ولادة جديدة للحرية».. هل ما زالت الشعوب تتطلع إلى الديمقراطية بالرغم من انحدارها المستمر؟

في الإثنين ٠٩ - سبتمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ نهاية الحرب الباردة، أخذت الديمقراطية تحقق العديد من المكاسب. لكن الحرية تمر بفترة حرجة وبات مصيرها معلقاً الآن على المستوى العالمي. ومع ذلك، فإنهم بشجاعة مذهلة وعزيمة لا تكل خلال الأشهر القليلة الماضية، أظهر المواطنون العاديون في الجزائر والسودان وفنزويلا وهونغ كونغ –بأعدادهم الكبيرة وإبداعهم الذي يكاد يعجز من يحاول فهمه- أن التطلعات إلى الديمقراطية لم تمت مع انهيار الربيع العربي في عام 2013 بعيد انقلاب السيسي في مصر، أو الصعود الهائل بلا هوادة لشمولية محدثة مثل الصين.

شجاعة في المواجهة بالرغم من انحدار الحرية

يقول لاري دايموند، المحلل السياسي والأكاديمي الأمريكي، في مقالة منشورة بمجلة Foreign Policy الأمريكية، إن عمليات الاحتشاد والتعبئة الشجاعة للمواطنين العاديين، المدافعين عن حقوقهم، في مواجهة قمع الدولة الوحشي وحتى القاتل في بعض الأحيان، غدت جديرة بأن تلهم كل هؤلاء الذين يعيشون في ديمقراطيات ليبرالية راسخة. 

الجزائريون يهتفون بالشعارات ويلوحون ويلوحون بالأعلام بعد إسقاط رئيسهم عبدالعزيز بوتفليقه/ رويترز
 
الجزائريون يهتفون بالشعارات ويلوحون ويلوحون بالأعلام بعد إسقاط رئيسهم عبدالعزيز بوتفليقه/ رويترز

في الوقت نفسه، فإن الرياح المحملة بالسوء لشعبوية الرجل القوي، والتعصب ضد الأقليات، والاستعداد لتجاوز المعايير الدستورية –والذي فرَّغ بالفعل الديمقراطية من مضمونها في بلدان مثل المجر وبنغلاديش- تلقي بظلالها الآن على مستقبل الديمقراطية في الفلبين وبولندا والهند، خاصة مع إلغاء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي أعيد انتخابه مؤخراً الحكم الذاتي في كشمير.

ويرى دايموند أن هذا التراجع المستمر لأكثر من عشر سنوات للحرية والديمقراطية يمكن أن ينحدر إلى موجة صاخبة من الانهيارات الديمقراطية، والتي قد يتحول فيها الزخم السياسي العالمي بشكل حاسم ليولي وجهه نحو أنظمة سلطوية تحاول بفعالية تشكيل مناطقها والعالم على صورتها، وتصبح تلك الدول ديكتاتوريات طموحة لا تعبأ سوى بمصالحها مثل تلك الموجودة في روسيا وإيران والمملكة العربية السعودية والصين. إلا أنه بدلاً من ذلك، يمكن للتعبئة السلمية للسلطة الشعبية والتنظيم الذكي للحركات المؤيدة للديمقراطية أن تجلب ما أسماه الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن بـ»ولادة جديدة للحرية».

«ولادة جديدة للحرية»

يقول دايموند، إن الشعوب تصنع تاريخها الخاص، لكنهم لا يصنعونه بمعزل عن كل شيء أو في فراغ. وكذلك، فإن الحكومة الأمريكية ليس بإمكانها تقديم الحرية منحةً لأي دولة، سواءً أكان بتهديد السلاح أم بتدفق مستمر من الدولارات. ولكن في أي حقبة تاريخية، فإن ما تفعله أقوى الديمقراطيات في العالم (أو تفشل في القيام به) للدفاع عن الحقوق ودعم الديمقراطيين وتعزيز المؤسسات وردع القمع، يمكن أن يساعد في ترجيح إحدى كفتي التوازن بين الديكتاتورية والديمقراطية. وهذا التوازن يمكن أن يميل بسلام، دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية.

ويردف الكاتب الأمريكي: لقد بلغ العالم الآن نقطة توقف مفصلية في تاريخه، يتعين فيها على الأمريكيين أن يقرروا من جديد استخدامهم صوتهم الجمعي، ومواردهم الدبلوماسية والمالية، للدفاع عن الحرية أو التراجع إلى الخلف قائلين «إنها ليست معركتنا، فالأمر ليس من شأننا»، لا أن يختاروا السعي وراء مصالح وطنية ضيقة، مهما بدا ذلك قبيحاً.

