مقبرة» القارات الميتة.. تفاصيل مذهلة عن العالم الخفي تحت القطب الجنوبي

في الإثنين ٢٦ - أغسطس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في أقصى الطرف الجنوبي من كوكب الأرض، تقع خامس أكبر قارة في العالم، كتلة ضخمة وغامضة من الجليد، يطلق عليها «أنتاركتيكا» أو «القارة القطبية الجنوبية». تراها عين الرائي مساحة كبيرة صماء مقفرة ومتجمدة؛ فهي تمتد مساحة القارة لتشمل 14 مليون كيلومتر مربع، ودرجة حرارتها لا تتخطى الصفر طوال أيام السنة، إلا أن العلماء في الآونة الأخيرة قد اكتشفوا عالمًا كاملًا خفيًا يقبع تحت الجليد، فما الذي تعرفه عن أكثر الأماكن غموضًا على وجه الأرض؟

الفيروسات المنقرضة قد تعود لتهاجمنا.. ماذا سيحدث لنا بعد ذوبان جليد القطب الشمالي؟

70% من الماء العذب على وجه الأرض

إذا كانت مساحة المياه على سطح كوكب الأرض تمثل أكثر من 70%، فأين هي تلك المياه؟ يجيب العلماء عن ذلك؛ بأن تلك النسبة من المياه نجدها في البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات؛ فنحو 96% من نسبة المياه على سطح الأرض «مالحة» وغير صالحة للشرب، أما عن المياه العذبة، فنجد أن النسبة الأكبر منها مجمدة في القارتين القطبيتين الجنوبية والشمالية. ويشير العلماء إلى أنه على الرغم من أن نسبة تلك المياه المجمدة لا تتجاوز 2% من مساحات المياه في البحار والمحيطات، إلا أن تلك النسبة الضئيلة في القارة القطبية الجنوبية تحتوي على 70% من إجمالي المياه العذبة على سطح الكوكب.

يقسم العلماء جليد القارة القطبية الجنوبية إلى نوعين، جليد بحري، وجليد أرضي؛ حيث ينتج الجليد البحري عن البحار والمحيطات المجمدة، وتعتبر مياهه «مالحة»، وقد يذوب بعض الجليد في فصول الصيف، ويتجمد مرةً أخرى خلال الشتاء. أما الجليد البري فعلى عكس البحري، إذ يحتوي على المياه العذبة الناتجة عن تساقط الثلوج والأمطار، وعلى مدى آلاف السنوات تراكمت طبقات الجليد حتى أصبحت كتلًا كثيفة وسميكة. 

في غرب القارة القطبية الجنوبية، نجد الجزء الأكبر من الجليد الأرضي، ويشير العلماء إلى أن الطبقة الجليدية في «أنتاركتيكا» هي أكبر كتلة من الجليد على وجه الأرض، وتحتوي على 30 مليون كيلومتر مكعب من الجليد، وداخل هذا الغطاء الجليدي، تقبع أكبر مساحة من المياه العذبة، والتي تشبه خزانًا ضخمًا، إلا أنها مجمدة، لكن ماذا يحدث لو ذاب جليد «أنتاركتيكا»؟

يشير العلماء إلى أنه بذوبان الكتلة الجليدية في «أنتاركتيكا»، وهي الأكبر من نوعها، فإن مستوى سطح البحر قد يزيد إلى 200 قدم، أو ما يقدر بـ60 متر. لن يتوقف الأمر على ذلك فحسب، فما نشهده من ذوبان جليد القارة القطبية الشمالية، قد تسبب في تزايد الموجات الحارة، وهو ما يستدعي ذوبان مزيدًا من الجليد.

