تفوقت على أمريكا نفسها.. كيف أصبح اقتصاد سنغافورة الأكثر تنافسية في العالم؟

في السبت ٠٧ - ديسمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

نجحت سنغافورة في احتلال المرتبة الأولى بقائمة الاقتصاديات الأكثر تنافسية الذي يضم 141 دولة، متجاوزة الولايات المتحدة، وفق تقرير «التنافسية العالمي» السنوي الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي في أكتوبر (تشرين ثاني) 2019.

ويقيس تقرير التنافسية العالمي 103 مؤشرًا اقتصاديًا؛ مثل مدى استقرار الاقتصاد الكلي، والبنية التحتية، وسوق العمل، والقدرة على الابتكار. ووفق التقرير، حصلت سنغافورة على تقييم إجمالي بلغ 84.8 من 100، وحلت في المرتبة الأولى أيضًا في عدد من المؤشرات الفرعية أبرزها البنية التحتية بتقييم 95.4، والصحة 100، وسوق العمل 81.2. 

ومنذ ثورة التصنيع في البلد الأسيوي في ستينات القرن الماضي، استطاعت سنغافورة أن تحتل مكانة رفيعة في الدول صاحبة متوسط الدخل الأعلى، جنبًا إلى جنب مع النمور الأسيوية. واليوم، تعتمد نهضة البلاد على البيئة التنظيمية الصديقة للأعمال، والبنية التحتية الحديثة والمستويات العالية من الاستثمار الأجنبي.

لفت تقرير التنافسية العالمي أيضًا إلى أن بعض الدول الآسيوية تستفيد من الحرب التجارية الدائرة حاليًا بين الصين والولايات المتحدة. وحول هذه النقطة تقول سعيدة زاهيدي، رئيسة مركز الاقتصاد والمجتمع الجديد: «على سبيل المثال، كانت فيتنام تحتل المرتبة 77 العام الماضي، ولكنها احتلت هذه العام المرتبة 67». مضيفة «هذه الزيادة ترجع جزئيا إلى أن الاقتصاد الفيتنامي استطاع استغلال الوضع الحالي المتعلق بالحرب التجارية بين واشنطن وبكين، لجذب الاستثمارات والتحول إلى شيء أكثر قليلًا من مركز تجاري إقليمي». لكنها استدركت بأنه لا توجد بيانات كافية حتى الآن، لرصد مدى تأثير الحرب التجارية على القدرة التنافسية في آسيا.

مثلث الطفرة الاقتصادية السنغافورية

«اقتصاد سوق متقدم، وناتج محلي إجمالي مرتفع، ومناخ مشجع على الاستثمار»

 هذا الثالوث هو أهم ما يميز الطفرة الاقتصادية لسنغافورة في الوقت الحالي، إذ يملك البلد الآسيوي الصغير ذو الموارد الطبيعية المحدودة، الاقتصاد الأسرع نموا في العالم، ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيه، حوالي 60 ألف دولار أمريكي.

لكن الحال لم يكن كذلك قبل 50 عامًا، حين كان نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 320 دولارًا أمريكيًا. ذلك التحول الكبير في نصف قرن، كان نتاجًا أساسيًا لتبني الدولة للعولمة ورأسمالية السوق الحر، والتعليم الجيد، والسياسات البراجماتية، التي مكنت الدولة الصغيرة من تجاوز مشاكلها، وترسيخ أقدامها كرائد في التجارة العالمية. وللتدليل على قوة اقتصادها واستقرارها السياسي، يطلق الإعلام الغربي على سنغافورة لقب «سويسرا الشرق».

في يونيو (حزيران) 2018، اختارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون، لاجتماعهما التاريخي الأول الذي كان يهدف لإنهاء عداء دام عقود، ما يدلل على مكانة الدولة الأسيوية. كذلك احتلت سنغافورة مؤخرًا المرتبة الأولى في تقرير التنافسية العالمي متخطية الولايات المتحدة. 

من أين بدأت القصة؟

في بدايات القرن العشرين، كانت سنغافورة مستعمرة صغيرة خاضعة لسيطرة المملكة المتحدة. لكن الوضع تغير خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، نتيجة فشل القوات البريطانية في حماية البلد الصغير من هجمات اليابان، ما أثار سخط وغضب كبير في أوساط الشعب السنغافوري، وكان بداية لمقاومة واحتجاجات أدت في النهاية لانفصال البلد الآسيوي عن بريطانيا في 31 أغسطس (آب) 1963.