في عالم اليوم المعولم، تتداعى النماذج والاتجاهات والأفكار عبر الحدود. فأي رياح للتغيير قد تتجمع بسرعة لتصبح عاصفة هوجاء، والولايات المتحدة لا يمكن لها أن تظل صامتة. والناس في كل مكان يشكلون أفكارهم حول ما هو طريقة جيدة (أو لا تقاوم) للحكم من خلال ما يرونه يحدث في كل مكان آخر عبر شبكة CNN أو الجزيرة أو تويتر.

لماذا يجب على الأمريكيين أن يقلقوا لغيرهم؟

العالم الآن مستغرق في منافسة عالمية شرسة حول الأفكار والمعلومات والمعايير. وفي العصر الرقمي، تجري تلك المنافسة بسرعة مذهلة على مدار الساعة، وهي تحدد طريقة تفكير الناس في أنظمتهم السياسية والنظام العالمي المستقبلي. ولهذا، فإنه الآن تحديداً، إذ تتصاعد الشكوك والتهديدات للديمقراطية في الغرب، تغدو هذه المنافسة مما لا يمكن للديمقراطيات تحمل خسارته، يقول دايموند.

 

ويضيف: يزداد الموقف خطورة لأن الأنظمة السلطوية لا تفتأ تمثل بشكل متزايد تهديداً مباشراً للسيادة الشعبية وحكم القانون في الديمقراطيات القائمة. إذ أخذت من خلال تدفقات الأموال الأجنبية السرية وزيادة النفوذ وأدوات مثل رسائل التواصل الاجتماعي، في تخريب وإفساد العمليات الديمقراطية والمؤسسات من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي. ومن ثم، إذا أراد الأمريكيون الدفاع عن المبادئ الأساسية للحكم الذاتي والشفافية والمساءلة في وطنهم، يتحتم عليهم الترويج لها على المستوى العالمي.

علاوة على ذلك، فإن الأمريكيين إذا لم يقلقوا بشأن نوعية الحكم في الدول ذات الدخل المنخفض، فلن يؤدي ذلك بالعالم سوى إلى المزيد والمزيد من الدول المضطربة والفاشلة. فالمجاعة والإبادة الجماعية هي لعنة الدول السلطوية وليست الديمقراطية. وانهيار الدولة هو أيضاً الثمرة المريرة التي يؤول إليها الطغيان في النهاية.

وعندما تنحدر دول مثل سوريا وليبيا وأفغانستان إلى الحروب الأهلية، وعندما تفشل الدول الفقيرة في إفريقيا في توفير الوظائف وتحسن حياة شعوبها بسبب سوء الإدارة، وعندما تحتجز مجتمعات أمريكا الوسطى رهائن في أيدي عصابات إجرامية وحشية وحكام متجبرين في أنظمة حكم لصوصية (كليبتوقراطية)، يفر الناس هرباً بحياتهم. وهم غالباً ما يفرون إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

لم يعد بالإمكان الانعزال عن الدول الفاسدة 

أصبح العالم ببساطة صغيراً جداً ومسطحاً ولم يعد بالإمكان الانعزال عن الدول الفاسدة والتظاهر بأنهم على كوكب آخر. ولا يمكن لأوروبا والولايات المتحدة الصمود أمام ضغوط الهجرة المتزايدة على المدى الطويل، والردود السياسية العنيفة التي تغذيها مثل تلك الهجرات، ما لم تعمل على إقامة حكومات أفضل وأكثر استقراراً وأكثر مساءلة في البلدان المضطربة.

مهاجرون غير شرعيون على شواطئ إيطاليا/ EPA
 
مهاجرون غير شرعيون على شواطئ إيطاليا/ EPA

وهناك أيضاً مصالح أمنية أصعب على المحك. إذ وفقاً لما توضحه استراتيجية الأمن القومي الخاصة بإدارة ترامب ذاتها، فإن التهديدات الرئيسة للأمن القومي الأمريكي تنبع جميعها من دول سلطوية –خاصة روسيا والصين، وكذلك إيران وكوريا الشمالية وغيرها- والحركات الإرهابية المعادية للديمقراطية مثل تنظيم الدولة الإسلامية.

