هل يستطيع السجناء التغلب على الحجز الانفرادي؟ علم النفس يُجيب!

في الثلاثاء ١٩ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

نظر الرجل إلى المحكوم عليه وقال: «هل يعرف السجين عقوبته؟» ليقول الضابط: «كلا، سيختبرها بنفسه». *كافكا، رواية مستعمرة العقاب.

حياة السجين الانفرادي تتشابه كثيرًا، فكيف يستطيع هذا السجين السيطرة على انفعالاته؟ وكيف يتغلب الناس على الحجز الانفرادي؟ أو بمعنى أصحّ كيف يتغلب السجناء على الحجز الانفرادي دون أن يفقدوا عقولهم؟

في زنزانة صغيرة، لا تحتوي على فِراش أو دورة مياه، فقط شباك في أعلى الزنزانة، بالكاد يسمح لشعاع شمس بالدخول، يتم إدخال الطعام إليها عن طريق شق في الباب، يجلس المُحتَجز وحيدًا، لشهور أو لسنوات، وأحيانًا لعقود، يجلس ليعد الأيام بلا نهاية، أيام كاملة لا يسمع فيها سوى الصمت، أو أصوات استغاثة بسبب التعذيب، وهو ما يصيبه بالراحة قليلًا لأنه يتأكد من أنه ما زال على قيد الحياة، وفي الوقت الذي ترى فيه السلطة أن هذه الطريقة تضمن الأمان لباقي السجناء، المعزولين عن السجين الانفرادي؛ إلا أن الصحة النفسية لها رأي آخر.

يُعرّف خوان منديز مقرر «الأمم المتحدة» الحجز الانفرادي؛ بأنه نظام يُبقي على السجين معزولًا تمامًا، إذ يُفصل عن الزنازين العامة، ويوضع في زنزانة بمفرده لمدة 22 ساعة، لا يرى سوى الحراس. ويُحتجز السجناء الذين يشكلون خطرًا على الأمن، أو سلامة الآخرين، في السجن شديد الحراسة انفراديًا، لمدة قد تصل لعقود. وتقول عنهم الحكومة أنهم أخطر وأكثر عنفًا من أن يُوضعوا في زنازين عادية، لأنهم من الممكن أن يُكوّنوا تشكيلات عصابية مع سجناء آخرين، أو أن يضعوهم في خدمتهم.

وفي العادة يسمح للسجين بساعة يوميًا خارج الزنزانة للتريض، فيما يظل بقية اليوم، في الزنزانة مُحملقًا في الفراغ. وتقول الحكايات المسجلة عن المحتجزين الانفراديين، أن «البارانويا» والعنف يبدأن في الظهور عليهم إبان اليوم العاشر، ويبدأ السجين في الطرق على الباب، والحوائط بشدة.

رهاب العزلة.. هل نحن موجودون حقًا؟

يمثّل المكوث في مكان معزول بالنسبة لبعض الناس شيئًا مروعًا، الخوف والوحدة يدفعان السجين خطوة بخطوة نحو الاكتئاب واليأس. ولقد عكف كريج هاني، خبير علم النفس الاجتماعي، لمدة عقدين من الزمن على دراسة الآثار النفسية للحجز الانفرادي، كانت البداية في عام 1993 عندما أجرى عدة مقابلات، مع سجناء انفراديين، في سجن ولاية بيبليكان باي في كاليفورنيا، أحد أكثر السجون صرامة. معظم السجناء كانوا مرتكبي جرائم العنف، وأفراد عصابات، أو مروجي مخدرات، وكان الغرض من مقابلة كريج هو التعرف على آثار العزلة، على هؤلاء المساجين. وبعد 20 عامًا، عاد كريج للسجن نفسه، ليجري مقابلات مع المساجين، وكان من بينهم بعض المساجين الذي قابلهم في السابق، وقد قضوا كل هذه السنوات في زنازين بلا شبابيك، وبلا تواصل، أو برامج تأهيل، يقول كريج «كان شيئًا صادمًا».

وويوضح كريج أن بعض السجناء يسقطون بسرعة شديدة في دوامة الاكتئاب، ويسمي ذلك برهاب العزلة، ويقول: «تجربة أن تكون بمفردك تمامًا، منقطع عن كل أشكال التواصل، شيء شديد الصعوبة، يجعل بعض السجناء يشعرون بقمة القلق، ويشعر السجين باللاجدوى من القيام بأي مهمة من أي نوع، ويفقد المعنى بأهمية القيام بأي نشاط، ثم يفقد إحساسه بالواقع من الأساس»، ويحكي كريج عن بعض السجناء الذين أصبحوا لا يستطيعون السيطرة على مثاناتهم بسبب القلق، فالتفاعل البسيط بعد فترة، يسبب لهم القلق، أبسط مثال: التعامل مع أي شخص. وقد وصف كريج حالة السجين الانفرادي بالموت الاجتماعي، فيقول «إنهم لا يعرفون أين هم، لا يعرفون كيف أصبحوا»، ويضيف أن معظم السجناء الذين قابلهم كانوا يتحدثون بحزن عن أمهاتهم، أو زوجاتهم وأولادهم، الذين لم يستطيعوا زيارتهم أو لمسهم لمدة سنوات، وهم ممنوعون أيضًا من إجراء مكالمات هاتفية. يقول سجين «سُمح لي بإجراء مكالمة هاتفية فقط عندما مات أبي، كانت مدتها 15 دقيقة، أدركت حينها أنني لم أعد أعرف عائلتي، ولا أستطيع تمييز أصواتهم»، ويقول كريج «إن الوقت لم يساعد في تخفيف آلام السجناء»، أكثر من 63% من السجناء الذين قضوا 10 أعوام في الحجز الانفرادي قالوا إنهم يشعروا بانهيار وشيك، و73% من السجناء المعزولين كانوا مصابين باكتئاب حاد.

