة المدنية ولا تحتوي على أقل بيان عن مفاوضات جرت بغرض الاعتراف بالسلطات التنفيذية والتشريعية للرسول باعتباره رئيس المدينة الأعلى. وحقيقة أن النـزاعات المسلحة بين المسلمين واليهود تخللت تاريخ الفترة المدنية دليلٌ آخر على أن علاقات القوة بين المسلمين واليهود لم تكن، في نهاية السنة الأولى للهجرة، بحيث يقبل اليهود عن طواعية الاعتراف بالرسول صلى الله عليه وسلم كصاحب السلطة.

11- عشرٌ من مواد الصحيفة الاثنتين والخمسين مخصصة لمسألة لم تكن بذات أهمية في الفترة المفروض أن الصحيفة دُوِّنت فيها، وهي المسألة المتعلقة بالعقل (الدية) وبالفداء الذي كان على المهاجرين وعلى البطون المسلمة الثماني في المدينة أن يدفعوه.

12- الصحيفة تضع قواعد للعقل والفداء بعد الإسلام كانت سارية أيام الجاهلية. على أن هذه القواعد تعرضت، على الصعيدين الاجتماعي والديني، لتعديلات ترتبت على ظهور أمة إسلامية تعلو على القبائل.

13- بالصحيفة أحكام كثيرة لا داعي لها، إما لأن كل ما تفعله هو تكرار معنى بعض التنـزيل القرآني، أو لأنها تحصيل حاصل، أو لأنها تترتب بصورة طبيعية على قواعد أخرى ذات تطبيق عرفي.    

14- بالصحيفة مادة لا تتفق مع مبادئ الإسلام هي تلك التي تنص على ألا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر.

15- افتراض أن يشترك اليهود في نفقات حرب المسلمين أو محاربتهم في صف المسلمين، كما ورد في المواد 27 و41 و43 و49 و50، افتراضٌ غير واقعي. ذلك أن معظم اليهود قد اتخذوا حيال الرسول صلى الله عليه وسلم، منذ بدء رسالته، موقفاً سلبياً. ألا تقول "السيرة" إن اليهود حين سألتهم قريش عما إذا كان دين محمد أفضل من دينهم ردوا بأن دينهم أفضل من دينه؟ ألم يهاجمهم القرآن الكريم لقولهم هذا في آيات مثل:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً  [النساء: 51]

وأخيراً فإن تاريخ الحروب التي قامت بين المسلمين واليهود، التي نشبت أولاها - أي حملة بني قينقاع - بين بدر وأُحُد، أي بعد سنتين من الهجرة تقريباً، يعطي عن العلاقات بين اليهود والمسلمين صورة تغاير تماماً تلك التي تقدمها الصحيفة.

16- الافتراض الذي تقوم عليه المادة 49، أي افتراض تعرُّض يثرب لهجوم والتعاون بين المسلمين واليهود لصده افتراض هو الآخر غير واقعي. إن شيئاً في السياق الذي تصفه "السيرة" لا يسمح بتصور احتمال وقوع مثل هذا الهجوم. ربما كان هناك احتمال لهجوم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وحتى إذا كانت "بيعة الحرب" في نظرنا اختلاقاً محضاً، فإن نجاح الإسلام في المدينة، والمشروعات التجارية التي لابد أن المسلمين قاموا بها وظهور مقصد بديل في هذه المدينة للحجاج المسلمين، كل هذه الاعتبارات كان من المتصوَّر أن تعتبرها مكة تهديداً لمركزها الاقتصادي والديني. ومن المحتمل جداً أن تكون فكرة هذا الهجوم قد نشأت عند رؤساء قريش. ولكنه لم يكن هجوماً على يثرب كمدينة، ولا على مكوناتها من الكفار واليهود والمنافقين، الذين لم يكونوا يكرهون أن تجرد مكة حملة عسكرية ضد المسلمين، والذين كانوا ولابد يتمنون أن يحدث هذا. وكما سبق أن قلنا بصدد التعليق على نتائج الهجرة، لم يكن من المستبعد أن تكون هذه الفئات قد بذلت جهداً لإقناع مكة بالمصلحة في شن هذه الحرب. ومن هنا كان يستحيل أن تكون هذه الفئات حلفاء لمحمد صلى الله عليه وسلم. إنها إن كانت حلفاء لأحد فلقريش. هذا، على أي حال، هو ما حدث، وفقاً للسيرة، بعد الهجرة بخمس سنوات، في المعركة التي تُعرف بمعركة الخندق، التي تحالف اليهود فيها مع كفار مكة.

