قتل جميع أهلها بأطنان من القنابل الفرنسية.. قصة القرية التي وحدت دماء التونسيين والجزائريين

في الثلاثاء ١٢ - فبراير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يحيي التونسيون والجزائريون هذه الأيام ذكرى مجزرة «ساقية سيدي يوسف» المروعة، التي وقعت في عام 1958 على يد القوات الفرنسية، التي سوّت القرية التونسية الحدودية بالأرض، بأطنان من القنابل، لتقتل العشرات من المدنيين التونسيين والجزائريين اللاجئين، بينهم نساء وأطفال.

وحّدت هذه المجزرة الدماء التونسية والجزائرية، وكان لها وقع كبير في تغيير سياسات الاستعمار في الجزائر، كما كشفت الوجه الحقيقي للفرنسيين أمام العالم كله بعد أن كانت باريس تنجح في تضليل الرأي العام العالمي حول حربها على الثوار هناك، فما قصة الساقية التي أغاظت فرنسا ودعتها لهذا الانتقام العنيف؟

قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها تحت الأنقاض

في الثامن من فبراير/شباط من عام 1958، قامت 27 طائرة فرنسية من نوع «بي 27″، تحمل قنابل تزن الواحدة منها ربع طن، وصواريخ جو أرض، بقَصف قرية بوحشية، بداية من الساعة 11.10 بالتوقيت المحلي (10:10 ت.غ)، ولمدة تفوق ساعة من الزمن، والتي ألقت فيها بأطنان من القنابل، تزامن ذلك مع البازار (السوق) الأسبوعي بالقرية، بحسب كتب تاريخية وشهادات مسجلة.

ولتضليل الرأي العام الدولي، أصدرت قيادة الجيش الفرنسي، بياناً حينها، قالت فيه، إن الطائرات الفرنسية دمّرت مراكز الثوار الجزائريين، على بعد 1.5 كلم عن قرية «ساقية سيدي يوسف» التونسية بنسبة 50%.

جدير بالذكر أن تونس كانت حينها دولة مستقلة (1956)، لكن باريس أبقت قطعاً عسكرية لها في البلاد، بينما كانت الجزائر حينها في ذروة حربها التحريرية ضد الفرنسيين (1954-1962).

وبعد المجزرة بساعات، توجه صحفيون ومصورون تونسيون وفرنسيون وحتى أجانب، إلى ساقية سيدي يوسف، لتصوير مراكز الثوار الجزائريين «المدمرة»، لكنهم أصيبوا بذهول عندما رأوا أن قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها تحت الأنقاض، واستهدف سوقها الأسبوعي المكتظ بالناس، كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء التلاميذ وأدواتهم المدرسية.

ولم يجد الصحفيون والمصورون أي أثر لأي مركز لجيش التحرير الجزائري أو لجنوده أو سلاحه، مما شكك بالدعاية العسكرية الفرنسية، خاصة بعد توثيق الإعلام الدولي لقصف مدنيين عزل، في دولة مستقلة، واستهداف حتى اللاجئين الجزائريين الفارين من جحيم الحرب، التي حاولت فرنسا التعتيم على حقيقة ما يجري من جرائم داخل الجزائر.

مظاهرات الجلاء.. ارحلوا عن أرضنا

خلفت المجزرة الفرنسية، التي سوّت قرية بأكملها بالأرض، غضباً في أوساط الشعب التونسي، وخرجت مظاهرات عارمة في عدة مدن تطالب بجلاء القوات الفرنسية من البلاد.

ورفعت تونس شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، في 12 فبراير/شباط 1958، تُطالبه بإدانة هذه الجريمة، وتدخلت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للوساطة بين تونس وباريس لتهدئة الأمور.

ورافق هذه التحركات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية، ضجّة إعلامية دولية، أربكت السلطات الفرنسية، ووضعتها في قفص الاتهام، كما أعادت تسليط الضوء على الجرائم الفرنسية في الجزائر.

خلفيات المجزرة الانتقامية

في 11 يناير/كانون الثاني 1958، هاجم الثوار الجزائريون، بقيادة الرائد الطاهر الزبيري (أصبح قائداً للأركان/ 1964-1967) على ثكنة فرنسية في جبل واسطة، لا تبعد عن الحدود التونسية سوى بنحو 30 كلم، وقتلوا خلال المعركة 17 ضابطاً وجندياً فرنسياً، وأسروا 5 آخرين.

وحسب شهادة منشورة للرائد الزبيري (مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين)، فإن هذه المعركة حضرها صحفي نمساوي يُدعى «كارل بريار»، والذي كان بصدد إنجاز إنتاج تقرير عن جيش التحرير الجزائري.

وتوجه الصحفي بريار، بعد المعركة إلى باريس، وأكمل التقرير حول تفاصيل المعركة، واتصل بمجلة «باري ماتش»، واتفق مع رئيس تحريرها على منحه الريبورتاج مقابل 5 ملايين فرنك فرنسي، بحسب الزبيري.

