تلال المخطئات.. قصة المدافن السرية للنساء جنوبي العراق

في الجمعة ٢٦ - يونيو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

تبدو منذ الوهلة الأولى أنها مواقع أثرية فقط، تتباعد بمسافة ليست بالقليلة، وعادة ما يقطن بالقرب منها بعض سكان القرى، وتسمى محليا "الإيشان"، أي المكان العالي المحاط بالماء، أو التلال الأثرية، ونادرا ما تمر عبرها بعثات تنقيب لتكتشفها.

تشتهر محافظة ذي قار جنوبي العراق بوجود العشرات من تلك التلال في المدن الأثرية المنتشرة في عموم المحافظة، وتوجد بشكل كبير في مملكة لكش شرقي مدينة الناصرية مركز المحافظة، وقرب قضاء البطحاء من جهة الغرب، وبالقرب من أطلال مدينة لارسا، التي تبعد بنحو 10 كلم عن مدينة أور الأثرية.

بمرور الزمن، أصبحت تلك التلال مدافن، يتخذها السكان لدفن الأطفال حديثي الولادة، لكنها لاحقا أصبحت مدافن سرية وغير معلنة للنساء ممن يُقتلن غسلا للعار أو ما تعرف بجريمة الشرف، ولأن هذه الأماكن شبه مهملة وبعيدة عن الأنظار يجري الدفن فيها، وبحسب اعتقادهم فإن المرأة المقتولة لا تستحق الدفن في مقبرة وادي السلام في النجف، حيث اعتاد سكان جنوبي العراق الدفن فيها.

لا يعرف بعد متى تحوّلت التلال الأثرية في محافظة ذي قار إلى مدافن سرية للنساء (الجزيرة)

تلال غسل العار
تعتبر ذي قار من المحافظات التي تنتشر فيها ظاهرة قتل النساء لأسباب كثيرة، تتعلق بعادات اجتماعية سائدة تنظر للمرأة على أنها كائن أدنى من الرجل، وخروجها عن تلك العادات بعلاقات عاطفية أو التعبير عن مشاعرها أو اتخاذها مواقف مخالفة للعائلة بمثابة نهاية لحياتها.

لا توجد تواريخ محددة حول بداية تحوّل تلك التلال أو الأماكن القريبة منها إلى مدافن سرية للنساء ممن يُقتلن غسلا للعار، لكن هذه الأماكن أعيد الحديث عنها بعد آخر حادثة قتل لفتاتين شقيقتين من قضاء البطحاء (40 كلم غربي الناصرية) مطلع مايو/أيار الماضي، حينما أقدمت عائلتهما على قتلهما بسبب هروبهما خارج المحافظة، وإغوائهما من قبل شاب من محافظة كركوك شمال بغداد.

يقول أبو علي ناصر، وهو من سكنة قضاء البطحاء، إن هذه التلال المحاطة بالمياه تسمى محليا بإيشانات غسل العار، وهي موجودة بشكل خاص في قضاء البطحاء، وتحديدا في مناطق عدة مثل "الرفيع وعين صيد والبصير"، وفي تلك الأماكن توجد التلال الأثرية بكثرة.

ويضيف أبو علي للجزيرة نت أنه لا يوجد مكان محدد لدفن جثث المقتولات، فكل عشيرة لديها تل أو اثنان لدفن النساء، ولكن بشكل عام لا أحد يفصح عن مكان الدفن سوى العائلة المعنية بالحادث.

ويتابع حديثه "هذه ليست المرة الأولى التي تحصل فيها حوادث قتل للنساء في تلك المناطق، حيث تحولت تلك الأماكن إلى تلال للمخطئات بحسب ما يسميه بعض السكان هناك، ولا يجوز الحديث بهذا الشأن أو فتح هذا الموضوع، حيث يتم عادة نفي أي شيء يتعلق بها".

