ثقافة المقريزى فى عصرنا ( 6 ): ثقافة الفتوحات، ثقافة العار ، ثقافة حرق الأوطان

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٣ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مقدمة :

1 ـ قد يكون الاصلاح بالكلمة جارحا ومؤلما ، ولكن البديل هو حمامات الدم . فأيهما الأيسر ؟

2ـ لقد تأخرت المواجهة الاصلاحية للمسلمين من داخل الاسلام 14 قرنا ، فعند طرح فكرة الفتوحات لم يوجد من الصحابة رجل رشيد يواجه أبابكر وعمر وأساطين قريش بأن تلك الفتوحات عداء هائل لرب العزة وردّة عن الاسلام وتنكب لسنة الرسول عليه السلام . وجاء العقاب سريعا بالفتنة الكبرى ، ولا يزالون المسلمون حتى الآن فى ظلماة الفتنة الكبرى يعمهون .

3 ـ تأخر العلاج بالكلمة والموعظة الحسنة 14 قرنا فوقع خلالها مئات الملايين من القتلى وآلاف من حمامات الدم والمذابح ، وتنوّع الضحايا من العرب المسلمين وغيرهم من أبناء الأمم المفتوحة المظلومة .     

4 ـ والآن وبعد 14 قرنا نفتح جرح الفتوحات محتكمين فيه للقرآن الكريم باعتباره عملا بشريا يحتمل الخطأ والصواب ويستدعى النقاش . ولكن هذا النقاش يدخل فى منطقة المطلق لأن الفتوحات تم تسويغها وتشريعها دينا لدى السنيين ، وبالتالى أصبحت عندهم ذروة الأمر وسنامه ، وأصبح الجهاد ضد الآخر فرض عين ، وأصبح عمر بن الخطاب وقادة الفتوحات آلهة لا يجوز التعرض لهم إلا بالتقديس . ويقابل ذلك الاحتكام للقرآن الكريم فتصبح الفتوحات ليست مجرد ظلم للبشر بل ظلم لرب العالمين ، أى حضيض الكفر ، وبالتالى فالقائمون بها ليسوا ألهة مقدسة بل هم  فى أسفل سافلين .

5 ـ هنا يكون الاصلاح والاحتكام للقرآن جارحا ومؤلما وقاسيا .. ولكن لا سبيل سواه للخروج من دائرة حمامات الدم المستمرة من وقت الفتوحات وقتل عثمان وعلى ومواقع الجمل وصفين ونهاوند وكربلاء والحرة وحصار الكعبة وحرقها ـ فى القرن الهجرى الأول ، الى عصرنا حيث تفجيرات العراق وأفغانستان وباكستان واليمن والجزائر ومصر وليبيا ولبنان وفلسطين والسودان والخليج العربى الفارسى ، بل حتى نيجيريا ومالى ولندن ونيويورك ومدريد .

6 ـ وخوفا من المزيد ، وخوفا من إشتعال الأوطان كلها بحروب أهلية خصوصا مع إنحسار الربيع العربى عن تحكم السلفية الوهابية ، فلا مناص من الاصلاح بالكلمة مهما كانت قاسية .. قسوة الكلمات مهما بلغت لا تساوى دقيقة معاناة يدفعها الملايين من أطفال ونساء افغانستان وباكستان العراق وسوريا الآن ..ودفعها غيرهم من قبل .ومرشح آخرون لنفس المصير.:

أولا :

1 ـ نفترض أن مصر هى التى قامت بفتح الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى فتحا علمانيا غير مرتبط بتسويغات دينية ماذا سيكون الموقف ؟ سيكون إعتداءا يصعب تبريره . ولكن الفتح العربى لمصر وغيرها من البلاد المسالمة أصبحت بطولة وجهادا وتشريعا وأصبح قادته آلهة .

