الفصل الثامن: ملحوظات ختامية
الفصل الثامن: ملحوظات ختامية

محمود علي مراد في السبت ٠٨ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل الثامن

ملحوظات ختامية

جزء سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام المخصص للسنة الأولى من الفترة المدنية يتسم بسمتين مميزتين: الفراغات والتلاعب بالقرآن الكريم. ولكي يستر مؤلف "السيرة" ما في حديثه عن هذه السنة من فراغات، وفي معرض تلاعبه الإيجابي بالقرآن الكريم، لجأ إلى وسيلة الوضع، أي الاختلاق.

( أ ) الفراغات

السنة الأولى من الفترة المدنية، أياً كانت الزاوية التي ينظر المرء منها إليها، لم تكن سنة عادية، بل كانت، بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولعامة المسلمين، سنة حاسمة. لقد كانت، قبل كل شيء، السنة التي رسخت فيها أقدام الإسلام في المدينة، أولاً، بإنشاء المسجد، الذي أصبح على الفور نقطة التقاء جميع مسلمي الجزيرة العربية، والمكان الذي يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يومياً، والمحفل المفضَّل الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه يتلون فيه القرآن الكريم ويعرفون بالإسلام من كان يريد أن يستعلم عن ديانتهم. كذلك أصبح المسجد المركز الذي بُنيت حوله متاجر السوق والنـزل وغيرها من المباني المخصصة للزائرين الوافدين من الخارج. وبعد فترة من الزمن استطاع المسلمون، بفضل تعاون "الأنصار"، وفضل خبرات المهاجرين التجارية، وفضل إنفاق من كانوا يقدمون لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتغلَّبوا على العوائق المادية التي صادفتهم في بداية الهجرة، والاشتغال بمهن ووظائف مناسبة. واستطاعوا تحقيق حالة من الرخاء الاقتصادي كان فيها مصلحة لهم وللمدينة. على أن نجاح الإسلام في المدينة أوغر ضدهم صدور خصومهم، لا في المدينة وحدها بل في مكة أيضاً. وقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم قصاراه لإقناع اليهود والنصارى، مستنداً إلى القرآن الكريم، بأن الإسلام لم يكن، في حقيقة الأمر، ديناً جديداً، وإنما كان دينهم هم بعد إعادة النظر فيه وتصحيحه، ولكنه كان يصطدم في كل مرة بمعارضة عنيدة. ومشروعه، الذي كان يتمثل في تكوين جبهة واحدة معهم تهدف إلى هداية مشركي المدينة ومكة وبلاد العرب كلها إلى دين الله، لم يقنعهم. وشيئاً فشيئاً أصبح الشك حيال الإسلام ورسوله القاعدة عند كلتا الطائفتين. وكان رد الفعل أن زادت لهجة القرآن ضدهم حدة. وتكررت في القرآن الكريم دعوتهم إلى تحكيم العقل. واستجابت طائفة منهم ولكن أكثريتهم بقيت على موقفها. ولابد أنهم كانوا يقولون للمسلمين: "ما أغرب الشبه بين بعض ما جاء في قرآنكم من قصص وبين قصص كتابنا المقدس! حكايات موسى ويوسف مثلاً. هذا نقل حَرْفي. وفي قصص أخرى حاول محمد أن يعطي صياغة مختلفة، ولكن التقليد أوضح من أن ينخدع به أحد. والقرآن، فضلاً عن ذلك، لا يجيد التقليد، فهو يخلط بين الأنبياء وبين من خلفوهم. ثم إن محمداً يدَّعي أن كتب اليهود والنصارى أنبأت برسالته. أثبتوا هذا! بعض أصحابكم كانوا يهوداً أو نصارى، وقد قرأوا إذاً كُتبنا. أحضروهم معكم وسنرى. هم على العموم تحدثوا إلينا في ذلك قبل دخولهم في ملَّتكم، وقد أثبتنا لهم خطأهم".

ولكن الجدل مع أهل الكتاب لم يكن قضية الرسول الأولى في المدينة. قضيته الأولى كانت هداية مجتمعها المشرك للإسلام. ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فقد كان هؤلاء المشركون إخوة في الدين لمشركي مكة. وكانوا على صلة دائمة بهم. وكان حُجَّاجهم وتجارهم الذين يروحون ويغدون بين المدينتين يذيعون حولهم أنباء آخر تطورات حملات المشركين ضد الإسلام، وآخر ما قيل من أشعار في ذلك، وآخر نصوص كتبت رداً على تحدي القرآن بكتابة شيء مثله، والإجابات عن الحجج التي يسوقها محمد، والأسئلة المحرجة التي يمكن طرحها على محمد والمسلمين في اللقاءات التي تتم معهم: "مَن خَلَقَ الله؟ أرنا الملائكة. أنـزل علينا كتاباً نقرأه. أرنا ميتاً عاد إلى الحياة. كيف لم ير أحد جبريل حين يأتي لمحمد بآيات القرآن؟ قولوا الحق: أهو جبريل أم رجل من عظم ولحم؟". كان هؤلاء المشركون ينكرون وجود الله. وهم - مثل مشركي مكة - لم يتلقوا رسالات من قبل. وعنهم هم كان القرآن الكريم يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم:

رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿46﴾[القصص]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿3﴾[السجدة]

وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ  ﴿44﴾[سبأ]

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴿42﴾[فاطر]

كان هذا هو الحال في مكة. وكان هو الحال أيضاً في المدينة. وكان المفروض أن يكون الفصل، في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يصف بدايات الإسلام في هذه البلدة فصلاً طويلاً حافلاً بالأحداث والتطورات. ولكنه ليس كذلك في سيرة ابن إسحاق. هذا الفصل لا وجود له، والموجود بدلاً منه هو جملة واحدة تخبر بإسلام المدينة الكامل أو شبه الكامل.