لكن الاستقلال عن التاج البريطاني لم يكن استقلالا كاملا، فقد انضمت سنغافورة مباشرة لماليزيا، وكونا ما عرف آنذاك بـ«ـالاتحاد الماليزي». لم يدم هذا الاتحاد طويلًا، حيث تأججت الخلافات بين الدولتين بسبب رغبة كل طرف في السيطرة على الاتحاد، كما أدى تراجع مستويات المعيشة إلى انتشار أعمال العنف والشغب في الشوارع. وبالإضافة إلى ذلك دخلت أعداد كبيرة من الصينيين إلى سنغافورة، حتى تخطى عددهم سكان البلد الأصليين، ما أثار انزعاجًا كبيرًا لدى الساسة الماليزيين الذين تخوفوا بالأساس من تهديد هذا الوضع لنسيج المجتمع وتراثهم الثقافي. وبعد عامين من الاستقلال عن بريطانيا، صوت البرلمان الماليزي على طرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي.

نالت سنغافورة استقلالها في 9 أغسطس 1965، وأصبح يوسف بن إسحاق أول رئيس لها، ولي كوان يو، أول رئيس وزراء. لكن التحول السياسي اصطدم بمشاكل اقتصادية متفاقمة، وانتشار الفقر. إذ كان جزء كبير من السكان البالغ تعدادهم آنذاك 3 مليون نسمة، عاطلين عن العمل، وثلثي السكان يعيشون في أحياء عشوائية فقيرة، فضلًا عن افتقار الدولة الوليدة للموارد الطبيعية والصرف الصحي والبنية التحتية وامدادات المياة العذبة.

علمّ أولادك كما يتعلّم «أذكى شعب في العالم».. طريقة سنغافورة في تعليم الرياضيات

الحالة السنغافورية: التصنيع كلمة السر

في مواجهة هذه المشكلات، طلبت حكومة لي كوان يو، المساعدة من دول العالم، لكن دون جدوى. فقررت في النهاية مساعدة نفسها وإيجاد حلول للمشاكل الأساسية مثل البطالة. وشرعت الحكومة في تنفيذ برنامج شامل للتصنيع، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة. لكنها واجهت صعوبات كبيرة في البداية، أهمها  أنها لم تكن تملك تراثًا صناعيًا من قبل؛ ولم تكن الغالبية العظمى من السكان قادرين على العمل إلا في التجارة والخدمات فقط؛ لذلك لم تكن لديهم خبرة في مجال التصنيع. 

 

 

موديل فولوكوبتر تو إكس (تاكسي طائر)، عُرض في حدث أقيم في سنغافورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019

وفي النهاية، لجأت سنغافورة للتواصل مع الشركات المتعددة الجنسيات لإقناعها بالتصنيع في سنغافورة. وأنشأت «مجلس التنمية الاقتصادية»؛ ليتولى عملية جذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق بيئة استثمار آمنة، ومنظمة، وخالية من الفساد، وخفض معدلات الضرائب.

وبالفعل بدأ مجلس التنمية الاقتصادية بالتعاون مع الحكومة في عملية تطهير الفساد، وخلق البيئة الجاذبة للاستثمار عبر تغليظ يد الدولة وفرض القانون، فضلًا عن دمج النقابات العمالية المستقلة تحت مظلة واحدة هي «المؤتمر النقابي الوطني(NTUC)»، وسجن أي شخص يهدد الوحدة المؤسسية أو السياسية. وسادت سنغافورة، أجواء الشفافية ووضوح الرؤية والهدف، ونجحت في استغلال موقعها الجغرافي عبر البدء إنشاء نظام للموانئ.

«من العالم الثالث إلى العالم الأول».. هذا سر نجاح سنغافورة

بعد سبع سنوات من الاستقلال، وبالتحديد في 1972، كان ربع شركات التصنيع في سنغافورة شركات مملوكة للأجانب بالكامل أو ملكية مشتركة، وكان كل من الولايات المتحدة واليابان من أكبر المستثمرين في البلاد بسبب المناخ الاقتصادي والسياسي المستقر والظروف المواتية للاستثمار.

وفي هذه الفترة شهد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نموًا مضاعفًا، وحدث تدفق كبير للاستثمارات الأجنبية، وشرعت سنغافورة في الاهتمام بالبنية التحتية، فقامت بإنشاء العديد من المدارس الفنية، واستعانت بالشركات الأجنبية في تدريب عمالها غير المهرة في مجال «تكنولوجيا المعلومات» و«البتروكيماويات» و«الإلكترونيات». 

فيما ألحقت العمال غير المؤهلين للعمل في المجال الصناعي، بقطاع الخدمات، مثل السياحة والنقل. وفي 1970، كانت صادرات البلاد تتمثل بشكل أساسي في المنسوجات والملابس، لكن الوضع تطور كثيرًا في 1990، عندما بدأت سنغافورة تصدير الشرائح الإلكترونية الدقيقة، واجراء البحوث في مجال «التكنولوجيا الحيوية» و«الأدوية» و«هندسة الطيران». وأصبحت ثالث أكبر مركز لتكرير النفط في العالم، وثالث أكبر مركز لتجارة النفط بعد «نيويورك ولندن»، وأصبحت أيضًًا منتجًا رئيسًا للبتروكيماويات على مستوى العالم. وفي 2001، أصبحت الشركات الأجنبية تمثل 75% من الإنتاج الصناعي وتساهم بـ85% من إجمالي صادرات البلاد.

