الهدم لم يكن حلًا.. هكذا تعاملت بعض دول العالم مع البناء غير القانوني

في الأحد ١٣ - سبتمبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

العشوائيات، المدن المخالفة، أحياء الصفيح، أحياء الفقراء، إلى آخر تلك المصطلحات التي تختلف في حروفها وتتفق في دلالتها على مبانٍ غير منتظمة ولا نظامية تسكنها طبقة، ربما لا تمتلك المال الكافي لشراء منزل في المناطق السكنية الرسمية، والمُرخصّة التي تعترف بها الدولة.

وتدل تلك المصطلحات في أحيان أخرى على منازل قانونيّة، لكن شكلها لا يتفق مع المظهر العام الغالب في المدينة، فعمارة قانونية لكنها متواضعة إلى جوار قصر فخم حتى لو كان غير قانونيّ يعني أن العمارة هي المُخالفة لا القصر.

 

علوم

منذ سنة واحدة
كيف يمكن للعيش في الأحياء الفقيرة أن يُغيّر من بيولوجيا جسدك؟

 

أول الحديث عن العشوائيات يجب أن يبدأ بتحرير مصطلح العشوائيات نفسه، فالكلمة التي باتت تُستخدم في جميع المقالات والدراسات العلمية للدلالة على مساكن الفقراء غير المنظمة لم تُخلق لذلك في الأصل، كلمة العشوائيات الآتية للغة العربية ترجمة للمصطلح الأجنبي (slums)، كانت تُستخدم بوصفها إشارة لظاهرة اجتماعية، لا «مشكلة مكانية»، فقد كان استخدامها مقتصرًا على التجارة الإجرامية، وظاهرة التجمعات الإجرامية.

لكن في آخر القرن التاسع عشر قام عالم الاجتماع تشارلز بوث باستخدام الكلمة لأول مرة في إشارة إلى تجمّعات سكانية، كانت لعمّال المصانع الذين يقطنون بالقرب من أماكن عملهم. ووضع تعريفًا لكلمة العشوائيات يتضمن أن تكون تلك المباني مكتظةً بالسكان بما يفوق الاحتمال الآدمي، وأن تكون مليئةً بالأمراض والأوبئة كذلك.

ما يعني أن المناطق التي نراها في وقتنا الراهن لا يمكن أن نصمها بالعشوائيات، لأنها منازل يسكنها أفراد محددون، ويحافظون على مستوى آدمي مقبول. إذًا فمصطلح العشوائيات يُستخدم حاليًا بشكل «عشوائي» هو الآخر!

ويمكن القول إن العشوائيات منازل بُنيت بغير تنظيم كاف أو بدون اكتراث للصورة الكبيرة التي ستظهر عليها المدينة من الجو، وبهذا التعريف المُتجاوز للصورة النمطية للعشوائيات سوف نكتشف أنه ربما كل المُدن الكبرى بُنيت بشكل عشوائي!

القانون في مواجهة حق السكن!

من هنا يجب التفريق بين أمرين. المنازل التي بُنيت بالمخالفة للقانون والمنازل التي بُنيت نتيجةً لحدوث كارثة طبيعية أو سياسية جعلت مجموعةً من السكان ينزحون لأطراف المدينة لينُشئوا لهم تجمعًا سكنيًا.

في الحالة الأولى نجد البيوت مخالفة للقانون، لكنّها مبنيّة بمواد بناء جيدة، ومظهرها جيد، ومصممة لتعيش عمرًا طويلًا، أما في الثانية فنجد النازحين يصممون منازلًا بمواد رديئة قصيرة الأمد.