ولكي ينسينا ابن إسحاق هذه الكذبة الكبرى، يقدم لنا فصلاً ضخماً عن اليهود. والمؤلف لا يكتب هذا الفصل في صورة أحداث أو تاريخ بل يعطيه صورة تقديم لاقتباسات قرآنية أو تعليق عليها، وذلك لكي يضفي على ما يكتب موثوقية الكلام الإلهي وسلطانه.

والمشكلات التي نجمت عن الهجرة:

- بالنسبة للمهاجرين ذاتهم: مشكلات "لقمة العيش" المادية؛ المشكلات النفسية، - مشكلات الاتصال بالوسط الجديد والتكيف معه؛

- بالنسبة للبلد، نتيجة لوصول أعداد كبيرة من الزوّار الخارجيين إليه؛

- بالنسبة لمكة: الأسر المنكوبة، والأسواق التي اهتزت لرحيل عدد كبير من التجار والعاملين في التجارة؛

- بالنسبة للمسلمين الذين بقوا في مكة ولمسلمي الجزيرة، نتيجة لانتقال مركز الإسلام إلى المدينة،

ماذا قال النص بشأنها؟ النص لم يعط بشأنها أي معلومات.

والقصور ذاته في المعلومات هو الطابع الذي تتسم به رواية ابن إسحاق لأحداث الشهور الاثني عشر الأول التالية للهجرة. هذا على الرغم من أن هذه الفترة كانت فترة اضطراب وتقلب لفئات سكان المدينة كلها. ولابد أن آلافاً من الاجتماعات واللقاءات والمقابلات عقدت فيها:

- اجتماعات الرسول صلى الله عليه وسلم وأفراد أمة الإسلام: اجتماعات مع المهاجرين للوقوف على مشكلاتهم وبحث وسائل حلها؛ اجتماعات مع مسلمي المدينة لمساعدة المهاجرين ولدراسة مشروعات تجارية مشتركة في رأس المال وفي الإدارة والتنفيذ؛ واجتماعات لتوزيع الأدوار ولمتابعة هذا النشاط.

- اجتماعات مع من أسلموا حديثاً من أهل المدينة ومع الزائرين الوافدين من الخارج، وتنظيم نشاط الدعوة. ومعظم هذه الاجتماعات كانت ولا شك تتم في المسجد قبل الصلوات أو بعدها.

وثمة ملحوظة هنا تستحق الانتباه: خلال الفترة المكية، كان الجزء الأكبر من الوقائع التي تخص الرسول صلى الله عليه وسلم - المشهد الذي تسبب فيه الرسول، بإشارة من يده، في موت أربعة رجال كانوا يستهزئون به، لقاءاته مع زعماء قريش؛ إسلام الطفيل بن عمرو الدَّوْسي وعمر؛ محاولات اغتياله - تحدث في المسجد الحرام، مع أن القرآن الكريم والمنطق يقولان إنه صلى الله عليه وسلم أُخرج من هذا المسجد. وعلى العكس، ما من اجتماع التقى فيه الرسول باليهود الذين جاء ذكرهم في شرح الاقتباسات القرآنية أو مع المسلمين قالت "السيرة" إنه تَمَّ في مسجده بالمدينة. واللقاء الوحيد الذي حدث في هذا المسجد هو ذلك الذي اجتمع فيه الرسول بوفد نصارى نجران. وفي الوقت الذي تقول "السيرة" فيه إن الصحيفة التي سجلت فيها قريش مقاطعتها لبني هاشم وبني عبد المطلب في مكة عُلِّقت في الكعبة، لم تعلق في مسجد الرسول بالمدينة الصحيفة التي يقول النص إن الرسول صلى الله عليه وسلم كتبها في المدينة وشرح فيها عدداً من المسائل ذات الأهمية البالغة في وقت السلم ووقت الحرب، والتي يهم أمرها جميع طوائف هذا البلد.

- اجتماعات في أوساط أهل الشرك المحافظين، على جميع المستويات: في الأُسَر، وفي العشائر، واجتماعات سادة الأوس وأشرافهم، بحضور من أسلموا أو في غيابهم. واجتماعات مماثلة عند الخزرج؛ واجتماعات مشتركة بين القبيلتين الكبريين لمعرفة مَن مِن كل منهما أسلم، ثم لاتخاذ قرار في شأن أعضائهما المسلمين. وكان يُدعى لبعض هذه الاجتماعات على الأرجح ممثلون لقبائل قريش وللقبائل اليهودية للتشاور معهم أو للاتفاق على إجراء أو خطة معينة. وقد أظهر بعض العشائر شيئاً من التسامح مع المسلمين بينما شدد بعضها الآخر النكير عليهم وعذب أعضاءه المسلمين على غرار ما فعلت عشائر مكة مع مسلميها.

