ناصر خسرو.. ماذا شاهد الرحّالة الفارسي في مصر والخليج قبل ألف عام؟

في الأحد ٢٧ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يحرسه كل ليلة ألف رجل؛ خَمسمئة فَارس وَخمسمِئة راجل، وهم ينفخون البوق ويدقّون الطبل والكُوَس من وَقت صَلَاة المغرب، ويدورون حول القصر حَتَّى الصَّباح، ويبدو هَذَا القصر من خَارج المَدِينَة كأنه جبل لكثرة مَا فِيهِ من الأبنية المرتفعة وهو لَا يُرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره، وَقيل إِن بِهِ اثنَي عشر ألف خَادِم مأجور وَمن يعرف عدد من فِيهِ من النِّسَاء والجواري، إِلَّا أَنه يُقَال إِن بِه ثلاثين ألف آدميّ".

(ناصر خسرو واصفا قصر الفاطميين في القاهرة)

  

في مدينة بلخ شمال أفغانستان اليوم وفي عام 394هـ/1003م وُلد واحد من أشهر رحالة المسلمين قبل ألف عام، رجل كانت حياته تسير على نمط من البطء والملل والسآمة يقضيها في دواوين السلاجقة في دولتهم الوليد بمدينة مرو في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، حتى إذا بلغ أربعين سنة ونيفا قرر فجأة أن يغير هذا النمط، ويعيد استكشاف العالم ونفسه في ظل تقلبات عصره ومفاجآته وأسراره.

ذلك هو الرحالة الفارسي الشهير ناصر خسرو الذي قرر ترك ما كان يتمتع به من أمان نفسي ووظيفي في ظل السلاجقة الكبار سنة 437هـ/1054م ليبدأ عهدا جديدا من حياته سيستمر لسبع سنوات كاملة، فكيف مرت هذه السنوات السبع في حياة خسرو؟ وما أهم المشاهدات التي دوّنها في رحلته الجديدة خاصة في مصر والخليج العربي؟   

الرحالة الفارسي الشهير "ناصر خسرو" (مواقع التواصل)
من إيران إلى مصر!

يُروى أن السبب الأبرز الذي قلب حياة ناصر خسرو رأسا على عقب أنه كان منغمسا في حياة الملاهي والملذات حتى تراءى له ذات ليلة رجل نهاه عن المعاصي وأشار عليه بزيارة البيت الحرام للحج والتوبة، فقرر الاستماع إلى ذلك الصوت وانطلق من مرو صوب نيسابور ومنها إلى الري (طهران اليوم) وتبريز، وقرر أن يدوّن منذ تلك اللحظة أبرز وأغرب المشاهدات، فكتب عن استخراج النشادر من جبل دنباوند قرب الري، ثم اتخذ طريق قزوين وجنوب الأناضول ومنها إلى بلاد الشام، فزار كلًّا من ديار بكر وآمد وحران وحلب ومعرة النعمان التي زار فيها أبا العلاء المعرّي الشاعر الحكيم الضرير الذي يُعَدُّ من أشهر حكماء عصره[1].

وقد اندهش ناصر خسرو من شخصية أبي العلاء المعري الذي رآه رجلا ثريا عاقلا، يرجع إليه الناس في حكم مدينتهم معرة النعمان، ويُغدق عليهم بأمواله وكرمه، ثم هو لا يتمتع من هذا النعيم إلا بنصف رغيف من رديء الشعير يوميا، ويجتمع به أعظم الأدباء والشعراء في عصره القادمين إليه من الأقطار كافة لمعرفة غزير أدبه وحكمته، وقد أُعجب خسرو ببلاغته وفصاحته وفلسفته الغريبة في آنٍ واحد[2]!

 

  

انطلق خسرو صوب الساحل الشامي من بيروت فوصل عكا ومنها قام بعدة زيارات إلى الأماكن المقدسة في فلسطين على رأسها مدينة القدس ومنها إلى طبرية، ويعتبر وصفه لمدينة القدس من أهم ما كُتب عن المدينة وطبوغرافيتها وأوضاعها الدينية والاجتماعية قبل ألف عام، الأمر الذي مكّن المؤرخ والمستشرق الروسي مدينكوف على أساسه أن يُقدِّم وصفا واقعيا للمسجد المعروف بمسجد عمر بالقرب من كنيسة القيامة بالمدينة العتيقة[3].

