مافيا القرن 21.. كيف أصبحت لندن عاصمة غسيل الأموال في العالم؟

في الإثنين ٠٩ - سبتمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يشكل العالم الغامض للجريمة المنظمة مصدر إلهام لصناعة الترفيه؛ فقد تناولت العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية قصص الجريمة والتشكيلات العصابية المتشعبة، والتي طالما أضاف وجودها الإثارة والتشويق على العمل الفني، وأبهرنا ظهورها على الشاشات الكبيرة والصغيرة، بما تملكه من نفوذ، وتنظيم، وقيم خاصة بها تُدير بها أعمالها الإجرامية.

لكن أبطال أدوار الشر هؤلاء من المحتالين، ورجال العصابات، وتنظيمات المافيا، لا يقتصر نشاطهم داخل حدود شاشات السينما والتلفاز، بل إن وجودهم في الواقع أكبر وأعمق بكثير مما قد نتصور. وقد يخطر في بالك الآن مشاهد من فيلم «العراب»، وتتخيل تنظيمات المافيا الإيطالية الأمريكية، لكن العاصمة البريطانية لندن هي الوجهة المفضل لممارسة الجريمة المنظمة، التي يعد هدفها الرئيس كسب المال بأية طريقة ممكنة.

فكيف تجري الأمور داخل عالم العصابات الإجرامية في بريطانيا؟ وهل تغيرت تقاليد العصابات القديمة، وأصبح هناك لاعبون كبار؟ وما هي الوسائل التي يستخدمونها في إجراء عملياتهم؟ وما هو حجم الأموال التي يُديرونها، وإلى أين تذهب؟ وما هو موقف الحكومات وأجهزة الأمن من نشاطاتهم؟ هذا ما نتناوله في السطور التالية.

لندن.. القلب النابض للجريمة المنظمة في أوروبا

في الماضي كانت لندن موطنًا للعديد من الشركات العائلية المتجاورة، والتي يتسم قادتها بالكاريزما الساحرة، والسمعة المخيفة، والقادرين على التشعب والوصول إلى أسواق إجرامية مختلفة. وكان للعائلات الإجرامية الشهيرة مثل آل كرايس، وآل ريتشاردسون، صلات عميقة بأجزاء معينة في العاصمة البريطانية. وعلى مر السنين بدأت أنشطة هذه الشركات العائلية تتوسع على نحو متزايد، في صورة تبدو محلية الطبع من الخارج، عالمية تصل إلى مختلف أنحاء العالم من الداخل.

بين الثلاثينات والتسعينات من القرن الماضي كانت الشركات العائلية الإجرامية هي الأمثلة المرئية الوحيدة للجريمة المنظمة في المدينة، ولا تزال مستمرة حتى اليوم. وعلى مدار العقود الماضية عملت تلك المؤسسات الإجرامية على زيادة قوتها وبسط نفوذها في الأسواق الإجرامية في أجزاء معينة من المدينة. 

ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك عائلة آدمز المعروفة أيضًا باسم «نقابة كليركينويل للجريمة»، والتي تتوسع أنشطتها الإجرامية بين تجارة المخدرات، وغسيل الأموال، وجرائم القتل. وعُرف عنهم أيضًا أنهم يستثمرون في تجارة الجنس، فضلًا عن العقارات الخارجية. وتقدر بعض التقارير الصحافية ثروة العائلة بـ200 مليون جنية إسترليني، وتصفها بأنها أكثر العصابات الإجرامية خطورة وشهرة في بريطانيا. 

وقد أطلق لقب «العرَّاب البريطاني» على تيري آدمز، أحد قادة العائلة، التي يقال إنها لا تزال تعمل في إزلنغتون في شمال لندن. وبعد سجنه لمدة سبع سنوات بعد اعترافه بتورطه في غسيل أموال واصلت عائلة آدمز في إرسال  تهديدات بالعنف بينما كان وراء القضبان في محاولة منها للحفاظ على سلطتها وسمعتها.

