هل ترغب السلطة المصرية في تفريغ القاهرة من فقرائها؟

في الثلاثاء ٠٩ - يوليو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تسير السلطات المصرية قدماً نحو إحداث تغيير سكاني ضخم يطال محافظات القاهرة الكبرى، عنوانه "القضاء على العشوائيات"، ويهدف إلى نقل سكان المناطق العشوائية من أحيائهم، وتسكينهم في أحياء نائية، وهدم أحياء قديمة وإقامة مشروعات سياحية واستثمارية مكانها.

في الوقت نفسه، يسير مشروع العاصمة الإدارية الجديدة على قدم وساق، ومن المنتظر أن تُنقل إليها كافة الإدارات والمصالح الحكومية والسفارات والشركات الكبرى. فما الذي تريده السلطة من السكان؟ وهل تسعى إلى إفراغ القاهرة الكبرى من فقرائها؟

 

"القضاء" على المناطق العشوائية التي تضم 50% من سكان القاهرة الكبرى، والبالغ عددهم 22 مليون ونصف المليون نسمة، هو أحد أكبر المشاريع التي تعمل عليها السلطة. رملة بولاق، مثلث ماسبيرو، الحطابة، الدويقة، منشأة ناصر، جزيرة الوراق... هي عدد من المناطق التي تقع ضمن خطة "التطوير"، وتعرّض عدد من سكانها للتهجير بالفعل، فيما ينتظر آخرون مصيرهم.

يقدّم المسؤولون تبريرات تنطلق من الرغبة في تنمية بعض المناطق وحماية السكان الآيلة منازلهم إلى الانهيار. ولكن يبدو أن البعد الأمني للمسألة هو أمر أساسي. ففي كلمة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاح مشروع "بشائر الخير"، أحد مشاريع القضاء على العشوائيات، قال: "إلي أنا بتكلم فيه بالمناسبة دا أمن قومي. لو سبت الناس البساط بضعفهم وغلبهم بالطريقة دي، والله والله تلات أربع سنين والبلد دي هيتم هدها".

ترحيل ولكن...

تختلف ظروف كل منطقة من المناطق التي تقع ضمن مخططات "التطوير" عن الأخرى من حيث الموقع وملكية السكان لمنازلهم وتاريخ الحديث عن مشاريع تطالها.

في ماسبيرو على سبيل المثال، بدأت قصة تهجير السكان في سبعينيات القرن الماضي، ثم قرر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك إطلاق مشروع تطوير القاهرة أو ما أطلق عليه وقتها "القاهرة 2050". هدف المشروع إلى إعادة تخطيط إقليم القاهرة الكبرى، وتوزيع السكان على جميع مساحتها، إضافة إلى القضاء على كل المناطق العشوائية.

ويقع مثلث ماسبيرو في قلب القاهرة على النيل، ويسمى بالمثلث لأنه يمتد في مثلث يقع بين كوبري 26 يوليو وكوبري 15 مايو وكورنيش النيل. وظهرت قضيته مجدداً في عهد السيسي كجزء من خطة القضاء على العشوائيات نهائياً، عام 2016.

أما رملة بولاق، فتبلغ مساحتها 49 فداناً بحسب ورقة بحثية لمركز عشرة طوبة للدراسات والتصميمات العمرانية، وملكيات الأراضي الأكبر فيها موزعة بين أبراج نايل سيتي المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، وهيئة السكك الحديدية والسكان وأملاك الدولة.

بدأ ترحيل السكان من المنطقة في التسعينيات مع بدء بناء أبراج النايل سيتي. وبحسب بيان للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، كان محافظ القاهرة الأسبق عبد القوى خليفة قد أصدر قراراً بالاستيلاء على أرض رملة بولاق، تمهيداً لتنفيذ اتفاق تعاون بين صندوق تطوير المناطق العشوائية والمحافظة، لتطوير المنطقة التي صنفها الصندوق بغير الآمنة من الدرجة الثانية، وتطوع فريق محامين نيابة عن أهالي المنطقة لوقف تنفيذ القرار وأصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً بوقف تنفيذه بالفعل.

جزيرة الوراق بدورها، وهي واحدة من 144 جزيرة نيلية في مصر، ويعمل أغلب سكانها في الصيد والزراعة، لها خصوصية وهي أن عدداً كبيراً من سكانها لديه عقود موثقة تثبت ملكيته للأراضي والمنازل. وتقدم الأهالي بدعوى ضد قرار الحكومة رقم 20 لسنة 2018 القاضي بتخصيص أراضٍ فيها لهيئة المجتمعات العمرانية التابعة لوزارة الإسكان.

مناطق كثيرة أخرى تشملها مشاريع "التطوير"، منها الحطابة ذات التراث المعمارى القديم والتي تقع خلف قلعة صلاح الدين الأيوبي فوق جبل المقطم شرق القاهرة، ونُقل سكانها مؤخراً، والدويقة ومنشأة ناصر اللتان تقعان بجانب مشاريع تنفذها شركة "إعمار مصر"، وهي الممثل المحلي لشركة تطوير عقاري كبرى تتخذ من الإمارات مقراً لها، أهمها مشروع "آب تاون كايرو " الذي ينفّذ على مساحة 4.2 مليون متر مربع.