2 ـ ومن المضحك والمؤلم أن السعوديين لا يزالون يحتفظون بأطلال مدينة الدرعية العاصمة الأولى للدولة السعودية الأولى ، والتى دمرها الوالى محمد على باشا . ولا يزال السعوديون يعتبرون المصريين مسئولين عن هذا ، ولا يزالون يحتفظون للمصريين بحقد متأجّج لهذا السبب . هذا مع أن تدمير الدولة السعودية كان جزاءا عادلا بسبب المذابح التى ارتكبتها هذه الدولة فى نجد والحجاز والعراق والشام ، وكلها إعتداءات فظيعة وغير مبررة إلا فى التشريع السّنى المترتب على ثقافة الفتوحات والذى يبيح قتل الآخر واحتلال وطنه وسلب وسبى واسترقاق بنيه. ثم إن المصريين وقتها لم يكن لهم شأن على الإطلاق بتدمير الدرعية ودولتها السعودية ، فالذى أصدر الأمر هو السلطان العثمانى ، والذى قام بالتنفيذ هو الوالى ( العثمانى ) محمد على باشا ، وجيشه العثمانى ، ولم يكن فى ذلك الجيش جندى واحد من المصريين . بل إن المصريين حسبما يذكر الجبرتى تعاطفوا مع الأسرة السعودية التى عاشت فى القاهرة منفية بأوامر السلطان العثمانى بعد قتل آخر أمير سعودى فى الآستانة . أى لا ذنب للمصريين وقتها فيما حدث . وحتى لو كان لهم ذنب وقتها فما ذنب المصريين الآن بعد قرنين من الزمان ؟

3 ـ هنا الكيل بمكيالين . من حق العرب أحتلال مصر وغيرها ، ويحرم على غير العرب الهجوم على العرب حتى لو كان لرد الاعتداء ولتخليص المنطقة من دولة معتدية .

4 ـ هو نفس المنطق الذى يجعل مقاومة الاحتلال العربى كفرا ، وهو نفس المنطق الوهابى لدى فيصل الدويش قائد الإخوان النجديين فى عهد عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة الراهنة. الاخوان النجديون بزعامة فيصل الدويش هم الذين أقاموا الدولة السعودية ، وكانوا يغيرون على العراق ينهبون ويقتلون الرجال الآمنين والأطفال والنساء ، فاضطرت السلطات العراقية برعاية انجلترة أن تقيم حصنا داخل العراق ليحمى العراق من هجمات فيصل الدويش وسفّاحيه ، فاعتبر فيصل الدويش بناء هذا الحصن عملا إستفزازيا عدائيا لأنه يعوقه عن الجهاد . ودخلت أزمة حصن ( بصية ) الى التاريخ ( المسكوت عنه ) ، فقد تدخلت فيها انجلترة وأرغمت عبد العزيز على ردع رفيقه فيصل الدويش ، الذى صمّم على هدم هذا الحصن كى يمارس الآخوان القتل والسلب والنهب فى العراق بسهولة ويسر .. !!

5 ـ المفترض فى أى ( عُرف ) وأى قانون وأى تشريع وضعى بشرى أو تشريع الاهى أن من حق البشر الدفاع عن أنفسهم ضد من يهاجمهم ويدخل أراضيهم يسلب ويسفك الدماء ويغتصب النساء . ولكن الجهاد السّنى ينكر ذلك على ( الآخر ) بل يعتبرالاعتراض عليه ومناقشته كفرا لأنه يعيق فريضة الجهاد .!!

 6 ـ المفترض من أبناء البلاد المفتوحة أن تستنكر هذا ، وأن تحكى هذا التاريخ لأبنائها فى المراحل التعليمية . ولكن تجد الكيل بمكيالين هنا . فمناهج التاريخ تركّز على مساوىء الاحتلال الغربى والاستعمار الغربى مع أنه أقل وحشية من الاحتلال العربى بينما تشيد وتمجّد بالفتوحات ولا تصورها ـ إطلاقا ـ إحتلالا .

لذا لا تعجب من المصريين اليوم وهم يقدسون الصحابة الذين قهروا أسلافهم ، ولا تعجب من العراقيين الذين تناسوا المذابح التى أقامها الوهابيون السعوديون لأجدادهم من الدولة السعودية الأولى الى تأسيس الدولة السعودية الراهنة. النتيجة أن أحفاد الضحايا العراقيين أصبحوا وهابيين يقتلون إخوانهم فى الوطن تقربا للشيطان السّنى الوهابى .

