ديمقراطية عرجاء».. هل يُفشل مليارديرات تونس عملية الانتقال الديمقراطي؟

في الخميس ١١ - يوليو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

قبل أشهر قليلة من انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة مهمّة في تونس، تشهد الساحة السياسيّة التونسيّة نقاشًا حول المال السياسيّ وأثره على العمليّة الديمقراطيّة، خصوصًا مع بروز بعض الحركات والجمعيّات التي ترفع شعار العمل الثقافي والخيريّ، لكنها لا تُخفي طموحاتها السياسيّة كلّما اقتربت شيئًا فشيئًا المواعيد الانتخابيّة المهمّة.

من بين هذه الجمعيّات هي «عيش تونسي» التي أثارت الجدل بفعل نشاطها الدعائي المكثّف والأموال الهائلة المصروفة في عدّة مبادرات خيريّة وثقافيّة، وظهورها في بعض استطلاعات الرأي حول الأحزاب المنافسة في التشريعيّات المقبلة حتّى قبل أن تدخل الميدان السياسي، وتصريحات مسؤوليها عن نيّتهم خوض الانتخابات المقبلة، وهو ما جعل الكثيرين يحذّرون من أن تكون هذه النشاطات الخيريّة غطاءً للتنافس السياسي ولشراء أصوات الفقراء من خلال المساعدات الاجتماعيّة، خصوصًا في ظل الوضع الاقتصاديّ الهش الذي يعيشه الاقتصاد التونسي.
السلطات التونسيّة من جهتها لم تبقَ مكتوفة الأيدي اتجاه هذه الظاهرة التي شغلت الطبقة السياسيّة، خصوصًا وأن مثل هذه الحركات قد تشكّل تهديدًا انتخابيًّا مستقبليًا على التحالف الحاكِم، وهو ما أدّى بالسلطة ممثّلة في البرلمان للتدخّل من خلال تعديل قانون الانتخابات من أجل منع كلّ تورّط فيما سُمي بـ«الإشهار السياسي» من الترشّح للانتخابات.

لكن بعض الباحثين انتقدوا بشدّة هذه الإجراءات القانونيّة التي ستؤدّي بالمسار الديموقراطي التونسي إلى التعقيد أكثر، خصوصًا أنّ تعديل قانون الانتخاب قبل شهور قليلة من استحقاقيْن انتخابيّين حاسميْن، التشريعيات في أكتوبر (تشرين الأوّل) والرئاسيّات في نوفمبر (تشرين الثاني) قد يؤشّر إلى تحوّل القوانين إلى أدوات للهيمنة السياسيّة. فمن يقف وراء حركة «عيش تونسي»؟ ولماذا يرى بعض الباحثين أنّه من الخطورة التصدّي لمثل هذه الحركات باستصدار قوانين على المقاس؟

«عيش تونسي».. جمعيّة «خيرية» لا تترفع عن السلطة

برز في الساحة التونسية خلال الأشهر الماضية اسم جمعيّة «عيش تونسي»، وسرعان ما نالت اهتمام الكثير من المتابعين، خصوصًا وأن هذه الجمعيّة التي تقدّم نفسها على أنّها تهتمّ بالنشاط الخيري والثقافي، حصلت على نِسبة معتبرة من التأييد في استطلاع للرّأي أجرته شركة «سيجما كونساي» التونسيّة المتخصّصة في صبر الآراء حول الميولات الانتخابيّة للتونسيّين. وقد انتشرت في الشهور السابقة الكثير من الومضات الإشهاريّة والحملات التسويقيّة لجمعيّة «عيش تونسي» بشكل مفاجئ؛ ممّا أثار استغراب وتساءلات البعض، وطالب آخرون بتوضيح مصادر أموال كل هذه النشاطات والدعايات التي تقوم بها الحركة.

ألفة الترّاس رئيس جمعية «عيش تونسي» – المصدر: مواقع التواصل

وقد أُثير الكثير من الجدل حول الشخصية التي تقف وراء تمويل هذه الجمعيّة، خصوصًا مع الأموال الضخمة التي ضخّتها في الساحة التونسية تحت غطاء العمل الجمعوي، وتترأس الجمعيّة السيّدة أُلفة الترّاس المتزوّجة بجيوم رامبورج، أحد الأثرياء الفرنسيين والقريب من الرئيس الفرنسي ماكرون، وكان رامبورج قد دعم ماليًّا حملة ماكرون الانتخابيّة أثناء انتخابات الرئاسة سنة 2017، وهو ما طرح تساؤلات عن علاقة «عيش تونسي» بالدوائر الفرنسيّة، بينما تأكّد ألفة الترّاس أنّه لا علاقة لزوجها بعملها في «عيش تونسي»، وأنّ تمويل الجمعيّة يأتي بشكل حصري من مالها الخاص.

