عمائم للبيع».. السلفية المدخلية «الجندي المجهول» في يد أنظمة الثورة المضادة

في الخميس ١٥ - أغسطس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في عام 1995، وبعد نحو 16 عامًا على حادثة اقتحام الحرم المكي على يد جهيمان العتيبي، كانت الرياض لا تزال تحتضن سرًا الفكر الجهيماني؛ وفي إحدى البيوت السرية بالعاصمة السعودية، التقى أبرز منظري الفكر الجهادي الشيخ أبو محمد المقدسي مع عدد من شباب جماعة «إخوان بريدة» العائدون من أفغانستان، وبدأ التنظير للسلفية التكفيرية، والتخطيط لإسقاط الدولة السعودية عبر سلسة تفجيرات بدأت باستهداف مقر الحرس الجمهوري.

تنتهي القصة بسجن المتهمين ومطاردة الهاربين، لكنّ المفارقة أنّ عدد من السلفيين التكفيريين الذين خططوا بالأمس لاغتيال الملك، أضحوا اليوم جنوده في الحرب ضد الربيع العربي، وأبرزهم مدير مركز المسبار منصور النقيدان، الإعلاميين السُعوديان مشاري الزايدي، وعبدالله بن بجاد. 

التقرير التالي يوضح لك كيف طوّعت السعودية أعداء الأمس الأكثر تشددًا لتبني مشروع علماني تحرري في بلدان الربيع العربي.

السعودية.. السلفية الجامية أعداء الصحوة والثورات

بعد ثلاثة أعوام من انفجار الثورة الإيرانية عام 1979، تولّى الملك فهد بن عبد العزيز الحُكم في ظروفٍ قاسية؛ فنظرية «ولاية الفقيه» التي تُرسخ للزعامة الدينية في الحُكم والسياسية تحولت بعد نجاح الثورة الإيرانية إلى منهج واضح لتأسيس دولة إسلامية، والأهم أنها تتبنى تصدير الثورة للبلدان الإسلامية، لذا لجأت المملكة السعودية لدعم حركة الصحوة التي تأسست في الثمانينات بعدما تأثرت بفكر أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الهاربين من مصر. 

لكنّ سُرعان ما اشتبك رجال الصحوة مع المؤسسة الدينية التقليدية، حين سمح الملك فهد للقوات الأمريكية بدخول المملكة للدفاع عنها خلال حرب الخليج الثانية عام 1990، فيبنما أفتى ابن باز بـ«جواز الاستعانة بالكفار» -يقصد الولايات المتحدة- من أجل تحرير الكويت، اعترض سلمان العودة على أستاذه، وأعلن تحريمه التحالف مع الأمريكان.

اضطرت السُلطة السعودية للاستعانة بطرفٍ ثالث للاشتباك مع شيوخ الصحوة بعيدًا عن رموز المؤسسة الدينية التقليدية، فظهر تيار السلفية الجامية الذي خاض معركة ضد الإسلاميين المُعارضين على سياسات المملكة، ورسم نهجًا موازيًا للسًلطة بتحريم الخروج على الحاكم، وتكفير الخصوم الذين لا يؤمنون بمبدأ السمع والطاعة.

في عام 2010 كتب سلمان بن عبد العزيز (الملك الحالي) مقالة بصحيفة «الحياة» دافع فيها عن الدعوة الوهابية التي تأسست عليها الدولة السعودية الثالثة، لكنّ الأخطر أنه اعتبر أن الوهابية تمثل وحدها ودون غيرها «العودة إلى الأصول الصحيحة للعقيدة الإسلامية الصافية التي هي أساسها ومنطلقها»، وفي هجومٍ صريح على منتقدي الوهابية، اعتبر أنّ الذين يُطالبون بإصلاحها يخالفون «مضامين الدعوة التي نادى بها القرآن الكريم والسنة النبوية»، وهو ما يفتح الباب علانية لتكفير كل المعارضين.

