المديونية بالدول العربية.. الأسباب والدلالات

في الأحد ٠٢ - يونيو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

على مدار العقد الماضي، شهدت الأوضاع المالية بالدول العربية تغيرًا ملحوظًا، ويدلل على ذلك شواهد عدة، أبرزها واقع الموازنات العامة، حيث تحول الفائض بموازنات الدول العربية عام 2007 والبالغ 114.1 مليار دولار، إلى عجز عام 2017 بلغ 151 مليار دولار[1].

وفي عام 2017 كانت المملكة السعودية صاحبة أكبر عجز بموازنتها من بين الدول العربية بنحو ما يعادل 61 مليار دولار، تليها مصر بما يعادل نحو عشرين مليارا.

ولم تعد قضية المديونية العامة تخص الدول العربية غير النفطية، لكنها أصبحت تشمل جميع الدول العربية بما فيها الدول النفطية، على الرغم من تحسن أسعار النفط بالسوق الدولية خلال عامي 2017 و2018، مما أدى لانتعاش الإيرادات العامة بالدول النفطية.

فالسعودية -وهي أكبر دولة مصدرة للنفط على مستوى العالم- تبين إحصاءات وزارة ماليتها أن الدين العام فيها بلغ 560 مليار ريال (149.3 مليار دولار) نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018، بعد أن كان بحدود ستين مليار ريال (16 مليار دولار) عام 2013[2].

وتبنت السياسة المالية للمملكة اعتماد المديونية بشقيها (المحلي والخارجي) كآلية للتمويل، وأنشأت على إثر هذا التوجه المالي الجديد مكتبًا لإدارة الدين العام بوزارة المالية أواخر 2015.

قيمة المديونية العربية
تظهر الأرقام المتاحة -على صفحات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعامي 2009 و2018- أن الدين العام العربي قفز من 328 مليار دولار عام 2007 إلى أكثر من الضعف عام 2017، حيث بلغ 673 مليار دولار. مع ملاحظة أن أرقام الدين عام 2017 لا تتضمن الدين العام للدول الخليجية.

تطور المديونية العربية بين عام 2007 و2017

القيمة بالمليار دولار

2007

2017

الداخلي

الخارجي

إجمالي

الداخلي

الخارجي

الإجمالي

176

152

328

417

256

673

المصدر: بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، عامي 2009 و2018.

ويلاحظ من بيانات الجدول أن ثمة توسعا في استخدام الديون بالدول العربية، سواء كانت من مصادر محلية أو خارجية، وإن كان استخدام الديون الداخلية بشكل أكبر، بسبب القيود على الاقتراض الخارجي، وكذلك سهولة الاقتراض الداخلي، بما تملكه الحكومات العربية من سطوة على الجهاز المصرفي وتسيير أعماله.

بل سهلت هذه الآلية عمل البنوك بالدول العربية، من حيث تحقيق أرباح مضمونة للبنوك بلا أي مخاطرة، مقارنة بقيامها بإقراض القطاع الخاص، سواء الإنتاجي منه أو الخدمي.

وحسب الأرقام فإن الفجوة الغذائية في المنطقة العربية قفزت من 24.2 مليار دولار عام 2007 إلى 53.1 مليارا عام 2016[3]. ولذلك أسباب كثيرة تتعلق بزيادة السكان، وتراجع معدلات إنتاج الغذاء بالدول العربية، وأزمة شح المياه، وغياب الإرادة السياسية.

أما أزمة الطاقة التي شهدها عام 2007، فكانت واضحة الدلالة، بالنسبة للدول العربية غير النفطية، حيث قفزت أسعار النفط بمعدلات كبيرة ليقترب سعر برميل النفط من حاجز مئة دولار، وظل كذلك حتى منتصف عام 2014.

وفي ظل غياب أي صورة من صورة التعاون العربي -الذي يخفف من حدة مثل هذه الأزمات المترتبة على تقلبات أسعار السلع الأولية والإستراتيجية في السوق الدولية- لم يكن أمام الدول العربية غير النفطية سوى الاستدانة، والاتجاه نحو تكريس أزمة المديونية العامة.