وتذكر الترّاس أن الجمعية عملت على عدة نشاطات خيريّة وثقافيّة من بينها: ترميم المدارس، ومنح دراسية للطلبة التونسية، وتنظيم تظاهرات ونشاطات ثقافيّة، وبناء مركز ثقافي في منطقة جبل سمامة، لكن الجمعيّة ذهبت إلى أبعد من مجرّد العمل الخيري والجمعوي، فقد بدأت في «تسييس» نشاطها شيئًا فشيئًا، فأطلقت وثيقة مطالب سُمّيت بـ«وثيقة التوانسة» والتي جاءت في 12 مطلبًا، تقول الجمعيّة أنّها توصّلت إليها بعد الكثير من التواصل مع شرائح المجتمع التونسي، باعتبارها أكثر المطالب قربًا من المواطن التونسي والتي تمسّه في حياته اليوميّة.

وقدّ اتّسمت هذه الوثيقة – كما يرى مراقبون – بالكثير من الشعوبيّة والاعتماد على الشعارات والوعود العامّة دون الدخول في التفاصيل، وصيغت بطريقة تبسيطية خالية من الآليات والإحصائيات والأرقام والسياسات، كما يجري تسويقها في وسائل الإعلام من طرف ممثّلي «عيش تونسي» على أنّها مقدِّمة لبرنامج انتخابيّ في المستقبل، وقد جاء في الوثيقة مثلاً: «توفير فرقة أمنية في كل وسيلة ومحطّة نقل» وأيضًا «توفير الأدوية في الصيدليات والمستشفيات» و«محاربة الفساد» وغيرها، دون أي تفصيل في طريقة تحقيق هذه المطالب.

ويشير موقع «عيش تونسي» إلى أنّ أكثر من مليون تونسي قد وقّع على هذه الوثيقة، والتي يستعملها أصحاب الجمعيّة باعتبارها تأييدًا ضمنيًّا لمشروع «عيش تونسي» السياسي الذي لم ير النور بعد ولم تتّضح ملامحه لحدّ الآن، فما بين تصريحات رئيسته ألفة الترّاس بأنّ الترشّح للرئاسيّات يبقى «حقّها المشروع» وعدم استبعادها تحوّل «الجمعية الخيريّة» إلى حزب سياسي صريح، وتلميح مدير المشروع سليم بن حسن إلى إمكانيّة مشاركة «عيش تونسي» في التشريعيّات القادمة، يبقى من المؤكّد أنّ هذه الجمعيّة – الحزب، لم تصرف كلّ تلك المبالغ الطائلة على الأنشطة الخيريّة والثقافيّة بلا مقابل.

وتعرّض القائمون على الجمعية لكثير من الانتقادات، بين من يتّهمهم باستغلال العمل الخيري والتطوّعي من أجل كسب قاعدة انتخابيّة مستقبلية، واستغلال الفئات الفقيرة لأغراض انتخابيّة، وحتى استغلال البيانات الشخصية للتونسيين، بالإضافة إلى الارتباطات بالخارج نظرًا لعلاقة زوج رئيسة «عيش تونسي» بدوائر صنع القرار في فرنسا. 

ويطرح المال السياسي إشكاليّة كبيرة بالنسبة للمسار الديمقراطي التونسي، خصوصًا في دولة لا يتجاوز عدد سكّانها 11 مليون نسمة، ولا يتجاوز عدد المسجّلين للانتخاب 7 ملايين ناخبًا، وبالتالي فإن هامش المنافسة يبقى ضيّقًا للغاية، وهو ما يجعل للمال السياسيّ دورًا محوريًا في ترجيح كفّة طرف سياسي على بقيّة الأطراف، هذا الهامش الضيّق تجلّى بصورة واضحة في انتخابات الرئاسية الحاسمة التي جرت بين كلّ من الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي والرئيس السابق المنصف المرزوقي، والتي حُسمت بحوالي 300 ألف صوت فقط لصالح الرئيس الحالي.

