صراع عمره أكثر من 20 عامًا.. دليلك الشامل لفهم حرب أفغانستان

في الخميس ١٣ - فبراير - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

ربما يضطر الأمريكيون يومًا ما لإرسائل مئات الآلاف من قواتهم لأفغانستان. وإذا دخلوها، سيعلقون. لدينا قبرٌ بريطانيّ في أفغانستان، وقبر سوفيتيّ، وسيكون لدينا آنذاك قبرٌ أمريكي». عبد الحق، أحد قادة حركة «المجاهدين».

قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) بخمسة أعوام بالضبط، سقطت مدينة «جلال آباد» الأفغانية في يد قوات حركة طالبان، مشددةً الطوق على العاصمة «كابل». كان ذلك في 11 سبتمبر 1996، ومع انتهاء أيلول ذلك العام سيطرت طالبان على كابل لتبدأ قصةً جديدة في حياة أفغانستان.

لأكثر من عقدين من الزمن لا يمرّ يوم بلا أخبار عاجلة عن تفجير أو قتلى في أفغانستان، البلد البعيد الذي طالته يد الغزو السوفيتيّ ومخالب الحرب الأهلية، لتتورّط الولايات المتحدة في حرب فيها لا يُعلم لها نهاية. ظهرت بوادر انتهاء الصراع الدامي مع بدء المفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة في 2018، لتصل إلى أكثر من تسع جولات انتهت بإيقافها بأمر من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في سبتمبر 2019.

«جمهورية أفغانستان الديمقراطية».. طالبان ومفاتيح الخريطة الأفغانية

انتهت الحرب السوفييتية في أفغانستان عام 1989 بانسحاب القوات الروسيّة السوفييتية، لتستمر بعدها الحرب الأهلية. خرجت القوات السوفييتية تاركةً وراءها حكومةً يسارية يرأسها محمد نجيب الله، الذي اكتسب سمعةً بالوحشية والقسوة بعد ترأسه للشرطة السرية فيما كانت تسمى آنذاك «جمهورية أفغانستان الديمقراطية».

حلّ نجيب الله في رئاسة الجمهورية عام 1986، وتابع القتال بينه وبين قوات «المجاهدين»، العصب الأساسي للقتال ضد السوفيتيين، لينتهي حكمه عام 1992 على يدهم بعد محاصرتهم لكابل. هرعَ نجيب الله في تلك اللحظة طالبًا اللجوء السياسي في مجمع الأمم المتحدة في العاصمة حفاظًا على حياته.

ظلّت حمايته السياسية قائمةً حتى أواخر سبتمبر 1996، عندما سيطرت طالبان على كابل، ودخلت قواتها مباشرةً لحرم مجمع الأمم المتحدة –الذي يُفترض أنه ذو حصانة دبلوماسية وفقًا للقانون الدولي- وقبضت عليه مع ابنه وسائقه الخاص وسرعان ما علّقوهما على المشانق أمام الجميع، وكان تصريح أحد مسؤولي طالبان: «قتلناه لأنه قاتلُ شعبنا».

مشاهد اختطاف الرئيس الأفغاني السابق، محمد نجيب الله، على يد قوات طالبان ثم إعدامه.

قبل ذلك بسنوات، مع انسحاب السوفييت، خلَّفت الحرب «أمراء» لهم قواتهم وأسلحتهم، ومن ورائهم دول تدعمهم، وصارت لكل قوة سياسية أو قبلية مناطق تسيطر عليها وتحكمها كما تشاء، ولا حدّ آنذاك للنزاعات المسلحة بين الجماعات متضاربة المصالح والأهداف.

وفي حالة الانقسام الواسع هذه، وانعدام الأمن داخل المدن وعلى مستوى أفغانستان كلها، جاءت طالبان بأهداف دينية، وقبل ذلك بأهداف سياسية، ببساطة كان شعارها: «استعادة الأمن والاستقرار» ونزع السلاح المنتشر في كل مكان، وتأمين الطرق العامة والخارجية. هذه الأهداف لا تخدم طالبان أو أفغانستان فحسب، وإنما باكستان الحليف الأكبر لطالبان التي تسعى لتأمين جارتها بهدف الوصول لأسواق دول آسيا الوسطى.

