لأول مرة في مصر.. حملة القمع غير المسبوقة طالت أجانب وصحفيين وحتى الأطفال!

في الجمعة ٠١ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يوماً بعد يوم يتكشف عمق ومدى حملة القمع غير المسبوقة التي شهدتها مصر في سبتمبر/أيلول الماضي، ولم يَسلم من تلك الحملة أي شخص ساقه حظُّه العاثر إلى الوجود في محيط منطقة وسط القاهرة سواء كان أجنبياً أو صحفياً أو حتى طفلاً، فما القصة؟

صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً حول بعض الحالات في تلك الفترة، بعنوان: «مصر توسّع نطاق حملتها القمعية لاستهداف الأجانب والصحفيين.. وحتى الأطفال!»، أجرت فيه حوارات مع بعض الضحايا.

طالب يدرس اللغة العربية

طلب ضابط الأمن الذي يرتدي ملابس مدنية، الاطلاع على هاتف آرون بوم المحمول، وحين تردد الطالب الأمريكي البالغ من العمر 22 عاماً، حسبما يقول، كشف الضابط المصري عن مسدس أسفل قميصه، ففتح آرون هاتفه من طراز iPhone 6 وسلَّمه للضابط.

وحسبما يتذكَّر آرون، وجد الضابط محتويات إخبارية بشأن الاحتجاجات المصرية الأخيرة كان قد أرسلها إلى عائلته وأصدقائه، فأخذته الشرطة في إحدى سياراتها، وعُصِبت عيناه 15 ساعة تالية، واحتُجِز ثلاث ليالٍ. وقال: «اتهموني بأنني جاسوس».

وتعرَّض الطالب آرون للبطش في خِضم حملة القمع، التي وصفها نشطاءٌ حقوقيون بأنها الأكبر والأوسع نطاقاً منذ تولي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي السلطة قبل ست سنوات، وتستخدم الحكومة أدواتٍ مألوفة، مثل الاعتقالات الجماعية والتعذيب، فضلاً عن الأساليب الجديدة التي تركز على المراقبة القائمة على التكنولوجيا عالية التقنية، وتقييد وسائل التواصل الاجتماعي، لإسكات المعارضة وقمع حرية التعبير، حسبما يقول ضحايا ونشطاء وخبراء أمنيون.

وألقت قوات الأمن المصرية القبض على أكثر من 4300 شخص في جميع أنحاء البلاد منذ اندلاع احتجاجات نادرة رغم ضآلة حجمها، في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، وفقاً للمفوضية المصرية للحقوق والحريات، وهي مؤسسة مستقلة. وفي حين أن الحكومة قد ركَّزت بالسابق على استهداف المعارضين السياسيين، طالت جهودها الأخيرة أي شخص تعتبره تهديداً، ومن بين هؤلاء أكثر من 100 شخص بين أجانب وصحفيين وحتى أطفال! 

حملة قمع غير مسبوقة

وقال محمد لطفي، المدير التنفيذي للمفوضية المصرية للحقوق والحريات: «إذا عقدنا مقارنةً بالماضي، يبدو هذا أمراً غير مسبوق، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث طبيعته أيضاً».

تظاهرات طالبت برحيا السيسي سبتمبر/أيلول الماضي / أرشيفية

وبحسب تقرير صدر مؤخراً عن شركة Check Point Software Technologies، شنَّت الحكومة هجماتٍ سيبرانية متطوِّرة على هواتف النشطاء والصحفيين، بما يمكِّن المسؤولين من قراءة رسائل البريد الإلكتروني والاطلاع على الملفّات، وتتبُّع المواقع، وتحديد هوية الأشخاص الذين يجري التواصل معهم، وفي بعض الحالات، القبض عليهم. وقد تبيَّن لشركة الأمن السيبراني، التي تتخذ من سان فرانسيسكو مقراً لها، أن الهجمات كانت مرتبطةً بوزارة الاتصالات وأجهزة المخابرات المصرية.

أرني هاتفك المحمول!

وبالتزامن، في وسط القاهرة وبمدينة الإسكندرية الواقعة شمالي البلاد، أقام رجال الأمن والمخبرون الذين يرتدون ملابس مدنية نقاط تفتيش غير رسمية، استوقفوا فيها الناس عشوائياً، وطلبوا الاطلاع على هواتفهم المحمولة وفحصوا حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

وقال حسين بيومي، الباحث المصري بمنظمة العفو الدولية: «إن نقاط التفتيش تعدّ شكلاً وحشياً للغاية من أشكال مراقبة سلوك الناس، فإن كل شخص يتم استيقافه يصير متهماً بأنه عدوٌّ للدولة أو إرهابي حتى تثبت براءته». 

