البُعد الغائب في العداء التركي المصري.. الاقتصاد خارج المعادلة

في الخميس ٢٣ - يوليو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

في مايو (أيار) عام 2013 تقابل عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري حينها، وجهًا لوجه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارةٍ رسميةٍ إلى تركيا على رأس وفد رفيع المستوى ضمن مساعي توسيع العلاقات العسكرية، في ظل إستراتيجية اتبعتها مصر وتركيا في ذلك الوقت بالانخراط بقوة في صراعات الشرق الأوسط لفرض نفوذ إقليمي جديد، خاصة داخل الدول التي لم تكتمل فيها ثورات الربيع العربي، ضد المحور السعودي الإماراتي.

بعد شهرين من ذلك اللقاء قاد السيسي عملية خلع الرئيس المصري محمد مرسي في يوليو (تموز)، وفي العام نفسه طردت مصر السفير التركي من أراضيها بعدما طلبت أنقرة من مجلس الأمن فرض عقوبات على السيسي، لتقود مصر والسعودية بعدها حشد الدول الإسلامية للتصويت ضد تركيا التي خسرت المقعد غير الدائم في المجلس عام 2014.

واحدةٌ من الملفات التي لم تتأثر بشكل كبير بين مصر وتركيا في ظل التوترات والصراعات الإقليمية في عدد من القضايا، هي ملف الاقتصاد الذي بات مُبكرًا خارج المعادلة، وكان أحيانًا الباب الخلفي لتجاوز المشكلات العالقة فيما بينهما.

5.7 مليار دولار .. الاستثمارات خارج دائرة الصراع

أظهر تقرير رسمي صادر عن وزارة التجارة والصناعة المصرية أنّ حجم التبادلات التجارية بين مصر وتركيا بلغت حتى سبتمبر (أيلول) العام الماضي 3.76 مليار دولار؛ بواقع 2.39 مليار دولار واردات مصرية من تركيا، و1.37 مليار دولار واردات تركية إلى مصر، ويبدو ظاهرًا أنّ هناك عجز مليار و200 مليون في الميزان التجاري لصالح أنقرة على حساب القاهرة.

وبعيدًا عن حجم التبادلات التجارية، حافظ النظام المصري على استمرار تدفق الاستثمارات التركية، التي ظلت بمنأى عن الصراع السياسي كونها – على لسان مسئولين مصريين – محمية بنص القانون.

سياسة

منذ سنتين
البعد الغائب عن القطيعة المصرية القطرية.. الاستثمارات لا تعرف الحصار

بلغ حجم الاستثمارات التركية في مصر عام 2017 نحو ملياري دولار مرشحة للصعود إلى 5 مليارات دولار، بحسب تصريح رئيس جمعية رجال الأعمال الأتراك المصريين، «أتيلا أتايسيفين». واللافت أنّ حجم الاسثمارات التي تديرها جمعية رجال الأعمال الأتراك المصريين عبر 800 رجل أعمال مصري وتركي يبلغ نحو 8 مليارات دولار، وهو أكبر من حجم الاستثمارات الإماراتية في مصر، التي تُقدر بنحو 6.7 مليار دولار، بحسب بيانات رسمية صادرة أواخر العام الماضي.

ويصل عدد الشركات التركية التي تعمل في مصر إلى نحو 205 شركة تركية  تعمل في عدة قطاعات أبرزها: الحديد، والغزل والنسيج، مواد البناء، المستلزمات الطبية، المواد الكيماوية. وتوفر فرص عمل لنحو 300 ألف مصري.

وأثناء اندلاع الأزمة الخليجية في يوليو عام 2017، أصدرت مصر تأكيدات عبر بنكها المركزي باستمرار تدفق الاستثمارات القطرية بها دون التضييق عليها، لترتفع الاستثمارات خلال عامين فقط من مليار دولار، إلى 2.2 مليار من خلال 229 شركة، بحسب بيان صادر عن الهيئة العامة للإحصاء.