تختلف المصادر حول حقيقة إن كانت طالبان صنيعةً استخباراتية باكستانيّة من عمل وكالة الاستخبارات الباكستانية، التي بلا شك اضطّلعت بأدوار لوجيستية مهمة لدعم حركة طالبان، أبسطها أنها كانت قناةً لتمرير المال السعودي وإيصاله للحركة. اسم «طالبان» هو جمع لكلمة «طالب» في اللغة البشتوية، إذ تأسست الحركة على يد الملا محمد عمر وبُويع أميرًا لها في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1994 في قندهار جنوبيّ أفغانستان، وبدأت بالأصل من مجموعة من طلاب المدارس الدينية.

صورة لإحدى المدارس الدينية في أفغانستان. عام 1986.

كانت فصائل المجاهدين منقسمةً على نفسها، وفي الشمال حلفٌ جديد يقوده أحمد شاه مسعود، أحد قادة المجاهدين، مع عبد الرشيد دوستم، زعيم حرب من إثنية الأوزبك وحزب الوحدة الإسلامي أحد فصائل المجاهدين، وكان هذا الحلف مدعومٌ إيرانيًا من نظام الثورة الإسلامية في طهران. على الجهة الأخرى في الجنوب طالبان، وراءها أمريكا عبرَ حلفائها الإقليميين؛ باكستان والسعودية. قدمت السعودية دعمًا ماديًا ضخمًا وشبه مفتوح لطالبان، العدو الأول للتحالف الشماليّ المدعوم من خصم السعودية؛ إيران، أما باكستان فوفّرت كل ما احتجاته طالبان من دعم عسكريّ وبشريّ، فدرّبت مقاتلين لطالبان وأمدّت الحركة بمقاتلين إما من أجهزتها الأمنية أو من باكستانيين متعاطفين ومؤمنين بما تفعله طالبان، وعسكريًا وفّرت سيارات ومدرعات (والسعودية فعلت المثل)، ودبابات روسيّة.

بين سبتمبر 1996 و2001.. انتصار طالبان وصدمة أمريكا

قادَ ملا عمر حركةً فيها من التجانس الإثني الكثير، فأغلبية الطالبانيين كانو من البشتون، وفيها تجانس فكريّ وديني إذ أن المنخرطين في الحركة من طلاب المدارس الدينية كانوا يتلقّون تعليمًا متشابهًا على المذهب الحنفيّ، ومع هذا التجانس دعمٌ عسكريّ وماديّ رافقه صمتٌ أمريكيّ تام، حوّل انتصار طالبان في سبتمبر  عام 1996 إلى صدمةٍ أمريكية في سبتمبر 2001.

منذ تأسيسها بدأت الحركة تتوسع شيئًا فشيئًا، واجتمع عليها طلاب المدارس العلمية من كل أنحاء أفغانستان مع علمائهم وأساتذتهم. في أبريل (نيسان) 1996، والحرب بين طالبان وقوى حلف الشمال على أشدّها، أعلن الملا عمر عقدَ اجتماع عامٍ للأفغان جميعًا بهدف «الشورى». كان أغلب الحاضرين من طالبان ومؤيديها، وتمخّضت عملية الشورى عن إعلان الملا عمر أميرًا للمؤمنين.

انطلقت حملة السيطرة على كابل وما حولها. حملت طالبان في مسيرتها للسيطرة على أفغانستان المال والرشاش؛ إذ قبل اجتياحها للمدن والبلدات كانت تحاول تقديم ما يشبه رشاوى للقوات المسيطرة عليها، وتحديدًا لأمراء الحرب فيها. هذا التكتيك البسيط سمح لطالبان بالتقدم بشكل «كاسح» إن صحّ التعبير، ودائمًا ما كانت رشاواها تُفاجئ كبار أعدائها، إذ يُصدمون بانهيار فصائل تابعة لهم لحظةَ المواجهة، ليكتشفوا لاحقًا أن طالبان رشت قادة هذه الفصائل. في تلك الفترة كان الصنبور السعوديّ مفتوحًا.

مقاتلون أفغان من حركة طالبان مطلع عام 1995، من نقطة تبعد عن العاصمة كابل 35 كيلومترًا.