من المؤكّد أن الوضعية الملتبسة بين العمل الخيري والدعاية السياسيّة ليست مقتصرة على حالة «عيش تونسي» فقط، بل يمكن القول إنّه قد أصبح التوجّه الجديد في الساحة السياسيّة التونسيّة، وهو ما ينطبق على نبيل القروي، رجل الأعمال التونسي الشهير ومالك قناة «نسمة» الذي كان أحد أبرز رجال حزب «نداء تونس» سابقًا، والذي أيضًا يحاول توسيع نفوذه السياسي من بوّابة الأعمال الخيرية عبر جمعيّته المسمّاة «خليل تونس»؛ كما قد أعلن ترشّحه للانتخابات الرئاسيّة المقبلة. 

«فورين بوليسي»: كيف يستغل الاستبداديون في تونس حريات الثورة؟

تعديلات قانون الانتخابات.. حماية للديمقراطيّة أم إقصاء بالقانون؟

في المقابل، فإن السلطة التونسية لم تبقَ مكتوفة الأيدي أمام هذه الظاهرة المنتشرة في الساحة السياسيّة، وسعت عن طريق البرلمان إلى الحدّ من هذا الصعود الصاروخيّ لأصحاب المال في استطلاعات الرأي، من خلال إقصائهم عن طريق استصدار قوانين تستهدفهم بشكل خاص. ففي 18 يونيو (حزيران) الماضي صادق البرلمان التونسي على قانون الانتخاب، الهدف منها محاربة المال السياسي الذي يُستخدم على شكل تبرّعات ونشاطات خيريّة وتطوّعية وخيريّة أو ما سمّته بـ«الإشهار السياسي».

وقد أثار القانون الكثير من الجدل؛ إذ اعتبرته الكثير من وسائل الإعلام أنّه مفصّل بشكل دقيق من أجل إقصاء رجال الأعمال الذين دخلوا بثقلهم المالي في الساحة السياسية في الآونة الأخيرة، وأظهرت استطلاعات الرّأي تزايد شعبيّتهم وتقدّمهم في قائمة المرشّحين المحتملين للرئاسيّات القادمة، وربط الإعلام التونسي بشكل صريح بين هذا القانون وبين كلّ من نبيل القروي، رجل الأعمال الغنيّ والمالك السابق لقناة «نسمة»، وأُلفة الترّاس رئيسة جمعيّة «عيش تونسي»؛ واعتبر كلّ من القروي والترّاس هذا القانون استهدافًا شخصيًّا ضدّهما، ودعيا إلى إسقاطه.

 


البرلمان التونسي

 

لكن ردّة فعل السُلطة الحاكمة هذه، من خلال إقرارها لهذه التعديلات الخاصة بقانون الانتخابات قد تعمّق أزمة الديمقراطية في تونس أكثر فأكثر، كما يرى الباحث سهيل لحبيب في دراسة له، إذ يؤكّد أن هذه التعديلات جاءت من أجل حسابات سياسويّة ضيّقة من أجل الحفاظ على الوضع الراهن وإبقاء السلطة في أيدي النظام الرسمي الحاكم سُلطة ومعارضة، وإقصاء أيّة قوّة جديدة صاعدة خارج هذه المنظومة.

ويرى الباحث أنّ هذه المقاربة التي تنتهجها المنظومة الحاكمة لإقصاء المنافسين عبر القوانين لا تختلف جذريًا عن تلك التي انتهجها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي عدّل القوانين الانتخابيّة في سنة 2002 لتسمح له بالترشح لعهدة رابعة وخامسة، بالإضافة إلى استعماله هذه التعديلات لاستبعاد منافسيه السياسيين، ويؤكّد الباحث أنّ هذه القوانين لا تأتي من قناعات مبدئيّة بضرورة محاربة المال السياسيّ، إذ إن المشاركين في المنظومة الحاكمة أنفسهم يستعملون المال السياسي بطريقة مكشوفة، وبالتالي فإن القانون أصبح يستغلّ لإقصاء المنافسين المحتملين الصاعدين في سبر الآراء، خصوصًا في هذا التوقيت بالذات قبل أشهر قليلة من انتخابات منتظرة الخريف القادم، ومن بين الأسماء كلّ من نبيل القروي، وألفة الترّاس، وقيس سعيد، وعبير موسي، بالإضافة إلى القوائم الحرّة التي حقّقت صعودًا كبيرًا في الانتخابات البلديّة السابقة.

اجمالي القراءات 975