  

ومن فلسطين انطلق خسرو إلى وجهته التي أخذت بلبّه وظل بها عدة أعوام لا يبرحها، انطلق صوب مصر التي كان يحكمها الفاطميون حينذاك وعلى رأسهم الخليفة المستنصر بالله، أطولهم حكما، وأكثرهم ثراء وقوة، فدخل جزيرة تنيس التي كانت تقع في بحيرة المنزلة اليوم بين بورسعيد ودمياط، وكانت عاصمة النسيج في مصر والشرق الأوسط قبل أن تضمحل مكانتها بسبب هجمات الصليبيين وزيادة نسبة ملوحة المياه بسبب تيارات البحر المتوسط، وكانت بمنزلة العاصمة الاقتصادية لمصر، تُحتكر فيها صناعة النسيج والعطور وغيرها لصالح الخليفة الفاطمي رأسا.

القاهرة التي فتنت خسرو

دخل الرحّالة ناصر خسرو مدينة القاهرة في شهر صفر سنة 439هـ/أغسطس/آب 1047م، وقد أخذت بلبّه ونفسه، فقد رأى أنها "المدينة التي قلّ نظيرها" بسبب كثرة سكانها وعقاراتها وغناها ورفاهيتها واتساعها مقارنة بغيرها من مدن إيران والشام التي رآها في طريقه، يقول: "قدرتُ أن في القاهرة ما لا يقل عن عشرين ألف دكان كلها مِلكٌ للسلطان وكثير منها يُؤجر بعشرة دنانير مغربية في الشهر وليس بينها ما تقل أجرته عن دينارين، والأربطة والحمّامات العامة والأبنية الأخرى كثيرة لا يحدّها الحصر"[4].

ويصف لنا خسرو أن جزءا كبيرا من المداخيل الاقتصادية للخلفاء الفاطميين كانت تقوم على احتكار البنية التحتية والسكانية من البيوت والعقارات في القاهرة التي بنوها بأموالهم، ثم قرروا تأجيرها للسكنى والتجارة والمشاريع الحرفية الصغيرة، وبسبب قوة المدينة، وموقعها العالمي وأهميتها الاقتصادية حينذاك، فقد كانت قيمة الإيجارات مرتفعة للغاية كما ذكر سابقا تصل بعضها إلى 10 دنانير شهريا ما يساوي 42 جراما خالصا من الذهب اليوم، وأقلها دينارين ما يساوي 9 جرامات ذهب تقريبا قيمة الأُجرة الشهرية فقط!

   

  

ولنا أن نتصور مقدار الغنى والثراء الذي كان يتمتع به الفاطميون وسكان القاهرة ومصر بسبب ثرواتها الاقتصادية الغنية، واتساع رقعتها، وكثرة سكانها، ولهذا السبب أُعجب ناصر خسرو بقصور الفاطميين في القاهرة، خاصة القصر الكبير والقصر الصغير، فهو يقول عن اتساع القصر الكبير: "وَقد مَسحه المهندسون فوجدوه مُسَاوِيا لمدينة ميَّافارقين (جنوب الأناضول)، وكل مَا حوله فضاء، ويحرسه كل ليلة ألف رجل؛ خَمسمئة فَارس وَخمسمِئة راجل، وهم ينفخون البوق ويدقّون الطبل والكُوَس من وَقت صَلَاة المغرب، ويدورون حول القصر حَتَّى الصَّباح، ويبدو هَذَا القصر من خَارج المَدِينَة كأنه جبل لكثرة مَا فِيهِ من الأبنية المرتفعة، وهو لَا يُرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره، وَقيل إِن بِهِ اثنَي عشر ألف خَادِم مأجور وَمن يعرف عدد من فِيهِ من النِّسَاء والجواري، إِلَّا أَنه يُقَال إِن بِه ثلاثين ألف آدميّ، وهذا القصر يتكون من اثنَي عشر جوسقا، وله عشرة أبواب فوق الأرض لكل منها اسم"[5]