تملك المدينة بالفعل تاريخًا طويلًا من الجريمة المنظمة، يستمر في الازدهار إلى الآن. وخلال العقد الماضي شهدت أنشطة الجريمة المنظمة في لندن – من تهريب المخدرات إلى الاحتيال المالي – نموًا مطردًا. وأصبحت لندن العاصمة العالمية لغسيل الأموال، والقلب النابض للجريمة المنظمة الأوروبية، وباتت اللغة الإنجليزية لغة عالم الجريمة الدولية. 

فضلًا عن ذلك،يوجد ما يقرب من 5 آلاف عصابة إجرامية في المملكة المتحدة، ويتوفر في لندن وحدها مليون فرصة لتجميع وإدارة الثروات، سواء بالطرق القانونية أو غير القانونية. وقد قدرت الوكالة الوطنية للجريمة أنه في كل عام، يجري غسيل 90 مليار جنيه إسترليني من الأموال الإجرامية عبر المملكة المتحدة، أي ما يعادل 4٪ من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.

وغدت الجريمة جزءً أساسيًا من الاقتصاد البريطاني، إذ توفر مئات الآلاف من الوظائف، ليس فقط للمجرمين المحترفين، بل أيضًا للوظائف التي تعمل على مكافحتها مثل ضباط الشرطة والسجون، والمحامين، ومسؤولي المحاكم، وشركات الأمن وغيرها من الأعمال التي توظف الآن أكثر من نصف مليون شخص.

فيلم العراب فيه الكثير من الحقيقة.. ما لا تعرفه عن عصابات المافيا الإيطالية

مجرمو القرن 21.. متعددو الجنسيات وبارعون في أمور التقنية

مع دخول عصر الثورة التكنولوجية تطورت العمليات الإجرامية، وصار هناك لاعبون كبار، متعددو الجنسيات، وبارعون بأمور التقنية. وتحولت طريقة عمل عالم الجريمة في ربع القرن الماضي، وبات المجرمون يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت في إجراء عملياتهم.

يقول ستيف رودهاوس، رئيس عمليات الوكالة الوطنية للجريمة، في حوار مع صحيفة «الجارديان» في مقر الوكالة بفوكسهول جنوب لندن: «إن الطبيعة الدولية للجريمة والتطور التكنولوجي هما على الأرجح أكبر التغيرات التي شهدها مجال الجريمة في الآونة الأخيرة». ويوضح رودهاوس أن معظم العمليات التي تصنفها الوكالة «ذات ضرر شديد»، تشمل أشخاصًا أو سلعًا أو أموالًا يجري تداولها عبر الحدود الدولية.

ويضيف رودهاوس أن بعض الأمور قد تغيرت عن السابق، وولَّت الأيام التي كان يوجد بها عصابات متخصصة في المخدرات، أو الأسلحة النارية، أو الإتجار بالبشر فقط؛ وذلك بسبب ظهور مفهوم التعدد الإجرامي. واليوم يوجد تكتلات عصابية تسعى لتلبية رغبات الأسواق الإجرامية بمختلف أنشطتها أيًا كانت، وهي الآن أكثر شيوعًا. وتسعى هذه المجموعات أو الأفراد إلى الاستفادة من العمل في جميع الأنشطة حسب حاجة السوق، بدلًا عن أن تحصر نفسها في مجال واحد.

كذلك لاحظ السير روب وينرايت، أحد أقدم ضباط الشرطة في أوروبا، والذي شغل منصب رئيس اليوروبول (المعادل الأوروبي للإنتربول) لمدة تسع سنوات، هذا التدويل للجريمة. وقال في كلمة ألقاها أمام إحدى جمعيات الشرطة بعد تقاعده في العام الماضي: «إن يوروبول قد توسع منذ تأسيسه في عام 1998 في لوكسمبورج، ويعمل الآن على معالجة 65 ألف قضية في السنة».

وفي عام 2018 أشار إلى وجود 5 آلاف مجموعة من الجماعات الإجرامية المنظمة تعمل في جميع أنحاء أوروبا. وتتألف تلك العصابات من تشكيل متعدد الجنسيات، يضم متخصصين في التوظيف، والحركة، وغسيل الأموال، وتزوير المستندات. وأشار وينرايت أيضًا أن نموذج المافيا قد جرى استبداله بنموذج أكثر ذكاءً، يعمل فيه أشخاص من 180 جنسية مختلفة، تمارس أعمالًا مختلطة بين المشروعة وغير المشروعة، وتعمل مع ما بين 400 إلى 500 من كبار العاملين في غسيل الأموال.