وما إن نشر التقرير حتى أحدث ضجة كبيرة وسط الرأي العام الفرنسي، الذي اكتشف الوجه الآخر لهزائم جيشه في الجزائر، والتي كان يتم التعتيم عليها إعلامياً.

إذ لم يكن الجيش الفرنسي يعترف بوجود ثورة في الجزائر، بل كان يسميها «أحداث الجزائر»، وهذا التقرير أجلى بعض الحقيقة للرأي العام حول ما يجري في هذه البلاد ما وراء البحر.

فرنسا تهدد تونس بسبب الجزائر

اتهم الجيش الفرنسي، الحرس الوطني التونسي بدعم جيش التحرير الجزائري، وادّعى أنّ شاحنات للحرس التونسي نقلت الجنود الجزائريين إلى قواعدهم جنوب قرية ساقية سيدي يوسف.

وهذا الأمر ينفيه الرائد الزبيري، الذي يؤكد في شهادته أن الحرس التونسي كان له مراكز بالقرب من الحدود الجزائرية، وعادة ما يرابط بالقرب من هذه الحدود لمنع جنود جيش التحرير أو العساكر الفرنسيين من الدخول إلى تُرابه، خاصة عند وقوع معارك بالقرب من الحدود، لكنه لم يقدم أي نوع من الدعم لجيش التحرير في هذه المعركة.

لكن الصحافة الفرنسية تحركت لصالح ترجيح نظرية تواجد الأسرى الخمسة على الأراضي التونسية.

ويكشف الزبيري في شهادته أنه أخفى الأسرى بمزرعة للثوار الجزائريين داخل الأراضي التونسية على الحدود، يشرف عليها شقيقه الأكبر بلقاسم، ولم يُعلِم بذلك السلطات التونسية ولا حتى قادة الثورة الجزائرية، حتى لا يتعرض لضغوط لتسليم الأسرى.

ويشير الزبيري، أنه استعمل الأسرى للضغط على السلطات الفرنسية لوقف تنفيذ أحكام الإعدام وقطع رؤوس الجزائريين بالمقصلة، ومن بينهم العقيد أحمد بن شريف (قائد الدرك الوطني الأسبق/ توفي في 2018)، مشيراً أنه منذ 1958 لم تنفذ بعدها أي أحكام إعدام بالمقصلة في حق الثوار والمناضلين الجزائريين.

وفي 16 يناير/كانون الأول من نفس العام، سلمت الحكومة الفرنسية لتونس رسالة لا تخلو من التهديد والوعيد، بشأن دعمها للثورة الجزائرية، وإخفاء الأسرى الفرنسيين على أراضيها.

كما قامت طائرات الاستطلاع الفرنسية بتصوير مراكز الثوار الجزائريين داخل الأراضي التونسية، وأعلنت في 29 يناير/كانون الثاني 1958، حقها في متابعة الثوار في أي مكان يتواجدون فيه، متهمة تونس بأنها أصبحت قاعدة خلفية لجيش التحرير الجزائري.

الفرنسيون اختاروا يوم عطلة وتسوق لشن هجومهم

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، وقعت اشتباكات بين وحدات من جيش التحرير الجزائري والجيش الفرنسي، على الحدود التونسية، بحسب شهادة العقيد علي كافي، أحد قيادات الثورة (تولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة في 1992-1994).

ولأن السلطات الاستعمارية أقرت قانون حق التتبع، فإن العقيد علي كافي، حسبما جاء في مذكراته، أمر بأن يُحوّل جميع الجنود بعيداً عن المناطق الحدودية، واستنجد بمعتمد (رئيس دائرة أو قضاء) ساقية سيدي يوسف، لوضع ما لديه من سيارات وشاحنات لنقل الجنود، حتى لا يترك أي حجة للفرنسيين للقيام بعملية عسكرية داخل الأراضي التونسية.

وكما توقع العقيد كافي، شنت القاذفات الفرنسية، صباح 8 فبراير/شباط، غارات جوية عنيفة، خلفت، حسب موقع السفارة الجزائرية بتونس، 79 قتيلاً، بينهم 11 امرأة و20 طفلاً، وأكثر من 130 جريحاً، إلى جانب التدمير الكلي لمختلف المرافق الحيوية في القرية.

وأرجعت السفارة الجزائرية، فداحة الخسائر البشرية، إلى أن ذلك اليوم كان «عطلة وسوقاً. ويوماً توزّع خلاله المساعدات على اللاجئين الجزائريين من طرف الهلال الأحمر الجزائري، والصليب الأحمر الدولي»، ووصفتها وسائل الإعلام العالمية بـ»المجزرة الرهيبة».

ومنذ ذلك التاريخ، أصبح «8 فبراير»، يوماً يحيي فيه التونسيون والجزائريون ذكرى مجزرة «ساقية سيدي يوسف»، يوم اختلطت فيه دماء الشعبين، ولم تتمكن الغارة «الانتقامية» الفرنسية ضد المدنيين العزل، من ثني تونس عن دعم الثوار واحتضان آلاف اللاجئين الجزائريين.

 

 
اجمالي القراءات 917