كما هو الحال بكثير من المدن والبلدات في مختلف أنحاء العراق، ظلَّت مدينة الشطرة (جنوب العراق)، موقعاً للاحتجاجات اليومية منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين خرج مئات الآلاف من العراقيين إلى الشوارع مطالبين بتطهير النظام السياسي.
وتضخَّمت الاحتجاجات، التي تأجَّجت بفعل التصورات واسعة الانتشار بشأن استشراء الفساد وسوء الإدارة ونقص الخدمات والبطالة، وتحولت إلى ثورة على الأحزاب السياسية والدينية الحاكمة والميليشيات التابعة لها، والتي يزدريها المتظاهرون الشباب باعتبارها «عميلة لإيران».
«الشطرة».. هنا الأمر شخصي مع رجالات النظام
تروي صحيفة The Guardian البريطانية بعض روايات المحتجين ومواقفهم خلال الاحتجاجات في مدينة الشطرة، وتقول: بعدما انصرف آخر زبائن المقاهي القائمة بجانب القناة في مدينة الشطرة جنوب العراق، وتفرَّق المتظاهرون الذين احتلوا ساحة السوق المركزية إلى منازلهم، كسرت صيحة نفير غريبة صادرة عن بوقٍ نحاسي، حالة الصمت الذي يسوده الترقُّب هذه.
كانت هذه إشارة كي تعيد مجموعة من الشباب التجمُّع استعداداً لليلة من التحركات الشخصية دقيقة الهدف: حرق منازل المسؤولين المحليين والسياسيين وقادة الميليشيات.
وعلى جسرٍ يمر فوق قناة الغرَّاف المائية، ووسط اندلاع الهتافات، دخل المحتجون في نقاشاتٍ لتحديد منازل الأشخاص الذين يجب استهدافهم. وفي ظل انقطاع الإنترنت وتجوُّل شرطة مكافحة الشغب المدججة بالسلاح في الشوارع، لجأ المتظاهرون الشباب إلى صيحات البوق، وهي وسيلة قديمة وموثوقة تُستخدَم للتواصل وتنظيم الصفوف في الحملات الحربية.
ولهذه الأبواق –بعضها من الأبواق القديمة التي تُستخدَم في حفلات الزفاف والمهرجانات الدينية، وبعضها الآخر من صفارات الفوفوزيلا البلاستيكية البراقة والملونة- المتمركزة في زوايا مختلفة بسوق المدينة الشيفرات الخاصة بها. فصوتُ النفير الطويل يعني التجمع، في حين يعني الصوت المتقطع التفرُّق.
أحرق حشدٌ من المحتجين مقر إحدى الميليشيات القوية المدعومة من إيران. وفتح الحراس النار، وخلال المصادمات التي تلت ذلك، سحب المحتجون قائد الميليشيا المصاب من إحدى سيارات الإسعاف وقتلوه.
يقول محتج طويل القامة، يبلغ من العمر 22 عاماً، في الشطرة، لـ «الغارديان»: «في البداية، كان عدد قليل فقط من الناس يحتجون. لكن حين سمع السكان المحليون الرصاص ورأوا شبابهم يُقتلون، خرجوا من منازلهم. أصبح الأمر مسألة شرف وعار. وقد قررنا تحرير مدننا من هذه الأحزاب»، حسب تعبيرهم.
النظام العراقي يوغل في دماء المحتجين
منذ بدء الاحتجاجات، كان رد السلطات عنيفاً ووحشياً؛ إذ قُتِل مئات وأُصيب آلاف. وتعرَّض المحتجون لـ «الإخفاء» على يد رجال ملثمون، أو اعتُقِلوا على يد قوات الأمن. وشهدت بغداد معظم العنف، لكنَّ العنف انتشر كذلك في أرجاء جنوب البلاد.
وفي العاصمة، كانت الاعتصامات والإضرابات من جانب الطلاب ترمز إلى آمال جيلٍ شاب يتوق إلى سياسة تتجاوز مرحلة الطائفية. لكن في جنوب البلاد، حيث تُعَد الميليشيات المدعومة من إيران إما أقوى من الدولة وإما أنَّها حتى تُمثِّل الدولة نفسها، وحيث بإمكان حزب ما أو ميليشيا ما، أن تهيمن على جهازٍ أمني بكامله، اتخذ الغضب والحنق طابعاً شخصياً وانتقامياً أكبر.
ينحدر كثير من أقوى السياسيين وقادة الميليشيات من الجنوب، وهناك خمسة نواب بالبرلمان من مدينة الشطرة الصغيرة وحدها. وينحدر رئيس الوزراء، عادل عبدالمهدي، من قرية مجاورة. وشكَّل شباب منطقة الجنوب العمود الفقري للميليشيات الشيعية التي حاربت ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».
الشباب في مواجهة أمراء الحروب
يقول النشطاء إنَّ الغضب من الميليشيات والأحزاب السياسية بدأ مع هزيمة داعش، حين عاد الشباب من الجبهات ليجدوا قادتهم قد تحولوا إلى زعماء حرب يجمعون الثروات والعقود التجارية.
فيقول محمد، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان ومناهض قوي للفساد: «ينحدر كثير للغاية من السياسيين والمسؤولين من هنا، ومع ذلك هذه مدينة فقيرة جداً في محافظة فقيرة جداً. خلال الانتخابات، يمنح السياسيون الناس كثيراً من الأغطية وبعض بطاقات الهواتف ويُوظِّفون بعض الرجال في الشرطة ويمهدون الطرق… هكذا يفوزون بالأصوات. وبعد 16 عاماً من الحكم الشيعي، يقول الأطفال الشيعة الآن إنَّ الأمور كانت أفضل في ظل حكم صدام (حسين)».
ويتساءل مدير إحدى المدارس في الشطرة «مَن هو الحشد؟»، في إشارة إلى الحشد الشعبي، وهي مجموعة شبه عسكرية تأسست عام 2014 من فصائل مسلحة متفرقة ومتطوعين للقتال ضد داعش. ويجيب على نفسه: «أبناؤنا هم الحشد. هؤلاء السياسيون والقادة قفزوا على ظهورهم لتحقيق أهدافهم».