منى الهلالي ترى أن التردد على مواقع التواصل أحد أسباب قتل الفتيات (الجزيرة)

تشريع قوانين
لا يزال ملف جرائم الشرف يؤرق منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق المرأة ، ومن خلال الرصد المستمر للواقع والأحداث، طفت على السطح مشكلة مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها سببا آخر من أسباب القتل بسبب تورط فتيات مع شباب، مما جعل حياتهن ثمنا لهذه العلاقة، في حين يبقى الجاني حرا طليقا، كما تقول الناشطة بهذا المجال منى الهلالي.

وتضيف الهلالي للجزيرة نت أن عادة القتل غسلاً للعار متجذرة في المجتمع العراقي، لكنها انحسرت في فترة بسبب تدخل العقلاء والخيّرين، لكن سرعة انتشار الأخبار عبر مواقع التواصل ساهمت في مسارعة الأهل لغسل العار خوفا من الفضيحة، في حين "يفلت الجاني من العقاب وهو بمثابة القاتل الذي فوّضه القانون بمواد مجحفة يجعله يحرف حقيقة قتل النساء".

ودعت الهلالي إلى ضرورة تعديل قانون العقوبات كما حصل في إقليم كردستان العراق، حيث أصبح القتل غسلا للعار جريمة يحاسب عليها القانون، كما يتعين على الحكومة إيجاد ملاذ للنساء، فالقبض على الفتاة وتسليمها إلى ذويها جريمة بحد ذاتها.

إيمان الأمين ترى أن العقوبات بحق قتلة الفتيات مخففة وغير منصفة (الجزيرة)

مناخ مشجع
تقول الناشطة البارزة في الناصرية إيمان الأمين إن العقوبات التي تُوقعها القوانين بهذا الشأن أنصفت القاتل وخففت حكمه بدعوى غسل العار، وتترك الرجال يفلتون من العقوبة.

وتضيف الأمين خلال حديثها للجزيرة نت "حاولنا كمنظمات مجتمع مدني وناشطات بحقوق المرأة أن نوجه الأنظار لهذه الحالة دون جدوى، لأن من يأمرون بهذه العقوبات غالبا يسدون آذانهم عن النداءات الإنسانية، لكن الذي لم يتغير هو ذلك العنف والمناخات المشجعة عليه".

وتسرد الأمين أحد مشاهد وحوادث غسل العار،حيث إن أحدى الفتيات من أحد الأرياف خرجت لتجلب الماء من نهر قريب، صادفها ابن الجيران فألقى عليها التحية، ردت عليه وذهبت، رآها جارهما الآخر فأخبر شقيقها الذي قتلها، ثم وضعها في الحمام وأشعل النار في جسدها، يقول "أعرف أنها لم تخطئ لكن ماذا أقول لمن شاهدها وهي ترد السلام على ذلك الرجل".

الشرطة لا تتدخل في ملف جرائم الشرف وغسل العار بسبب الضغوط العشائرية (مواقع التواصل)

موقف الأجهزة الأمنية
بالعادة، لا تتدخل الشرطة في ملف جرائم الشرف وغسل العار حينما تقع الجريمة، كما يقول مسؤول أمني للجزيرة نت، ولا توجد إحصائية دقيقة بشأن عدد الجرائم التي تقع في محافظة ذي قار، بل تندرج ضمن قضايا الانتحار بسبب الضغوط العشائرية.

ويضيف أن التحقيقات تتوصل في الكثير من الأحيان إلى وجود أدلة تشير إلى وجود حالة قتل، لكن يتم إغلاق الملف وتسجيل قضية انتحار لينتهي الأمر، وهذا ما نجده في الكثير من جثث النساء المقتولات، وذي قار سجلت في الأعوام الماضية ارتفاعا بأعداد المنتحرات، التي أغلبها قضايا غسل عار.

وينص القانون العراقي على العقوبة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من فاجأ زوجته أو إحدى محارمه في حالة تلبس بالزنا، أو وجدها في فراش واحد مع شريكها فقتلها في الحال، أو قتل أحدهما أو اعتدى عليهما أو على أحدهما اعتداء أفضى إلى الموت أو عاهة مستديمة، ولا يجوز استعمال حق الدفاع الشرعي ضد من يستفيد من هذا العذر ولا تطبق عليه أحكام الظروف المشددة.

اجمالي القراءات 1357