في أقل من عامين منذ تأسيسها، استطاعت الحركة أن تدخل كابل لتبدأ مرحلة جديدةً من الحكم في البلاد. ومن وراء كابل المنطقة الشمالية من أفغانستان تحت حكم تحالف الشمال الذي تضاءل نفوذه يومًا بعد يوم لصالح طالبان، وفي هذه اللحظة، صارَ ملا عمر فعليًا رئيسًا لأفغانستان، وحوّل اسمها من «دولة أفغانستان الإسلامية» إلى «إمارة أفغانستان الإسلامية»، وبدأ مساعٍ لـ«تطبيق الشريعة» كما تفهمها طالبان: إجبار النساء على الحجاب، وفصل في مختلف مساحات العمل والحياة بين الرجال والنساء، وفرض الصلاة على الأفغانيين ومتابعتهم عليها، وإتلاف أجهزة الراديو والتلفاز.

يبدو سؤال «لماذا تركتهم أمريكا؟» منطقيًا، ولكن لنتذكّر أن ممول طالبان الرئيسي في تلك اللقطة هي السعودية، الحليفة المقرّبة لأمريكا، وأن أعداء طالبان هم فعليًا أعداء الولايات المتحدة في تلك اللقطة؛ قواتٌ مدعومةٌ من طهران بشكل أساسي. كانت طالبان طرفًا كغيرها من الأطراف في اللعبة، ولكن استطاعت أن تمزج الوطنيّ بالدينيّ، ووقفت وراءها باكستان بالمال والعتاد. وكانت عين ملا عمر تنظرُ بعيدًا وتمكن من تأمين الطرق الخارجية التي احتاجتها باكستان في جنوب البلاد. استطاع ملا عمر أن يقدم للأفغانيين والدول المجاورة الاستقرار، وإن لم يدم طويلًا.

أسامة بن لادن، الاسم اللامع في عالم «الجماعات الجهادية»، قاتلَ في الحرب ضد السوفييت وخرج من أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفيتيية ليعيش في السعودية، ومنها –بعد التضييق- انتهى به المطاف في السودان ليقيم فيها أقل من أربعة أعوام انتهت بسحب جنسيته السعودية، ولانتقاده الشديد لدخول قوات أمريكية للخليج وللسعودية تحديدًا إبّان الغزو العراقيّ للكويت، بالإضافة لضغط أمريكي بعد عمليات استهداف للمصالح الأمريكية أثنى عليها ابن لادن وتتهمه الولايات المتحدة بأنه متورط فيها، مثل «التآمر» لقتل جنود أمريكيين وتفجير طائرة أمريكية.

في تلك اللحظة عادَ لقواعده الأولى في أفغانستان، ليدخلها في مايو (أيّار) 1996، ويبني علاقة متينة مع الملا عمر، تحوّلت لعلاقة بين تنظيمه القاعدة، وحركة طالبان. ومع مرور الوقت توسّع نفوذ ابن لادن لعلاقته القوية بزعيم طالبان وللأموال القادمة من علاقاته وأتباعه، وأتاح للملا استخدام قواته، وكثيرٌ منها ذو خبرة من الحرب السوفييتية. وصارَ ابن لادن «ضيفًا» على إمارة أفغانستان وله منها الحماية.

مظلةُ ابن لادن.. الرحلة من السودان إلى الحرب الكبرى في أفغانستان

في السابع من أغسطس (آب) 1998 وقع انفجاران، تقريبًا في نفس الوقت، في سفارات الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا. خلّف الانفجاران 227 قتيلًا منهم 12 أمريكيًا، وتبنّى تنظيم القاعدة العمليات. اعتبرت الولايات المتحدة أسامة بن لادن مسؤولًا عما حصل وفي ذات الشهر نفّذت هجمات في السودان وأفغانستان، على ما اعتبرته منشآت تابعة للقاعدة، منها معسكرات تدريبية، ولم يُصب ابن لادن في هذه الهجمات لخروجه من أحد المعسكرات قبل العملية بساعات. يعتبر مراقبون أمريكيون أن الولايات المتحدة فوّتت فرصًا لتحييد أسامة بن لادن، في عدّة حالات كان فيها ابن لادن مكشوفًا وفي متناول اليد.

كان ابن لادن، بعد قرابة عامين من وصوله لأفغانستان، أعلنَ الحرب على الأمريكيين واستهدافهم في أنحاء العالم، وضرورة تحرير المقدسات الإسلامية من يد العائلة السعودية الحاكمة، آل سعود.

ضابط أمريكي من قوات مشاة البحرية الأمريكية، يتحدث مع ضابط آخر من مكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكي. في مدينة دار السلام بدولة تنزانيا، أمام حطام خلفه هجوم القاعدة على السفارة الأمريكية هناك.