- وفي الدوائر اليهودية لابد أن وصول الرسول صلى الله عليه وسلم بصحبة عدد كبير من مسلمي مكة إلى المدينة قد أثار مخاوف كبيرة. وكانت هذه الدوائر تتابع عن قرب ظهور الإسلام ثم انتشاره بمكة، كما أنها اتخذت من التدابير ما يلزم لاستلام ما ينـزل من القرآن بعد إذاعته في الناس أولاً بأول؛ ولابد أن علماءهم وأحبارهم فحصوا ما وصلهم منه وقارنوه بكتابات اليهود وقدموا نتيجة فحصهم إلى سلطاتهم العليا. وكان يهم الطائفة اليهودية أن تعلم ما إذا كان محمداً هو المسيح الذي بشرت به كتاباتهم. ولكن محمداً ما كان يمكن أن يكون المسيح المنتظر إذ أن المسيح عنده كان عيسى بن مريم الذي لا يعترف به اليهود. ولابد أن موضوع محمد كان بنداً دائماً في جدول أعمال جميع الاجتماعات التي كانت قبائل المدينة اليهودية الثلاث تعقدها فرادى أو مجتمعة، فإنه لم يحدث أبداً، منذ أن وطئت أقدامهم أرض يثرب قبلها بعدة قرون، أن وجد اليهود أنفسهم أمام مثل هذا الوضع: رجل يقول إنه نبي، يحدثهم بصفته هذه، ويدعي أنه يتلقى وحياً من السماء بواسطة ملاك من الملائكة، وحياً جزء منه موجَّه إليهم بصورة مباشرة. رجل يوقِّر أنبياءهم وكتاباتهم ويدعوهم إلى إتباعه. ولكن مشكلة محمد لم تكن فحسب مشكلة دينه. لقد وصل هذا الرجل إلى بلدهم مع نفر من تابعيه. وأهل المدينة يُقبلون على دينه بصورة متزايدة. وتأثير الإسلام في مكة، الذي كان يشبه الزلزال المستمر، بلغ المدينة مع محمد وصحبه. لقد اهتزت أركان كل شيء ولم يعد شيء يحدث كما كان يحدث في الماضي. والتوازن الذي أقيم بشق الأنفس عبر القرون في العلاقات بين اليهود ومجتمع المشركين في المجالات الاقتصادي والاجتماعي والعسكري اختل بشكل خطير نتيجة للمنافسة الإسلامية ولنفوذ هذا النبي ذي الشخصية القوية والكلام العذب على أفئدة الناس. ومالم يوقف هذا الرجل عند حده، ومالم يوقف تقدُّم هذا الدين، فأي مصير ينتظر اليهودية واليهود في المدينة وفي خيبر؟ لابد من تعبئة الجهود وتفعيل الأحلاف مع المشركين، ومع قريش، التي هي الأخرى في خطر، وأيضاً مع النصارى.

- اجتماعات أخيراً لدى نصارى المدينة. إن محمداً، بالنسبة لهم، يمتاز على اليهود في كونه يكرِّم السيد المسيح وأمه البتول ويعتبر أن عيسى عليه السلام هو المسيح الذي بشرت به الكتب السماوية. ولكن المسيح عنده ليس إلا نبياً، وهو لا يؤمن بصَلبه ولا، بالتالي، بكونه كفّر بصلبه عن خطايا البشر. ما الموقف الذي يجب اتخاذه حياله؟ اجتماعات على جميع المستويات لابد أنها عُقدت لمناقشة هذا الموضوع كما أرسل مبعوثون إلى القدس لأخذ رأي الجهات الدينية فيها. وتمت اتصالات أيضاً مع باقي طوائف مجتمع المدينة.

كانت هناك إذاً، إزاء الوضع الاستثنائي الذي تولَّد عن الهجرة، في المدينة، خلال السنة الأولى، ما يمكن وصفه "بحالة الطوارئ الدائمة". وكان المسلمون، شأنهم في ذلك شأن سائر الطوائف الدينية في المدينة، يكثرون من الاجتماعات. وبالنسبة لكل طائفة كان هناك دائماً جديد وكانت هناك قرارات يتعين اتخاذها. قرارات في غاية الأهمية لأن معقِّباتها تمس مجموع أعضاء الطائفة، وقرارات تحتاج إلى تنفيذ بأعمال مادية محسوسة. ولا ينتظر المرء من مؤرخ الفترة أن يذكر وقائع كل هذه الاجتماعات، ولكن المؤرخ الذي لا يعطي عنها فكرة تتناسب مع أهميتها مؤرخ جاهل للأحداث الهامة التي تمخضت عنها أو مؤرخ لا يؤدي واجبه.

صورة الرسول

إحدى الوسائل التي يمكن استخدامها لكي نعرف ما إذا كانت الصورة التي رسمها ابن إسحاق في سيرته للرسول صلى الله عليه وسلم تظهر ملامحه الحقيقية أم لا، هي مقارنة هذه الصورة بالملامح التي كانت ملامحه صلى الله عليه وسلم في نهوضه بمسئولياته في المدينة: مسئولياته كنبي أولاً، ثم مسئولياته كرئيس لأمته، وأخيراً مسئولياته كمشرِّعٍ وكقاضٍ.