بالإضافة إلى ذلك يعد الإنترنت عاملًا رئيسًا في ممارسة الأنشطة الإجرامية. وقد شبه وينرايت تأثيره على الجريمة بالتأثير نفسه الذي تسبب به ظهور السيارات في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، عندما كان يتمكن المجرمون من الفرار بسرعة، والاستفادة من دخول أسواق جديدة. أيضًا أشار إلى ظهور «الشبكة المظلمة (Dark web)»، التي قال إنه يجري استخدامها في بيع 350 ألف عنصر غير قانوني، 60٪ منها من المخدرات، لكنها تشمل كل شيء تقريبًا من الأسلحة، إلى المواد الإباحية.

وفي حين كان يملك المجرمون في السابق وجوهًا وألقابًا مألوفة، وكانت الأندية والحانات المكان المعتاد الذي يجتمع فيه المشتبه بهم، حيث يتآمرون ويخططون لتنفيذ عملياتهم، إلا أن الجريمة المنظمة الآن يجري إدراتها مثل أي عمل تجاري آخر، وتبدو شخصياتها الرائدة مثل أي وسيط أو زعيم آخر. وأصبح هناك مجموعة من الوجوه الجديدة التي لم تكن الشرطة البريطانية، إلى جانب الإنتربول واليوروبول على الأغلب، على دراية بها. هذا بالإضافة إلى مجموعة متزايدة من المجرمين الأذكياء القادرين على إخفاء هويتهم.

الهجرة غير الشرعية والإجرام القسري

يوجد العديد من الشباب المتورطين في ما يصفه النظام القانوني «الإجرام القسري». وقد تخصصت المحامية فيليبا ساوثويل في مثل هذه الحالات، والتي تنطبق خاصةً على الشباب الفيتنامي الذين يُجلبون بصورة غير قانونية إلى المملكة المتحدة، ويُجبرون على العمل في مزارع القنّب؛ لسداد ديون تصل إلى 30 ألف جنيه إسترليني استدانها آباؤهم من أجل حصولهم على حياة جديدة في أوروبا.

تقول فيليبا: إن تلك المنظمات الإجرامية تعمل عن طريق استهداف الأطفال أو الشباب، والإتجار بهم في جميع أنحاء العالم في رحلة قد تستغرق شهورًا. وأولئك الذين يجري تهريبهم من فيتنام، غالبًا ما يمرون عبر روسيا، وألمانيا، وفرنسا، بالقوارب، والشاحنات، وحتى سيرًا على الأقدام. وبمجرد وصولهم إلى مقصدهم، يجري حبسهم في أماكن العمل، وإجبارهم على العمل في زراعة نباتات القنب. تعمل تلك المزارع عادةً في المناطق الريفية، حيث تقل فرصة عثور السلطات عليها.

ويعمل أولئك الصبيان والشبان في حلقة من عبودية الديون، وبغض النظر عن مدى عملهم بجد، لا يبدو أن من يتاجرون بهم يعترفون بسداد ديونهم. تقول فيليبا إنه يوجد اعتقاد خاطئ داخل نظام العدالة الجنائية أن أولئك الصغار أحرار في المغادرة؛ لأن الأبواب قد لا تكون مغلقة دائمًا أمامهم، ويمكنهم الهرب في أي وقت. لكن الواقع أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه؛ إذ تجري السيطرة عليه من خلال تهديدات العنف، والديون. ويعيشون في عبودية، وعزلة، وخوف، وغيرها من وسائل التحكم المعقدة، التي تُستخدم بانتظام من قبل تجار البشر.

وقد افتضحت الطبيعة الدولية للاتجار بالبشر كاملًا في عام 2014، من خلال محاكمة عصابة استوردت أكثر من 100 امرأة إلى بريطانيا، والتي انتهت بحبس زعيم العصابة، فيشال تشودري، لمدة 12 عامًا. تشودري الذي كان يعيش في شقة فاخرة في لندن، ويقود سيارة مرسيدس، كان يتواصل مع الشابات في المجر، وجمهورية التشيك، وبولندا، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويعرض عليهن العمل موظفات استقبال، أو مربيات، أو عاملات نظافة في إنجلترا. ولكن لدى وصولهن إلى المملكة المتحدة، كان يجري إجبارهن على العمل في بيوت الدعارة.

