الحج في أيام الوباء.. من الطاعون إلى الكوليرا إلى كورونا

في الخميس ٢٣ - يوليو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

ليست هذه المرة الأولى التي تتكسر فيها أحلام الحجاج في زيارة بيت الله الحرام، بعد أن وقف فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) حائلا دون تحقيق هذه الفريضة التي يتوق المسلمون لأدائها، رغم أنها مشروطة بقول الله تعالى "لمن استطاع إليه سبيلا".

تقطعت السبل إلى البيت الحرام مرات عدة وأغلبها كانت بسبب انتشار الأوبئة والحروب، وعانى الحجيج في فترات من عمر الإسلام من قطّاع الطرق وعدم الأمان والأمراض الآتية من مختلف الدول.

كوفيد-19 يمنع الحجاج

وهذا العام أعلنت المملكة العربية السعودية السماح لعدد محدود جدا من الراغبين في أداء فريضة الحج، من شتى الجنسيات الموجودين داخل المملكة فقط، في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد.

كما أصدر المركز الوطني السعودي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، البروتوكولات الصحية الخاصة بالوقاية من مرض كوفيد-19، والتي من بينها منع لمس الكعبة والحجر الأسود، ووجوب ارتداء الكمامات واستخدام سجادات الصلاة الشخصية، ومنع دخول الحجاج مناطق منى ومزدلفة وعرفات من دون تصريح.

الدكتورة نكهت وارلك: المجتمعات الإسلامية شهدت أوبئة أثرت على إقامة الشعائر الدينية (الجزيرة)

الطاعون الأول والثاني والثالث

وللاطلاع على ما مرت به مواسم الحج أثناء انتشار الأوبئة عبر التاريخ وكيف أثر ذلك على أداء الفريضة، أجرت الجزيرة نت مقابلة مع المؤرخة التركية الأميركية الدكتورة نكهت وارلك، أستاذة التاريخ في جامعة روتغرز- نيوارك، وجامعة كارولينا الجنوبية في الولايات المتحدة الأميركية، مؤلفة كتاب "الطاعون في زمن الإمبراطورية العثمانية" (Plague and Empire in the Early Modern Mediterranean World: The Ottoman Experience, 1347-1600) عام 2015، ومحررة كتاب "الطاعون والعدوى في المتوسط ​​الإسلامي" عام 2017.

غلاف كتاب الدكتورة نكهت وارلك "الطاعون في زمن الإمبراطورية العثمانية" (الجزيرة)

وتروي وارلك أن المجتمعات الإسلامية شهدت العديد من الأوبئة في التاريخ أثناء انتشار أمراض مثل الطاعون والكوليرا والجدري والجذام والملاريا وغيرها. وقد أثرت على كل جوانب الحياة، بما في ذلك إقامة الشعائر الدينية، مثل الصيام وصلاة الجمعة والصلوات الجماعية والحج، والاحتفال بالأعياد الدينية خاصة عيدي الفطر والأضحى.

ولعل الطاعون -كما تقول المؤرخة- كان من أكثرها تأثيرا، لأنه انتشر بشكل دوري في نوبات متكررة عبر عدة قرون، وتسبب في مستويات عالية من الوفيات. وتقسمه إلى 3 أزمنة:

فكان أثر الطاعون الأول على المجتمعات الإسلامية منذ بداية التاريخ الإسلامي حتى الثورة العباسية عام 750 للميلاد.

أما الطاعون الثاني، فجاء عام 1347 للميلاد -وسمي بالموت الأسود- واستمر حتى أواخر القرن 19، وكان الموت الأسود واحدا من أكثر الأحداث تدميرا في تاريخ البشرية، وعانى العالم الإسلامي من الموت والدمار مثل المجتمعات الأفروآسيوية الأخرى.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن الطاعون كان شديدا للغاية خلال شهر رمضان (نوفمبر/تشرين الثاني-ديسمبر/كانون الأول 1348 للميلاد) في مصر وسوريا، حيث مات عشرات الآلاف.وقبل ذلك ببضعة أشهر، في يونيو/حزيران، لاحظ الرحالة الشهير ابن بطوطة -الذي كان يمر عبر سوريا- السلوك الديني للمسلمين هناك. ففي دمشق رأى الصيام والمواكب تقام لرفع الطاعون".