1- مسئولياته كنبي

كانت هذه المسئوليات تتضمن الأعمال الآتية:

 أ ) تبليغ ما يوحى إليه من قرآن إلى أصحابه وتحفيظهم إياه عن ظهر قلب وشرح ما غمض منه لهم.

ب) إمامة الصلوات اليومية الخمس وصلاة الجمعة وإلقاء خطبتها، وتعليم المسلمين كيفية أداء شعائر دينهم الأخرى والإجابة عن أسئلتهم.

النص:

- بناء المسجد (ثلاثة أسطر).

- خطبتان (سبعة عشر سطراً).

- ثلاث روايات مختلفة بشأن الأذان.

ج ) الصلاة على من يموت من المسلمين.

النص:

الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على رأس النفاق في المدينة.

د ) الدعوة للإسلام لدى من لم يبلغهم أمره، ولدى من علم به، ولم يهتد إليه من:

- أهل الشرك،

- واليهود،

- والنصارى.

النص:

عشرون لقاءً مع يهود ولقاءان مع وفد نجران.

ه ) إسناد أعمال الدعوة إلى من يتوسم فيهم القدرة على التحدث باسم الإسلام وتوجيههم بشأن ما يجب أن يقولوه ويفعلوه.

النص:

- صمت.

2- مسئولياته كرئيس للأمة

هذه المسئوليات تتضمن الأعمال الآتية:

 أ ) الوقوف على المشكلات من كل نوع: مشكلات كسب العيش، المشكلات النفسية …الخ، ذات الطابع العام.

ب) تلمُّس الوسائل الكفيلة بحل هذه المشكلات.

النص:

- المؤاخاة.

- الرسول صلى الله عليه وسلم يعين نفسه رئيساً لإحدى عشائر المدينة.

ج ) المشاركة في الحياة الاجتماعية للأمة: التهنئة بالزيجات وبميلاد الأبناء، فض النـزاعات، المواساة في الوفاة.

النص:

تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاجرة بين مسلمين من الأوس والخزرج.

د ) الاستماع إلى من يحتاج إلى خدمة أو إلى نصيحة أو إلى عزاء أو مواساة والقيام بزيارات.

النص:

- واسى الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجراً أثناء بناء المسجد شكا إليه إخوانه الذين يثقلون عليه في العمل؛

- زار الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أشراف المدينة، وزار رأس النفاق فيها.

3- مسئولياته كمشرِّع

على الرغم من أن القرآن الكريم سنَّ الأحكام الرئيسية للشريعة الإسلامية في المسائل الجنائية والمدنية والتجارية ومسائل الأحوال الشخصية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتولى مسئوليات التشريع فيما لم يرد في القرآن نص بشأنه من المسائل التي تحتاج إلى تشريع في الشئون اليومية للمجتمع الإسلامي.

النص:

- تحرير صحيفة المدينة.

4- مسئولياته كقاضٍ

كان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المدينة مسئولية تولاها الرسول صلى الله عليه وسلم وحده. ومع ازدياد نـزول الأحكام التشريعية في القرآن الكريم وتلك التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم، تزايدت أهمية مسئوليته القضائية. ورغم أن الإسلام قد هذَّب أخلاق العرب وأن مبادئه رفعت مستوى الأخلاق بين أهله، فلا يمكن أن يقال إن الخلافات والمخالفات قد اختفت بين المسلمين. وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدم الفتوى لمن يطلبونها وأن يفصل في النـزاعات بين الأشخاص. وكان عليه أيضاً أن يحقق ثم أن يصدر الأحكام بالعقوبات في القضايا الجنائية وأن يسهر على تنفيذها. ومن المؤكد أن سداد أحكامه في إقامة العدالة بين المسلمين جعلت بعض الطوائف غير المسلمة في المدينة، بما في ذلك أهل الكتاب، تعرض عليه قضايا تتعلق بأعضائها. ونظراً إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف ما إذا كان مسموحاً له بالفصل في مثل هذه القضايا، فقد جاءه الإذن الإلهي في هذه الكلمات:

فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴿42﴾[المائدة]

النص:

عُرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم قضية زنا بين يهودي ويهودية محصنين وطُلب منه التحكيم في خلاف حول الدية بين قبيلتين يهوديتين.

* * *

كل عمل الرسول صلى الله عليه وسلم خلال السنة الأولى من الفترة المدنية ينحصر إذاً عند ابن إسحاق فيما يأتي: أمر ببناء المسجد؛ ألقى خطبتين؛ كتب الصحيفة؛ آخى بين خمسة عشر مهاجراً ومثلهم من "الأنصار"؛ عيَّن نفسه رئيساً لعشيرة مدنية؛ وافق على صيغة الأذان؛ التقى ببعض اليهود؛ فض مشاجرة بين مسلمين من الأوس والخزرج؛ حكم بالإعدام على زان وزانية من اليهود ونُفذ الحكم رجماً؛ أصدر قرار تحكيم في خلاف بين قبيلتين من اليهود بشأن الدية؛ قابل وفد نصارى نجران؛ التقى برأس النفاق وعفا عن إساءته وصلى عليه بعد وفاته؛ عاد شريفاً مسلماً من أهل المدينة في مرضه.