خاضت مصر الإستراتيجية نفسها مع تركيا، التي حاولت بدورها مغازلة النظام المصري بالإعلان عام 2018 عن استعدادها لإنشاء مدينة صناعية عالمية في مصر، تزامنًا مع عدم طلب تركيا رد وديعتها البالغة مليار دولار والتي منحتها لمصر في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي، وحصلت عليها فيما بعد في مواعيدها المتفق عليها.

ظل مؤشر الاقتصاد الذي يرتفع عامًا بعد عام بعيدًا عن التصعيد والمواجهة السياسية العلنية بين النظامين؛ وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه مصر تقود مناورة بحرية بالذخيرة الحية في البحر المتوسط ردًا على المناورات التي أطلقتها تركيا، كان البرلمان المصري يتجاهل طلب رئيس لجنة الصناعة في المجلس بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين مصر وتركيا عام 2007، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2013.

 

 

تسمح الاتفاقية التي وقعها أردوغان مع الرئيس المخلوع حسني مبارك، بدخول كل من الصادرات المصرية معفاة كُليًا أو جزئيًا من الرسوم الجمركية، التي تتراوح بنسبة 32% إلى 45%، بينما منح الجانب المصري الصادرات التركية حصصًا كمية معفاة تتراوح الرسوم الجمركية عليها في مصر ما بين 2- 12%.

وبالرغم من أنّ الاتفاق يأتي كليًا لصالح تركيا التي تزيد صادراتها نحو مليار دولار، إلا أنّ النظام المصري تجاهل كل الأصوات المنادية بإلغاء الاتفاق، كون الاتفاقية نفسها تنص في أحد بنودها أنه يحق لأي طرف في حال حدوث اختلال في ميزان المدفوعات بأنّ يقوم بإلغاء الاتفاقية بإخطار الطرف الآخر، قبل ستة أشهر.

ومن جانب آخر يرى النظام المصري أنه الأكثر استفادةً من الاتفاقية بالنظر إلى حجم الاستثمارات التركية العاملة والتي تتجه للتوغل في السوق بدعمٍ واضحٍ من الحكومة دون اعتراض أو تضيق، على خلاف بقية القضايا السياسية الخارجية الأخرى.

وتنتهي الاتفاقية رسميًا العام الجاري، إلا أنه على أحد الطرفين إبلاغ الطرف الآخر قبل ستة أشهر من اتخاذ قرار إنهائها، وهو أحد المؤشرات التي اعتمدت عليه دراسة أعدتها أكاديمية مصرية تتوقع استمرار تفعيل الاتفاقية بين الجانبين.

مصر وتركيا في شرق المتوسط.. تقاربٌ على عكس المتوقع

في عام 2003 وقّعت مصر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تمكّن كل طرفٍ من التنقيب عن الغاز، إلا أنّ مصر تنازلت بموجب الاتفاقية عن حقول غاز لصالح قبرص وإسرائيل بمساحات ضخمة شمال شرق المتوسط  كبدتها خسائر قدرها 240 مليار دولار، بحسب الدعوى القضائية التي أقامها وكيل وزارة الخارجية الأسبق لإلغاء الاتفاقية، وفي 2013، وقعت مصر اتفاقية أخرى مع قبرص، وهي الاتفاقية الإطارية لتقاسم مكامن الهيدروكربون، التي هدفت لتقسيم ثروات النفط والغاز.

 

 

كان المستفيد الوحيد من تلك الاتفاقية بين قبرص ومصر هي إسرائيل التي شرعت في بدء إنشاء خط أنابيب غاز ممتد صوب أوروبا، والذي أصبح بموجب الاتفاق المصري يسير في مياه إقليمية يُمكن حمايتها عبر مصر، وقبرص، واليونان، إلى إيطاليا بعيدةً عن تركيا.

وبموجب القانون الدولي فإن مصر وتركيا لهما أحقية في ترسيم الحدود البحرية، كون المساحة بينهما البالغة 274 ميل بحري، أقصر من المسافة بين قبرص واليونان البالغة 300 ميل بحري، ويُعطي القانون الدولي أحقية في الحدود المائية المشتركة التي يترتب عليها الاستفادة من الثروات الطبيعية.