17- لقد شوهت الصحيفة فكرة الأمة الإسلامية تشويهاً كاملاً. ذلك:

– أنها لا تتضمن أي إشارة إلى المسلمين، غير مسلمي مكة والمدينة، الذين هاجروا، في رأينا، إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعدها. وهي تنطلق من فكرة أن محور مكة / المدينة هو المحور الوحيد الذي يدور حوله الإسلام. أي أن أحداً، لم يهاجر إلى المدينة سوى أناس من قريش، الأمر الذي يبدو لنا قابلاً للنقاش.

– أنها تنطلق كذلك من فكرة أن جميع مسلمي مكة هاجروا إلى المدينة، الأمر الذي حملها على قصر تعريف الأمة على مهاجري قريش الذين كانوا بالمدينة وعلى مسلمي يثرب. وهذا في نظرنا باطل. لقد كانت الأمة الإسلامية تضم كذلك جميع المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة، وكان جزء من هؤلاء موجوداً بمكة وجزء آخر موجوداً بين عرب شبه الجزيرة.

– الفكرة الأصلية والمنطقية التي تتكون الأمة بمقتضاها من أشخاص يشتركون في ديانة واحدة تميَّعت بخطوات متتالية في الصحيفة واتسعت إلى أن ضاعت معالمها في فكرة "أهل هذه الصحيفة"، وضمت إلى جانب المسلمين الكفار واليهود ومواليهم وبطانتهم، أي مجموع سكان المدينة. وهكذا فإن إسلام المدينة، بدلاً من أن يبقى ديناً، أصبح شيئاً أشبه بالوطن وبالجنسية.

– ومما يؤيد هذا ما تعلنه الصحيفة من أن يثرب (المدينة) بلد حرام وذلك لا لاعتبارات دينية بل لكونها مدينة.

إن الشيء المؤكد هو أن الأمة الإسلامية لم تولد في المدينة. لقد ولدت في مكة مع ظهور الإسلام. وكان أعضاؤها كل أولئك الناس، أحراراً كانوا أو عبيداً، الذين اتخذوا الإسلام ديناً، سواء ً كانوا من مكة أو من غيرها. ومهاجرو قريش وأهل يثرب، الذين تشير إليهم المادة 2 من الصحيفة، لم يكونوا يشكلون وحدهم أمة الإسلام. إنهم لم يكونوا يشكلون في واقع الأمر سوى جزء من هذه الأمة لا أغلبيتها. ومعظم أفراد هذه الأمة كانوا من المسلمين الذين بقوا في مكة  وأولئك - وهم في رأينا أكثر عدداً - الذين كانوا يقيمون في مختلف أنحاء الجزيرة العربية. 

18- تقديم المؤلف لهذه الصحيفة على أنها كتاب بين المهاجرين والأنصار "وادع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود وعاهدهم …" غير صحيح. وهو لا يتناول في الواقع إلا جزءاً - وليس أطول جزء - من هذه الوثيقة.    

المحصِّــلة

تتسم هذه الصحيفة، في مجموعها، بسمات من الصعب التوفيق بينها وبين مبادئ الإسلام. ذلك:

1- أنه ليس في مبادئ الإسلام ولا في القرآن الكريم ما يسمح باعتبار قريش، أي مجموع سكان مكة أو شبه مجموعهم، قوماً يمكن قتلهم أو سرقتهم دون عقاب (المادة 23)، وقوماً لا يجوز شمولهم بالجوار (المادة 48). وفي رأينا أن هاتين المادتين ترميان في الواقع إلى "شيطنة" قريش مكة - باستثناء أعضاء قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي قبيلة الخلفاء العباسيين - الذين كانوا أعوان الخلافة الأموية الأساسيين. لقد حرصت "السيرة" في حديث الفترة المكية على تسويد صورة مكة وعلى إبراز هذه الفترة كفترة هزيمة كاملة للإسلام، على عكس الفترة المدنية. والصحيفة، بهاتين المادتين، تسير في نفس الاتجاه وترفع التحامل إلى مستوى أعلى بكثير. المستوى الذي يكفي فيه أن يكون المرء قرشياً لكي يُحرَم من حقه الإنساني في الحياة وفي الملْكية. إن هذا التطرف في العداء لأهل مكة لا يمكن أن يتأتى إلا من تحيز كبير للعباسيين ولأهل المدينة.