إن دعم التنمية الديمقراطية في جميع أنحاء العالم هو وسيلة حيوية لحرمان هؤلاء الخصوم السلطويين من مساحة الهيمنة الجيوسياسية التي يسعون للتمكن منها. ومثلما تحاول دول مثل روسيا والصين وإيران تقويض الديمقراطيات لفرض إرادتها على دول أخرى، يمكن للولايات المتحدة احتواء طموحاتهم للحصول على قوة أكبر من خلال مساعدة دول أخرى على بناء ديمقراطيات فعالة ومرنة.

عالم تعددي من البلدان الحرة

يقول دايموند، إن الحكومات المنتخبة ديمقراطياً ومجتمعاتها المفتوحة لن تدعم الخط الأمريكي في كل قضية. لكن لا يوجد مجتمع حر يريد رهن مستقبله لبلد آخر. ومن ثم فإن أفضل ضمان للحفاظ على المصالح الوطنية الحيوية للولايات المتحدة هو من خلال عالم تعددي من البلدان الحرة، حيث لا يمكن للخصوم الأقوياء استخدام الفساد والقسر لاستغلال الموارد والتحالفات والأراضي والممرات البحرية.

وفي الوقت نفسه، فإن هناك الكثير من النقاد لهذا النهج. إذ يقول المعارضون إن في الترويج للديمقراطية غطرسة ووصائية، أو إن هذا ليس من شأن أمريكا. ورغم أن هذا خطأ، فإن هذا لا يعني أن على واشنطن أن تفرض نموذج الديمقراطية الخاص بها على الآخرين. وكذلك لا يقتضي الترويج للديمقراطية استخدام لهجة متغطرسة.

مظاهرات ضد السيسي في القاهرة، أرشيفية/ رويترز
 
مظاهرات ضد السيسي في القاهرة، أرشيفية/ رويترز

يقول دايموند: لقد وجدت، مثل العديد من المحاضرين الأمريكيين والدبلوماسيين في الخارج، أن الانفتاح والتواضع يُقدران كثيراً. فعندما يعرض المرء الولايات المتحدة في صورة متوازنة، مشيراً بصراحة إلى أوجه القصور في ديمقراطيتها، فإن ذلك يستبق الكثير من الشك والانتقاد، وينقل فكرة مفادها أننا جميعاً في سعي نحو حكومة أفضل وأكثر حرية وخضوعاً للمساءلة، وأن كلا الجانبين يستفيدان من الشراكة. والأهم من ذلك كله، هو أن الديمقراطية الحقيقية هي التي يكون فيها حتى أولئك الذين يتحدثون أو يعملون نيابة عنها مستعدين –ولديهم الحرية- في توجيه الانتقاد لحكوماتهم.

لماذا يجب ألا تفرض النماذج الغربية على الآخرين أيضاً؟

وثمة نقد آخر هو أنه لا ينبغي للأمريكيين والأوروبيين دفع ما يسمى بالقيم الغربية على المجتمعات غير الغربية. وهذا النوع من النسبية الثقافية هو شكل أعمق من الغطرسة، على ثلاثة مستويات:

أولاً، هو أنها تلمح إلى أن الحرية، على الرغم من أنها ذات قيمة كبيرة للناس في الغرب، فإنها ليست مهمة أو ضرورية للناس في أماكن أخرى؛ إذ يحيل ذلك ضمنياً إلى أن الناس في أماكن أخرى ليس لديهم الحقوق الفطرية ذاتها التي يتمتع بها البشر. لكن الواقع هو أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، صنفت العديد من المعاهدات والإعلانات الدولية الحقوق المدنية والسياسية، باعتبارها حقوق إنسان عالمية.

الثاني، هو أن هذا النوع من النسبية الثقافية يشير زوراً إلى أن القيم الديمقراطية الليبرالية للحقوق الفردية، والمساءلة السياسية، والحكومة المقيدة، ليس لها جذور سوى في التنوير الغربي فقط، في حين أن الحقيقة هو أنه يمكن للمرء أن يتبين تقاليد وثيقة الصلة بها في العديد من الثقافات الأخرى، من القواعد الكونفوشيوسية التي تقر الحكم الرشيد وتسويغ حق الشعب في التمرد ضد الاستبداد، إلى تقاليد الهند المتّسمة بالتعددية والتسامح والتشاور.