ضابط أمريكي من قوات مشاة البحرية الأمريكية، يتحدث مع ضابط آخر من مكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكي. في مدينة دار السلام بدولة تنزانيا، أمام حطام خلفه هجوم القاعدة على السفارة الأمريكية هناك.

قبل استهداف السفارات أرسل ولي العهد السعوديّ آنذاك، عبد الله بن عبد العزيز، رئيس جهاز الاستخبارات تركي بن فيصل آل سعود ليجتمع مع الملا عمر، واتفقا على التعاون لتسليم أسامة بن لادن للسعودية بعد أن ارتفعت أسهم المطالبة به في الرياض وواشنطن. ومع عودة تركي مرةً أخرى لأفغانستان بعد التفجيرات، حاملًا طلبًا سعوديًا وأمريكيًا بتسليم ابن لادن، وجدَ الملا عمر على رأي آخر، وفي اجتماعهما أخذ «يهين» الدولة السعودية وأسرتها الحاكمة ويمدح ابن لادن الذي بدا أنّ الملا عمر مالَ لآرائه، وكان رده النهائيّ: أسامة بن لادن ضيف للشعب الأفغاني وليس ضيفي أنا فحسب.

مع وقوع التفجيرات انقلب الموقف الأمريكيّ. تمخّضت الانتخابات الرئاسية في أمريكا عن فوز جورج بوش بالرئاسة، وتسارعت وتيرة العمل الأمريكيّ ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان، لتبدأ بإرسال عملاء من «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي ايه)»، ليساعدوا أحمد شاه مسعود، زعيم تحالف الشمال، وأحد قادة المجاهدين، –ولاحقًا رجلٌ أحبّ جهاز «سي آي ايه» العمل معه-.

هذا الدخول لعملاء أمريكيين تم تحت أعين طهران ورضاها، وهي الداعم الأوّل لتحالف الشمال. لم تحتمل طالبان ذلك طويلًا. في التاسع سبتمبر 2001 جلسَ صحافيان تونسيّان مع مسعود لمقابلته، ليفجّرا قنبلة في كاميرا الفيديو التي كانت معهما وبذلك انتهى مسعود، للأبد، وشكّل اغتياله، الذي نفذته طالبان، ضربةً قوية للتحالف الضعيف من الأساس.

أحمد شاه مسعود، أحد زعماء «مجاهدين»، وزعيم تحالف الشمال. الصورة من عام 1996

وبعد اغتياله بيومين، وقعت المفاجأة العالمية: أحداث سبتمبر. وعلى الفور وجّهت أصابع الاتهام لأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، الذي يعمل من أفغانستان بحماية طالبانية. بالطبع لم يفت الملا عمر أن عاقبة الأمر قد تكون حربًا أمريكية لا مجرّد هجمات عابرة، ولكنه مجددًا واجه مطالبات تسليم ابن لادن بطلب دليل موثّق على ضلوعه في هجمات سبتمبر، وفي تلك اللحظة كانت أمريكا على وشك الانفجار، وجاء الرد مباشرةً من بوش في واشنطن: «إما أن تكونوا معنا، أو مع الإرهاب»، وأعلن الحرب على القاعدة وما وصفه بـ«الإرهاب» عالميًا.

مشاهد لأسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، في أفغانستان.

في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2001، بعد قرابة شهر من هجمات سبتمبر، أطلقت الولايات المتحدة أولى هجماتها على أفغانستان. بدأت الحرب، وسمّيت بـ«عملية الحرية الدائمة». كانت الفترة الأولى، بتنفيذ أمريكيّ ومساعدة بريطانية، مقتصرة على القصف الجوي لقوات طالبان والقاعدة، مع إسناد أرضيّ من قوات أفغانية، تابعة للتحالف الشمالي بشكل أساسي، لتُواجه قوات طالبان على الأرض.

في هذه الفترة لم تقع مواجهات مباشرة بين القوات الأمريكية، التي تكوّنت من أقل من 2000 مقاتل، وقوات طالبان أو القاعدة. في ديسمبر (كانون الأول) 2001، اشتعل قتال كثيف بين قوات ميليشيات أفغانية، مدعومة أمريكيًا، مع قوات للقاعدة في جبال تورا بورا، مخبأ التنظيم وفيه يُقيم زعيمه أسامة بن لادن. استمر القتال لأسبوعين دون تدخل أمريكيّ مباشر، وانتهى بهروب ابن لادن والقبض على 20 من أعوانه.