هذه الصورة التي يقدمها لنا النص للرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو واضح مما سبق، صورة لا تبين ملامحه على الإطلاق. وحين يريد المؤلف أن يملأ فراغاتها، فالنتيجة هي "كريكاتور" لا يخرج منه المرء بشيء.

أين ملامح عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يلخصها القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿4﴾

وأين المثل الأعلى الإنساني الذي يتحدث عنه القرآن في قوله تعالى في سورة الأحزاب: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴿21﴾

مهما حاول المرء، فلن يجد هذه الملامح في أي موضع من النص. ولم يحدث أبداً، منذ بداية البعثة وحتى نهاية الفترة التي تعنينا، أن أسندت "السيرة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات العظَمة التي أغدقتها على جده مؤسس عشيرته وعشيرة الخليفة أبي جعفر المنصور.

(ب) التلاعب بالقرآن

يمس هذا التلاعب أربعاً من قطاعات سكان المدينة: المشركين، والمنافقين (بين المسلمين)، والنصارى واليهود.

المشركون

أخفى ابن إسحاق، عن عمد، التنـزيل القرآني الذي يقرر بصورة لا جدال فيها وجود مشركين في المدينة. وهذا هو ما نسميه بالتلاعب السلبي بالقرآن الكريم. وإخفاء ما جاء في الكتب المقدسة خطيئة شجبها القرآن الكريم، فيما يتعلق بأهل الكتاب بقوله:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ﴿140﴾[البقرة]

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿71﴾[آل عمران]

وهذا يصدق أيضاً على المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن آخر ما أنـزل الله من كتاب. ولكن المسلمين مقصودون بصورة مباشرة في آية كريمة تقول:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنـزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ﴿159﴾[البقرة]

أما التلاعب الإيجابي بالقرآن الكريم  بشأن المشركين والكفار، فإننا نجده في صدد الاقتباسات القرآنية الخاصة باليهود. فحيثما جاء ذكر الكفار صراحةً في هذه الاقتباسات، فسرها المؤلف، كما رأينا، في حالات كثيرة، على أن المقصود بهم هم اليهود.

وهذا هو نوع التلاعب الذي يتمثل في تحريف معنى الكلام، وهو الخطيئة التي يشجبها القرآن الكريم في آيات مثل:

مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴿46﴾[النساء]

وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴿41﴾[المائدة]

وقد ارتكب ابن إسحاق إذاً، بهذا التلاعب الإيجابي، الخطيئة التي تتحدث عنها هاتان الآيتان.

المنافقون

لم يرد في القرآن المكي ذكر للمنافقين، وظاهرة النفاق ظاهرة مدنية بحتة. وهذا شيء بديهي، فإن صفة المسلم في مكة كانت تعرِّض صاحبها لكل صنوف المحن.

ذلك أن الإسلام كان ثورة هدفها تحطيم الأسس التي بُني عليها المجتمع المكي والعربي منذ آلاف السنين. تحطيم ديانة الشرك وعبادة الأصنام، ولكن أيضاً إضعاف البنية القبلية ذاتها. علاقة الدم التي كان يستند إليها شعور كل رجل وكل امرأة بهويتهما، والتي كانت تتحدد بها مرجعية كل فرد، وتحدد حقوقه وواجباته داخل أسرته وعلاقاته بالعالم الخارجي. والجدران التي كانت تشكل، مجازاً، البيت الذي كانت تعيش فيه وتلجأ إليه كل قبيلة، كانت موضع هجوم من الدين الجديد. كان محمد صلى الله عليه وسلم يريد أن يضع فوق هذه البنية بنية أخرى تخضع فيها الرابطة المادية للشخص بذوي قرباه المباشرين لرابطة غير مرئية للشخص مع إله واحد ومع أمة من الناس الذين يؤمنون بهذا الإله. أي ثورة كان يمكن أن تكون أكبر من هذه الثورة، وأي عدو كان يمكن أن يكون ألدَّ للنظام القديم من المسلم. لذلك كانت مكة تعتبر المسلمين خطراً عاماً وتعاملهم على هذا الأساس، ولم تكن من ثم أرضاً مواتية للنفاق.

أما المدينة، فقد كان الوضع فيها مختلفاً. شيءٌ ما فيها وفيما حولها كان يشجع ظهور أشكال النفاق المختلفة التي أكثر القرآن الكريم من التنديد بأصحابها. ما هو هذا الشيء؟ ابن إسحاق لا يتحدث عنه. والاحتمال الذي خطر لنا هو أن فرص الكسب والعمالة التي أتاحها تطور اقتصاديات المدينة ونموها جذبت إلى الإسلام أشخاصاً تهمهم المصلحة المادية أكثر مما تهمهم مسائل الدين. وقد تكون هناك أسباب أخرى خافية علينا، ولكن الحقيقة الثابتة هي أن النفاق كان منتشراً في المدينة وأنه أثار مشكلات كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم. المنافقون "هم العدو": هكذا وصفهم القرآن الكريم. والعدو الداخلي في معظم الأحيان أخطر من العدو الخارجي. ولهذا فإن تشريعات كل المجتمعات تَعْتَبر الجواسيس، والمتعاونين مع العدو، والمخربين، والمجاملين للخصوم، خونة وتعاقبهم بأقصى العقوبات.