وأخيراً، ما يفتقر إليه ذلك النقد من تعبير عن الأدلة التي تشي بها استطلاعات الرأي العام، والتي تظهر أن الرغبة في حكومة ديمقراطية خاضعة للمساءلة –وترسيخ سيادة القانون- مشتركة على نطاق واسع بل ومكثف عبر شتى الثقافات.

لا توجد استراتيجية جدية لتعزيز الديمقراطية

هناك نقد آخر يقول بأن على الأمريكيين أن يضعوا مصلحة أمريكا فوق كل اعتبار آخر، وهذا يعني دعم الحلفاء السلطويين متى دعت الضرورة، ولو كانوا شخصيات فاسدة وتفتقر إلى الأخلاق مثل عبدالفتاح السيسي في مصر. والواقع هو أنه لا توجد استراتيجية جدية لتعزيز الديمقراطية تدعو إلى التركيز الحصري على ذلك المسلك وحده، ولكن حتى بين حلفائها السلطويين، يمكن للدبلوماسيين الأمريكيين –بل ويجب عليهم- طرح المخاوف بشأن حقوق الإنسان، ودعم المدافعين عن الحرية والمساءلة، وتشجيع الإصلاح السياسي التدريجي.

إن النهج القديم المزعوم للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت حول الحاكم القوي المستبد في نيكارغوا، أناستاسيو سوموزا، وقوله إنه «قد يكون لعيناً، لكنه لعين تابع لنا»، لم يعد صالحاً لتقديم المزيد فيما يخص تحقيق المصلحة الوطنية الأمريكية. وقد سقط سوموزا أمام ثورة معادية للولايات المتحدة، وكذلك سقط شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة أيضاً. فعندما تدعم واشنطن تلك الأنظمة بطريقة عمياء، وتفترض ببساطة أنها سوف تظل صامدة، غالباً ما ينتهي الأمر بشكل سيئ بالنسبة إلى شعوبها وإلى الأمريكيين كليهما.

صمت أمريكا يسهم في انتصار السلطويين وانحدار الديمقراطيات/ رويترز
 
صمت أمريكا يسهم في انتصار السلطويين وانحدار الديمقراطيات/ رويترز

ويقول بعض الداعين إلى مصالح أمريكا أولاً إن دعم التنمية الديمقراطية في جميع أنحاء العالم أمر مكلف للغاية. لكن الحقيقة هو أن المساعدات الخارجية بجميع أشكالها لا تمثل سوى 1% من الميزانية الفيدرالية السنوية للولايات المتحدة، والمبلغ الذي يُنفق لتعزيز الديمقراطية والحرية والمساءلة في جميع أنحاء العالم يمثل ما يقارب العشر الواحد في المائة من الميزانية الفيدرالية.

لماذا سيحدث تعزيز الديمقراطية فرقاً كبيراً؟

أخيراً، يجادل النقاد بأنها مخاطرة كبيرة، وأن تعزيز الديمقراطية لا يمكن أن يحدث فرقاً. لكن التاريخ يقول خلاف ذلك. إذ من البرتغال إلى جنوب إفريقيا إلى تشيلي، أسهمت المساعدات الدولية في دفع التحولات الصعبة نحو الديمقراطية في ظل ظروفٍ محفوفة بالمخاطر. ومن غير المرجح أن يصبح الناس في الفلبين أو تونس أو أوكرانيا في وضع أفضل، أو أن تغدو الولايات المتحدة أكثر أماناً، إذا تدهور الحال بتلك الدول إلى الحكم الاستبدادي. ومن الصعب أن نتخيل أن الحياة في ظل الأنظمة الاستبدادية مثل فنزويلا والجزائر والسودان، أو تحت نظام هونغ كونغ المتفسخ الذي تمزقه الأزمات، ستكون أسوأ في ظل ديمقراطية حقيقية.

وصحيح أنه ليس هناك ما يضمن النجاح في محاولة لإقامة الديمقراطية، لكن ليس من حق الولايات المتحدة أن تخبر الأشخاص الذين يكافحون من أجل الحرية بأن يتنحوا بذريعة أن هذا أمر محفوف بالمخاطر عليهم، أو لا يناسب مصالح الأمريكيين. إن مساعدتهم في الدفاع عن حريتهم أمر في غاية الأهمية للأمن القومي الأمريكي ولما تمثله هوية الشعب الأمريكي.

اجمالي القراءات 1134