الحج والعودة إلى الوطن

في القاهرة اعتنق ناصر خسرو المذهب الإسماعيلي، مذهب الفاطميين، وأغلب الظن أنه التقى بالخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وبدعاته الذين أقنعوه بهذا المذهب، وقد صار منذ تلك اللحظة واحدا من كبار دعاتهم في موطنه إيران حين عودته، وفي مدة بقائه في مصر التي امتدت لبضع سنوات حج ناصر خسرو 3 مرات، يركب من القاهرة إلى أسوان عبر النيل، ومن أسوان ينتقل في الصحراء الشرقية عبر الجمال إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، ومنها يركب المركب إلى الجهة المقابلة في الساحل الحجازي حين يحط الرحال به في مدينة جدّة ومنها ينطلق إلى مكة المكرمة، وفي حجته الرابعة التي قرر فيها العودة إلى بلاده قدّم لنا خسرو وصفا مفصلا لكل الأماكن والبقاع التي مر بها في مصر وفي الحجاز والجزيرة العربية ومكة المشرفة وأوضاعها حينذاك[6]، إذ كانت موضع نزاع بين العباسيين والفاطميين.

شاهد ناصر خسرو فتح الكعبة المشرفة في أيام الاثنين والخميس والجمعة من أشهر شعبان ورمضان وشوال من كل عام، واحتفاظ أكبر شيوخ بني شيبة القرشيين بهذا الشرف، شرف مفتاح الكعبة الذي أعطاه لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة مباشرة، كما وصف انتظار وفود الحجيج لهذه اللحظة المباركة التي يضجون فيها بالدعاء، "فيعرف كل من يسمع صوتهم بمكة أن باب الكعبة قد فُتح، فيرفع الناس جميعا أصواتهم عالية، ويدعون ربهم، وتحدثُ جلجلة عظيمة بالبلد"، وقد كان يُسمح لجموع الحجيج بالصلاة في داخل الكعبة حينذاك[7].    

كان أفضل ما قدّمه لنا الرحالة ناصر خسرو رحلته الشهيرة "سفر نامه" الذي يحوي مشاهدات نادرة وسجلا حافلا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (مواقع التواصل)
   

وبعدما أدى خسرو حجته الرابعة في العام 442هـ/1051م قرر العودة إلى بلاده، فاتجه صوب الطائف التي شاهد جبالها الضخمة، وسمع فيها قصة ليلى والمجنون، ثم سار محاذاة جبل طويق، فمر بواحة فلج إلى اليمامة في منطقة الأحساء، وقد اضطرته الظروف للبقاء مدة أربعة أشهر في هذه المنطقة التي كان يستولي عليها القرامطة الخارجون على سلطة الدولة العباسية، والناهبون للقوافل، وقد بلغ خسرو مدينة البصرة بعد ذلك وهو في أسوأ حالة، ومنها عاد إلى بلده بمعونة من ثري كريم من أثرياء منطقة الأهواز، وقد عاد في عام 444هـ/سبتمبر/أيلول 1052م إلى مدينة بلخ عازما على الدعوة بكل حماسة إلى مذهب الإسماعيلية الفاطميين.

غير أن السلاجقة الذين كانوا يحكمون هذه البقعة أدركوا خطورة ما يدعو إليه ناصر خسرو وبدأوا في مواجهته بحسم الأمر الذي اضطره إلى الهرب صوب بلاد ما وراء النهر، ليقضي فيها ما تبقّى من عُمره حيث وافته المنية عام 481هـ/1088م، وكان أفضل ما قدّمه لنا رحلته الشهيرة "سفر نامه"، ذلك الكتاب القيّم الذي يحوي مشاهدات نادرة وسجلا حافلا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمصر والخليج العربي وغيرها قبل ألف عام من الآن!

اجمالي القراءات 926