وعلى هذا الأساس وجد التيار الجامي (السلفية المدخلية) الداعم للسُلطة، أرضًا خصبة للتمدد داخل المملكة، ومن ثم الانتشار في ربوع الدول العربية، وتكفير كافة الفرق التي يعتبرها  «ضالة ومبتدعة»، وفيما كانت ممالك الخليج الثريّة تهتز بقوةٍ خوفًا من سقوط «الخلافة الحاكمة» إثر ثورات الربيع العربي عام 2011، تكفّل التيار السلفي بإطلاق الفتاوى التي  حرمت المظاهرات، وبررت اعتقال المتظاهرين السلميين.

وتزامنت الفتوى مع توجيه عشرات المثقفين ورجال الأعمال ورجال الدين وثيقة للملك عبد الله للمطالبة بالتحوّل إلى «ملكية دستورية» وتطوير النظام الأساسي للحكم، والفصل بين السلطات، وربط الصلاحيات بالمسؤولية والمحاسبة، لكنّ الانتفاضات بفضل الإصلاحات الاقتصادية العاجلة، إلى جانب حشد السُلطة الدينية وبطش المنظومة الأمنية.

ولم يقتصر دور السلفيين التكفيريين في المعارك الفكرية الدينية مع خصومهم التي انتهت بتكفير مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا وسيد قطب، واتهام يوسف القرضاوي بـ«عدم نقاء العقيدة»، بل امتد نقدهم لكافة الحركات الإسلامية التي تخوض في السياسية، معتبرة أنّ أية مخالفة للسلطة تعد خروجا على الشرع وإثارة للفتنة، لذا فهم يُدرجون مخالفيهم تحت بند فاسق أو مبتدع أو من الخوارج، أو كافر.

الدور الأبرز الذي لعبه «سلفيو الولاء» -كما يسمون أنفسهم- في التسعينات تمثل في إرسال تقرير أمني للسُلطات بعنوان: «التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية» بهدف تحذير الملك من تيار الصحوة الذي يهدف لتغيير نظام الحُكم، وهو ما كان سببًا في حظر أنشطة تيار الصحوة والزج بهم في السجون مثل الشيخ سلمان العودة الذي مكث خمس سنوات دون محاكمة.

وخلال أحداث الربيع العربي التي وصلت الرياض، هرع شيوخ المدخلية السلفية للإعلان الصريح على أنّ كل مُعارض للنظام هو فاسق يجب ردعه ، والمفارقة أنّ شيخ المدخلية الشيخ ربيع المدخلي كان يصف حُكام العرب قبل ارتباطه بالسُلطة بأنهم إما «رافضي، أو باطني، أوعلماني.. كلهم لا عقيدة ولا شريعة».

السلفية المدخلية في ليبيا.. فِرقة ناورها القذّافي وجنّدها حفتر وتوشك أن تنقلب عليه

اليمن.. التحالف مع الإمارات ضد الحكومية الشرعية

وبعيدًا عن المملكة السعودية، فالدور الأيدلوجي للتيار المدخلي اختلف في الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي، فبينما نصت أدبياتهم في شرحهم لأصول السنة على أن «المتغلب تجب طاعته حقنا للدماء، فإذا تغلب آخر وجبت طاعة المتغلب الجديد»، إلا أنّ انتهجوا سياسية الثورة المضادة ضد الأنظمة الجديدة الحاكمة في كل من اليمن ومصر وليبيا.

هاني بن بريك مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد

وفي اليمن يمثِّل الشيخ الراحل، مقبل الوادعي، ومن بعده يحيى الحجوري، ثم هاني بن بريك وأبو العباس عادل فارع، أهم الشخصيات ذات التأثير والحضور في المشهد السياسي والعسكري الراهن، لكنّ أدبيات التيار في اليمن اختلفت من الطاعة العمياء لولي الأمر، وهي العلاقة التي ربطت الرئيس اليمني المقتول علي عبد الله صالح بالشيخ الحجوري، إلى الوضع الراهن بالدعوة للتمرد واستخدام العنف وسيلة وحيدة للانقلاب على السلطة «الشرعية»، وهي حالة العداء الحالية التي تربط الرئيس هادي منصور بالشيخ هاني بن بريك.