ويرى علماء الاجتماع أن تلك العزلة لها آثار وخيمة على الصحة النفسية، فبعض السجناء يصابون بانعدام وزن، فيبدأون في السؤال عما إذا كانوا موجودين حقًا أم لا، كما أن بعض الناس عندما يخرجون من الحبس الانفرادي، تنتابهم حالة من «فَقد الشعور»؛ وهي التي تنتاب الإنسان بعد التعرض للصدمات النفسية أو الـ«PTSD»، وتشمل أعراض ما بعد النجاة، زيادة الحساسية للأصوات والضوء والقلق والاكتئاب، ونوبات تذكّر لما مضى.

هذا ما تفعله العزلة بالإنسان

«يُعرف البشر بأنهم كائنات اجتماعية، لكن في العزلة يوجد فراغ، لا يوجد شيء لإلهاء الشخص أو تشتيت انتباهه، وعندها يبدأ المخ في ممارسة ألعاب، فقد تسمع صوت خطوات، أو أشياء غير موجودة، أو تضخم صوت ضئيل»، هذا ما يقوله أحد السجناء الذي مكث في الحجز الانفرادي لمدة 10 أعوام، بينما يقول آخر: «لم أرَ شجرة ولا نباتًا، منذ سنوات، الكائن الوحيد الذي رأيته هو العنكبوت الذي يحتل سقف الحائط»، والعزلة قد تسبب الانكماش لأجزاء في المخ، من ضمنها «الحصين» المسؤول عن الذاكرة، والسيطرة على المشاعر. فالهلوسة ونوبات الهلع وانعدام التوازن، والقلق والاكتئاب، وحتى محاولات الانتحار، وكذلك صعوبات في التفكير والتذكر، والتركيز، وزيادة الحساسية للمؤثرات الخارجية، وفقدان القدرة على البقاء متيقظًا؛ هي أمثلة لتأثير العزلة الإجبارية على الإنسان، لكن ما لا تعرفه السلطات أن الحبس الانفرادي يجعل السجناء أيضًا أكثر عنفًا، على أنفسهم، إذ يصبح الانتحار عرَضًا هامًا، وهو من الحالات المنتشرة جدًا بين السجناء في الحجز الانفرادي، وتظهر دراسة أجريت على سجن كاليفورنيا، من عام 1999 إلى 2004، أن نصف المساجين الانفراديين، حاولوا الانتحار.

كيف يمكن للسجين الانفرادي أن ينجو من الجنون؟

بالرغم من تأثير السجن الانفرادي المدمر على صحة وعقل السجناء، يرى علماء النفس أن السجناء الانفراديين قد يستطيعون النجاة بشكل ما أو آخر، إذا اتبعوا بعض التعليمات والنصائح التي قد تبدو غريبة مع الوضع العام للسجين الانفرادي.

احلم.. لا تدع السجان يسرق حلمك

يروي أحد المساجين أنه في بداية دخوله إلى السجن أخبره زملاءه أن يحلم، ففي الفترة الأولى من حبسه سيستطيع الحلم بالعالم خارج السجن، أما بعدها ستدخل مفردات السجن إلى أحلامه، سيسرقون حلمه؛ الخيال أو الصور العقلية، وأحد السبل التي قد ينجو بها السجين ولو قليلًا؛ هي الخيالات العقلية التي تستطيع مساعدة السجين لتحمل وضعه. والأمر هنا ليس من قبيل الشاعرية، فالخيال يُحفّز الفص الأمامي من المخ، المسؤول عن المهارات الإدراكية في المخ، مثل الانفعالات، والذاكرة واللغة والقدرة على التواصل.

ابق نظيفًا أنت وزنزانتك

يقول دكتور ديفيد ألكسندر طبيب نفسي، متخصص في علاج الصدمات النفسية، أن كثيرًا من السجناء يعيشون في ظروف قاسية، في زنزانة بلا دورة مياة، أو حوض لأغراض النظافة، وأول ما ينصح به ديفيد هو الحفاظ على الزنزانة نظيفة، فينصح السجين بتجميع القاذورات في ركن واحد، وتخصيص ركن واحد في الحجرة للتبول، ويوصي بتخصيص ركن «للمعيشة» والحفاظ عليه نظيفًا، ويوصي المساجين أيضًا بمحاولة الاهتمام بنظافتهم قدر الإمكان، إذ يقول: «اهتم بقَص أظافرك، حتى مع عدم إمكانية وجوده آلة لقصها، كل مجهود بسيط تقوم به، يساعدك في استرداد هويتك، حتى لا يسلبها منك السجان».

اخلق لنفسك روتينًا يوميًا واكتب شعرًا

يعرف ديفيد أن السجان يتحكم في حياة السجين بالكامل، يتحكم حتى في مواعيد ذهابه لدورة المياه، يقول ديفيد: «اخلق نظامًا لك، كما لو كنت في بيتك؛ من المهم أن يكون لك روتين يومي، افعل أي شيء لتحاول فَرض شَكل لهذا العالم، حاول وضع أي مهمة لإنجازها، ولو عمل بسيط، اشغل وقتك دائمًا في القراءة أو محاولة كتابة شعر الهايكو، أي شيء لحفظ ذاتك، ويقول أن ما يريده السجان هو  أن ينزلق السجين إلى ما يُطلق عليه في علم النفس، «العجز المُتعَلم» وهو توصيل  السجين إلى الإحساس بأن أي مُهمّة سيقوم بها ستنتهي إلى الفشل، فيجعله ذلك لا يحاول فعل أي شيء».

اجمالي القراءات 1733