2- على خلاف روح المادة 18، لا يطلب الإسلام من اليهود أن يتبعوا المسلمين لكي يعامَلوا على قدم المساواة معهم. لقد كان من حق اليهود أن يبقوا يهوداً. كذلك كان من حق الكفار المشركين أن يظلوا كفاراً مشركين، بمقتضى سورة من أوائل سور القرآن الكريم وهي سورة الكافرون التي نصها:

قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ﴿1﴾لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ﴿6﴾

وآياتٍ أخرى في نفس المعنى نـزلت في المدينة.

ومبدأ حرية العبادة هذا، الذي لا يقتضي اتباع محمد، تأكد في الفترة المدنية بما أعلنه القرآن من أنه: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" ﴿256﴾[البقرة] وبالآية الكريمة السابق ذكرها: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ" ﴿8﴾[الممتحنة].

إن هذه الأحكام إذا كانت تنطبق على اليهود تنطبق أيضاً على المشركين، ولم يحدث أنها نُسخت أو عُدِّلت.

3- العدالة ذات السرعتين: عدالة للمؤمنين وعدالة أخرى للكفار، التي تضع المادة 15 مبدأها، ليست من الإسلام في شيء. وحين يقول القرآن الكريم:

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ …﴿الأنعام: 151﴾، ﴿الإسراء: 33﴾

وحين يذَكِّر القرآن:

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا … ﴿32﴾[المائدة]

فإنه لا يميز بين المؤمنين والكفار، فإن الحياة الإنسانية في حد ذاتها مقدسة في الإسلام كما هي مقدسة في الديانات كافة.

4- بعض أحكام الصحيفة، بالإضافة إلى ذلك، منقطعة الصلة تماماً بالحقيقة التاريخية التي توردها "السيرة" ذاتها. هذا هو الحال حين تتخيل الصحيفة:

– حدوث حالات قتل بأيدي مسلمين من المهاجرين أو من أهل المدينة بعدد يستدعي سَنَّ تشريع لتسوية عواقبها.

– وجود أشخاصٍ غير مسلمين يتبعون المسلمين ويلحقون بهم ويجاهدون معهم؛

– هجوماً على يثرب في حربٍ يكون فيها المسلمون واليهود والكفار في مواجهة مع عدو مشترك؛

– مسلمين من أهل المدينة يرتكبون اعتداءات فردية ضد القرشيين أو يستولون على أموالهم، دون أن يكون لمكة رد فعل في شكل عقوبات أو جزاءات ملائمة؛

وهذا هو الحال حين تذكر الصحيفة أسماء يهود ينتمون إلى سبعة أو ثمانية بطون من القبائل المدنية لا يعرف المرء من أنبائهم شيئاً بعد ذلك، يكوِّنون أمة مع المؤمنين، مع تحاشي التحدث عن القبائل اليهودية التي تركت علاقاتها المتلاطمة مع المسلمين بصماتها على الفترة المدنية والتي شكَّلت فصلاً هاماً من فصول السيرة.

5- في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في انشغال كبير بالبحث عن وسائل تسمح بحل المشكلات الحالَّة التي نتجت عن الهجرة وببدء دعوتهم، تخصص الصحيفة عدداً غير قليل من موادها للحرب: على مَن يقع عبء دفع الفدية (مع ذكر أسماء جزءٍ فقط من بطون قبائل المدينة)؛ وواجب تقديم المساعدة لمن يعجز عن أدائها؛ وحظر عقد سلمٍ منفرد؛ وكيفية صف القوات التي تنضم إلى المسلمين؛ وواجب التعاون لكفالة الأسر التي قُتل رجالها في سبيل الله؛ وإسهام اليهود في الإنفاق العسكري؛ وضرورة أن يحصل مَن يريد منهم القتال مع المسلمين على إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك؛ والدفاع المشترك ضد مَن يهاجم يثرب؛ وواجب قبول المصالحة، إلا إذا كانت الحرب حرباً من أجل الدين (كما لو كان من دأب الرسول أن يقاتل لقضية غير قضية الدين!)؛ وتأكيد أن من يخرج من يثرب محارباً لا يجب أن يخشى شيئاً.