بدأ الارتباط بين السلفية المدخلية في اليمن والإمارات عقب هجوم الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في ديسمبر (كانون الأول) عام 2014، وهو الحدث الذي تجاهلته نظرًا لأن الحوثيين المدعومين عسكريًا من إيران، كانوا يقاتلون «حزب الإصلاح» المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، لذلك لم تتحرَّك السعودية لإنقاذ هادي إلا بعدما قام الحوثيون بالانتصار على «الإصلاح» في أقوى معاقلهم.

وحين انطلقت «عاصفة الحزم» في مارس (آذار) عام 2015، احتفى الشيخ هاني بن بريك بالتدخل العسكري بالرغم من أنه هاجم ما وصفه تدخلات قطر في الجنوب، ولم يلبث بن بريك المعروف بأنه رجل الإمارات في اليمن إلا أن ارتدى زيًا عسكريًا وأصبح مسئولًا عن قوات «الحزام الأمني» التي يجمع تحت قيادته فيها نحو 12 ألف مقاتل، وتشكلت تلك الوقت أبو ظبي تلك القوات في الجنوب عقب انهيار التشكيلات العسكرية والأمنية التابعة للجيش اليمني.

ولم يلبث السلفيون المداخلة أن دعموا مشروع الإمارات الانفصالي في جنوب اليمن، ففي سبتمبر (أيلول) عام 2011 أعلن عيدروس الزبيدي محافظ العاصمة المؤقتة عدن تشكيل «المجلس الانتقالي الجنوبي» الذي أصبح هاني بن بريك نائبًا له.

استغل هاني بن بريك مناصبه الرفيعة في الجنوب،ـ وبدأ في خوض حربه الخاصة للانتقام من شيوخ التيارات الاخرى، فبدأت سلسة الاغتيالات المنظمة ضد المنتقدين له حتى من داخل التيار المدخلي، وأبرزهم الشيخ ياسين العدني الذي طالب بـ «الرجوع إلى منهج السلفية، وترك تجييش الشباب للقتال ضمن القوات التي تدعمها الإمارات»، لتكون مجرد بداية لسلسة اعتقالات واسعة لرجال دين ودعاة معارضين له، بالإضافة لإخراج فتوى تبيح له تصفية المعارضين.

الدور الأخطر الذي يلعبه المداخلة في جنوب اليمن يتمثل في الإعلان الصريح للتعبئة العسكرية وتأسيس محاور قتالية بهدف طرد القوات العسكرية التابعة للحكومة اليمنية من مدن الجنوب، وهي الخطوة التي من شأنها فتح جبهة جديدة في الحرب اليمنية تمهيدًا لإعلان الانفصال.

رغم العداء «الظاهر» بينهما.. كيف تتناغم سياسة الإمارات مع مصالح الحوثيين في اليمن؟

ليبيا.. جميعهم «خوارج وكفار» عدا حفتر

رغم أنهم كانوا أكثر المساندين لنظام القذافي ووقفوا ضد الثورة، إلا أنه عقب سقوط النظام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، قام السلفيون المداخلة بمهاجمة التراث الصوفي الليبي وحرقوا أدبيات الإخوان المسلمين، كما  شكلوا دوريات لـ«مكافحة الرذيلة»، لمهاجمة كل المظاهر التي اعتبروها غير إسلامية، ومع اندلاع الصراع المسلح بين كافة الفصائل في ليبيا، انضم المداخلة الذين رفعوا السلاح إلى صفوف القتال، قبل أن يتراجعوا ويمتنعوا عن التدخل في السياسة بعد فتوى أطلقها الشيخ السعودي ربيع المدخلي عام 2015.

أشرف الميار أحد قادة المداخلة في لييا مع حفتر – المصدر: مواقع التواصل

وخلال عامٍ ونصف من تلك الفتوى، كان اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر يخوض معارك ضارية ضد الإسلاميين في الشرق المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين في معاقلهم بالشرق الليبي (بنغازي ودرنة)، ليتراجع شيخ المدخلية بعدها عن فتواه ويدعو علانية لثورة ضد «الإخوان» في ليبيا -على اعتبار أنهم من الخوارج-، وهي الفتوى التي سببت انقسامًا داخليا بين صفوف السلفيين، الذين تشكلوا في ثلاث مجموعات رئيسية هي «كتائب التوحيد» في بنغازي وقوات وكتيبة «604 مشاة» في مصراتة التابعين لحفتر، بينما ظلت قوات «الردع» في طرابلس تابعة لحكومة الوفاق.