لقد أضر منافقو الإسلام بالإسلام ضرراً بالغاً وكان همَّهم من هموم الرسول الكبرى. هذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها مادام القرآن الكريم يقررها. وكان وجودهم عاراً على البلد الذي لم يكن فيه، كما يقول مؤلفنا، سوى "أنصار". فما الذي فعله ابن إسحاق ليضيع معالم هذا العار؟ تلاعب بالقرآن. تلاعب به تلاعباً إيجابياً بتقليل أهمية هذه الظاهرة في شروحه للاقتباسات القرآنية، المتعلقة بالمنافقين، وذلك بأربع طرق:

- بتخفيض عدد الاقتباسات القرآنية التي أوردها عن هذا الموضوع إلى عشرة؛

- بتخفيض عدد الأشخاص الذين يقدمهم كمنافقين؛

- بتقليل جسامة أفعال النفاق موضوع الاقتباسات التي يعلق عليها؛

- بادعاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم غفر لرأس النفاق في المدينة ما ارتكبه من أفعال وأنه صلى عليه بعد موته.

والمؤلف يتلاعب بالقرآن الكريم أيضاً تلاعباً سلبياً حين لا يتعرَّض للآيات القرآنية الكريمة التي تبرز هذه الظاهرة في كل أبعادها: الآيات التي تذكر أفعالاً للنفاق بعينها، وتلك التي فُرضت فيها عقوبات رادعة على المنافقين، في هذا العالم، وتلك، أخيراً، التي تصفهم بالكفار بل وتعتبرهم أسوأ من الكفار إذ أنها تتوعدهم بمصير، في العالم الآخر، أسوأ من مصير أي فئة من فئات الكفار الأخرى.

النصارى

هنا أيضاً نجد نوعي التلاعب بالقرآن الكريم. إن النص يخفي الآيات القرآنية التي تثبت بشتى الطرق وجود طائفة نصرانية في المدينة. طائفة كانت على علاقة بالمسلمين، وكان بعض أعضائها يودونهم، وكانت على خلاف مع اليهود بشأن عدم اعترافهم بالمسيح وبشأن مسائل دينية أخرى، وقد كُلِّفَ الرسول صلى الله عليه وسلم بإبلاغها ببعض الحقائق. وإخفاء هذه الآيات يشكل التلاعب السلبي بالقرآن الكريم. أما التلاعب الإيجابي بهذا الكتاب، فإننا نجده في موضعين:

 أ ) في شروح الاقتباسات القرآنية، حين يدعي النص أن الآيات التي وردت فيها نـزلت بمناسبة زيارة وفد نصارى نجران للرسول عليه الصلاة والسلام، علماً بأن هذه الزيارة، وفقاً لكل الدلائل، كانت من نسج خيال المؤلف؛

ب) في شرح الاقتباسات القرآنية المتعلقة باليهود والتي يدعي فيها أن ما ذكر عن أهل الكتاب فيها وما ذكر صراحةً عن النصارى إنما يشير إلى نصارى وفد نجران.

اليهود

أكثر حالات التلاعب بالقرآن الكريم بشأن اليهود هي حالات تلاعب إيجابي. هي أولاً الحالات التي يسوي فيها النص بين أهل الكتاب واليهود وحدهم ويذكر فيها أسماء من يعنيهم من اليهود. وهذا التلاعب الإيجابي هو الوجه الآخر للتلاعب السلبي المتعلق بالنصارى والذي يهدف إلى إخفاء وجودهم بالمدينة. وهي أيضاً كل حالات الاقتباسات القرآنية الأخرى بشأن اليهود التي قدمها النص أو علق عليها والتي أبدينا ملاحظاتنا على كل منها.

ولكن هناك أيضاً تلاعب سلبي بالقرآن الكريم فيما يتعلق باليهود، وهو يتضح في إخفاء الآيات التي جاءت عبارات القرآن فيها مانعة للخلط والتعميم ومقررة أن اليهود ليسوا كلهم كفاراً وأن منهم المؤمن صادق الإيمان. وقد أعطينا عن هذه الآيات عدة أمثلة تحت عنوان القرآن غير المقتبس.

المحصِّـلة النهائية

في حوالي عام 750 ميلادية، وهو التاريخ الذي أعلنت فيه الخلافة العباسية، بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة واثنين وثلاثين عاماً، وفقاً للتقويم الهجري، كان العالم الإسلامي شرقاً وغرباً منقسم المشاعر بين الأمويين والعباسيين.

كان أنصار الخلافة الجديدة في سعادة غامرة. وكانوا يلعنون بني أمية لأنهم، في رأيهم، اغتصبوا السلطة من أصحابها الشرعيين؛ سَيَّروا الجيوش مرتين ضد المدينة، وحكموا المدينة، مهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد من حديد، وأذلوا أهلها الذين كان أغلبهم من أبناء الصحابة. وكانوا يلعنونهم أيضاً لأن من ولّوهم من قبيلتهم أو من بني جلدتهم على الأمصار في آسيا وفي أقاليم "الإمبراطورية" الأخرى كانوا يعيِّنون العرب في مناصبها الإدارية والعسكرية العليا بالأفضلية على أبناء هذه الأمصار، وكانوا يعتبرون أهلها مسلمين من الدرجة الثانية. وكان أنصار العباسيين يسبّون خلفاء بني أمية لأنهم كانوا في معظم الأحوال غير أكفاء وظالمين، ولم يكونوا يراعون أحكام الدين لا في حياتهم الخاصة ولا في قيامهم بمهام الخلافة. وكانوا يأخذون عليهم أيضاً استعانتهم في الحكم بالنصارى واليهود وتعيينهم في مناصب هامة كوزراء أو مستشارين.