وقد تألف فريق تشودري، من شقيقه كونال، ووسيطة مجرية تدعى كريستيان أبيل، وشقيقتها سيلزيليا، اللتين ساعدتا في تجنيد النساء، وتهديدهن وتعنيفهن إذا لم يقمن بالعمل المطلوب منهن.

«البيتكوين» وتجارة المخدرات.. الحل الأمثل لغسل الأموال دون ترك أثر

على الجانب الآخر تميل الأنشطة الإجرامية الأخرى الأكثر ربحية لأن تكون مخفية بشكل أفضل دون ترك أثر. على سبيل المثال تعد لندن إحدى عواصم الكوكايين الكبرى في أوروبا، ويتزايد استخدام المخدرات في المدينة منذ عام 2011. وفي عام 2017 حذرت شرطة العاصمة من أن تجار المخدرات، وجماعات الجريمة المنظمة، قد بدأوا في استخدام أجهزة الصراف الآلي الخاصة بعملة «البيتكوين»؛ لغسل الأموال دون ترك أثر لأية مبالغ نقدية.

لطالما اعتبرت لندن المكان الأمثل لغسيل الأموال، الذي يفضله كل من عصابات الجريمة المحلية والأجنبية. وما يجعلها جذابة للغاية، هو عدم وجود تنظيم حول إدارة الثروة في المدينة. فضلًا عن ذلك يجعل تعقد شبكات الإتجار في المخدرات، وتزايد مشاركة القطاع المصرفي في الجرائم المالية، إلى جانب تنوع الأنشطة غير القانونية في المدينة، الجريمة المنظمة اليوم تبدو أكثر فوضوية، وأقل شفافية ووضوحًا من ذي قبل.

يقول توني ساجرز، الرئيس السابق لمكافحة المخدرات والاستخبارات في الوكالة الوطنية للجريمة: إن ألبانيا تعد أكبر منتج للقنب في أوروبا. وإن حرب كوسوفو قد أدت إلى تظاهر الألبان بأنهم من كوسوفو؛ للحصول على حق اللجوء في المملكة المتحدة. ومع أن الكثيرين منهم أراد اللجوء من أجل حياة أفضل، فقد كان هناك من بينهم مجرمون تمكنوا من إنشاء شبكات غير مشروعة.

ويضيف ساجرز أن مجرمي المملكة المتحدة يملكون عقلية السعي وراء الثراء السريع، بينما يتبع الألبان إستراتيجية الثراء البطيء؛ لذا فقد خفضوا سعر الكوكايين في المملكة المتحدة. لقد أدركوا أنهم إذا عرضوا بسعر أقل، يمكنهم التوسع  والانتشار في السوق. وقد ساعدتهم سمعتهم التي تسبقهم على ذلك، يقول ساجرز: «قد يكون المجرمون الألبان شرسين، وربما قاتلين عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على جرائمهم المنظمة، ولكن عندما يأتون إلى المملكة المتحدة، يحاولون أن يكونوا أكثر جاذبية، ويتبعون نهج (نحن هنا، إذًا نحن بحاجة إلى المضي قدمًا)؛ لذلك لا يوجد عنف كبير من جانب المجرمين الألبان الأكبر سنًا في المملكة المتحدة؛ لأنهم يعلمون أن العنف سيجذب الأنظار إليهم».

واستطاع الألبانيون تأسيس سمعة مظلمة لأنفسهم في عالم الجريمة، عندما سُجن لوان بلاكيتشي البالغ من العمر 26 عامًا، في عام 2003، وقيل إنه حقق أكثر من مليون جنيه إسترليني عبر الاتجار بالشابات الفقيرات الساذجات، اللاتي استطاع خداعهن بسهولة. اعتقدت الفتيات أنهن في طريقهن للعمل في وظائف نادلات في المطاعم أو البارات، ثم وجد البعض منهن أنفسهن مضطرات إلى إمتاع ما يصل إلى 20 رجلًا يوميًا؛ لدفع فاتورة السفر من رومانيا ومولدوفا، البالغة 8 آلاف جنيه إسترليني.

