العثمانيون وأحفادهم.. ماذا قدم الأتراك للقضية الفلسطينية والقدس؟

في الجمعة ٠١ - فبراير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

روي سلاح شور صاحب مخطوطة "فتحنامه ديار عرب"، وكان مصاحبا للسطان العثماني سليم شاه حين دخل القدس بعد هزيمة المماليك:

"إن سليم الأول كان يبكي في المسجد الأقصى في القدس بكاء حارا وصلى صلاة الحاجة"

 

في مايو/أيار من العام الماضي، تقدّمت ابنة الرئيس الأميركي إيفانكا ترامب، وزوجها جاريد كوشنير مبعوث والدها إلى الشرق الأوسط، صفوفَ المحتفلين بافتتاح السفارة الأميركية الجديدة في القدس، وإعلانها عاصمة لإسرائيل، الأمر الذي لاقى استهجانا في الكثير من العواصم العربية والإسلامية؛ بيد أن تركيا كان لها رد آخر أكثر عملية من مجرد الاستهجان حين قامت بطرد السفير الإسرائيلي من البلاد، ثم دعت إلى قمة إسلامية طارئة أعلنت بصراحة رفضها الصارم للقرار الأميركي.

    

    

والحق أن القضية الفلسطينية -والقدس منها- تلقى اهتماما لافتا على المستويات الرسمية والأكاديمية والشعبية في الداخل التركي، ومن الجليّ أن الاهتمام التركي له خصوصيته الثقافية والتاريخية على السواء؛ ذلك أن السياسة التركية تجاه فلسطين والقدس اتكأت في القلب منها على الميراث التاريخي دوما، سواء ميراث العثمانيين الذي يُشكّل أحد المحددات البارزة من وجهة نظر الإسلاميين في تركيا تجاه الأقطار العربية ومنها فلسطين، هذا القطر المهم الذي حكمه العثمانيون لمدة أربعة قرون متوالية (1517-1917م)، أمام الحقبة الأتاتوركية وميراثها الممتد لثمانين عاما والتي فضّلت القطيعة مع كل ما هو عثماني وعربي، واتجهت قلبا وقالبا وثقافة تجاه الغرب وإسرائيل، ومن ثم شكّلت رؤيتها بالابتعاد عن الأقطار العربية في أغلب هذه الحقبة.

 

وبناء على هذا الميراث الجدلي والمتناقض بين الفريقين، والذي لا يزال يُلقي بظلاله وتناقضاته على القضايا السياسية الداخلية والخارجية للجمهورية التركية حتى لحظتنا هذه، فإن القدس لم تسلم هي الأخرى من تجاذبات الفريقين عبر تاريخ كان لا بد من عرض فصوله.

 

العثمانيون في القدس

بعد هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركة مرج دابق شمال حلب في العام 922هـ/1516م، سقطت المدن الشامية واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر من قِبل الحاميات المملوكية التي كانت لا تلوي على عقبها بعد مقتل سلطان قنصوه الغوري، وبسهولة استولى العثمانيون على حلب وحماة وحمص ودمشق وطرابلس، ثم دخلوا إلى فلسطين فسحقوا بقايا الفلول المملوكية في معركة جلجولية قرب الرملة، فسقطت كامل المدن الفلسطينية في يد العثمانيين، بل وفد عليهم كبار علمائها وأعيانها للمبايعة والانضواء وتسليم مفاتيح القلاع.

  

السلطان العثماني سليم الأول (مواقع التواصل)

      

دخل السلطان العثماني سليم شاه إلى بيت المقدس في يوم الثلاثاء 6 ذي الحجة 922هـ/30 ديسمبر/كانون الأول 1516م، وأقام فيها يومين قبل تحركه صوب مصر للقضاء نهائيا على دولة المماليك، وفي القدس تأثّر السلطان كثيرا بهذا الفتح وصلّى في المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، كما زار قبور الأنبياء والأولياء في المدينة، وتصدق على الفقراء والمساكين بها، ولاحظ عدم وجود سور يحمي المدينة[1]، حيث هُدم منذ أواخر عصر الأيوبيين، وكان قد عزم على بنائه.