أما أنصار الأمويين فكانوا يذكّرون بأن خلافتهم هي التي انتشر فيها الإسلام من الصين شرقاً إلى شمال أفريقيا وإسبانيا غرباً، وأن العباسيين، في تعطّشهم للحكم، ارتكبوا كل الجرائم وكل الفظائع المتصورة، وأنهم أشعلوا الحروب بين المسلمين وبعضهم البعض وقتلوا على هذا النحو عشرات الألوف من أبناء دينهم، وأنهم لم يكتفوا بالتنكيل ببني أمية بل أعملوا السيف في العلويين، أبناء عمومتهم وشركاءهم في السعي للخلافة، وأنهم قتلوا كبيرهم؛ وأنهم بعد أن حققوا غايتهم وتولوا السلطة، قلبوا ظهر المجن لأولئك الذين أوصلوهم إلى الحكم؛ وأنهم فضَّلوا الفُرس على العرب فاختاروا منهم وزراءهم ومستشاريهم وولاتهم. وكان أنصار الأمويين ينتقدون أيضاً أهل المدينة ويسجلون عليهم نفاقهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم أهرقوا كثيراً من الدماء بعد وفاته في حروبهم من أجل السلطة.

وكان المسلمون من جهة أخرى، أيام كَلَّف أبو جعفر المنصور، الذي تولى الخلافة عام 754 ميلادية، ابن إسحاق بكتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك، في حيرة وغم شديدين. كانت تحت أعينهم آيات من القرآن الكريم تحرِّم القتل عموماً وقتل المسلمين خاصةً، في عبارات في منتهى القوة والقطع. آيات مثل: 

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴿32﴾[المائدة]

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿84﴾ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ …﴿85﴾ [البقرة]

ومثل:

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴿93﴾[النساء]

وكان أمامهم، من ناحية أخرى، مئات آلاف الناس الذين قتلوا أو أخرجوا من ديارهم في حروب الخلافة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولابد أن كثيراً منهم، ممن لم يكونوا أنصاراً للأمويين ولا للعباسيين، كانوا يلعنون الفريقين جميعاً، وكانوا يقولون إنه لا هؤلاء ولا هؤلاء كانوا يعيرون الإسلام أي أهمية وأنهم كانوا يضعون دينهم في خدمة مطامحهم للحكم، وأن هؤلاء وهؤلاء كانوا يريدون أن يكونوا ملوكاً، وكانوا ملوكاً بالفعل، وأنهم لكي يقيموا ملكهم، لم يتورعوا عن ارتكاب أي خطيئة وأي جريمة، وأن هؤلاء وهؤلاء كانوا في واقع الأمر أكبر أعداء لله ورسوله عرفهم الإسلام منذ بداياته الأولى.

على أن هؤلاء المسلمين كانوا، ولا ريب، يحقدون على العباسيين، الذين كانوا يبنون أحقيتهم في الحكم على قرابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من حقدهم على الأمويين فقد كان الواجب، في رأي هؤلاء المسلمين، لكي يكون العباسيون جديرين بتراثهم، أن يسيروا على نهج الرسول. والحاصل أن الخليفة العباسي كان أشبه بفرعون مصر، الذي وصفه القرآن الكريم، منه بالرسول صلى الله عليه وسلم.

هذه كانت ولا شك مشاعر قطاعات كبيرة من الرأي العام الإسلامي عندما شرع ابن إسحاق في كتابة سيرة الرسول.

والشيء الذي يجب ألا ننساه هو أن هذا الكتاب ألف بناء على تكليف، والمصادر كلها متفقة على هذا. ومادام الأمر كذلك لا يجوز، في رأينا، عند النظر إلى "السيرة"، إغفال الظروف التي كانت سائدة وقت كتابتها، ولا تصور أن الخليفة الذي كان يتربع على العرش لم تكن لديه، حين كلف ابن إسحاق بكتابتها، ما يسمونه في الغرب "بالفكرة الخلفية" أي غاية أخرى خفية. إن الطغاة المستبدين من أمثاله لا تفترض فيهم البراءة. لقد كانت لديه جيوش لقمع الثورات ولسحق أعدائه، ولكن كان في خدمته أيضاً شعراء وكتَّاب لتجميل صورته والرد على الانتقادات الموجهة ضده. وقد خطرت فكرة كتابة سيرة للرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الخليفة بصورة طبيعية لأنه كان يستمد من قرابته له شرعية خلافته. ولكن تنفيذ هذه الفكرة كان لا يخلو من مخاطر، فإن رسم صورة قريبة الشبه بالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخدم مصالح الخليفة بل كان حرياً، متى قارن الناس هذه الصورة بصورة الخليفة، بتأكيد الإدانات التي كان هذا الأخير يعرفها ويعرف أنه يستحقها. لذلك كان لابد له من طمس الحقيقة. كان لابد من رسم صورة للرسول تشبه بقدر الإمكان صورته هو. كان لابد من تزييف السيرة دون أن يحس أحد بذلك. باستخدام الشعر المنحول وأيضاً، إذا اقتضى الأمر، بالتلاعب بالقرآن وباختراع شخصيات وكلام وأحداث كبيرة وصغيرة. كل الوسائل كانت مباحة لتحقيق هذا الغرض.