في ظروف الطقس الطبيعية، يحمي الجليد ذاته، وذلك عن طريق عكس 90% من أشعة الشمس الواردة؛ مما يحافظ على درجة الحرارة الباردة، ويحفظ الجليد خلال فصل الصيف، إلا أن ما نشهده من احتباسٍ حراري يعمل على تغيرات مناخية قد تتسبب في ذوبان المزيد من الجليد، وارتفاع درجات الحرارة على مستوى العالم، وبذوبان الجليد الأرضي، قد ينتهي المطاف بمياهه العذبة داخل البحار والمحيطات، لتندمج معها، وهو ما يتسبب في ارتفاع مستوى البحر، وقد ينتج عنه اختفاء بلدانًا بأكملها مطلة على البحار أو المحيطات.

«أنتاركتيكا».. مقبرة القارات الميتة

لعقودٍ طويلة، اعتقد العلماء أن ما يقبع تحت القارة القطبية الجنوبية لا شيء سوى مجموعة من الصفائح التكتونية المجمدة، إلا أن التكنولوجيا الحديثة، والأقمار الصناعية التي انتشرت في الآونة الأخيرة قد مكنت العلماء من اكتشاف الكثير حول تلك القارة الغامضة وتكوينها الأساسي، المُختبئ خلف طبقات الجليد.

في السنوات الأخيرة عكف العلماء على إنشاء مجموعة من الخرائط ثلاثية الأبعاد، تحوي حقائق مذهلة عن العالم السفلي للقارة الجنوبية، وبمساعدة من بيانات الأقمار الصناعية الأوروبية، وجدوا أن الجليد يخفي حطام دمار هائل للقارة القديمة، وقد التقطت الصور بالاعتماد على القمر الصناعي «GOCE»؛ إذ استخدم العلماء قراءات «GOCE» والتي يمكنها قياس حقول الجاذبية، من أجل رسم حركات الصفائح التكتونية للأرض تحت «أنتاركتيكا». 

تقول عن ذلك كيت ونتر، والتي تدرس الأنهار الجليدية بجامعة نورثمبريا بإنجلترا: «إن بيانات القمر الصناعي قد ساعدتهم في تجميع الكثير من التفاصيل؛ إذ كشفت عين «GOCE» أن شرق القارة القطبية الجنوبية عبارة عن لغز محير، وذلك لاحتوائه على ثلاثة مقاطعات جيولوجية تدعى «كراتونات»، وهي نوى صخرية عادةً ما تحتويها البنية التحتية للقارات، إلا أن الثلاثة لا ينتمون إلى قارةٍ واحدة».

كان الجزء الأول يحمل تشابهات جيولوجية مع القارة الأسترالية، في حين تشابه الجزء الثاني مع شبه القارة الهندية، أما الجزء الثالث فكان مزيجًا من بحارٍ مندثرة. وهو ما يؤكد نظرية «الانجراف القاري»، والتي تعني أن قارات العالم كانت منذ ملايين السنين تشكل قارة واحدة عملاقة أطلق عليها «بانجيا»، وقبل حوالي 200 مليون سنة، حدث الانجراف العظيم، والذي نتج عنه انفصال القارة العظمى، وتفتتها إلى أجزاء تُشكل قارات العالم التي نعرفها اليوم. ويشير البحث إلى أن قارات العالم الحديث قد ألقت بمخلفاتها في القارة القطبية الجنوبية، وقد غطاها الجليد ليدفنها للأبد.

يشير فاوستو فيراشيولي، الباحث الجيوفيزيائي المشارك في المسح البريطاني للقارة القطبية الجنوبية، وأحد كاتبي الدراسة، إلى أن السؤال الذي يجب أن يجيب عليه العلماء هو: «كيف ومتى اجتمعت كل هذه المقاطعات التي تشكل اليوم شرق القارة القطبية؟»، كان التفسير الوحيد هو العودة إلى الزمن الذي انفصلت فيه القارة العظمي لتشكل قارتين عظمتين هما رودينيا وغندوانا، وأن أسفل القارة القطبية الجنوبية تقبع بقايا القارات المندثرة منذ أكثر من 160 مليون عام.