بين التطوير والترحيل

أغلب السكان الذين يتم نقلهم من المناطق المسماة بـ"العشوائيات" يتم إسكانهم في مدن جديدة على حدود القاهرة، مثل حي الأسمرات. وهو مشروع افتتح السيسي مرحلته الأولى عام 2016، ومخطط له أن يستوعب 100 ألف نسمة. وحالياً يسكنه مئات المنتقلين من أحياء عشوائية، ويبلغ إيجار الوحدة السكنية فيه 300 جنيه.

وفقاً لمشروع تطوير مثلث ماسبيرو، أمام السكان ثلاثة خيارات: إما الحصول على تعويضات مادية أو الانتقال إلى مساكن حكومية بديلة، حيث يتم إعفاؤهم من دفع الإيجار لمدة عام ثم يحدد الإيجار بـ300 جنيه شهرياً، أو العودة إلى المنطقة مرة أخرى كسكان بشروط جديدة.

استجابة السكان للخيار الأخير كانت ضعيفة، إذ اختاره 8% فقط منهم. يفسر ذلك أحمد زعزع، الباحث ومصمم العمران في مركز "10 طوبة" للدراسات والتصميم العمراني، وهي إحدى المؤسسات التي لعبت دوراً في التفاوض بين سكان ماسبيرو والمسؤولين، بقوله لرصيف22 إن هذه الاستجابة الضعيفة لخيار العودة إلى نفس الأحياء كانت مرتبطة بالظروف التي وُضع فيها السكان أثناء تنفيذ عمليات النقل، إذ كانوا محاصرين بقوات أمنية، تعرض عليهم الانتقال أو التعويض الفوري، وفضّل السكان المقابل المضمون وليس التعلّق بوعود.

عاشت أمل سعد إبراهيم في منطقة ماسبيرو طوال حياتها، بعقد إيجار قديم (كلفة إيجار الشقة زهيدة بموجبه). وافقت في البداية على التعويض المادي عن مسكنها، ولكنها اكتشفت بعد ذلك أنه لا يكفي لشراء مسكن جديد فطالبت بالعودة مرة أخرى إلى مسكنها بعد التطوير غير أن المسؤولين رفضوا.

تتذكر السيدة الأربعينية يوم إخلاء المنطقة منذ عامين وتقول: "أتت قوات من الشرطة والحي، وأجبرونا على الإخلاء الفوري لمنازلنا، ولم يعطونا فرصة حتى لنقل الأثاث والأغراض".

يوضح زعزع أن الدولة لم تتبع أي من الإجراءات القانونية اللازمة في حالات إخلاء السكان، وعادت إلى سياسية نقل الفقراء بعيداً عن مركز القاهرة، كما كان حاصلاً في العهود الماضية.

ويؤكد الباحث العمراني أن خطط الدولة تهدف أحياناً إلى إقامة مشاريع استثمارية يستفيد منها الأثرياء، مذكراً بأن 65% من البناء في مصر عشوائي، ومضيفاً أن الدولة تركز على المناطق ذات الأبعاد الاستراتيجية والمواقع الممتازة في وسط القاهرة مثل ماسبيرو وغيرها.

وبحسب زعزع، فإن المناطق التي تقوم الدولة بنقل السكان إليها لا تتوفر فيها الخدمات المرجوة ولا تراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للناس.

إحلال طبقي وبعد سياسي

في نفس السياق، ترى أمنية خليل، الباحثة في أنثروبولوجيا العمران، وأحد مؤسسي مركز 10 طوبة، أن هذه المشاريع تستهدف "الإحلال الطبقي العمراني"

تقول أمنية لـ"رصيف22" إن "الدولة تسخر أجهزتها المختلفة وفقاً لحالة كل منطقة للتعامل مع سكانها، مع عدم وجود شفافية، إضافة إلى انتزاع الأراضي بالقوة من المواطنين". وتدلل على ذلك بإفراغ منطقة مثلث ماسبيرو المطلة على النيل من سكانها لصالح مشاريع أخرى.

وبدأت خطة "تطوير مثلث ماسبيرو" بترحيل السكان وهدم المنطقة، ومن المفترض أن تقرر أربع شركات سعودية وكويتية نوع الاستثمار المخطط تنفيذه في المنطقة، دون تدخل من الدولة في ذلك.

من جهة أخرى، لا ينكر البعض الزاوية السياسية للقضية، ويرون أن الأمر يستهدف استئصال سكان هذه المناطق من خريطة الاحتجاجات الاجتماعية المحتملة، لا سيما أنه كانت لهم مشاركة فعالة في ثورة 25 يناير.وقال المهندس حسين صبّور الذى عمل مستشاراً للحكومة في الثمانينيات، إنه تم التخطيط لإزالة العشوائيات في وسط المدينة ونقل سكانها خارج نطاق الطريق الدائري الذي كان يتم إنشاؤه حينذاك، ليسهل على الحكومة احتواء أية احتجاجات شعبية محتملة.