انضم المداخلة للقتال في صفوف حفتر ضد حكومة السراج وساعدوا الجنرال الليبي في بسط سيطرته على شرق ليبيا وجنوبها، وهو الإنجاز الذي يُنسب للمقاتلين السلفيين الذين اندمجوا فيما يعرف بـ«الجيش الوطني الليبي» التابع لحفتر، وهو ما سمح لهم بمزيد من الانتشار في الأماكن التي سيطر عليها جغرافيًا، وأيضًا على الفرق العسكرية الضاربة في الأرض مثل «الكتيبة 210 مشاة» و«الكتيبة 302 صاعقة».

وحاليًا يشارك المداخلة في حربهم المقدسة لإسقاط طرابلس ممن وصفوهم بالخوارج، لتأتي فتوى شيخ التيار المدخلي -الذي سبق وأن حرّم الثورات العربية بجميع أشكالها- للتموضع مع الظرف الحالي والدعوة لضرورة القتال في صفوف قوات حفتر باعتباره حاكمًا متغلبًا وولي أمر شرعي لا يجوز الخروج عليه، وهو ما يعني عدم اعترافهم بحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.

وبعدما فشل حفتر في حربه الأخيرة في دخول طرابلس، انضمت له القوات السلفية المرابطة في مدينة الكفرة -الجنوب الشرقي- المعروفة باسم كتيبة «سبل السلام» التي يقودها أحد رموز التيار السلفي المدخلي عبد الرحمن الكيلاني المدعوم سعوديًّا، والذي يوّجه أنصاره لقتال حكومة الوفاق باعتبارهم «خوارج».

وبينما وفرت «كتيبة التوحيد» المدخلية الغطاء الدينى والتبرير الشرعى لقوات حفتر باعتباره ولى الأمر الذى تجب طاعته واعتبرت حربه مقدسة موافقة للكتاب والسنة، فإنهم حصلوا بالمقابل على كافة المقرات الدينية في الأراضي التي استولها عليها الجنرال الليبي، في إطار توجيه الخطاب الديني لصالحه، حتى وإن كانت قواته متهمة بإفشال العملية السياسية في لييبا.  وحتى إن كان حفتر نفسه سبق أن أعلن أنه يريد تأسيس «ليبيا علمانية»، في الوقت الذي يدعو فيه المداخلة لحشد قواهم للقتال في شهر رمضان باعتباره «شهر الجهاد».

مصر.. سلطة السيسي «حلال» ومنافسته «حرام» شرعًا

انتقل التيار المدخلي إلى مصر في أواخر التسعينات، وبرز على الساحة عقب ثورات الربيع العربي، فشيخ التيار المدخلي في مصر محمد سعيد رسلان الذي اشتهر بتأييد الحكام العرب اعتبر أنّ الثورة «ليست من الإسلام في شيئ من أجل تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه على الأجندة الكافرة».

شهد التيار أبرز هزائمه بفوز جماعة الإخوان المسلمين بالرئاسة في يونيو (تموز) عام 2012، واشتهر رسلان باعتباره الجماعة من «الخوارج الكفار، وأتباع المذاهب الضالة»، لكنه مع ذلك اعتبر أنّ مرسي هو رئيس منتخب له حق السمع والطاعة ولا يجوز الخروج عليه حتى ولو كان كافرًا.

لم يلبث رسلان أن أيّد حركة الجيش في يونيو (تموز) عام 2013، واعتبر أنّ الحاكم المتغلب بسيفه يجب طاعته، كما وصف قتلى فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بأنهم من البغاة الخارجين على الحاكم، والوصف نفسه انطلق على «الجبهة السلفية» التي دعت لتظاهرات على النظام عام 2014.

الفتوى الأبرز لشيخ التيار المدخلي في مصر جاءت لإباحة قتل العسكريين للمعارضة، وخلال الانتخابات الرئاسية المصرية أفتى رسلان بعدم جواز منافسة السيسي في الانتخابات، باعتباره ولي أمر لا يجب إزاحته من منصبه.

اجمالي القراءات 1721