احتياج تركيا لترسيم الحدود البحرية مع مصر يأتي مدفوعًا من حاجتها الداخلية لمصدر طاقة، وتعتمد أنقرة رسميًا على استيراد نحو 75% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، ويتحمل ميزان مدفوعاتها نحو 40 مليار دولار سنويًا، والرقم يزداد كلما مرت أزمة انخفاض يواجهها سعر الليرة، نتيجة اقتصادها الذي يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية.

وفي ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، وقّعت تركيا وحكومة الوفاق اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية فيما بينهما، وهي الاتفاقية التي أطاحت بالاتفاقية التي وقعتها مصر وقبرص، لصالح تركيا التي تخطط لتكون مركزًا إقليميًا لتجارة الغاز الطبيعي في المنطقة عبر نقل غاز روسيا إلى أوروبا عبر البحر الأسود والأراضي التركية، والاتفاق التركي الحالي أصبح يقطع إنبوب الغاز في مياه «تركية – ليبية»، وهو ما يُمثل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، واليونان، وقبرص ومصالحهم الاقتصادية.

وعلى خلاف الجميع، لم تتضرر مصر من الاتفاق البحري الموقع بين أنقرة وطرابلس، كونه يمنحها امتيازًا بحريًا ضخمًا في البحر المتوسط لم تحصل عليه من أية اتفاقية أخرى، وبالرغم من رفض القاهرة للاتفاقية، إلا أنّ وزير خارجيتها أقرّ في تصريحٍ رسمي بأن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا لا يمس مصالح مصر في شرق البحر المتوسط.

دولي

منذ 7 شهور
5 أسئلة تشرح لك كل شيء عن اتفاقية تركيا وليبيا

سبق ذلك التصريح العلني تسريبات نقلها موقع «مدى مصر» أفادت أن مسؤولين مصريين نصحوا الرئيس المصري بقبول الاتفاقية البحرية الموقعة بين تركيا والوفاق، كونها تمنح مصر وضعًا أفضل في مفاوضاتها المتعثرة مع أثينا.

تركيا أيضًا لم تُخف وجود مصالح مشتركة، واتصالات سرية بينها وبين مصر على مستوى وزراء الخارجية بهدف دعم مصر، وتوسيع المناطق البحرية الخاصة بها خلال مفاوضاتها المتعثر مع أثينا التي تطلب اقتطاع نحو 10 آلاف كيلو مترٍ من حصة مصر المائية، لكنّ الاتفاق التركي جاء ورقة ضغط لصالح مصر في مفاوضاتها مع اليونان، كونه يمنح مصر حصة أكبر في غاز المتوسط.

المصالح المشتركة التي تجمع مصر وتركيا في شرق المتوسط تحول حتى الآن دون توقيع مصر اتفاقية ترسيم حدودٍ مع أثينا، وتتخوفُ قبرص واليونان وإسرائيل من أنه في حالة أي تقاربٍ محتملٍ بين النظامين التركي والمصري قد يستدعي توقيع اتفاقية بحرية فيما بينهما تقضي بموجب القانون الدولي على كل المكاسب التي تحصدها تلك الدول، ويمنح الطرفان مساحات بحرية أوسع في مناطق غنية بالثروات الطبيعية.

الصراع الليبي.. من يدفع الطرفان للمواجهة؟

مع اقتراب حدوث مواجهةٍ عسكرية بين طرفي النزاع الليبي في مدينة سرت – وسط ليبيا – مفتاح الشرق الليبي، والطريق الواصل إلى حقول النفط الإستراتيجية، نشر موقع «الخليج الجديد» تقريرًا عن استضافة الخارجية المصرية وفدًا تركيًا في أواخر الشهر الماضي وسط تكتمٍ إعلامي للتباحث حول الأزمة الليبية.