كان الواجب أولاً  أن تغض "السيرة" من عَظَمَة الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يكون الفرق كبيراً بينه وبين الخليفة إذا قورن به. وكان الواجب ثانياً افتعال توازٍ وتشابه بين الأحوال والمواقف في عصر الخليفة والأحوال والمواقف التي كانت سائدة في عصر الرسول، مع إجراء التعديلات اللازمة فيما يتعلق بالأشخاص. ونظراً إلى أن الخليفة لم تكن له أية مأثرة في وقت السلم، فقد كان الأمر يقتضي ألاَّ يقوم الرسول بأي عمل جليل خلال السنة المدنية الأولى، التي لم تحدث فيها غزوات. كان الواجب أن تكون هذه السنة سنة عادية لا تتميز بحدث خاص. وكان الواجب ألاَّ يحتل أصحاب الرسول الثلاثة الذين تولوا الخلافة بعده، أي أبو بكر وعمر وعثمان، مكاناً بارزاً في تاريخ الفترة. مجرد حكاية أو حكايتين عن أبي بكر، الذي سجل القرآن هجرته مع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يجب على الأخص ذكر شيء عن عثمان، هذا الأموي. أما قريش، هؤلاء العرب الذين اتخذ الأميون منهم أعوانهم المفضلين، فيجب أن يظهروا في الفترة المدنية على أنهم أعداء الرسول الألدّاء. لا يجب أن يسلم منهم أحد بعد رحيل الرسول عن مكة. ومحظور على كل مسلمي المدينة أن يجيروهم أو يجيروا أموالهم. وأما عرب الجزيرة الآخرون، سواء في ذلك عرب الشمال أو عرب الجنوب، هؤلاء الذين كان الأمويون يعتمدون عليهم في مختلف مناصب الإدارة والجيش، فلا يجب أن يكون لهم وجود على مسرح الأحداث: لا أحد بينهم يدخل في الإسلام، ولا أحد يزور المدينة. وفي المدينة ذاتها كان لابد من أناس لا تشوبهم شائبة يمثلون الإسلام. لقد كان أهل المدينة مع العباسيين ضد الأمويين قلباً وقالباً. لذلك فإنهم يصلحون لهذا الدور. يجب أن يسلموا كلهم خلال السنة الأولى من الهجرة، وأن يصبحوا كلهم أنصاراً. يجب أن يعلم الناس أنهم لم يدخروا وسعاً في تسهيل الأمور على الرسول وعلى صحابته المكيين. وكما أن العباسيين كان لهم في بني أمية عدو أكبر فلابد أن يكون للرسول عدو مماثل. المنافقون؟ لا! هؤلاء - مادام القرآن يتحدث عنهم - لا مفر من ذكرهم ولكن ينبغي أن يُقلَّل من شأنهم وأن تُجعل ألوان النفاق المنسوب إليهم هينة، وأن يصلي الرسول على رئيسهم عند وفاته، مع تأليف قصة مؤثرة لتبرير ذلك. النصارى؟ لا، أيضاً. النصارى يُستخدمون في الفترة المكية لإبراز موقف قريش العدائي تجاه الإسلام بالمقارنة بهم، إنهم - بخلاف قريش - يفتحون قلوبهم للإسلام فبطارقتهم تسيل دموعهم في بلاد الحبشة حين يستمعون إلى تلاوة القرآن بلغة غير لغتهم، والنجاشي يعتنق الإسلام سرَّاً، وعشرون من نصارى الحبشة أو نجران يسلمون في مكة بعد لقاء واحد مع الرسول، وعداس، العبد النصراني في الطائف، يسلم بعد حديث قصير مع الرسول. أما في الفترة المدنية، فيتعين إخفاؤهم عن المدينة. ومادام القرآن قد تحدث عن نصارى في المدينة ففي المستطاع التغلب على الصعوبة باختلاق قصة وفد كبير منهم يأتي من نجران لمقابلة محمد. لا يجب أن يكون للرسول في المدينة سوى عدو واحد: اليهود، اليهود وحدهم. ألا يقول القرآن:"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ" ﴿82﴾ [المائدة]

ويحسن، لهذا الغرض، استخدام الآيات القرآنية الكثيرة التي تهاجمهم. وكلما شددنا النكير على اليهود، كلما قل تفكير القارئ في خصوم الرسول في المدينة الذين تغَيّبهم "السيرة" عن الأنظار أو الذين تقلل من عددهم ومن أوزارهم. باختصار تُرسم الصورة بحيث يكون للرسول عدوان: اليهود في المدينة وقريش في مكة. وأخيراً، ولتضخيم جسامة الحملتين العسكريتين اللتين شنتهما الخلافة الأموية عامي 63 ه (683م) و 72 ه (692م) على المدينة، ولكي نضاعف من وقر جريمتهم في نفوس الناس، نجعل الرسول يقرر في الصحيفة أن أرض المدينة حرمٌ آمن. ويذكر في الصحيفة أن العدو الوحيد هو قريش. وللدفاع عن المدينة تتكون أمة الرسول من كل مكونات سكانها بلا استثناء. 

اجمالي القراءات 8555