6- وأخيراً فإن الصحيفة تأخذ بصورة عشوائية بعض التعاليم القرآنية دون أن تضيف إليها شيئاً: المسلمون يشكلون أمة من دون الناس؛ وواجبهم يقتضي منهم الوقوف في وجه من يرتكبون جرائم أو يأثمون؛ وضرورة أن يكونوا متضامنين فيما بينهم؛ وضرورة أن يطبَّق القصاص على من يقتل مؤمناً؛ وكون الإحداث في الدين خطيئة؛ وضرورة حل المشكلات بين المؤمنين بالالتجاء إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وضرورة تفادي العنف وتحكيم العدالة.

 

لهذه الأسباب جميعاً فالصحيفة في نظرنا ليست وثيقة صحيحة. إنها وثيقة حُررت في ظروف من الصعب علينا أن نستكنهها بصورة يقينية. ومن الجائز أن مواقف كتلك التي تنتج من مضمونها قد حدثت أثناء حكم الخليفة العباسي الذي كلف ابن إسحاق بكتابة السيرة وذلك في فترة عادت فيها المنازعات القبلية بين العرب إلى الظهور وبلغت الخلافات من كل نوع التي طبعت التاريخ الإسلامي بطابعها منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ذروتها، وتعرضت فيها العلاقات بين المسلمين واليهود لتغيرات عميقة.

إن التأثير العباسي واضح في المادتين 23 و48 اللتين تحظران إجارة الأشخاص المنتمين إلى قريش أو الأموال المملوكة لقريش، كما أن التأثير المدني، واضح في المواد 44 و49 و52 التي تخلع على يثرب صفة الحرم المقدس. لذلك فإن من المحتمل في نظرنا أن تكون الصحيفة قد زوِّرت، جزئياً على الأقل، لخدمة أهداف الخلافة العباسية:

– بتسويد صورة الأمويين، الذين جرَّدوا جيشين ضد المدينة في مناسبتين، وبإظهارهم بمظهر مَن انتهكوا حرمة المدينة التي قررها الرسول صلى الله عليه وسلم؛

– بإظهار قريش، الذين كانوا أعوان الأمويين المفضلين، في مجموعهم، على أنهم أعداء الرسول الوحيدين؛ وإسدال الستار على أعداء الإسلام الثلاثة أي منافقي المدينة وكفارها ويهودها، الذين ذكرهم القرآن، بل وبجعل الكفار واليهود يظهرون كحلفاء للمسلمين. ليس هذا فحسب بل بجعلهم جزءاً من الأمة.

ونحن لا نرى أن الذي زوَّر هذه الوثيقة هو ابن إسحاق، وذلك لأسباب ثلاثة: 

– لغة ابن إسحاق ليس فيها عيوب كالعيوب التي أشرنا إليها في الصحيفة.

– لم يكن بوسع ابن إسحاق، الذي صور اليهود على أنهم أكبر أعداء الإسلام، أن يصورهم كجزء من الأمة ويقول أنهم كانوا على استعداد للقتال في صف المسلمين؛

– بعد أن حذف ابن إسحاق الكفار من خريطة المدينة، لم يكن بوسعه أن يقدمهم كجزء من الأمة؛

– لم يكن ابن إسحاق يفوِّت فرصة لإدخال تعبير "المهاجرين والأنصار" في صلب الصحيفة.

لقد كانت الصحيفة إذاً، في رأينا، عملاً قام به مزيِّف آخر للسيرة. لماذا إذاً أدرجها ابن إسحاق في سيرته على الرغم مما في ذلك من إخلال بمنطق روايته؟ هذا شيء نجهله. لعل ابن إسحاق لم يتنبه إلى هذه التناقضات التي يكثر أمثالها في كتاباته. اللهم إلا إذا كانت الصحيفة قد أُدرجت في "السيرة" بأيدٍ غير يدي مؤلفها.