مشروعات تخدم مَن؟

بدأت قصة أهالي جزيرة الوراق مع النظام الحالي عام 2017 بمداهمة قوات أمنية، بالتنسيق مع الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، للجزيرة ومحاولة نقل السكان بالقوة، ما أسفر عن اشتباكات بين الطرفين تسببت بوفاة واحد من سكانها والقبض على عدد منهم. وفي 11 يونيو الماضي، قامت قوات من الشرطة بالتواجد المكثف بالجزيرة، واستخدمت جرارات لإزالة زراعات الموز.

بالتوازى مع ما حدث في الجزيرة عام 2017، انتشرت صور من مشروع لتطوير الجزيرة من إعداد شركة الهندسة المعمارية آر أس بي (RSP)، ومقرها سنغافورة، ولكن الشركة أوضحت أنها تخلت عن المشروع. في تلك الصور، نرى جزيرة محاطة بالأبراج الشاهقة.

تبلغ مساحة الجزيرة الإجمالية ‏1470‏ فداناً، منها ‏48‏ فداناً لأملاك الدولة و‏10‏ أفدنة لهيئة الأوقاف‏، وباقي أرض الجزيرة ملكيات خاصة لسكانها.

يقول المدير التنفيذى للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، الحقوقي جمال عيد لرصيف22 إن تهجير السكان من منازلهم في الوراق وغيرها كان بهدف إنشاء مشاريع استثمارية لخدمة الأثرياء وليس المواطنين و"يكون جني الأرباح هنا على حساب الفقراء"، و"أغلب التعويضات للسكان بخسة بل يتم انتزاع الأراضي من ملاكها بالقوة".

"الحطابة عنواني"

في الحطابة، حاول الشاب الثلاثيني محمد خليفة، أحد أبناء المنطقة ومغني مهرجانات، التعبير عن ارتباطه بمكان سكنه والاعتراض على رغبة الدولة في هدمها من خلال فيديو كليب غنائي بعنوان "الحطابة عنواني"، تحكي كلماته عن الحطابة.

 

 

 

 

يقول خليفة لرصيف22: "عشت طوال حياتي هنا ومن قبلي عاش جدي وأبي هنا والآن يحاول المسؤولون ترحيلنا".

بحسب خليفة، بدأ الأمر بإرسال أفراد الشرطة وموظفي الحي لحصر المنازل في المنطقة قبل سنتين ولكن السكان قاوموهم، فتراجعوا.

ويضيف أن المسؤولين يقولون للسكان إن المنطقة غير آمنة ومن الأفضل نقلهم إلى مكان آخر، وفي نفس الوقت يمنعونهم من ترميم البيوت القديمة لإجبارهم على الرحيل.

نقل أم إخلاء قسري؟

يشارك الباحث في قضايا حقوق السكن محمد عبد العظيم والذي عمل كثيراً على منطقتي الدويقة ومنشأة ناصر وجهة النظر التي تعتبر أن ما يحدث هنالك هو إخلاء قسري للسكان. ويقول إن الدولة ترغب في نقل الفقراء من القاهرة لأسباب كثيرة بعضها سياسي، لخوفهم من حدوث انتفاضات في هذه المناطق تصعب السيطرة عليها. إضافة إلى إقامة مشاريع استثمارية ضخمة يستفيد منها الأغنياء.

وهنا، ذكّر عبد العظيم بزيارة مقررة الأمم المتحدة المعنية بالحق في السكن للمناطق العشوائية، وما أكدته من أن السكان الذين تعاونوا معها تعرضوا للمضايقات من قبل الدولة.

تنفي شركة إعمار مصر وجود أية صلة بين الشركة والمشروعات المحلية التي تقوم بها الدولة بهدف التطوير. ولكنها في نفس الوقت تبرعت بمبلغ 878 مليون جنيه مصري لتطوير العشوائيات.

ويقول المدير التنفيذي لصندوق تطوير العشوائيات خالد صديق لرصيف22 إن الهدف من المشاريع التي تقوم بها الدولة هو المواطن بالأساس من أجل العيش في مساكن آمنة وجيدة، وتحرص الدولة على إعطاء التعويضات الملائمة لسكان هذه المناطق ومنها ماسبيرو التي حصلت كل أسرة فيه على مبلغ 100 ألف للغرفة، وأغلب الشقق هنالك مكونة من غرفة واحدة أو غرفتين كأقصى حد.

ويضيف أن الدولة أنفقت على المشاريع التطويرية في هذه المناطق قرابة 18 مليار جنيه حتى الآن من أصل 30 مليار جنيه بهدف تطوير المناطق العمرانية.

وعما يقال عن عدم جودة المنازل التي تم النقل إليها مثل الأسمرات، قال صديق "غير صحيح. فرح المواطنون بها". ولكن تقارير صحافية كثيرة كتبت ونشرت صوراً عن رداءة تجهيزات شقق الأسمرات وبدء خرابها، رغم أن المنطقة برمتها جديدة.

اجمالي القراءات 811