فورين أفيرز: هل عادت جمهورية الخوف في العراق مجددا؟

في الإثنين ٢٥ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في 1 أكتوبر/تشرين الأول، غمر المتظاهرون شوارع بغداد، حيث انتقدوا معدلات البطالة المرتفعة والفساد المتفشي، وفي الأسابيع التي تلت ذلك، تضخمت الاحتجاجات حيث تظاهر مئات الآلاف من العراقيين في العاصمة وفي مدن أخرى جنوب البلاد.

ومع تصاعد التوتر، استجابت القوات الحكومية والجماعات شبه العسكرية بقتل أكثر من 300 شخص وجرح ما يقرب من 15 ألفا آخرين.

وكانت بغداد في حالة من الاضطراب شبه المستمر منذ الشهر الماضي، واستعادت القوات الحكومية مؤخرا العديد من الساحات والجسور التي احتلها المتظاهرون، لكن ساحة التحرير في بغداد لا تزال مركزا للانتفاضة الشعبية، حيث تكتظ بمكبرات الصوت والخيام الطبية وحتى الدوريات الثورية المجانية.

وعلى مدى العقد الماضي، قام القادة العراقيون بنزع فتيل نوبات الاحتجاج الشعبي المتعددة من خلال إصلاحات واعدة وتعديلات في الحقائب الوزارية، لكن هذا النهج لم ينجح هذه المرة.

وعلى الرغم من تعهدات حكومة رئيس الوزراء "عادل عبدالمهدي" بإصلاح القوانين الانتخابية، والنظر في إجراء انتخابات مبكرة، ما زال المحتجون في الشوارع، ويدعون الحكومة إلى الاستقالة، وإجراء تغييرات هيكلية أوسع، بما في ذلك بعض المطالبات بوضع دستور جديد، ووضع حد للمحسوبية الطائفية والفساد المستشري.

وخلال أكثر من 6 أسابيع بقليل، نمت الانتفاضة الشعبية لتصبح أكبر تحدٍ للنظام السياسي العراقي منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

وهزت حركة الاحتجاج الشبابية، التي كانت ثورية وبلا قيادة، الطبقة الحاكمة، ما أجبر وسطاء السلطة، من الشيعة والسنة والأكراد، على تشكيل جبهة موحدة وراء رئيس الوزراء المحاصر.

وينذر اندماج النخبة السياسية المجزأة في العراق، ودعمها الموحد لقمع الاحتجاجات، بانزلاق البلاد إلى الوراء نحو الاستبداد، وظهور "جمهورية خوف" جديدة، على غرار تلك التي أقسمت الولايات المتحدة وزعماء العراق الجدد ألا تعود بعد سقوط "صدام حسين".

نغمة مختلفة

وتخطت الحكومات العراقية السابقة موجات الاحتجاج في أعوام 2009 و2011 و2015 و2016، وفي أحدث الحالات، ملأ أنصار رجل الدين الشيعي "مقتدى الصدر" المنطقة الخضراء في بغداد، لكنهم عادوا إلى ديارهم بعد أن أعادت الحكومة تشكيل مجلس الوزراء.

وهذه المرة، لم تتسبب التعهدات المعتادة للإصلاح التجميلي في تراجع المظاهرات، وبدأ كبار السياسيين الذين يدعمون "عبدالمهدي" في وصف المحتجين كمخربين.

وفي الحقيقة، تختلف الانتفاضة الحالية عن حلقات الاضطرابات السابقة بطرق مهمة. ففي حين كانت الحركات الاحتجاجية السابقة يقودها أعضاء من النخبة الفكرية والسياسية، وكانت تميل إلى البحث عن تغيير تدريجي، وجذبت مشاركين من مختلف الفئات العمرية، حيث تجاوز عمر ما يقرب من ثلث المتظاهرين في مظاهرات بغداد عام 2015 حاجز الـ50 عاما، فإن المظاهرات الحالية ليست بقيادة حزب معين أو حركة فكرية معينة، والأهم من ذلك، أنها مدعومة من قبل شريحة أصغر بكثير من المجتمع، والتي لم تشارك حتى الآن بشكل كبير في السياسة.