وعلى الصعيد العالمي، أتت الأزمة المالية العالمية عام 2008 -والتي صاحبها حالة من الركود- ومازالت آثارها السلبية تلقي بظلالها على معدلات النمو الاقتصادي، وقد تأثرت الاقتصاديات العربية سلبيا بتداعيات الأزمة المالية العالمية، بسبب اعتماد بنيتها على المصادر الريعية، والاقتصار على إنتاج وتصدير المواد الأولية، وغياب القواعد الإنتاجية والصناعية التي يمكنها أن تقي الاقتصاديات العربية من الصدمات الخارجية، والخروج من ربقة التبعية للاقتصاديات الرأسمالية.


تظهر الأرقام أن الدين العام العربي قفز من 328 مليار دولار عام 2007 إلى أكثر من الضعف عام 2017 حيث بلغ 673 مليارا. مع ملاحظة أن هذه أرقام لا تتضمن الدين العام للدول الخليجية

ولم يمض وقت طويل بعد الأزمة المالية العالمية، حتى أتت موجات الربيع العربي، لتشمل دولا (تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن) ومؤخرا مع مطلع 2019 يشهد كل من السودان والجزائر إرهاصات ربيع عربي جديد.<"center" dir="rtl" style="box-sizing: border-box; margin: 16px 0px 0px;">  

2007

2017

داخلي

خارجي

إجمالي

داخلي

خارجي

إجمالي

تونس

36.6

مصر

111.5

32.8

144.3

268.9

82.8

351.7

ليبيا

------

------

------

------

------

------

سوريا

8.8

5.1

13.9

6.8

4.65

11.45

اليمن

1.7

5.8

7.5

19.7

6.3

26

المصدر: بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، قاعدة بيانات البنك الدولي.

وتتصدر مصر الدول العربية من حيث قيمة المديونية العامة من بين دول الربيع العربي، تليها تونس ثم اليمن.

لكن إذا انتقلنا على صعيد الدول العربية ككل، فإن وضع مصر يظل كذلك بمقدمة الدول العربية المدينة، تليها السعودية بقيمة مديونية 149.3 مليار دولار، ثم المغرب 89 مليارا، ثم لبنان 79 مليارا.

ومن المحطات الأخيرة التي ساهمت في زيادة قيمة المديونية العامة للدول العربية أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية منتصف عام 2014، حيث عادت الدول النفطية العربية لسيرتها السابقة عام 2003، حيث عجز الموازنات وتزايد الدين العام.

واجتمع على الدول النفطية الخليجية بجوار انهيار أسعار النفط، أزمة حصار قطر، التي أرهقت أطرافها.


معايير صندوق النقد تساعد الدول العربية على التمادي في المديونية العامة (غيتي)
معايير صندوق النقد تساعد الدول العربية على التمادي في المديونية العامة (غيتي)

المديونية وتوجهات صندوق النقد
قبل عام 2014، كانت الدول النفطية العربية بمنأى عن التعامل مع أجندة صندوق النقد الدولي، ولكن بعد أزمة انهيار أسعار النفط منتصف عام 2014، تبنت جميع الدول النفطية برامج لما يسمى الإصلاح الاقتصادي، تستهدف تمويل عجز الموازنة عبر الديون المحلية أو الخارجية، وهو ما لمسناه من إصدار كافة الدول النفطية سندات للاستدانة من السوق الدولية فضلا عن السوق المحلية.

وبذلك اكتملت حلقة سيطرة الصندوق والبنك الدوليين عبر سياستهما الاقتصادية والمالية على جميع الدول العربية.

ومن هنا، فسياسات البنك والصندوق تساهم بشكل مباشر في زيادة الدين العام للدول العربية، وذلك عبر ما يسمى شهادة الثقة التي حصلت عليها عدة دول عربية، مكنتها من الانطلاق للسوق الدولية لزيادة الديون الخارجية.

وتساعد معايير الصندوق الدول العربية على التمادي في المديونية العامة، حيث تعتبر من مؤشرات نجاج برامج الصندوق الاقتصادية، وقدرة الدولة على ما يسمى "الاستدامة المالية" أي سداد أعباء الدين بشكل منتظم دون تعثر أو طلب اللجوء لإعادة جدولة الدين، في حين أن الدول العربية بحاجة إلى تراكم رأسمالي يسمح لها بارتفاع المدخرات المحلية، وزيادة مساهمة التمويل الذاتي لمشروعات التنمية، ومجالات النشاط الاقتصادي.

ورغم أن صندوق النقد الدولي اعتبر ما حدث في مصر وتونس حالة نجاح على الصعيد المالي والاقتصادي، فإن دلالات هذا النجاح تغيب على صعيد المديونية العامة.