وانتشرت جائحة الطاعون الثالث عام 1894 في هونغ كونغ، ووصل إلى الأراضي الإسلامية في غضون سنوات قليلة، واستمر بضعة عقود.

أما في القرن 19 -بحسب وارلك- فكان هناك العديد من أوبئة الكوليرا التي تسببت في وفيات واسعة النطاق في المجتمعات الإسلامية، مثل أي مكان آخر في العالم.

نقل المياه في أحد شوارع جدة للحفاظ على نظافة المدن التي يمر بها الحجاج (جامعة كامبريدج)

تأثر الحج بالأوبئة

تلك الأوبئة التي انتشرت جعلت من الصعوبة بمكان القيام ببعض العبادات، وخاصة تلك التي تنطوي على السفر والتجمعات الكبيرة، فلجأ الناس إلى حلول بديلة. تقول وارلك كانت هناك أوقات عُلّقت فيها الشعائر الدينية مثل الحج أو زيارة المقابر مؤقتا، أو ألغيت.

وتشير إلى أن الطاعون في عام 1422 للميلاد، كان شديدا في مكة لدرجة أنه أصبح من المستحيل تقريبا الصلاة في المساجد، وتأثرت عبادات النساء في القاهرة كما منعن من زيارة المقابر.

وعما إذا كان من السهل إقناع الحجيج بعدم الذهاب لأداء فريضة الحج، تقول الدكتورة وارلك إنه لم يكن من السهل التحكم بحركة الناس قبل العصر الحديث بالأوراق والوثائق والتصاريح المطلوبة، وكانت الحكومات تفرض قيودا على السفر بسبب الأوبئة.

وفي عام 1517، كانت الدولة العثمانية مسؤولة عن حماية سلامة طرق الحج، فأنشأت مؤسسات سهلت سفر قوافل الحج، وعملت على جعل الرحلة آمنة، وتأكدت من حصول الحجاج على الطعام والمياه النظيفة. لكن رحلة الحج كانت طويلة وصعبة، تستغرق عدة أشهر، ويمكن أن تصل إلى أكثر من عام خاصة بالنسبة للذين يسافرون من أماكن بعيدة.

تقول وارلك إن هناك روايات عن الحجاج المتأثرين بالأمراض ونقص الغذاء، وحتى في بعض الأحيان عن تعرضهم لمخاطر السرقة. وقد حاولت الإدارة العثمانية أيضا الحفاظ على النظافة العامة ونظافة المدن المقدسة، عن طريق إرسال مفتشين من إسطنبول للإبلاغ عن المشاكل وتمويل صيانة المباني وإصلاحها.

وتضيف أن الكوليرا شكلت في القرن 19 تحديا للصحة العامة بحيث أصبح الحج مستحيلا، وتم تعليقه عدة مرات، ولكن نستطيع القول إنه على الرغم من انتشار الأوبئة فقد كان إلغاء الحج نادرا نسبيا.

وتضيف أنه بدلا من إلغاء الحج كليا حينها، كان التركيز الأكبر على عزل الحجيج بشكل صحيح واحتواء انتشار المرض، خاصة في أوروبا. وكانت الحكومة الاستعمارية البريطانية مترددة في إلغاء الحج من طرفها، فضغطت بشكل كبير على المنظمات الصحية الدولية وشددت إجراءات الحجر الصحي.