ولا تبحث حركة اليوم عن مجرد مجموعة من الخدمات أو الوظائف الأفضل؛ بل تعكس رغبة قوية في التغيير الجذري، وهي تسعى إلى استعادة "الكرامة" للأشخاص الذين يشعرون بأن النظام السياسي الحالي يعاملهم بلامبالاة وقسوة.

ويبدو أن غضب الشباب العراقي قد وصل أخيرا إلى نقطة الغليان، ويرى الشباب أن ثروات الدولة النفطية الهائلة تختفي في جيوب النخب السياسية والتجارية، بينما لا يتبقى الكثير للاستثمار في التعليم والبنية التحتية وخلق فرص العمل.

وقد وصلت البطالة في صفوف الشباب في العراق إلى نحو 30%، وليس لدى الجيل الأصغر سنا ذكرى حول الحياة في ظل ديكتاتورية "صدام حسين"، لكن كل ما يعرفه هو النظام السياسي الذي تم تشكيله بتوجيه من الولايات المتحدة في عام 2005، عندما قام اتفاق لتقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية الشيعية والسنية والكردية بتمكين النخب من جميع الفصائل الثلاثة التي ضمنت مكانها في السلطة عبر شبكة واسعة من المحسوبية.

وفي ظل النظام الحالي، يشعر العديد من الشباب العراقي بأن لديهم آفاقا اقتصادية محدودة، بينما تستمر النخبة الحاكمة في إثراء نفسها.

وبدأت مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول بمطالبات مألوفة لتوفير وظائف وخدمات حكومية أفضل، لكنها سرعان ما تحولت إلى رفض شامل للنظام.

ولم تكن النخب السياسية والفكرية النموذجية حاضرة في هذا الحشد، وقضى "مقتدى الصدر"، على سبيل المثال، معظم الأسابيع الستة الماضية في إيران، وكان خارج الصورة تماما.

وليس لهذه المظاهرات قيادة مركزية واضحة، ونتيجة لذلك، كافح الزعماء العراقيون للوصول إلى أفراد يمكنهم التحدث نيابة عن المتظاهرين في تلك الانتفاضة.

ومع عدم وجود انتماء سياسي واضح، تمثل الانتفاضة تنديدا واسع النطاق بالنظام السياسي ما بعد "صدام".

وقد شجعت الحملة القمعية الحكومية الشديدة المحتجين، الذين يدعون الآن إلى مساءلة النخب الحاكمة عن أعمال العنف التي وقعت في الأسابيع الأخيرة، وكذلك عن أعوام الفساد التي سبقتها.

تنافسات الوضع الراهن

وفي مواجهة التهديد الوجودي، تغلق الأحزاب السياسية الكبرى في العراق صفوفها وتتناسى خلافاتها، وخلال الأعوام القليلة الماضية، احتفى العديد من المراقبين للسياسة العراقية بابتعاد البلاد عن الطائفية العلنية.

وقد تميزت انتخابات عام 2005، وهي أول انتخابات بعد الإطاحة بـ"صدام"، بتكتل شيعي واحد، وتكتل كردي واحد، وكتلة علمانية أصغر مع بعض الزعماء السنة.

وعلى النقيض من ذلك، شملت انتخابات العام الماضي العديد من الأحزاب المتنافسة المختلفة داخل كل مجموعة دينية أو عرقية.

وتحدث المنافسة الأكثر أهمية في السياسة العراقية خلال الأعوام القليلة الماضية داخل البيت الشيعي نفسه، وتحديدا بين "الصدر" ومجموعة من القادة المتحالفين مع إيران من بينهم رئيس الوزراء السابق "نوري المالكي" و"هادي العامري"، قائد قوات الحشد الشعبي المسلحة شبه الحكومية، التي لعبت دورا هاما في هزيمة تنظيم الدولة في شمال العراق.

وشهدت انتخابات عام 2018 ظهور تنافس بين الكتلة البرلمانية التابعة التيار الصدري، والكتلة البرلمانية التابعة لـ"العامري"، وكلاهما تزعمها قادة إسلاميون شيعة، مع حلفاء من السنة والأكراد على كلا الجبهتين.