يعدّ الأمريكيون يوم التاسع من ديسمبر 2001 يوم انتهاء نظام طالبان، إذ في هذا اليوم ترك ملا عمر ولايته الأم قندهار ليختفي بعد ذلك. في مارس (آذار) 2002 أُطلقت عملية «أناكوندا»، التي شارك فيها على الأقل ألفا مقاتل من القوات الأمريكية إلى جانب ألف مقاتل أفغانيّ، مُستهدفين 800 من طالبان والقاعدة.

مشاهد من إخلاء قوات التحالف بعد عملية «أناكوندا».

في مايو 2003 أعلنت الولايات المتحدة انتهاء الـ«عملية الرئيسية»، ورغمَ هذا لم يعنِ ذلك الاقتراب من انتهاء الحرب. العنوان العام للحرب هو القضاء على «الإرهاب»، وتحييد القاعدة وقياداتها، وعلى رأسهم بالطبع ابن لادن، وإيقاف أنشطتهم حول العالم التي كان ابن لادن ينسّق لها ويسيرها من أفغانستان، حسبما تقول الولايات المتحدة.

باكستان الحليف والداعم الأول لطالبان، مع اشتعال المشهد العالميّ، لعبت في الاتجاهين. هل تريد أمريكا أن نشارك في حربها ضد الإرهاب؟ أهلًا وسهلًا. فتحت باكستان برها وبحرها وسماءها للقوات الأمريكية والدولية، وتابعت تمويل طالبان ودعمها من تحت الطاولة. ولكن الثمار التي خرجت عن هذه السياسة آذت باكستان التي هندستها.

شاركت باكستان لوجستيًا في الهجمة على أفغانستان، وتابعت دعمها لطالبان، بل ودربت قواتٍ طالبانية كانت تعود لأفغانستان لتقتل جنودًا أمريكيين وجنودًا من حلف الناتو. وأمّنت باكستان إقامة لبعض قيادات القاعدة الكبار، بمن فيهم أسامة بن لادن، الذي لاحقته الولايات المتحدة لأكثر من عقد كامل، لتجده في النهاية يعيش في مجمع سكني في باكستان عام 2011.

الحرب الأمريكية.. لماذا فشلت الديمقراطية على طريقة الـ«F16»؟

أعلن الرئيس الأمريكي بوش عن سياسة «بناء» للشعب الأفغاني، وللدولة، لتكون ديمقراطية بحكومة مركزية قوية، بما يترتب على ذلك من الضغط باتجاه عقد انتخابات رئاسية بشكل دوريّ، وبناء أجهزة الدولة، وتحديدًا الأجهزة الأمنية الأفغانية، وتطويرها وتدريبها لتستطيع الصمود في وجه قوات طالبان التي طوّرت قدرة عالية على الانسحاب والعودة كلما اشتدّ الهجوم عليها في إحدى المناطق.

بعيدًا عن الجدل الكبير حول إذا ما كان يمكن لفرضِ الديمقراطيات على الشعوب أن ينجح، أو مدى شرعية ديموقراطية جاءت على متن طائرات «F16»، عمليًا؛ فشلت الولايات المتحدة إلى حد كبير في تحقيق أهدافها من الحرب، فالقوات الأفغانية ضعيفةٌ إلى درجة عدم قدرتها على الصمود أمام قوات طالبان دون مساعدة من القوات الأجنبية، فما أن تنسحب قوات أمريكية من إحدى المدن تاركةً إياها تحت حماية قوات الحكومة الأفغانية، سرعان ما تجتاحها طالبان.

مع انتهاء العملية الرئيسية في 2003، تحوّلت استراتيجية الحلف العسكري، من دول الناتو والولايات المتحدة، إلى تأمين كابل وحمايتها من «المتمردين»، طالبان تحديدًا، وتوسّع نطاق هذه المهمة شيئًا فشيئًا ليشمل مدنًا أخرى، وليشمل أيضًا معارك قتالية كثيفة مع طالبان.

في عام 2006 اشتعلت أفغانستان حرفيًا، مع مضاعفة طالبان لأعداد وحجم حجماتها، وبدأ الحديث في ذلك العام عن استلام القوات الأفغانية والحكومة المسؤولية، وكان واضحًا أن انسحابًا في تلك اللحظة يعني عودة طالبان. مع دخول أوباما البيت الأبيض عام 2009، جدّد «التزام» أمريكا تجاه أفغانستان، مُرسلًا المزيد من القوات.