 

نعمت القدس بأزهى عصرها في فترة حكم السلطان سُليمان القانوني التي امتدت لأكثر من خمسة وأربعين سنة (926-974هـ/1520-1566م)، فعلى الرغم من انشغال السلطان سليمان بفتوحاته وحروبه على الجبهة الأوروبية، وقمعه لحركات التمرد والعصيان في ولايات الدولة، بالرغم من ذلك فقد اهتم السلطان سليمان بهذه المدينة، وأعاد بناء سور القدس الذي ظل متهدما لثلاثمئة سنة بعد جلاء الصليبيين عنها، وأنفق في ذلك مبالغ ضخمة للغاية.

  

الأمر الآخر هو اهتمام السلطان بمشكلة المياه التي كانت تعتري المدينة، فخصص أموالا كثيرة لبناء المنشآت المائية، وقام بتعمير برك سُليمان، وقناة السبيل التي كانت تزود القدس بالماء من برك سليمان، وأصدر السلطان فرمانه سنة 944هـ/1537م بمنع دخول الانكشارية إلى القدس حتى لا يُضيّقوا على سكانها، وعهد بأمن المدينة واختيار عناصرها من أفضل الجنود العثمانيين إلى مفتي القدس. كذلك أعاد السلطان سليمان تجديد قبة الصخرة المشرفة، وأمر بصنع ستة عشر شباكا من الزجاج المذهّب في رقبة قبة الصخرة، ووضع القاشاني الجديد في المثمن الخارجي للقبة، كما أعاد تبليط أرض المسجد بالرخام الجيد، وأحضر الكساء لها من الحرير الهندي الأخضر، فضلا عن سجاد عجمي فاخر خُصص لذلك[2].

   

السلطان سليمان القانوني شهدت القدس في عهده طفرة هائلة (مواقع التواصل)

     

لم يقف الاهتمام والتجديد عند السلطان ووزرائه، بل قامت زوجته الروسية الأصل روكسيلانة بإنشاء التكية المعروفة بتكية خاصكي سلطان التي آوت طلاب العلم، وقدّمت وجبات الطعام للفقراء من مدينة القدس، والتي استمرت في تقديم خدماتها حتى الآن، وفوق ذلك حرص العثمانيون على تطوير المدينة، وتسهيل تواصلها مع باقي مدن وموانئ فلسطين[3]، فجرى إضاءتها بالفوانيس، وأُنشئت الطرقات الواسعة، ورُصفت شوارعها الداخلية، كما حُفرت الجور الامتصاصية لتصريف مياه الأنهار.

 

وتم مد خطّ سكة حديد سنة 1892م بين القدس وميناء يافا، كما ربطت القدس بخطوط التلغراف مع مصر وبيروت وأوروبا وزُوّدت بالكهرباء سنة 1914م، وقد أدركت الدولة العثمانية مبكرا خطورة الأوضاع والمؤامرات التي تحيق بفلسطين، وأصبح ذلك جليا بعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية سنة 1897م، لذا وقف العثمانيون حائط صد أمام الهجرات اليهودية إلى القدس، ولم يقبل السلطان عبد الحميد الثاني إغراءات مالية ضخمة من قِبل زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل ببيع فلسطين مع جعلها تحت السيادة العثمانية، في وقت كانت الدولة في أمس الحاجة إلى الأموال لسد الديون، وتعثر الاقتصاد، وتآمر الأعداء، بل أُثر عنه أنه قال:

 

"أنصحه ألا يسير أبدا في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد؛ لأنها ليست لي بل لشعبي. ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذّوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.. لن تُقسم (فلسطين) إلا على جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض"[4].

 

السلطان عبد الحميد الثاني، دفع عرشه ثمنا لرفض بيع القدس لليهود (مواقع التواصل)

     

[5].

    

وأخذ التعاون بين الأتراك والإسرائيليين ينمو بشكل تدريجي مع قيام إسرائيل بتوفير فرص العمل والتدريب التقني والاستخباري لوحدات الأمن والمخابرات التركية، حيث ظهر هذا التعاون الوثيق بين الطرفين ابتداء من مطلع الخمسينيات وبالتحديد بين جهازي الموساد والأمن التركي، حيث وقّع الجانبان اتفاقيات أمنية بين الطرفين في مسائل التعاون الأمني والاستخباري.