الصحيفة

(طبقاً لترقيمنا لموادها)

بسم الله الرحمن الرحيم،

1- هذا كتابٌ من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم،

2- إنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس،

3- المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

4- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

5- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

6- وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

7- وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

8- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

9- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

10- وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

11- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،

12- وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أو: مفرجاً) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل،

13- وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه،

14- وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم،

15- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن،

16- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم،

17- وإن المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون الناس،

18- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم،

19- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم،

20- وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً،

21- وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله،

22- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه،

23- وإنه لا يجير مشرك ٌمالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن،

24- وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قوْد به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه،

25- وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل،

26- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم،

27- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين،

28- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته،

29- وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف،

30- وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف،

31- وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف،

32- وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف،

33- وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف،

34- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته،

35- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم،

36- وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بين عوف، وإن البرَّ دون الإثم،

37- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم،

38- وإن بطانة يهود كأنفسهم،

39- وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم،

40- وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظُلم، وإن الله على أبرِّ هذا،

41- وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم،

42- وإنه لم يأثم أمرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم،

43- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين،

44- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة،

45- وإن الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم،

46- وإنه لا تجار حرمة ٌإلا بإذن أهلها،

47- وإنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه،

48- وإنه لا تجار قريش ولا مَن نصرها،

49- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب،

50- وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا مَن حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلهم.

51- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

52- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن برَّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

* * *

والآن، وبعد أن انتهينا من تحليل الصحيفة تحليلاً نقدياً، بقي أن نتعرض للدراسات التي كُتبت بخصوصها من مؤلفين معاصرين. وسنبدأ ذلك بالتعليق على دراسة الأستاذ/ ر. ب. سرجنت، التي ننتوي تحليلها بالتفصيل، ثم ننتقل منها إلى استطلاع الخطوط العريضة للدراسات التي كتبها كلٌ من: محمد حميد الله، وبركات أحمد، وولهاوزن، ووينسينك، ومنتجمري واط، وموشيه جيل،
و أ. ل. دى پريمار.

ولن يكون عملنا في هذا الجزء الثاني من رسالتنا بالعمل السهل. فإننا، بعد أن انتهينا من دراستنا الخاصة إلى أن الصحيفة وثيقة مزوَّرة، قد نبدو في تناقض مع نفسنا حين نناقش أعمالاً لكُتاب يعتبرون أن هذه الوثيقة صحيحة مائة في المائة. ولكن نظراً إلى أن الأستاذ سرجنت والعلماء الآخرين قد اعتمدوا في تحليلهم على كتابات الواقدي وغيره من الكُتاب القدامى، ولم يعتمدوا - مثلنا - على سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام وحدها، فالأمر بالنسبة لنا هو محاولة التعرف على ما إذا كانت أعمالهم تلقي على الصحيفة ضوءاً جديداً يحملنا على تغيير رأينا بشأنها.

وسيكون نهجنا في هذا الخصوص هو بحث حجج هؤلاء العلماء، بقدر الإمكان، لا من منظورنا نحن بل من منظورهم هم. وسيقودنا ذلك، في حالات كثيرة، إلى أن نستخدم في تحليلنا عناصر يعتبرها المؤلف الذي نناقش أفكاره صحيحة ولكننا، في هذه الرسالة أو في كتابنا عن الفترة المكية من سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام، رأينا أنها ليست كذلك.



(1) سيرة ابن إسحاق، ج1 ، ص ص 501 - 504. والنص الكامل للصحيفة حسب ترقيمنا لموادها وارد فيما بعد، ص ص  330 –  332.

(2) المنتخب في تفسير القرآن الكريم ، ص 508.

(3) المرجع ذاته ، ص 328.

(4) المرجع ذاته ، ص 338.

(5) المرجع ذاته ، ص 308.

(6) المعجم الوسيط ، ج2 ، ص 652.

(7) "السيرة"، ج1، ص 500.

اجمالي القراءات 17395