تطلّب الأمر ثمانية أعوام ليصرّح وزير الدفاع الأمريكي، روبرت غيتس، بأنّ أهداف دخول أفغانستان في البداية كانت «واسعة جدًا»، داعيًا لوضع استراتيجية وأهداف أوضح. تقدّم أوباما بعد شهور ليُعلن أن الهدف من العمليات في أفغانستان هو إنهاء «الملاذات الآمنة» لأعضاء القاعدة في أفغانستان وباكستان، وأنّ الولايات المتحدة ستعمل على استقرار باكستان، ليكون مفتاحًا لإنهاء الوجود «الإرهابي» في تلك المنطقة.

جنود أفغان يتبعون الحكومة الأفغانية مع جنود أمريكيين في ولاية ننكرهار في أفغانستان.

انتهى المطاف بإدارة أوباما بوجود 100 ألف جندي أمريكي في أفغانستان عامَ 2011، ليتقلص شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى قرابة 14 ألف، يوجّهون الكثير من ضرباتهم باستخدام الطائرات المسيرة دون انخراط في مواجهات مباشرة مع قوات طالبان. كان لاستراتيجية الطائرات المسيّرة أثرٌ مدمّر: عدم دقتها يؤدي لمقتل الكثير من المدنيين الذين يقرر أقاربهم الانضمام لطالبان إثر الاعتداء الأمريكي عليهم. كان من آخر هذه الضربات الخاطئة في سبتمبر 2018، إذ قتلت ضربة جوية 30 مزارعًا وجرحت 40 آخرين في ولاية تابعة للحكومة الأفغانية، وقُصد من الضربة استهداف لمخبأ تابع لـ«داعش» الأفغانية.

بدأت الحرب وطالبان تُسيطر على 75% من البلاد على أقل تقدير. تغيّرت الأرقام مع مرور السنين، وتراجعت سيطرة طالبان لأدنى المستويات في أولى سنوات الحرب، لتعود مجددًا ويتحوّل مسار الحرب لصالحها؛ مع مرور الوقت تكسب طالبان أراضٍ أكثر، يُختلف على نسبة ما تسيطر عليه هذه الأيام، ولكنه لا يقل عن 16% من أراضي أفغانستان، و9% من سكانها ما يشكّل ثلاثة ملايين، وبعض التقديرات تُشير إلى أنّ طالبان تسيطر على أكثر من ثلث البلاد. وسبب اختلاف التقديرات الأراضي والمناطق المتنازع عليها، التي تتناوب الحكومة وطالبان على السيطرة عليها بين حين وآخر. ولكن ما لا شكّ فيه أن سيطرة طالبان ستتسع كثيرًا، وستقوى أكثر، بخروج الولايات المتحدة وحلفائها نهائيًا من أفغانستان.

مستقبل ما بعد طالبان.. أصبح مستقبل طالبان!

في الخامس من ديسمبر 2001، سعت أمريكا وممثل الأمم المتحدة لجمع النظراء الأفغان على طاولة واحدة للتفاوض. بدأ اقتتال الأطراف الأفغانية قبل وصولها للمؤتمر الذي بالكاد استطاع ممثل الأمم المتحدة عقده، وبدلًا من مناقشة المستقبل القادم تحولت المفاوضات لمناقشة خلافات سابقة، وخرجت أمريكا والأمم المتحدة لتعلن للعالم أن المؤتمر كان ناجحًا وسينهي «الصراع التراجيديّ» الذي لم ينتهِ آنذاك بالطبع.

دولي

منذ شهرين
التاريخ السري لحرب أفغانستان.. حقائق صادمة أخفاها 3 رؤساء عن الشعب الأمريكي
4048
فريق العمل

طالبان التي كانت تتراجع وينحسر نفوذها لم تُدعَ لهذا المؤتمر التفاوضيّ الذي سيؤسس للحياة السياسية في السنوات التالية، التي سمّيت بـ«سنوات ما بعد طالبان» وسنوات البناء، ولسوء حظ الولايات المتحدة وحلفائها، لم تكن السنوات التالية بلا طالبان. واليوم ينقلب المشهد.