وفي مذكراته المعنونة «من العالم الثالث إلى العالم الأول»، كتب لي كوان يو أن حكومته استطاعت أن تستفيد من موقع سنغافورة الاستراتيجي؛ إذ تعد مدخلًا إلى «مضيق ملقا» الذي من خلاله يمر 40% من التجارة البحرية في العالم؛ مما جعلها تقع في واحدة من أكثر المناطق حيوية في العالم.

ووفق شبكة «ان بي آر» الأمريكية، فإن سنغافورة هي أهم قصص نجاح في التنمية في القرن الـ20. ونقلت عن ليندا ليم، وهي خبيرة اقتصادية في جامعة «ميتشجان» الأمريكية، قولها «لا أعتقد أن أي اقتصاد آخر، بما في ذلك باقي النمور الأسيوية، يملك سجلًا إحصائيًا جيدًا جدًا في معدلات النمو والتوظيف، بالإضافة لمؤشرات اجتماعية جيدة مثل التعليم والإسكان، مثل سنغافورة».

فيما قال جوس كورلانتيسك، الباحث في مجلس الشؤون الخارجية: إن سنغافورة «لديها تجارة حرة جيدة جدًا، وتعريفات جمركية منخفضة جدًا، وعوائق تجارة قليلة جدًا». وأضاف «هذا سر نجاحها التجاري».

مجتمع صناعي ووسيط تجاري وقبلة سياحية.. هنا سنغافورة

باتت سنغافورة اليوم مجتمعًا صناعيا كبيرًا، ومركزًا تجاريرًا. إذ تلعب التجارة الوسيطة دورًا رئيسًا في اقتصادها. وتعد البلد الآسيوي من أكثر المواني ازدحاما حول العالم. أما صناعة السياحة في سنغافورة، فحققت ازدهارًا كبيرًا، وباتت البلاد تجذب أكثر من 10 مليون زائر سنويًا. كما أصبحت صناعة السياحة الطبية وسياحة الطهي في البلاد من الصناعات الرائدة؛ بسبب تقدم التكنولوجيا الطبية بها.

بالإضافة إلى ذلك، حقق القطاع المصرفي نموًا كبيرًا في السنوات الأخيرة. ويعد النظام المصرفي في سنغافورة من النظم الأقوى في العالم، ويمتلك البلد الأسيوي رابع أكبر سوق صرف أجنبي في العالم، بعد لندن ونيويورك وطوكيو. وانتقلت العديد من الأصول التي كانت في سويسرا إلى سنغافورة؛ بسبب انخفاض الضرائب فيها. وازدهرت صناعة التكنولوجيا الحيوية، وأسست شركات الأدوية، مثل شركة «جلاكسو سميث كلاين» وشركة «فايزر» وشركة «ميرك»، مصانع لها في سنغافورة.

 

 

وحققت سنغافورة أيضًا طفرة كبيرة في علاقاتها الخارجية؛ إذ تعتبر الشريك التجاري الخامس عشر للولايات المتحدة. وأبرمت اتفاقيات تجارية قوية مع العديد من الدول في أمريكا الجنوبية وأوروبا وآسيا أيضًا. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة 364 مليار دولار أمريكي سنويًا، محتلة المرتبة الرابعة والعشرين عالميًا، رغم مساحتها الصغيرة، وامتلاكها قوى عاملة لا تتجاوز 3 مليون شخص. وفيما يتعلق بالفساد والجريمة فتعد الأقل على مستوى العالم؛ إذ تطبق القوانين بشكل صارم. وتعتبر سنغافورة من أفضل الأماكن للعيش في العالم، وتوفر البلاد أحسن بيئة تنظيمية ملائمة للأعمال التجارية.

رياح معاكسة.. الحرب التجارية قد تؤثر على القطب الآسيوي

رغم النجاحات المتواصلة منذ ستينات القرن الماضي، توقع البنك المركزي في سنغافورة أن يواجه اقتصاد البلاد رياحًا معاكسة حتى عام 2020، إذ يشهد نشاطًا ضعيفًا خلال الـ18 شهرا المقبلة، وفق ما ذُكر في 30 أكتوبر 2019. وأضاف البنك المركزي في استعراضه للاقتصاد الكلي أن النمو سيكون غير متساوٍ بين الصناعات، مع وجود «أوجه عدم يقين كبيرة» فيما يتعلق بالتجارة.

وأوضح «ينبع هذا جزئيا من التقلب العالي في الصناعات المرتبطة بالإلكترونيات، والأزمات التي تعتري التجارة الإقليمية».

وقالت الخبيرة في الاقتصاد السنغافوري، سيلينا ليج: إن التوقعات تشير إلى تباطؤ النمو حتى عام 2020، في ظل وجود مخاطر كبيرة تتمثل في توترات التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، فضلًا عن تباطؤ الطلب في السوق العالمي.

اجمالي القراءات 1707