 

 

تضمن اللقاء – بحسب التسريبات – تأكيدات من أنقرة بأن تدخلها عسكريًا في ليبيا لدعم حكومة طرابلس، لن يمس أمن مصر القومي، تزامنًا مع إصرار حكومة الوفاق على خوض معركة سرت، لأنّ بقاءها خارج السيطرة يُهدد مكتسبات معركة طرابلس، ومستقبل التفاوض بالنسبة لجانب الوفاق.

في أبريل (نيسان) من العام الماضي أطلق الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر معركة إسقاط العاصمة الليبية طرابلس، آخر مدينة من عدة مدن متبقية تسيطر عليها حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، لكنّ تركيا بتوقيعها اتفاقًا أمنيًا مع حكومة الوفاق مكنها من التدخل العسكري مباشرةً، فخسر حفتر الحرب بعد 14 شهرًا من القتال.

لكنّ التدخل التركي الذي قلب ميزان المعركة ظل مشروطًا منذ اللحظة الأولى بالقتال في أماكن المواجهات فقط، دون الاقتراب من الشرق الليبي، بحسب التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس الدولة الليبي خالد المشري في حواره مع قناة «الجزيرة» حول الدور المنتظر للجيش التركي.

التصريحات التي قالها المشري عقب توقيع الاتفاق الأمني مع تركيا، لم تختلف عن تصريحات وزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا الشهر الماضي لوكالة «بلومبيرج» الأمريكية والتي كشف فيها أنّ خطة الوفاق العسكرية لا تتضمن التقدم في الشرق بعد الاستحواذ على الجفرة وسرت، لكنّ ما يعقد المشهد حاليًا، هو اشتراط تركيا انسحاب حفتر من سرت والجفرة مقابل الاتفاق على هدنة، وهو ما يصطدم بالرغبة المصرية التي تُهدد بالتدخل في حالة اقتربت قوات طرابلس من المدينة.

عربي

منذ أسبوع
الحل والعقدة.. لماذا يسعى الجميع للسيطرة على سرت؟

انسداد الرؤى بين مصر وتركيا في الملف الليبي لم يمنع الرئاسة التركية من طمأنة النظام المصري، إذ أعلنت في بيانٍ رسمي تفهمها مخاوف مصر التي وصفتها بالمشروعة في ليبيا، وعلى العكس فتركيا تنتهج خطابًا عدائيًا أكثر حدة تجاه السعودية والإمارات، اللتان تتهمهما وكالة «الأناضول» التركية بدفع مصر لخوض حربٍ مدفوعة التكاليف تحت غطاء حماية أمنها القومي.

ومن وجهة نظرٍ عسكرية، فاحتمالات نشوب مواجهة بين الدولتين في ليبيا شبه معدومه لاعتبارات تتعلق بتعدد أطراف الصراع في ليبيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي توصلت لاتفاق مع السيسي على وقف اطلاق النار، إضافة إلى اعتبارتٍ عسكرية أخرى تتعلق بعدم حاجة مصر للتدخل علنيًا نظرًا لكثافة الحضور الروسي القوي في مدينة سرت التي زودها مؤخرًا بمنظومتي دفاع جوي من نوع «بانتسير» الروسية الصنع، والتي يُنسب لها إسقاط 70 طائرة تركية من دون طيار من نوع «بيرقدار»، إضافة إلى أنّ الطيران التركي يواجه أزمة متعلقة بالقواعد الجوية المنتشرة في الشرق الليبي والتي يصعب استهدافها.

وبالرغم من تفويض البرلمان المصري للجيش للقيام بعمليات خارجية، في ظل الحشد الإعلامي الذي يروج لاحتمالية خوض حرب في ليبيا، إلا أنّ الوضع الرسمي يشهد اتصالات سرية وتفاهمات غير مُعلنة، إضافة إلى علاقات اقتصادية خارج دائرة الصراع، وتقاربٌ صامتٌ في عدة ملفات أبرزها شرق المتوسط، وهي الخيوط التي ربما لا يرغب السيسي وأردوغان في قطعها، وهو الأمر الذي ستحسمه التطورات في ليبيا خلال الفترة المقبلة.

اجمالي القراءات 556