 

 

تلك المباني المخالفة للقانون قد لا تكون متناغمة مع الصورة الكبرى للمدينة لكنّها مباني مُرتبّة، وتكّون مع بعضها صورة مقبولة، فيمكن أن تبدو المدينة من الجو غير مُنظمة أو متناسقة، لكنها تبدو مُرتبة وآدمية. أما في حالة التجمعات الاضطرارية للمتضررين من زلزال مثلًا، فلا تبدو خيامهم أو منازلهم البسيطة مُرتبة أو منظمة، كما يمكن أن تكون بالفعل تشويهًا للصورة الكبرى للمدينة، لكن في الحالتين يكون الحل الجذري للمشكلة هو بتجفيف أسبابها لا بهدم ما بناه الناس.

فعلى سبيل المثال هجرة سكان الريف للمدن للعمل أو للحياة بعد أن تركزت الحياة في المدن وتجاهلت الحكومات الأرياف. فحين يهاجر الريفيون للمدن لا يجدون أماكن مناسبة للإقامة إلا على أطراف المُدن وحدودها الخارجية، والتي رغم فقرها تظل بالنسبة لهم أغنى من الريف. كما أن من يرغب منهم في الدخول إلى المدن للحياة فيها رسميًا تداهمه أسعار الأراضي والعقارات التي تفوق احتماله، فيعود لطرف المدينة أو يقرر العودة للريف كي يُؤسس له بيتًا فيه.

لكن عند العودة للريف يُفاجأ بمشكلة أخرى، هي مشكلة «كُوردون» المباني، وهو النطاق المعتمد الخاص بكل مدينة أو قرية والذى تعتبر الأراضي الواقعة داخله فقط هي الأراضي المخصصة للبناء، هذا النطاق تُحدده الدولة ويتسع كل بضعة أعوام، لكن زيادته لا تتوافق مع الزيادة السكانية المضطردة.

فلا يجد المواطن بُدًا من البناء على قطعة أرض زراعية في مخالفة صريحة للقوانين، لكنّ على أمل أن تدخل ضمن حيز المباني في الأعوام المقبلة، وحتى ذلك الحين يظل المنزل محرومًا من المرافق اللازمة، كالماء، والكهرباء، والصرف الصحي؛ ما يجعل القاطنين يلجأون إلى حلول بدائية غير صحية غالبًا، بديل للحلول الرسمية.

الهدم ليس حلًا.. 3 نماذج ملهمة للتعامل مع العشوائيات

هكذا يتضح أن الجميع ضحايا، المواطن الذي لم يجد بدًا من مخالفة القانون، والدولة التي تحاول حماية الرقعة الزراعية والمظهر الحضاري، لكن لا بد عن وجود حلول ونماذج عالمية استطاعت أن تصل لمنطقة وسط يرضى بها الجميع، وأهم ما يميز تلك المنطقة أنها لا تتضمن الهدم. لأن الهدم في جميع الأحوال لا يأتي بخير، إذا كانوا بشرًا على أطراف المدينة فبالهدم يضطرون للعودة إلى الريف للتعدي على الأرض الزراعية أو دخول المدينة ليخلقوا اختناقًا بشريًا وعشوائيةً داخل المدينة، بدلًا عن وجودهم على أطرافها.

أما إذا كان الهدم لحفظ الأرض الزراعية فإنه لا يحقق ذلك الهدف أبدًا، فبوجود المواد المهدومة تصبح الأرض الزراعية أشد سميةً، وتزداد الرقعة التي تتعرض لامتصاص مواد البناء والمغطاة بنتائج الهدد، وهي بالتأكيد أكبر من المساحة الأصلية التي اقتطعها المواطن للبناء؛ ما يعني فساد الكل بدلًا عن الجزء.

«السكن النواة».. حل الأردن المبتكر للتخلص من العشوائيات

الأردن مثال جيّد لحل مبتكر استطاعت به الدولة أن تتخلص من العشوائيات بجهد قليل وإنفاق أقل، في الفترة ما بين 1980 و1997 اعتمد الأردن تجربة «السكن النواة». في تلك التجربة جدد الأردن مساكن غير نظامية مبنيّة بمواد رديئة، وبالصفيح أحيانًا، تمتد على مساحة تقارب 15 فدانًا.