العالم الخفي في القطب الجنوبي

إن كان ما يقبع تحت «أنتاركتيكا» ليس كتلة صماء من الجليد؛ فكيف يبدو شكل القارة القطبية الجنوبية دون الغطاء السميك من الثلوج؟ هكذا تساءل العلماء، وحاولوا إيجاد إجابة بإستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة، التي تكشف النقاب عما يوجد خلف الجليد. عن ذلك يقول الباحثون: «إن نظرنا إلى التاريخ الجيولوجي لكوكب الأرض، لوجدنا عالمًا مختلفًا بعيد كل البعد عن عالمنا اليوم».

في الماضي على سبيل المثال، لم تكن القارة القطبية الجنوبية دائمًا «صحراء جليدية» قاحلة كما نراها اليوم، فالثلوج وطائر البطريق الذي يسكن هذا الجزء من العالم، مجرد ظواهر حديثة نسبيًا، اتخذت مكانها منذ ما يقرب من 3 ملايين سنة، قبل ذلك كانت «أنتاركتيكا» أرض استوائية دافئة، وكانت تعج بالغابات الخضراء الضخمة، والمناظر الطبيعية الخلابة والنباتات المزهرة.

يضيف العلماء أن القارة كانت موطنًا للكثير من حيوانات العالم القديم، ولنرى كيف كان شكل القديم يجب أن نلقي نظرة على مشروع «Bedmap2» عام 2013، وهو نتاج حملة بريطانية تهدف إلى مسح قارة «أنتاركتيكا» وتحديث خرائطها؛ مما أنتج خريطة محدثة للقارة تستخدم 15 مليون قياسات إضافية عن تلك التي استخدمت عام 2001.

استخدم الباحثون في ذلك بيانات من مصادرٍ مختلفة والعديد من الدراسات الاستقصائية، عن طريق الاستعانة بالقمر الصناعي «ICEsat» التابع لـ«وكالة الفضاء ناسا (NASA)»، وقراءات ارتفاع السطح وسمك الطبقة الجليدية المقاس عبر رادار خاص باختراق الجليد. كان المشروع يهدف إلى معرفة كيفية تفاعل «أنتاركتيكا» مع التغيرات المناخية الأخيرة، وسرعة ذوبان الجليد؛ مما قد يساعدهم بشكلٍ أفضل على التنبؤ بمقدار ارتفاع منسوب مياه البحر. 

هذه المرة كانت القراءات تقدم صورة أوضح للمشهد «تحت الجليدي»، وبتفاصيلٍ أكبر مما كان متاحًا سابقًا. حيث كشفت البيانات عن نطاق واسع من سلاسل الجبال والوديان التي تمتلئ بها القارة، إضافةً إلى العديد من أحواض الأنهار والتلال والسهول، وقدر عمق سمك الغطاء الجليدي، حوالي 27 مليون كيلومتر مكعب.

بحيرات «أنتاركتيكا» المتجمدة تعج بالحياة

ما لا يعرفه الكثيرون أن هناك أنواعًا مختلفة من الحياة داخل القارة القطبية الجنوبية، على سبيل المثال هناك سبعة سلالات لطائر البطريق تعيش في القارة المتجمدة، أربعة من هذه السلالات تقضي حياتها بأكملها دون الخروج من «أنتاركتيكا»، ولحوالي 200 عام، كانت الحياة البشرية الوحيدة على القارة الجليدية، هي حياة العلماء الساعين لاكتشافها؛ فقد كان هذا الجزء من العالم هو الوحيد بلا سكان أصليين. لكن ماذا عن أشكال الحياةِ الأخرى البعيدة عن البعثات الاستكشافية؟

نشر موقع «Live Science» في بداية العام الحالي، تقريرًا عن الحياة داخل القارة القطبية الجنوبية؛ حيث اكتشف العلماء أن مياه البحيرات المظلمة التي تقع تحت الغطاء الجليدي لـ«أنتاركتيكا»، تعج بالحياة «البكتيرية»، وتعتبر واحدة من أكثر البيئات تطرفًا على وجه الأرض.