رسم لسفينة محملة بالحجاج (جامعة كامبريدج)

حجاج قضوا بالكوليرا

وتشير وارلك إلى أن كبار المفكرين قاموا في ذلك الوقت بتأليف أدلة للحج، تهدف إلى تثقيف المسلمين وإعدادهم لمواجهة صعوبات الرحلة الجسدية والروحية، وإعطائهم المشورة بشأن كيفية البقاء بصحة جيدة وماذا يأكلون ويشربون، وما إلى ذلك. حتى أن بعض العلماء المسلمين أصدروا فتاوى بجواز تأخير الحج لظروف الوباء.

وفي القرن 19 أيضا، تقول المؤرخة إن سفر الحج أصبح أسرع وأقل كلفة مع البواخر والسكك الحديدية، خاصة مع فتح قناة السويس عام 1869، مما أدى إلى زيادة عدد الحجاج السنويين، "فوفقا للمؤرخ كريستوفر مايكل لو، كان العدد الإجمالي للحجاج عام 1831 هو 112 ألف حاج، وارتفع إلى حوالي 300 ألف حاج عام 1910".

حجر حجاج كراتشي عام 1897 حفاظا على الإجراءات الصحية لمنع عدوى بقية الحجاج (جامعة كامبريدج)

وهذا يعني أيضا -بحسب وارلك- أن عددا أكبر من الحجاج اضطروا للقيام بالرحلة في ظروف مزدحمة في السفن والقطارات، وتعرضوا لخطر الإصابة بالأمراض. وبين عامي 1831 و1914، تفشت الكوليرا بين الحجاج وقتلت عددا كبيرا منهم. وتضيف أنه يُعتقد أن تفشي وباء الكوليرا عام 1893 أدى إلى مقتل ما بين 30 ألف حاج و50 ألفا.

وازداد الضغط على الإمبراطورية العثمانية للحد من انتشار الكوليرا من خلال طرقات الحج في أواخر القرن 19 كما تشير المؤرخة، فاضطرت الحكومة عام 1866 أن تنشئ محطة للحجر الصحي عند دخول البحر الأحمر قبل وصول الحجاج إلى الحجاز، ثم في عام 1882 أنشأت محطة حجر جديدة في جزيرة كاماران لحجر الحجيج القادمين من جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا واليمن والخليج.

مكان لتخييم الحجاج في جزيرة فاستا (جامعة كامبريدج)

ومع تكرار نوبات الكوليرا والطاعون، اضطر الحجاج للانتظار 15 يوما في محطات الحجر الصحي التي كانت تفتقد للشروط الصحية اللازمة، إضافة إلى الاكتظاظ وشح الطعام، ولم تكن المياه نظيفة، فمات الآلاف بسبب المرض أثناء الرحلة أو الحجر إن لم يكن خلال الحج نفسه.

وتشير المؤرخة إلى أنه في عام 1902، بدأت مناقشات حول وجوب إلغاء الحج بالكامل، وكان للحكومة البريطانية الاستعمارية موقف متناقض، فهي لم ترغب في الاعتراف بأن الحجاج القادمين من الهند كانوا ينشرون الكوليرا، ولم ترد للحج أن يلغى. ووضعت بالتالي ضغطا كبيرا على الحكومة العثمانية للسيطرة على إجراءات الحجر الصحي، علما بأن الأخيرة لم تمارس الكثير من السيطرة الجيوسياسية على المنطقة، كما تذكر.

في عام 1902 بدأت مناقشات حول وجوب إلغاء الحج بالكامل بسبب تفشي الكوليرا (رويترز)

أوبئة متفرقة

وكان وباء إنفلونزا الخنازير (H1N1) الذي انتشر عام 2009 قد جعل مجلس وزراء الصحة العرب يصدرون قرارا بمنع المسنين والمرضى والأطفال من أداء فريضة الحج، خوفا من نشر الوباء.

في حين سبّب مرض ميرس "متلازمة الشرق الأوسط التنفسي" -وهو أحد سلالات فيروس كورونا- عام 2013، منعا للمسنين والمصابين بالأمراض المزمنة أيضا من الذهاب إلى الحج.

اجمالي القراءات 398