 

 

قامت الدولة بتمليك كل بيت لصاحبه بشكل مسبق قبل أن يخرج منه، دفع الساكن 5% فقط من قيمة المنزل، وقسّط الباقي بقيمة 25% فقط من دخل الأسرة شهريًا، وبعدد سنوات تختلف حسب دخل كل فرد. ووضعت الدول خططًا، وصورًا كبرى للمنطقة المأمولة بعد التطوير، وبدلًا عن الاعتماد على عمالة خارجية وظفتّ سكان المنطقة، فبات الأفراد يعملون بحماسٍ شديد، وبإنجاز، وبراتب قليل؛ لأنهم تيقنّوا أنهم يعملون في منازلهم.

بعيدًا عن مصير تلك التجربة وما لحقها من توقفّات بعد رغبة الأردن في تعميمها، وخاصةً أن قيمة الأرض ارتفعت، فبات الفقراء عاجزين حتى عن تمّلك أراضيهم، إلا أنها تجربة يمكن الاستفادة منها، وارتفاع سعر الأراضي مشكلة يمكن التعامل معها بزيادة سنوات التقسيط، أو رفع قيمة القسط، أو بتقديم قروض مُسهلّة من الدولة.

«طوكي»..أو كيف جعلت تركيا العشوائيات تُطور نفسها؟

إلى جانب الأردن يوجد النموذج التركي، من المنطقي أن تحاول تركيا التي كانت تسعى من سنوات قليلة لدخول الاتحاد الأوروبي، التعامل مع مشكلة السكن غير القانوني، لكنّها في الواقع تعاملت مع تلك المعضلة منذ قرابة 60 عامًا مضت، أي قبل دخولها مرحلة النهضة الحديثة، وكانت ظروفها آنذاك قريبة من ظروف العديد من الدول العربية حاليًا.

أنشأت تركيا «طوكي»، وهو اختصار للإدارة العامة التركية للإسكان، واختصاصها حل مشكلة العشوائيات التي أطلقت عليها تركيا اسم: «مناطق الإسكان المتراكمة ذات العدد السكاني المرتفع، والذي يزداد سنويًا بشكل كبير». ومهمة طوكي إنشاء مدن متكاملة على أطراف المدن الرئيسة لتسكين الأفراد محدودي الدخل في وحدات سكنية صغيرة المساحة نسبيًا، لكن مبنية بشكل منظم ولها إطلالات منفصلة وطبيعيّة.

ولضمان عدم استنزاف موارد الدولة سمح البرلمان لطوكي بإنشاء صندوق مالي خاص بها ومنفصل عن ميزانية الدولة، وبالأموال التي تجنيها من السكان تُبنى منطقة أخرى، وهكذا بصورة متكررة جعلت من طوكي هيئةً ذات اكتفاء مالي ذاتي وتعمل باستمرار دون توقف.

ولأن البيع لمحدودي الدخل يكون بالتقسيط طويل الأجل، فقد سمحت الدولة لهذه الهيئة بالمشاركة في بعض عمليات البيع والشراء للأراضي والأماكن السياحية، كي تستطيع طوكي استثمار المبالغ القليلة التي تحصدها من المواطنين لجلب مبالغ مالية أكبر.

الوصفة البرازيلية.. تحويل العشوائيات لمزار سياحي

بعيدًا عن الأردن وتركيا توجد البرازيل، أشهر بلد يحتوي عشوائيات ومناطق جريمة وفقر مدقع لدرجة أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، اشترط على البرازيل أن تحل تلك المشكلة قبل عام 2014 – موعد مونديال كأس العالم لكرة القدم – كي يسمح لها باستضافته.

منذ اللحظة الأولى أعلن المسئولون البرازيليون أن إزالة تلك العشوائيات حل غير مطروح؛ لأنه أكثر كلفة ويحتاج وقتًا أطول وأثره الإنساني شديد القسوة، فاختارت حلولًا للدمج بمشاركة سكان تلك المناطق، ماديًا ومعنويًا، كي لا تتكلف خزائن الدولة أكثر مما تحتمل.