روي كوهين.. رحلة «محامي الشيطان» من عائلات المافيا إلى مؤسسات ترامب

مؤامرة خارجية أم ظاهرة دعمتها الظروف الداخلية؟

انتشار الجريمة في مدينة ضخمة مثل لندن، يعد أمرًا متوقعًا إلى حد ما، خاصة وأن الإحصاءات ترسم صورة مماثلة للجريمة في العواصم الأوروبية الأخرى، لكن نطاق وتنوع الجريمة المنظمة التي تحدث في المدينة، يمكن أن يُصعب أمر معالجتها. على سبيل المثال اعتادت بريطانيا في السابق على التعامل مع واردات المخدرات من بضعة دول محدودة، أما الآن فيجري تهريب المخدرات إليها من أكثر من 30 دولة.

ويوجد في المملكة المتحدة العديد من الاختلافات المحلية في أشكال الجريمة المنظمة، بحيث لا يمكن وصفها بوضوح بأنها ظاهرة وطنية. وفي أوائل تسعينات القرن الماضي، عندما بدأت السلطات البريطانية في دراسة جدية لظاهرة الجريمة المنظمة في المملكة المتحدة؛ خلصت لجنة الشؤون الداخلية إلى أن الطريقة الوحيدة لتحديد الجريمة المنظمة هي من خلال القول المأثور  «إذا كانت تسير مثل البطة، وتصدر صوت البطة؛ إذًا فإنها بطة».

ومن أوضح الأمثلة على الجريمة المنظمة بهذا المعنى، الشبكات عبر الوطنية التي تستخدم لندن مركزًا لأنشطتها الإجرامية. وتتخذ «الوكالة الوطنية للجريمة» وشرطة العاصمة حاليًا إجراءات صارمة، ضد الجماعات الإجرامية العرقية في المدينة، وخاصة العصابات الألبانية التي تعمل في تجارة الكوكايين، وعصابات أوروبا الشرقية التي تعمل في الإتجار بالبشر.

لكن هذا النهج يحتوي على أصداء وجود مؤامرة خارجية، ويلقي باللوم على المهاجرين الذين يشكلون تهديدًا للأمن القومي للبلاد. ووفقًا لهذا النهج في التفكير، فإن الجريمة المنظمة ظاهرة جلبتها مجموعات قدمت إلى البلاد من الخارج، بدلًا عن كونها ظاهرة ناتجة من المعايير القانونية، والثقافية، والسياسية داخل المجتمع نفسه.

ومن تجار الأفيون الصينيين الذين ظهروا في عشرينات القرن الماضي، والعصابات الإيطالية في الثلاثينات، وسماسرة الدعارة القادمين من مالطا في الخمسينات، وعصابة اليارديز في الستينات، وتجار الهيروين الأتراك في السبعينات، إلى عصابات أوروبا الشرقية، والمحتالين النيجيريين اليوم، لطالما ألقي اللوم على الأجانب القادمين من خارج بريطانيا أنهم الأشرار المهيمنين على عالم الجريمة. ومع أنه قد يكون لديهم جميعًا دورًا في اللعبة، إلا أن الشرير البريطاني، سواءً كان مراوغًا ماهرًا أو ملكًا قاسيًا، كان دائمًا حجر الأساس ذلك العالم.

واليوم يجد الشاب الذي كان من الممكن أن يسعى في الماضي للحصول على تدريب مهني في تجارة أو صناعة ما، أن تجارة المخدرات على سبيل المثال توفر له فرص عمل أفضل. وعلاوةً على تجارة المخدرات والأسلحة، تسهل القنوات التجارية البريطانية الآن الاتجار بالنساء من أوروبا الشرقية وأفريقيا لأغراض الدعارة، وعمل الأطفال القادمين من فيتنام في تجارة المخدرات.