ولم يرِد أيُّ انتقاد علني من جانب الولايات المتحدة، التي تقدِّم 1.3 مليار دولار سنوياً كمساعدات عسكرية لمصر -أو أي حكومة أجنبية أخرى- لتلك الانتهاكات، بخلاف البيان الذي أصدرته الخارجية الأمريكية لدعم حقوق المصريين في التعبير عن آرائهم السياسية بِحُرية. وقد ظل الرئيس ترامب مؤيداً قوياً للرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الزعيم الأكثر استبداداً في تاريخ مصر الحديث.

ولم تستجب الحكومة المصرية لطلبات التعليق، وفي بيان صدر بأواخر سبتمبر/أيلول، قال النائب العام المصري إنه استجوب ما لا يزيد على 1000 شخص، وقال إن كثيراً منهم «تعرَّضوا للخداع» من خلال منشورات مواقع التواصل الاجتماعي الكاذبة والقوات التي تتآمر ضد مصر. ونفت الحكومة في السابق مزاعم القتل غير القانوني والاختفاء القسري والتعذيب وغيرها من الانتهاكات.

«مع من تتواصل في وكالة المخابرات المركزية؟»

كان آرون وصديق بريطاني -وكلاهما يدرس بجامعة إدنبره، وقد التحقا ببرنامج للدراسة بالخارج لتعلُّم اللغة العربية- يسيران بوسط القاهرة في 27 سبتمبر/أيلول، عندما استوقفهما ضابط شرطة مرتدياً ملابس مدنية. وسرعان ما تركوا الصديق البريطاني وشأنه ليغادر. أما آرون بوم، الذي ظل معصوب العينين 15 ساعة، فقد خضع للاستجواب في منشأة أمنية لساعات، وجرى معظم التحقيق باللغة الإنجليزية.

وحسبما يقول آرون في مكالمة هاتفية أجرتها معه صحيفة Washington Post الأمريكية، سأله أحدهم قائلاً: «مع من تتواصل في وكالة المخابرات المركزية؟».

واتهمه هؤلاء بمشاركة معلومات «استخباراتية» مع دولة أجنبية، وهددوا بالقبض على أصدقائه المصريين، وحذَّروه من أنه لن يرى أسرته مرة أخرى ما لم يعترف بأنه جاسوس.

ويتذكّر آرون ما جرى قائلاً: «أخبَروني بأنهم لن يسمحوا لي بالمغادرة، وقالوا: هل تعرف ماذا نفعل بالمصريين هنا؟ هل تريد أن يحدث هذا لك؟».

بعد إزالة غطاء عينيه، قال آرون إنه رأى عصياً ملطخة بالدماء خارج زنزانته، وسمع صراخاً آتياً من أجزاء أخرى من السجن. في وقت لاحق، احتُجِز رجل أردني بالزنزانة، وكشف عن كدمات على جسده، وقال إنه تعرَّض للضرب والصعق بالكهرباء.

ويستدعي آرون ما حدث قائلاً: «إنك لا تعرف أبداً ما إذا كانوا سيعذبونك أم لا، لقد كانت هذه حالة مستمرة من الضغط النفسي الشديد والتوتر»، ولم يتعرض آرون للتعذيب، لكنه يقول إن الحراس كانوا يمارسون معه «الألاعيب النفسية».

وفي 29 سبتمبر/أيلول، سُمح لآرون بالتحدث عبر الهاتف مع أحد ضباط السفارة الأمريكية لأول مرة، ثم نُقل إلى سجنٍ آخر مع نحو 30 شاباً من اليمن والسودان ودول أخرى، كانوا قد اعتُقلوا في منطقة وسط القاهرة وتعرضوا للضرب على أيدي الشرطة، على حد قوله.

في اليوم التالي، نُقل آرون بوم إلى المطار، وتسلَّم هاتفه، ووُضع على متن طائرة إلى لندن، عبر دبي، حيث كان والداه ينتظران هناك، وقال: «إنني محظوظ للغاية».

وقال تريفور أولسون، المتحدث باسم السفارة الأمريكية في القاهرة، عندما سُئل عن آرون، في بيان أُرسل عبر البريد الإلكتروني، إن السفارة كانت على علم بقضيته وإنها «قدمت خدمات قنصلية مناسبة».

«نشر أخبار كاذبة»

كقائد عسكري كبير بمصر، دبّر السيسي الانقلاب الذي جرى في عام 2013، وقد أطاح بمحمد مرسي الذي يُعد أول رئيس منتخب ديمقراطياً في البلاد. وبعد مرور عام، تولّى السيسي زمام السلطة وبدأ بسجن عشرات الآلاف من المعارضين والنقاد. وتزايدت عمليات القتل خارج نطاق القانون وعمليات التعذيب، وحجبت السلطات مئات المواقع التي تعتبر مُنتقِدة للنظام.