 

في عصر رئاسة عدنان مندريس استمر التقارب الإسرائيلي التركي الذي تكلل باتفاقية الحزام المحيط، لكن بعد إعدامه، وفي فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، عرف الموقف التركي تجاه العرب والقضية الفلسطينية تحوّلا إيجابيا، ففي سنة 1979م أقامت حكومة "بولنت أجاويد" علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية وسمح لها بفتح مكتب في أنقرة، وبعد نحو تسعة أشهر احتجّت تركيا بشدّة على ضم إسرائيل للقدس المحتلة، وسحبت القائم بأعمالها من تل أبيب وأبقت التمثيل الرسمي على مستوى السكرتير الثاني[6].

    

الجنرال كنعان إيفرين قائد انقلاب 1980م في تركيا أعاد العلاقات المتينة مع إسرائيل (مواقع التواصل)

      

بعد ذلك بأشهر قليلة انقلب الجيش التركي على الحكومة التركية، وعادت العلاقات التركية الإسرائيلية كما كانت، بل تطورت إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الجانبين من سكرتير ثان إلى منصب مدير عام مفوض بعد زيارة قام بها عدد من أعضاء حزب الشعب الجمهوري في سبتمبر/أيلول 1984م، ثم تم رفع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لمستوى السفراء سنة 1991م.

  

وشهدت العلاقات التركية الإسرائيلية ازدهارها في رئاسة سليمان ديميريل الذي وجّه دعوة رسمية في يناير/كانون الثاني إلى نظيره الإسرائيلي عيزرا وايزمان لزيارة تركيا، الذي لبّى الدعوة وزار أنقرة، وكان في صحبته وفد كبير رفيع المستوى ضم 72 شخصا، وكرر الزيارة شمعون بيريز وزير الخارجية آنذاك، وردت رئيسة الوزراء التركية آنذاك تشيلر بزيارة إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 1994م، وكانت الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس وزراء تركي إلى إسرائيل، ولم تمر سنتان حتى أتى الرئيس التركي سليمان ديميريل في مارس/آذار 1996م لزيارة إسرائيل وبصحبته وفد مكون من 200 عضو[7].

 

تركيا أردوغان وصفحة جديدة تجاه فلسطين

في عام 2002م أفرزت الانتخابات التشريعية التركية عن فوز حزب العدالة والتنمية، أحد الأحزاب التي صنفت نفسها بالاعتدال، وهو الحزب الذي انشق أعضاؤه عن حزب الفضيلة التركي المنبثق عن حزب الرفاه الذي أسسه نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا الأسبق، والرجل الذي عُرفت ميوله الإسلامية بوضوح وإن كانت دون اصطدام بالعسكر الذي انقلب عليه في عام 1997م.

 

    

على الرغم من أن السنوات الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان لم تتغير فيها طبيعة العلاقات الخارجية السياسية بين تركيا وإسرائيل، حيث زار وزير خارجية تركيا آنذاك عبد الله جول إسرائيل في أوائل 2005م؛ فإن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان كان قد رفض استقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية أريل شارون، بعد وصف ممارسات شارون من قِبل أردوغان بـ "إرهاب الدولة" عقب استشهاد مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين ثم القيادي في الحركة عبد العزيز الرنتيسي.

 

لكن في مايو/أيار 2005م قام أردوغان بزيارة رسمية لإسرائيل على رأس وفد كبير من الوزراء وكبار الموظّفين ورجال الأعمال، وصبغت المباحثات بين الجانبين آنذاك بالصبغة الاقتصادية، وبسبب نجاح هذه الزيارة وصفت الصحافة الإسرائيلية الأمر بنجاح الدبلوماسية الإسرائيلية بعد شبه قطيعة استمرت أكثر من سنة على خلفية اغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي[8].

 

كان من جملة وجوه حزب العدالة الجدد، وواحد من أهم المنظرين السياسيين والإستراتيجيين لتركيا الجديدة، أحمد داوود أوغلو، الذي تقلد منصب مستشار أردوغان للشؤون الخارجية، ثم وزارة الخارجية، ثم أخيرا رئاسة الوزراء، واعتبر كتابه "العمق الإستراتيجي" دليلا للسياسة التركية الجديدة في الساحة الإقليمية والدولية على السواء، وقد أثبتت الأيام قيمة هذا الكتاب وأهميته التي انتهجتها قيادة حزب العدالة والتنمية، سواء بتصفير المشاكل التاريخية مع الجيران، أو بالانزياح ثقلا نحو الشرق الأوسط بعد دور تركي وُصف بالضعيف والمنسحب طوال القرن العشرين.