يقول بي إكس، عضو عصابات شاب سابق من شمال غرب لندن: «الكل يريد أن يصبح رجل عصابات. لقد شاهدها الجميع على التلفزيون، وأصبح هذا ما يريدون أن يكونوا عليه». ويضيف بي إكس «إن الشباب يشاهدون مقاطع الفيديو التي يبدو الأشخاص فيها يحصدون مئات الآلاف من الجنيهات، وينظرون إلى واقعهم وهم ما زالوا يعيشون في منزل أمهاتهم. ويرون آباءهم يذهبون إلى العمل، ويكافحون من أجل دفع الفواتير». 

وعندما يعود الصغار إلى المنزل، ولا يجدون آباءهم، وجميع الأماكن التي يمكن للأطفال اللعب فيها تغلق أبوابها، يتجه تسعة من أصل 10 منهم، لترك المدرسة دون مؤهلات. لذلك فإذا كنت مفلسًا، وإذا لم تستطع الحصول على وظيفة، فستنتهز هذه الفرصة، وقد كانت لا تزال هناك فرص كبيرة للتجار الصغار، وبإمكانك أن تكسب مبلغًا كبيرًا في الأسبوع، حسب ما يقول بي إكس.

رابطة كبار ضباط الشرطة تضع خريطة للجريمة المنظمة في البلاد

يبدو أن حجة أن الجريمة تأتي من الخارج خاطئة تمامًا؛ فالمجرمون الألبانيون على سبيل المثال، لا يمثلون سوى 0.8% من المجرمين المنظمين في البلاد، وذلك في مقابل 61.6% من الجرائم التي تُنسب إلى المواطنين البريطانيين. ومع ذلك، تعتبر  الوكالة الوطنية للجريمة الألبانيين أكثر عنفًا، وأكثر ارتباطًا بتجارة الكوكايين الدولية من المجرمين البريطانيين.

وفي خريطة للمخابرات، أعدها خبير بارز في الشرطة حول الجريمة المنظمة، يظهر وجود أكثر من ألف عصابة إجرامية نشطة. ويظهر أيضًا أنه مع تدفق المجرمين المنظمين من أوروبا الشرقية، وجنوب شرق آسيا في السنوات الأخيرة، لا تزال الأسر البريطانية تهيمن على العصابات.

وقال كونستابل جون مورفي، نائب رئيس الشرطة من رابطة كبار ضباط الشرطة: «تختلف العصابات البريطانية تمامًا عن نموذج المافيا الإيطالي، أو المجموعات التركية؛ إذ إنها لا تملك مجموعة صفوف أو قواعد وهياكل محددة، بل إنها أكثر مرونة، وسلاسة، وانتهازية».

وقد عملت رابطة كبار ضباط الشرطة مع قوات الشرطة البالغ عددها 43 في إنجلترا، وويلز، وغيرها من الهيئات على بناء خريطة للجريمة المنظمة، وتحديد أكثر من 15 ألف فرد قيل إنهم متورطون فيها. وقال السيد مورفي إن بعض العصابات تشكل في بعض الأحيان ائتلافات فضفاضة؛ لتبادل الخبرات فيما بينها. وأضاف أنهم استطاعوا تحديد عدد معين من عصابات الجريمة المنظمة، وعلى علم بما يفعلونه، وكيف يفعلونه.

وتستخدم جميع قوات الشرطة ووكالة مكافحة الجريمة المنظمة خريطة رابطة كبار ضباط الشرطة؛ لاستهداف أكثر العصابات خطورة ونشاطًا. ولكن هناك بعض العوامل الأخرى المنظمة لعالم الجريمة، والتي تعمل على تجنيد أفراده، مثل الفقر، والجشع، والحسد، وضغط الأقران، والتي لا تقل أهمية عن أية عوامل أخرى. ولكي تتمكن وكالات إنفاذ القانون من مكافحة الجريمة المنظمة بفعالية؛ فإنها تحتاج إلى إعادة تركيز نهجها.

وقد طالب نواب من كلا الحزبين السياسيين الرئيسيين في البلاد، حزب المحافظين وحزب العمال، مرارًا وتكرارًا بمراجعة اللوائح في الحي المالي بلندن، ويبقى الأمر في يد مؤسسات إنفاذ القانون كي تضم صوتها إليهم.

اجمالي القراءات 1353