فى بيان إحكام آيات الكتاب
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ

أحمد الجَحَاوى في الأربعاء ٢٩ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

    لا يأمر الله تعالى المؤمنين بالقتال بقوله "قاتلوا" فى أى موضع من الكتاب، وبقتال أى فئة من الفئات، وفى أى وقت من الأوقات، دون أن تكون محكومة بأول آية فى كتابه العزيز تختص بالقتال وهى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة : 190]، ويعنى ذلك أن بدء المؤمنين بالقتال موقوف فقط على الذين يقاتلونهم أو يبدؤن بقتالهم، وحيث يقول تعالى "ولا تعتدوا". وكذلك فإن من مقتضيات العمل بكتاب الله فى الآية السابقة ألّا يُعمل بها فى وقت ويتم تعطيلها فى وقت آخر، أو فى قتال فئة دون أخرى، وذلك لأن الله تعالى يقول {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام : 34]، {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس : 64]، {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق : 29]، وهذا يعنى أيضاً فيما يخص الآية المشار إليها فى سورة البقرة والحاكمة لأمر المؤمنين بالقتال أنها محكومة هى الأخرى بالآيات السابقات المشار إليهِنّ والمتعلقة بعدم إمكانية تبديل قول الله تعالى وكلماته، ولذلك فالآيات الحاكمات قد أُحكِمت هى الأخرى بأخرى من قِبَل الله عز وجل، وبالتالى فكل آيات الله تعالى فى الكتاب قد أُحكمت، ويقول تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود : 1]، فكُل آيات الله تعالى فى كتابه هى آيات مُحكَمَة، هى الآيات المُحكَمَات، يحكم بعضُها بعضا، فلا تجد آية فى كتاب الله تعالى إلا وقد أُحكمت بأُخَرْ.

 

ويقول تعالى فى كتابه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِوَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران : 7] – فأمّا الأُخَر المتشابهات فهى نفسها تماماً الآيات المُحكَمَات، ولكن الإختلاف الجوهرى بينهما أنها لا تُقرأ مُحكمة (أى لا تُقرأ وقد أُحكمت بآيات أُخرى – لا تُقرأ فى ضوء الآيات الأخرى الحاكمة لها من الكتاب)، ووَجه الإختلاف هنا يَكمُن فى القراءة ، فتُقرأ نفس الآية قراءة أُخرى، فتكون آية أخرى تماماً، فتكون حينئذ من المتشابهات التى يتّبِعها من فى قلبه زيغٌ، ودلالة ذلك فى قوله تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة : 25]، فيرزق الله تعالى أصحاب الجنة نفس الثمار تماماً التى رزقهم إيّاها فى الدنيا طبقاً لقولهم الحق "هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ"، ولكنها تتشابه فى الشكل فقط، وليست ثمار الدنيا كثمار الآخرة، ولذلك يقول تعالى "وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا".

 

ويتجلى ما سبق فى الواقع العملى وكمثال تطبيقى لقول الله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7]، أنه قد يأتى البعض من الجهلاء فيقرؤن آيات الكتاب دون مراعاة أنها مُحكَمَاتٍ بأُخرى كما يلى:  

 

  • {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة : 29] – (وهى الآية التى يرى فيها البعض بأنهم مأمورون بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وهى ليست لها أيّة علاقة بعامة أهل الكتاب).

 

  • {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة : 12] – (وهى الآية التى يحتكم إليها البعض فيرون أنها تُعطيهم الحق فى تكفير من يرون أنهم قد إرتدّوا عن دينهم فيهدرون دماؤهم ويُقدمون على قتلهم عملاً بأَمر الله تعالى فى هذه الآية).

 

ولكنّ القراءة المشار إليها فى الآيتين السابقتين ليست من عند الله، فالآية من عنده سبحانه ولكنَّ القراءة ليست من عنده، ولذلك يقول تعالى "أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ"، وتنبّه أيها القارئ الكريم لكلمة "منه"، فالهاء تعود عليه سبحانه وليس على الكتاب، وآيات مُحكَمَات هى بيان حالة كون الكتاب الذى أنزله على رسوله، فذلك الذى منه، أمّا الأُخَر المتشابهات التى سبق الإشارة إليها سلفاً، فإتباعها ليس من الله فى شيئ، فالإتباع يكون للذى من الله، ولذلك يشير الله تعالى فى الآية الكريمة بكلمة "منهأى أن الذى (من) الله تعالى هو الكتاب وحالة كونه آيات مُحكمات، فأما إذا قُرِأَت آياته غير مُحكَمَة وإتُّبِعَت فهى ليست من الله سبحانه، فالإتباع يكون للذى من الله تعالى فقط، فلا تكونَنَّ لأحدٍ حُجّة على الله تعالى يوم القيامة بأن يقول يا رب إتبعت آياتك فضللت وكنت من الخاسرين.  

 

وينسحب مفهوم القراءة فى إتباع المُحكم أو المتشابه من آيات كتاب الله العزيز كما فى الأمر بالقتال على الأمور الأخرى فى باقى آياته. فتلك إحدى سُنن الله فى كتابه، فلا تُطبّق تلك القاعدة على بعض الآيات دون الأُخرى، ويقول تعالى {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح : 23].

 

وبالله التوفيق ،

 

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران : 7]

اجمالي القراءات 11558