ميدل إيست آي»: كيف خسر العالم العربي معركة الديمقراطية على مدار 150 عامًا؟

في السبت ٠٩ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

رغم أن إقرار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بحق الصين في اضطهاد مسلمي الإيغور الأقلية كيفما تشاء كان صادمًا للكثيرين، فمن منظور آخر قد لا يكون كذلك حقًا. ولا يزيد ذلك الإقرار عن كونه حلقة في سلسلة تحول العالم العربي بعيدًا عن الغرب الليبرالي ونحو قوى أكثر سلطوية ممثلة في روسيا والصين، لتعصف بذلك الدول العربية بأكثر من 150 عامًا أمضتها في محاولة محاكاة الليبرالية الغربية في سياساتها، وتعكس رغبتها المتزايد في أن تصبح صورة من (النموذج الصيني السلطوي الناجح)».

هكذا استهل محمد فاضل، أستاذ في كلية الحقوق بجامعة تورنتو الكندية، مقاله المنشور بموقع «ميدل إيست آي» البريطاني.

وفيما يلي الترجمة الكاملة لنص المقال:

أفادت أنباءٌ بأن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أقر بحق الصين في التعامل مع أقلية الإيغور المسلمة بالطريقة التي تراها مناسبة، وكل ذلك باسم محاربة التطرف الإسلامي.

إن فشل ولي العهد في الدفاع عن حقوق المسلمين في الصين يمكن تفسيره بسهولة في سياق حاجته لحلفاء من أجل تلميع صورته الدولية في أعقاب الاشمئزاز العالمي من ضلوعه الواضح في عملية القتل الوحشي وتقطيع أوصال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.

لكني أعتقد أنه يمثل تحولًا أعمق للعالم العربي بعيدًا عن الغرب الليبرالي ونحو القوى السلطوية في روسيا والصين.

إعادة توجيه عميق

على مدار 150 عامًا، ركز الفكر السياسي العربي بشكل أساسي على التوفيق بين ماضيه الإسلامي والحداثة، وترافق الإصلاح السياسي مع الإصلاح الديني يدًا بيد، ورغم طرح أنواع مختلفة من الإصلاح الديني، يمكن تحديد هذه الأنواع بسهولة على أنها مماثلة لاتجاهات الفكر الديمقراطي في الغرب.

إن تأثير الفكر الليبرالي، بما يشمل فكر كارل ماركس، على الفكر الإسلامي الحديث في العالم العربي لم يولّد فقط مجموعة واسعة من مشاريع الإصلاح الديني –بدءًا من الدعوة إلى خصخصة الدين، ثم إلى مشروع نيوليبرالي لحكومة دستورية محدودة تعزز الملكية الخاصة للممتلكات من أجل الدعوة، ثم إلى إعادة توزيع جذري للثروة- لكنه أنتج أيضًا علاقة انفصام مع الغرب الليبرالي.

من جهة، أُعجب المسلمون العرب الإصلاحيون بإنجازات الغرب في الحكم الليبرالي والتقدم العلمي والمادي، لكنهم من جهة أخرى أبدوا استياءهم من الغرب لاستغلال تقدمه النسبي لتعزيز طموحاته الإمبريالية التي عملت بنشاط على تقويض قدرة الشعوب العربية على تحقيق الإصلاح والتقدم الحكم الذاتي الفعال.

الارتماء في أحضان الغرب

خلال الحرب الباردة، كان العداء الواسع النطاق للشيوعية سوفيتية النمط سببًا في رفض الدول العربية المناهضة للإمبريالية، مثل مصر في حقبة جمال عبد الناصر، الانضمام إلى الكتلة السوفيتية، وبدلًا من ذلك، ساعدت هذه الدول في إنشاء حركة «دول عدم الانحياز».

الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع نيكاتا خروتشوف حاكم الاتحاد السوفيتي – أسوان – مصر

يمكن قول الشيء نفسه عن الدول العربية المحافظة. فبينما كانت تلك الدول لا تشعر بالارتياح لجوانب معينة من الحداثة الليبرالية، فقد وجدت الكثير من القواسم المشتركة مع الغرب الليبرالي أكثر من الاتحاد السوفيتي، ولذلك ألقوا بثقلهم ناحية الغرب.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، بدا من المحتم أن يتطور العالم العربي تدريجيًا نحو حكومة دستورية تقوم على نوع من التسوية بين الإسلاميين والليبراليين.

في الواقع، يبدو أن هذا كان المسار المتبع في العديد من الدول العربية في فترة ما بعد الحرب الباردة، إذ تخلت الأنظمة الاستبدادية تدريجيًا عن مساحة أكبر لصالح الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وسمحت بانتخابات أكثر حرية نسبيًا في مجالات مختلفة من الدولة والمجتمع المدني، وإن كان ذلك بدون السماح بأي تحديات فعالة للحاكم.