وجاءت أحدث موجة من القمع بعد مقاطع الفيديو التي نشرها على الإنترنت، خلال سبتمبر/أيلول، مُبلِّغ يدعى محمد علي، من منفاه الاختياري في إسبانيا، وهو متعاقدٌ حكوميٌّ سابق وممثل بدوام جزئي، وقد اتهم السيسي وجنرالاته بسرقة أموال دافعي الضرائب لبناء القصور والفيلات.

ونفى السيسي علانيةً مزاعم الفساد، ولكن الفيديوهات التي بثها محمد علي لعبت على وتر حساس بالنسبة لملايين المصريين المحبَطين من ارتفاع الأسعار وخفض الإعانات والمشاكل الاقتصادية الأخرى، في الوقت الذي أنفق فيه السيسي مليارات الدولارات على مشاريع البنية التحتية الكبيرة.

وحثَّ محمد علي، المصريين على تنظيم احتجاجات في 20 سبتمبر/أيلول، للمطالبة بعزل السيسي، ونظّم مئاتٌ مظاهرات نادرة رغم صِغر حجمها، في عدة مدن. وعندما دعا محمد على إلى احتجاجات أكبر في 27 سبتمبر/أيلول 2019، انتشرت قوات الأمن لقمعِها.

وسائل التواصل الاجتماعي 

وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساعدت في إحياء ثورة الربيع العربي عام 2011 ضد الرئيس حسني مبارك قبل فترة طويلة، هدفاً لحملة القمع الرسمية. إذ ألقت السلطات القبض على مئات الأشخاص، ومن ضمنهم بعض السياح، لانتقادهم الحكومة على موقع فيسبوك أو تويتر، ووجَّهت إليهم اتهامات بنشر «أخبار كاذبة» وتشويه صورة البلاد.

وقال لطفي: «هناك اعتقاد عميق داخل الأجهزة الأمنية بأن المعلومات التي تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر خطورة على النظام، وأكثر تهديداً لأمنه واستقراره من الإرهاب».

ومنذ 20 سبتمبر/أيلول، اعتقلت قوات الأمن ما لا يقل عن 11 صحفياً و25 سياسياً وأكاديمياً على الأقل، ووجَّهت إلى عديد منهم تهماً تتعلق بالإرهاب و «نشر أخبار كاذبة»، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان.

ومن بين المعتقلين، هناك ما لا يقل عن 111 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 11 و 17 عاماً، حسبما تشير منظمة بلادي للحقوق والحريات، وهي مجموعة محلية لحقوق الإنسان معنيَّة بالأطفال. قالت منظمة العفو الدولية إن ثلاثة أطفال كانوا يشترون الأدوات المكتبية والزي المدرسي في وسط القاهرة عندما اعتُقلوا. وقال نشطاء إن ما يقرب من ثلثي الأطفال يواجهون تهماً بالانضمام إلى جماعة إرهابية أو «إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي»، رغم أن كثيرين منهم لا يملكون هواتف محمولة.

الإرهابي هو من يعارض الرئيس

وقال بيومي الباحث لدى منظمة العفو الدولية: «إنهم يعيدون تعريف وصف الإرهابي، ليشمل أي شخص يعارض الدولة أو الرئيس السيسي نفسه».

وأُلقي القبض على ما لا يقل عن سبعة أجانب، وأُجبروا على «الاعتراف» في مقاطع بثّتها قناة تلفزيونية مؤيدة للسيسي، بأنهم كانوا جزءاً من مؤامرة أجنبية لتقويض سلطة الرئيس.

وأعادت السلطات المصرية اعتقال السجناء السابقين، إذ قالت أسرة المدون والناشط البارز علاء عبدالفتاح إنه تعرَّض للاختطاف والتعذيب على أيدي ضباط الأمن بالسجن، رغم أنه لم يكن متورطاً في الاحتجاجات وكان بالفعل تحت مراقبة الشرطة.

وقالت منى سيف، شقيقة علاء عبدالفتاح، في منشور لها على موقع فيسبوك: «لقد عُصبَت عيناه في أثناء إحضاره إلى السجن، وأُجبر على خلع جميع ملابسه باستثناء ملابسه الداخلية، وتعرَّض للضرب والاعتداء اللفظي في أثناء سيره بممر داخل السجن».

واعتقلت قوات الأمن إسراء عبدالفتاح، وهي كاتبة وشخصية بارزة في ثورة 2011. وقال محاميها إنها تعرضت للضرب والصفع على وجهها، وتم خنقها باستخدام قميصها، لإجبارها على فتح حساباتها على الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي.

اجمالي القراءات 583