أنتج الاتفاق تحالفًا هشًا بين زعماء الحرب الأهلية، من المجاهدين وغيرهم، وبين بعض الملكيين. يرى «جوناثان لي»، مختصٌ بالسياسة والتاريخ الأفغانيّ، أن التحالف لم ينظر بالمرّة لجذور ما وصلت إليه الحال في أفغانستان؛ انهيار الدولة والمجتمع وحالة اقتتال دائم لم تتوقف لعقود، والشعب الأفغاني لا يضع ذرة ثقة في حكومته المركزية -التي يُختلف حول إذا ما كانت حكومة الشعب فعلًا أم لا.

انتهت المفاوضات باختيار حامد كرزاي رئيسًا لحكومة مؤقتة. كرزاي كان رأس قبيلة بوبلزي إحدى أهم قبائل البشتون، ويتحدث الإنجليزية وأنهى دراساته العليا في العلوم السياسية من الهند. دخل كرزاي قصر الحكم، ومنذ ذلك الحين وحتى 2004 حكم بقرارات رئاسية لعدم وجود مجلس تشريعيّ أو دستور. أما مجلسه الوزاري فمجمعٌ لخصوم السياسة الأفغانية، وسرعان ما يتحوّل لمجلس تهديد ووعيد واتهامات.

حامد كرزاي، رئيس أفغانستان السابق (يسار)، مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما (يمين)، في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية.

عمل كرزاي على تدعيم حكمه بإضعاف الجماعات المسلحة وزعماء الحرب مستغلًا برنامج الأمم المتحدة لنزع السلاح، وبتعيين ملكيين مشابهين له وشخصيات من عائلته الممتدة في مناصب رسمية. لم يُقصى زعماء الحرب نهائيًا، بل أُعيد دمجهم داخل النظام، وبدلًا من أن يقاتلوا على الأرض تحولوا للقتال على المناصب وفي المكاتب، مُستفيدين من تدفق ملايين الدولارات للبلاد من مساعدات أجنبية. الثقل الحقيقي لحكومة كرزاي في تلك الفترة كان بوجود المشير محمد فهيم، الذي كان آنذاك وزيرًا للدفاع ووراءه ميليشيا يقودها.

في 2004 عُقدت انتخابات رئاسية شُكّك في نزاهتها وفاز فيها كرزاي. ومثلها كانت انتخابات عام 2009 التي شكّكت الأمم المتحدة بنزاهتها، وبالطبع لم تمثّل صوت الشعب الأفغاني كله، وأعلنت طالبان للأفغانيين: ابتعدوا عن الانتخابات أو واجهوا العواقب -استهداف مراكز الاقتراع-. عدا عن هذا التهديد الذي نُفّذ بـ73 هجومًا في كل أفغانستان، رؤية الأفغانيين لحكومتهم أنّها مدعومة خارجيًا، وما سعي الولايات المتحدة للعملية الديمقراطية إلا من باب دعم حكومة كرزاي حليفتها.

أفغانستان.. هل كانت فيتنام ثانية؟

في الخامس من سبتمبر 2019 وقع انفجار في كابل أدى لمقتل 12 شخصًا، منهم جنديّ أمريكي، دفعَ مقتله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليصف العملية بأنها «خطأ كبير»، وأنهم قتلوا «واحدًا من جنودنا العظماء جدًا»، متهمًا طالبان باستغلال الهجوم لتحسّن موقفها التفاوضي. وعلّق على إثر ذلك اجتماعًا سريًا كان سيُعقد في كامب ديفيد في أمريكا، بين الولايات المتحدة ورئيس الحكومة الأفغانية –آنذاك، الآن حلّ مكانه عبد الله عبد الله رئيسًا لأفغانستان-، وطالبان. بعد إيقاف المفاوضات بأقل من ثلاثة أشهر استأنفها الأمريكيون، لتصل إلى ذروتها في فبراير 2020، في اتفاق يتضمن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مع تقديم طالبان ضمانات أمنية وموافقتها على تدشين محادثات مع الحكومة الأفغانية الرسمية في العاصمة كابول، بعد مقاطعتها لها باعتبارها «ألعوبة»، وسيعلن في الأيام القادمة عن اتفاقية السلام وتفاصيلها، وفي حال تمّت الصفقة فستُنهي حربًا عمرها أكثر من 18 عامًا، كلّفت كل الأطراف كلفًا ضخمة.

 

اجمالي القراءات 1348