    

في هذا الكتاب[9] يؤكد أوغلو أنه ضمن الوضع الجديد يجب على ترك">

قلعة القدس في العصر العثماني (مواقع التواصل)

   

ولا شك أن تركيا دخلت -ولا تزال- بثقلها في الشرق الأوسط وقضاياه، وبرزت أهميتها الإستراتيجية في المنطقة كواحدة من مراكز الثقل مع إيران لا سيما بعد الثورة السورية، ولم تغب هذه الإستراتيجية عن القضية الفلسطينية وفي القلب منها القدس، فبداية من العام 2006م تعددت مناسبات جمع التبرعات للشعب الفلسطيني في تركيا وشاركت في بعضها 91 منظمة أهلية، وبعد فوز حماس في انتخابات 2006م، استقبلت الخارجية التركية وفد الحركة برئاسة خالد مشعل في أنقرة الذي تمكن من مقابلة عبد الله جول وزير الخارجية، وحين قام عدوان 2008 على غزة، كانت تركيا من أوائل المنددين والرافضين بشدة لهذا العدوان، وكان مشهد انسحاب أردوغان من منتدى دافوس الاقتصادي في سويسرا في يناير/كانون الثاني 2009م احتجاجا على منعه من التعليق على مداخلة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بشأن الهجوم على غزة.

    

كان عدوان 2008 على غزة علامة فارقة على تزايد السخط التركي الشعبي والرسمي تجاه إسرائيل، وبسبب حصار إسرائيل الخانق لغزة، وتزايد مشكلة الدواء والغذاء والافتقار إلى الاحتياجات الأساسية، الأمر الذي انطلق بسببه أسطول الحرية من السواحل التركية صوب غزة لكسر هذا الحصار، وفي 31 مايو/أيار 2010م أدى الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية إلى مقتل تسعة أتراك وإصابة عشرات النشطاء والمتضامنين الآخرين، وكان هذا الاعتداء سببا في تفجر العلاقات الإسرائيلية التركية التي أدت في نهاية المطاف إلى سحب تركيا سفيرها من إسرائيل، وجمدت تركيا علاقاتها العسكرية الدفاعية مع إسرائيل، وألغت المناورات التي كانت تجرى بين الفريقين.

 

مقر وكالة الإغاثة التركية (تيكا) في القدس المحتلة (مواقع التواصل)

     

برغم ذلك، فإن الدور التركي في فلسطين كان يتنامى منذ مجيء حزب العدالة والتنمية، بل لا يزال من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية من خلال مؤسسات إغاثية أصبحت مؤثرة في المشهد الفلسطيني، ففي العام 2005م قررت تركيا إنشاء مكتب لوكالة الإغاثة التركية "تيكا" في فلسطين، والتي ركزت اهتمامها في مجالي التعليم والصحة، ومنذ تاريخ الإنشاء وحتى اليوم أقامت المؤسسة أكثر من 600 مشروع ما بين مستشفيات ومدارس ومشاريع صغيرة نالت غزة ثم القدس ثم بقية المدن الفلسطينية النصيب الأكبر منها، بحسب دليل المؤسسة الصادر في عام 2017م[10].

 

وفي السنوات الأربع الأخيرة شرعت وكالة الإغاثة التركية "تيكا" في تقديم مساعداتها المادية لأهل القدس من خلال المساهمة في إنشاء المشروعات الاقتصادية والتعليمية، وإفطار الصائمين في باحات المسجد الأقصى، وإقامة الأمسيات الثقافية، ومبادرات غرس الزيتون، وفي العام 2015م قررت هيئة الشؤون الدينية التركية "ديانات" إدراج المسجد الأقصى ضمن برنامج المعتمرين الأتراك قبل التوجه إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، الأمر الذي عززته شركات السياحة والطيران التركية بتخفيض أسعار تذاكر السفر إلى القدس في خطوة داعمة، ولتمكين أكبر عدد من الأتراك من زيارة القدس والمسجد الأقصى[11].