من هذا المنظور، يمكن اعتبار الربيع العربي لعام 2011 ذروة قرن ونصف من الفكر السياسي والديني الذي سعى إلى تحقيق نظام حكم دستوري محدود في العالم العربي يمكن أن يوفق بين الإسلام والحداثة الليبرالية.

نموذج استبدادي

بينما قد يرغب البعض في الدفاع عن الثورة المضادة على أساس حماية الدولة من التطرف، فمن الواضح الآن أن الأطراف التي تقود هذا الاتجاه، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لا ترى أي مصلحة في إقامة حكم ديمقراطي في العالم العربي.

بدلًا من ذلك، تروج تلك الدول لنموذج سلطوي للسياسة لا يوجد فيه مواطنون، بل مستهلكون فقط. وأي محاولة للمطالبة بالحقوق السياسية توصَم بتهمة التحريض على الفتنة. في هذا الصدد، فإن موقف المملكة السعودية والإمارات من المعارضة السياسية هو المؤشر الأكثر دقة لمستقبل السياسة في العالم العربي.

من ناحية أخرى، مصر بصدد تعديل دستورها رسميًا لتمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي حتى عام 2034 وتكريس السيادة العسكرية على الدولة.

وبالتالي، فإن الثورة المضادة ليست مجرد رفض للديمقراطية الانتخابية على أساس أنها مكنت الإسلاميين المناهضين للديمقراطية حسب زعمهم، بل بالأحرى هو تنصل من اتجاهات الفكر السياسي والديني العربي السائدة خلال الـ150 سنة الماضية.

لم تعد الديمقراطية أمرًا مسلمًا به باعتبارها هدفًا مرغوبًا في السياسة العربية، بل ينظر إليها على أنها تهديد وجودي للمجتمع يجب مواجهته واحتواؤه في كل منعطف. وينظر إلى أي نوع من السياسة الشعبية على أنه تهديد «للوحدة الوطنية»، وبالتالي يجب قمعه بقوة.

على عكس سياسات ما قبل الربيع العربي، عندما كانت هناك مهادنة على الأقل للمثل السياسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن القيمة الوحيدة التي تتبناها الثورة المضادة هي بقاء الدولة.

وبدلًا من التزام الدولة بتوفير الحقوق السياسية، أصبح التزام الدولة الوحيد هو حماية سكانها التعساء من خطر الانهيار الاجتماعي الذي قد ينجم عن أي شكل من أشكال الديمقراطية. وفي مقابل التنازل التام عن الوكالة السياسية لصالح الدولة، تلتزم الدولة بمحاولة تحسين مستويات المعيشة لمواطنيها، لكن دون النص على أي بند لمحاسبة الدولة عند الفشل في تحقيق هذا الطموح.

هذا المفهوم البائس للسياسة كان مستحيلًا، سواء أثناء الحرب الباردة أو في فترة الهيمنة الأمريكية الأحادية القطب التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي.

صعود روسيا والصين

لكن في عالم العلاقات الدولية الجديد متعدد الأقطاب والصفقات الذي تروج له إدارة ترامب، ترى الأنظمة الاستبدادية العربية في روسيا والصين نماذج دائمة للسياسات السلطوية القائمة على القيمة المشتركة لازدراء الديمقراطية التعددية والتنافسية باعتبارها تهديدًا لسلامة الدولة.

زيارة الملك سلمان للصين في 2017

كان صعود الصين جذابًا بشكل خاص للأنظمة الاستبدادية العربية لأنه يجسد أملهم في تحقيق التنمية دون التخلي عن أيًا من سلطاتهم. ومع ذلك ستكون هذه الأنظمة الاستبدادية أكثر سعادة عند التضحية بالتنمية إذا رأوا أنها ستؤدي إلى مطالب بالديمقراطية.

إن استعداد محمد بن سلمان لتأييد السياسة الصينية تجاه الأقليات المسلمة، من هذا المنظور، هو أكثر من مجرد قرار تكتيكي.

إنه يمثل صعود تحالف جديد من الأنظمة الاستبدادية العالمية المتحدة في اعتقاد مشترك بأن الديمقراطية أمر خطير، وأنه يجب منح الدول سلطة مطلقة لإدارة التغيير الاجتماعي والسياسي داخل حدودها الخاصة دون إزعاج المساءلة من قبل شعوبها، أو فكرة أن الحقوق الفردية يمكن أن تقف في طريق خططهم.

ليس من المستغرب إذن ألا يعترض ولي العهد السعودي على معاملة الصين لأقلياتها المسلمة: الأيديولوجية الجديدة للأنظمة الاستبدادية العربية ترفض أي نوع من التضامن العابر للحدود، سواء كان ليبراليًا أو إسلاميًا.

وبالتالي، فإن اللامبالاة بمعاناة الإيغور، ودعم الحكام العرب المستبدين للإسلاموفوبيا في الغرب، هي نذير وتنبؤ لمستقبل الحكم السياسي في العالم العربي.

اجمالي القراءات 911