فقد ارتفعت الديون بهاتين الدولتين بشكل ملحوظ كما ذكرنا، ولا يمكنهما على مدار الأجلين القصير والمتوسط الاستغناء عن الديون لتمويل عجز الموازنة، فضلًا عن الفجوة الكبيرة لتمويل مشروعات حقيقية للتنمية.


 دلالات الواقع العربي الحالي لا تبشر بخير حيث تغيب مشروعات التنمية الحقيقية، ويتم التفريط في الموارد والثروات القومية لصالح مستثمرين أجانب بزعم الخصخصة، والتخفيف من عجز الموازنة
"

استشراف المستقبل
ما ذكرناه سابقًا من حزمة الأسباب التي أدت لزيادة المديونية العامة بالدول العربية، يأتي في إطار ما يسمى "عرض لمرض" والمرض الرئيس للاقتصاديات العربية أنها لا تنتج، وحتى ما تنتجه لا يزيد عن التقليدي، والمتقادم تكنولوجيا، وتغيب القيمة المضافة بشكل رئيس عن أداء الناتج المحلي للدول العربية.

وهو ما لمسناه بشكل واضح بعد أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، حيث تراجعت قيمة الناتج المحلي العربي بشكل كبير، ففي عام 2014 كان الناتج المحلي العربي بحدود 2.8 تريليون دولار، لكنه تراجع عام 2016 إلى 2.3 تريليون، وعلى الرغم من التحسن الذي شهده عام 2017 عند 2.4 تريليون دولار فإنه لم يبلغ بعد ما كان عليه عام 2014.

فهشاشة الناتج المحلي العربي يترتب عليها تواضع المدخرات وبالتالي استمرار الفجوة المالية بين المدخرات والاستثمارات المطلوبة، ولا يكون بوسع صانع السياسة المالية اللجوء للاقتراض المحلي أو الخارجي.

لكن باب الاقتراض لن يظل مشرعًا طوال الوقت، فهناك سقف للديون يجب ألا تتجاوزه، وليس من صالح الأجيال القادمة أن تكتفي الحكومات العربية بمجرد تدوير الديون، أي الحصول على قروض جديدة لسداد ديون قديمة، ولكن المطلوب وجود برامج وسياسات تنموية واقتصادية تسمح بتوفير حيز مالي يعتمد على الموارد الذاتية، ويقضي على اللجوء للاستدانة.

ودلالات الواقع الحالي على الصعيد القُطري أو الإقليمي العربي لا تبشر بخير، حيث تغيب مشروعات التنمية الحقيقية، ويتم التفريط في الموارد والثروات القومية، لصالح مستثمرين أجانب بزعم الخصخصة، والتخفيف من عجز الموازنة، أو وقف نزيف خسائر المشروعات الحكومية أو القطاع العام.

فالدائرة مغلقة ولا يمكن كسرها، حيث التوسع في الديون يترتب عليه زيادة الأعباء التي تفضي إلى مزيد من عجز الموازنات، فلا تتوفر أموال كافية للاستثمار أو الإنفاق الاجتماعي على التعليم والصحة، فتزيد البطالة والفقر، والهجرة الداخلية والخارجية.

وقد يكون من العبث الحديث عن دور للتعاون الاقتصادي العربي لسد فجوة الديون العربية، حيث حالة الانقسام والحروب البينية التي تستنزف الثروات عن عمد، حتى لا يتمكن أحد من توجيهها بشكل صحي، لخدمة التنمية بالمنطقة العربية.

لذلك نتوقع استمرار أزمة المديونية العربية، وتفاقمها في الأجلين القصير والمتوسط، ولن تكون هناك حلول لهذه القضية وغيرها من القضايا الاقتصادية العربية إلا بعد أن تشهد المنطقة حالة من الاستقرار السياسي والأمني، وكذلك عودة الديمقراطية والحرية للشعوب العربية، حتى يمكن ممارسة النشاط الاقتصادي وفق قواعد صحيحة، ووجود رقابة حقيقية عبر البرلمانات، وشفافية من قبل الحكومات.

...............................

[1] التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعامي 2009 و2018.

[2] المالية السعودية، تقارير واحصاءات الدين العام،https://www.mof.gov.sa/DebtManagementOffice/ReportsandStatistics/Pages/default.aspx

[3] الملاحق الإحصائية للتقرير الاقتصادي العربي الموحد لعامي 2009 و2018.

اجمالي القراءات 1308