    

كما رممت جمعية حماية وإحياء الميراث العثماني في القدس وجوارها (ميراثنا "Mirasımız" التركية) في العام 2016م، 45 مسجدا تاريخيا، وأكثر من 70 منزلا قديما في مدينة القدس وباقي الأراضي الفلسطينية، بحسب خالص موتلو (Halis Mutlu)، المسؤول في الجمعية، الذي أضاف أن هناك أربعة آلاف منزل قديم يحتاج إلى الصيانة في البلدة القديمة بالقدس، مشيرا إلى أن أصحاب تلك المنازل رفضوا بيعها على الرغم من عرض أثمان باهظة عليهم لقاء ذلك، مضيفا: "تريد إسرائيل تطهير القدس من المسلمين"[12]، مما يشير إلى الدور التركي القوي والمتنامي والرامي إلى صد المحاولات الإسرائيلية للاستئثار بالقدس وأهلها.

 

لم تتوقف المساهمات التركية عند هذا الحد، فقد تم تنظيم الملتقى الدولي لأوقاف القدس في إسطنبول لإنشاء وقف استثماري لصالح المدينة، وأطلق وقف الأمة التركي (Ümmet Vakfı) حملة بعنوان "خطوتين للقدس" لاستقطاب المساهمين والداعمين في تمويل الأوقاف المقدسية بطرق متعددة، كما خرج الأتراك في تظاهرات حاشدة رفضا للاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية في القدس، وشهدت عدة مدن تركية مظاهرات حاشدة احتجاجا على إقفال المسجد الأقصى في يوليو/تموز 2017م[13].

   

نشاط "المخيم الصيفي" لتلاميذ القدس بإشراف من وقف الأمة الخيري التركي (مواقع التواصل)

 

ونتيجة لهذا النشاط القوي من المنظمة الإغاثية التركية الكبرى، مع ضعف الدور العربي، وعلى رأسه الأردن الدولة العربية صاحبة الوصاية على المسجد الأقصى، بدأت إسرائيل من خلال "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي" في التلويح بإضعاف دور هذه المؤسسة ومحاربتها الذي اعتبرته مصدر خطر يهددها، بل ورميها ببعض التهم التي تهدد أمن إسرائيل؛ ففي يوليو/تموز من العام الماضي 2018م زعم التلفزيون الإسرائيلي: "أن النشاط المشبوه الأخير قاد إسرائيل إلى التفكير في تقييد أنشطة الوكالة التركية (تيكا) في القدس.. ومن بين الخيارات التي يجري النظر فيها التزام الوكالة التركية بالحصول على الموافقة على جميع أنشطتها، بهدف تقييد عام على الأنشطة وسيتم تنفيذ الخطة وفقا لتعليمات رئيس الوزراء نتنياهو فقط"[14].

     

اللافت في البيان الإسرائيلي أيضا اعترافه بأن أهالي القدس أصبحوا أكثر تعاطفا وقربا من الأتراك بسبب نشاطهم الخيري الكبير في المدينة، وضخّهم ملايين الدولارات التي تذهب بعضها إلى جمعيات حماية المسجد الأقصى، واتخذت إسرائيل خطوات عملية حين اعتقلت الفتاة التركية "إبرو أوزكا" كتطبيق جاد لسياستها الجديدة الرامية إلى التضييق على النشاط التركي، وزيارات الأتراك للقدس التي أضحت متزايدة ومطّردة في السنوات الثلاث الأخيرة.

 

يتضح بذلك أن الدور التركي عبر تاريخه تجاه القضية الفلسطينية والقدس قد سار على طريقين متناقضين، طريق العثمانيين حيث الاهتمام بالمدينة المقدسة وآثارها ومعالمها وإعمارها ودعم أهلها وإنشاء الأوقاف بها، وهو الطريق الذي يحييه اليوم حزب العدالة والتنمية وحكومته ورئيسه أردوغان فضلا عن المؤسسات الخيرية والإغاثية التركية الكبرى التي تتوسع يوما بعد آخر، وطريق أتاتوركي تجلّى من خلال حزب الشعب الجمهوري وحكوماته المتعاقبة التي فضّلت الدخول في علاقات إستراتيجية عسكرية وسياسية واقتصادية مع الجانب الإسرائيلي.

اجمالي القراءات 1461