ثانيا : السعودية محور الشّر فى العالم

1 ـ  هناك صورتان متناقضتان لشخصية النبى محمد عليه السلام. صورته فى القرآن الكريم ، وفيها نراه مثلا أعلى فى الرأفة والرحمة واللين والمسالمة. ثم صورته المزيفة فى السيرة المكتوبة والأحاديث السنية ، وقد جعلوه مجرم حرب سفّاكا للدماء لتبرير التشريع السّنى فى الجهاد .  وبتلك الصورة المزيفة المفتراة فى السّنة والسيرة إقتدى طغاة المسلمين فى فتوحاتهم فى ظل ثقافة العصور الوسطى القائمة على الحروب الدينية والمذهبية ومحاكم التفتيش والاستبداد والاستعباد والدول الدينية فيما بين أوربا وبلاد المسلمين .

2 ـ وتحررت اوربا من ثقافة العصور الوسطى وبدأت بالفصل بين الدين ( الأرضى ) والسياسة ، وأرست العلمانية فنهضت بينما كان المسلمون فى الجهل والتخلف يرتعون تحت سيطرة الدولة العثمانية فى ضعفها وشيخوختها ، حين كانت أوربا تطلق عليها لقب ( الرجل المريض ) وبعضها مثل روسيا تريد التهامها ولكن تريد أنجلترة الابقاء عليها لتلتهمها وحدها . فى هذا الوقت العصيب ظهر ابن عبد الوهاب مناهضا للتصوف والتشيع مبشرا بالسنة الحنبلية التيمية المتطرفة ، يتهم خصومه السنيين المعتدلين والشيعة والصوفية بالكفر ، وطبقا للتشدد السّنى يستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وبلادهم . وتم عقد الاتفاق الشهير بين ابن عبد الوهاب وابن سعود ، وبمقتضاه يعطى ابن عبد الوهاب لابن سعود شرعية الجهاد ( الدم الدم الهدم الهدم ) لمن لا يعتنق الوهابية ، أى أعطاه شرعية إحتلال بالبلاد الأخرى طالما لا تدخل فى الوهابية وطاعة ابن سعود . وبهذا دخلت حروب التوسع المعتادة فى نجد منعطفا خطيرا باستغلال الاسلام وسيلة للتوسع السياسى الذى لم يقتصر على نجد بل تعداها الى الحجاز وغارات على العراق وممتلكات الدولة العثمانية فى الاحساء وغيرها . وكان ابن عبد الوهاب يرصّع رسائله التى تحث على الجهاد الوهابى بالاستشهاد بالسيرة والأحاديث ، أى بالصورة المزيفة التى رسمتها ثقافة الفتوحات للنبى عليه السلام فى السيرة والسّنة فأفلح ابن عبد الوهاب وابن سعود فى  بعث ثقافة ( الفتوحات العربية ) من مرقدها بعد قرون من خمول العرب وقيام أجناس أخرى بالفتوحات من الأيوبيين والمماليك والأتراك العثمانيين . وانتهت الدولة السعودية الأولى بالتدمير على يد الوالى محمد على باشا .