يشير رئيس البعثة جون بريسكو، أستاذ الدراسات البيئية للمنطقة القطبية في جامعة مونتانا، أن الدراسات المبكرة لعينات المياه المأخوذة من بحيرة ميرسر، المدفونة أسفل نهرٍ جليدي بالقارة القطبية الجنوبية، قد أظهرت احتواءها على ما يقرب من 10 آلاف خلية بكتيرية، لكل ملليلتر من المياه. وكل هذا يمثل 1% فقط من الخلايا الميكروبية التي يبلغ عددها مليون خلية لكل مليلتر، وتوجد عادةً في المحيطات المفتوحة.

إلا أن الأمر يختلف بالنسبة إلى  الأماكن التي يصعب وصول ضوء الشمس إليها مثل بحيرة ميرسر المدفونة في أعماق الأنهار الجليدية. «إن المستويات العالية للحياةِ البكتيرية في المياه المظلمة، قد يكون إحدى العلامات التي تدعم وجود حياة بشكلٍ أكبر»، يضيف بريسكو أن نظام البحيرة يحتوي على مادة عضوية كافية لدعم أشكال الحياة الأعلى في المرتبة؛ وهو ما جعلهم يطمحون إلى البحث عن حياةٍ حيوانية.

خريطة توضح مواقع بحيرات أنتاركتيكا

يعتقد العلماء أن ما وجدوه من حياةٍ جرثومية في بحيرة ميرسر، وقبلها بحيرة ويلانز في القارة القطبية، هي كائنات تعيش على رواسب الكربون الذي وضعته الكائنات العضوية قبل 5 – 10 آلاف عام، عندما كانت البحيرات المدفونة تحت الجليد، جزءًا من المحيطِ المفتوح.

كانت البحيرة المدفونة تغطي حوالي 139 كيلومتر مربع، وقد استخدم فريق البعثة خلال إقامته في الجليد منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، حفارات ومياه ساخنة، وذلك من أجل الوصول للبحيرة المدفونة في عمقِ الجليد؛ حيث قاموا بحفر حوالي 1068 مترًا، ووجدوا ماء البحيرة ذا درجة حرارة منخفضة، بلغت (-0.65) درجة مئوية، وذلك حتى يتمكن الباحثون من أخذ عيناتٍ من المياه ورواسب البحيرة التي بلغ عمقها في تلك البقعة 15 مترًا. 

جرف صخري قديم يمنع ذوبان الجليد

في 27 مايو (أيار) الفائت، اكتشف العلماء هيكلًا صخريًا عتيقًا في عمق جرف «روس» الجليدي. وقد كان الهيكل عبارة عن حدود تكتونية قديمة، ربما تشكلت إبان ولادة القارة القطبية الجنوبية، أو بعد ذلك بوقتٍ قصير. ويعتقد الباحثون أن لها تأثيرًا على أنماط الذوبان في الجرف الجليدي.

كان الهيكل الصخري يتحكم في طريقة تدفق المياه حول الجرف الجليدي لعشرات الآلاف من السنوات، مما يعمل وكأنه حاجز طبيعي ضد طوفان قد ينجم عن ذوبان مزيد من الجليد داخل المحيط الواسع، يشير العلماء أن تلك الحدود الجيولوجية، بين شرق وغرب القارة القطبية الجنوبية قد ساهمت في حدوث انقسام تحت القارة، وهو ما يحمي «جرف روس» من المياه الأكثر دفئًا والتي تعمل على تسريع وتيرة الذوبان، إلا أن نفس التكوينات الجيولوجية يمكنها أن تساعد في تسريع وتيرة الذوبان خلال فصل الصيف على طول حافة الجرف الشرقي.

هذا الاكتشاف الجديد قد يساعد العلماء في فهم أنماط الذوبان المستقبلية بالقارة القطبية الجنوبية، خاصةً مع التغيرات المناخية الحالية؛ مما قد يساعدهم على وضع بيانات أكثر دقة حول سرعة وتيرة الذوبان، والتغيرات التي قد تحدث على المدى البعيد في القارة القطبية الجنوبية.

اجمالي القراءات 2358