ومنذ اندلاع الاحتجاجات، أيد "العامري" حكومة "عبدالمهدي"، وعقد اجتماعات مع الجماعات الشيعية والسنية والكردية سعيا لتوسيع كتلته في البرلمان إلى أغلبية واضحة.

وتضمنت هذه اللقاءات مناقشات مع مسؤول كبير من الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي أخبرنا أنه قد تم إرساله إلى بغداد في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني في "مهمة مستحيلة" لضمان بقاء النظام السياسي الحالي، وللقيام بذلك، انضم إلى خصومه السابقين الذين حرموا حزبه قبل بضعة أعوام من إجراء استفتاء على الاستقلال.

وتميزت الاحتجاجات أيضا بصمت ملحوظ لـ"مقتدى الصدر"، وهو من الذين اعتادوا التحريض على الاحتجاج، بل إن التظاهرات دفعته فيما يبدو للاقتراب من منافسيه السياسيين.

وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، انتقد "الصدر" في كثير من الأحيان النفوذ الإيراني الضخم في العراق، الذي تُظهر وثائق المخابرات الإيرانية التي تم تسريبها أنه أكبر مما كان يُعتقد في السابق.

وفي نهاية هذا الصيف، بدأ "الصدر" في انتقاد حكومة "عبدالمهدي"، ولكن عندما اندلعت الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأول، ظهر "الصدر" مرة واحدة فقط في مظاهرة في النجف، وقال لأتباعه إنهم أحرار في الاحتجاج، لكن ليس عليهم استدعاء اسمه.

وبعد أن هتف أنصاره، "إيران بره! العراق حرة" كما فعلوا لأعوام، حثهم "الصدر" على عدم التنديد "بالجهات الفاعلة الخارجية"، بمعنى عدم التحدث ضد إيران.

وقد لا يكون "الصدر" و"العامري" حلفاء مقربين، لكن الاحتجاجات، إلى جانب الضغوط المحتملة من قبل طهران، قد خففت من حدة التنافس بينهما، وبذلك لم يعد التنافس الرئيسي في السياسة العراقية بين الفصائل الشيعية، ولكن بين الشباب المتمرد والدولة المذعورة.

استخدام العنف

ومع عدم قدرتها على نزع فتيل الثورة المتنامية من خلال وسائل أخرى، تحولت الحكومة وحلفاؤها بشكل متزايد إلى العنف، وأطلقت القوات الحكومية والجماعات المسلحة شبه الحكومية الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع مباشرة على المتظاهرين، وأوقفت وزارة الاتصالات الإنترنت لمنع الانتشار الواسع لمقاطع الفيديو التي تبين وحشية الدولة، وقد استشهدت المحاكم بقوانين مكافحة الإرهاب لتبرير قتل المتظاهرين.

وتحت أعين العالم، حاولت الحكومة تجنب ما حدث في "ميدان تيانانمن" (الصيني) عبر القيام بحملة قمع تدريجية انتقلت من مدينة إلى مدينة يوما بعد يوم، وشاركت فيها مجموعات مختلفة من القوات والميليشيات لإخفاء سلسلة القيادة، وتسمح هذه الاستراتيجية للسلطات بالتهرب من المسؤولية المباشرة؛ حيث يبدو أن العنف يأتي من عدة جهات.

لكن هذا العنف لم ينجح سوى في تغذية الغضب لدى المتظاهرين، وبعد صدمة البداية من أن الدولة كانت على استعداد لقتلهم وتشويههم، استجاب المتظاهرون بتصعيد مطالبهم نحو المطالبة بنظام سياسي جديد تماما.

وقد حصلوا على دفعة من "علي السيستاني"، وهو رجل دين شيعي بارز حث المتظاهرين على البقاء في الشوارع ومواصلة التعبير عن مطالبهم، لكن الطريق أمامهم لن يكون سهلا.

وفي النهاية، بدلا من استرضاء المتظاهرين، فقد أعاد زعماء العراق في مرحلة ما بعد "صدام" إنتاج أدوات القمع الوحشية للحفاظ على سيطرتهم على السلطة.

اجمالي القراءات 475