3 ـ كان لمحمد على باشا مشروع مختلف ، يقوم على إعادة بناء الدولة العثمانية تحت زعامة مصر المركزية ، أخذا بالعلمانية الأوربية وتطورها ومخترعاتها . ونجح محمد على فى القضاء على معالم التخلف ( الدولة السعودية الأولى ـ الجيش العثمانى ـ المماليك وسيطرة شيوخ الأزهر ) ، وأقام نظاما عصريا بالبعوث الى فرنسا ، والجيش المصرى المدرب ومصانع السلاح و الاسطول المصرى الحديث والتعليم المدنى وتكوين طبقة إقطاعية تقوم بدور البرجوازية الأوربية . وبدأ صراعه مع الدولة العثمانية . وتدخلت أوربا لانقاذ ( الرجل المريض ) ليس حرصا عليه ولكن حرصا على مصالحها ، فقلّمت أظافر محمد على بعد أن وصل نفوذه للخليج شرقا والأناضول شمالا والسودان جنوبا . وقنع محمد على وبنوه بحكم مصر وإستأنفت مصر مسيرتها التنويرية خصوصا فى عهد الخديوى اسماعيل الذى حاول أن يجعل مصر قطعة من أوربا ، ولكن تأمرت عليه انجلترة الى أن انتهى الأمر باحتلال مصر 1882 . ومع وجود الاحتلال حافظت مصر على مسيرتها التنويرية والليبرالية خصوصا بعد أستقلالها عن الدولة العثمانية وتحولها الى النظام الملكى ودستور 1923 . وإنتهى العصر الليبرالى المصرى بانقلاب 23 يولية عام 1952 ، والذى كان قادته من أتباع الاخوان المسلمين ، والاخوان المسلمون شجرة أنبتها فى مصر عبد العزيز آل سعود مؤسس الدول السعودية الراهنة .

4 ـ إختلف عبد الناصر مع الاخوان عند توزيع الغنائم ، فانتصر عليهم ، وطاردهم بينما أبقى دينهم الوهابى يعمل تحت الأرض . جاء السادات وتحالف مع السعودية والاخوان والسلفية أى الوهابية المتخصصة فى الدعوة ، وجاء مبارك فدعّم السلفية واضطهد الاخوان فاستفاد من سياسته السلفية والاخوان . وخلال عصر السادات ومبارك تمكن الاخوان والسلفيون من السيطرة على العقل المصرى والوعى المصرى من خلال التعليم والاعلام والمساجد والأزهر ، فنشأت أجيال قد رضعت الوهابية على أنها الاسلام . هذه الأجيال من سنّ خمس سنوات الى سن خمسين عاما لم تتعلم فى الاسلام ولا تعرف عن الاسلام سوى رأى واحد هو ثقافة السلفية ، ثقافة الفتوحات ، ثقافة العار .. أما الاسلام الحقيقى فهو بالنسبة لهم ( إنكار سنة ) و ( إزدراء للدين ) و ( كفر بواح ).

5 ـ وبوصول الاخوان والسلفية الوهابية لحكم مصر يأتى الدستور المصرى الجديد يجرّم ويحرّم التعرّض للذات الالهية وللرسول وزوجات النبى والصحابة ..أى يحرّم ويجرّم دستوريا وليس بالقانون العادى مجرد المناقشة لتاريخ الصحابة ولثقافة الفتوحات ، ويؤكّد ألوهية عمر وأبى بكر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وأبى هريرة  والمغيرة بن أبى شعبة، بل وأئمة الحديث من البخارى الى الشافعى ومالك وابن حنبل ..

6 ـ هنا ثقافة العار تتسلّح بالدستور . ولو أحببت أن ترى ضحايا ثقافة العار فافتح اليوتوب الخاص بالهجوم على السفارات الأمريكية فى القاهرة وبنى غازى وصنعاء ،وغيرها (أكتب هذا المقال يوم الخميس 13 سبتمبر 2012 ). هم ضحايا ثقافة الجهاد السنى الذين لا يرن بأسا بقتل مئات الألوف من المسلمين ، ولا يتحركون نخوة لنجدة مئات الألوف من العائلات السورية والعراقية المشردة .ولكن ينتفضون غضبا لأن أحد الموتورين عرض فيلما يبرز فيه الشخصية المفتراة المصنوعة لخاتم النبيين . ينسون أن ثقافة الفتوحات هى التى أخترعت هذه الشخصية المفتراة لخاتم النبيين ، وينسون أن ما جاء فى أحاديث البخارى وغيره يفوق هذا الفيلم فى الطعن فى خاتم النبيين .. وينسون فى النهاية أن هذا الموتور الذى أنتج الفيلم المسىء هو الآخر ضحية مثلهم من ضحايا ثقافة الفتوحات العربية التى حملت إسم الاسلام زورا وبهتانا، وإثما وعدوانا ..

اجمالي القراءات 15265