فكان أول حل هو عقد لقاءات متكررة بين السكان ورجال الشرطة لتوطيد العلاقة بين الطرفين، فبات السكان أقل ميلًا لإيواء المجرمين، فلفظت المنطقة مجرميها، وحُلت مشكلة الجريمة في أشهر معاقلها، وبدون خسائر مالية أو بشرية.

كما أوصلت لهم الدولة المرافق الأساسية بشكل رسمي، فاقترض السكان لتطوير منازلهم وجعلها أكثر حضارية، خاصةً بعد أن أنشأت لهم الدولة عدة مراكز للتعليم وللتأهيل النفسي، وباتت تمنح حوافز مالية بسيطة لأي شخص يُعدّل من وضعه الاجتماعي أو السلوكي.

 

 

المفاجئ في النموذج البرازيلي ليس أنهم استطاعوا تحويل تلك العشوائيات إلى قيمة مضافة فحسب، بل إنهم استطاعوا إقناع السُكان بأن يحولوا تلك الأحياء العشوائية إلى وجهات سياحية تُدر عليهم وعلى الدولة دخلًا ضخمًا، فسّوقت الدولة لتلك الأحياء باعتبارها تُظهر التراث البرازيلي، والعادات القديمة التي لم تتأثر بالحضارة الحديثة، وبالفعل نجحت التجربة في 17 حيًا، وتستمر البرازيل في تعميمها، لكن بمعدل بطيء حاليًا.

العشوائيات مشكلة لا تنتهي بقرار إزالة

بالنظر إلى مشكلة العشوائيات، نرى أنها ليست دائمًا معضلة، بل أحيانًا تكون هي الحل لمشاكل أكبر. فالعشوائيات هي إستراتيجية بقاء يمارسها الإنسان في مواجهة أزمة السكن غير الكافي، ولا يمكن أن تختفي العشوائيات لمجرد أن الدول تبني منازل أكثر؛ لأنه دائمًا سيكون هناك من هو أشد فقرًا من امتلاك منزل في المدينة.

لذلك يرى الخبراء أنه على الدول أن تتعامل مع المباني غير القانونية باعتبارها جزءًا لا مفر منه في رحلتها نحو التحضر، وأن الحل الجذري ليس ببناء منازل أكثر؛ بل بتحسين مستوى الحياة في تلك المناطق حتى تصبح صالحةً للسكن وصورة جيدة في ملف الدولة.

كما أن المنازل العشوائية والمخالفة دائمًا ما تكون صغيرة الحجم، لكن تكون كافة المساحات مُستغلة فيها، ما يُعطي لمحةً للدولة عن المساحة الحقيقية التي يقبل بها هؤلاء المواطنون للعيش، فتوفير الدولة للشقة الواسعة ذات التكلفة المرتفعة لا يُعتبر حلًا، لأنهم لا يرون فائدة للمساحة الإضافية.

 

مجتمع

منذ سنة واحدة
يبنون الفيلات ويسكنون «العشش».. الحياة القاسية لعمال البناء في مصر

 

حتى وإن كانت بعض الدول قد قررت أن الحل الأسلم هو إزالتها؛ فلا بد أن ندرك أن مصطلح «إزالة العشوائيات» مصطلح خادع يجعلك ترى الأمر مجرد أكوام من الصفيح تلوّث جمال المدينة، وما تفعله الدولة ليس سوى إزاحة ذلك الصفيح إلى جانب الطريق، بينما الحقيقة أن العشوائيات فيها بشر وأُسر وآلاف الحيوات التي تُشرد، فحتى إذا كان لابد عن إزالة المشهد المزعج، لكن على الدولة إيجاد حلول بديلة للبشر الذين يصبحون بلا مأوى، أو مصدر دخل. وعرضة للبرد، والجوع، والأمراض. فور صدور قرار إزالة التعدّيات على أراضي الدولة!

اجمالي القراءات 487