حرب المواطن والمقيم.. «ماكينات صناعة العنصرية» ضد الوافدين في الخليج

في السبت ٠١ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

عندما نفكّر أحيانا في العنصرية تتبادرُ إلى أذهاننا باعتبارها ممارسة يقومُ بها فردٌ «سيء التربية»، لا أنّها سلوكٌ جماعيّ، تنتجه أحيانًا مؤسسات مثل المدرسة، حيثُ يعلمها الأستاذ لتلاميذه، والبيت حيث سلوك الوالدَين مع من حولهم، وكذلك الخطاب الموجه عبر وسائل الإعلام.

في هذا التقرير نستعرضُ مشاهدَ تعكسُ بذور العنصرية الموجودة في الخليج بينَ المَحليّ و«الأجنبي»، بين المواطن والمقيم، وبينَ ابن البلد وابن البلد الآخر، وكيف تندمجُ يذور العنصرية مع مؤسسات المجتمع والدولة وتصيرُ جزءًا من «النظام»، فنراها تأخذ بيد الإنسان من الطفولة وحتى الشباب، ونُلقي الضوء على زوايا تمييز قليلًا ما تُطلُّ عليها الصحافة العربية والخليجيّة.

«خدمُ المنزل عبيدنا»

غالبية مَن وُلدوا في الخليج بعد عام 2000 تلقّفتهم عند نزولهم من بطون أمهاتهم أيدٍ فلبينيّة، فمنذُ مطلع القرن الجديد تضاعف طلب دول الخليج، وتحديدًا السعودية والإمارات وقطر، على الممرضات الفلبينيات. واليوم تُعدّ السعودية الوجهة الأساسيّة لهنّ –يمثّلن 25% من ممرضات العالم-.

إذًا البداية في يد ممرضة آسيوية في المستشفى، ومنه إلى المنزل؛ وأشهر مثالٍ مرتبطٍ بالعنصرية هنا مع سائق المنزل وخادمته. السائق لخدمة سيّدة المنزل وبنات العائلة، ولإيصال الأطفال إلى المدرسة وإعادتهم للبيت وشراء حاجياته، والخادمة لتنظيف المنزل وإدارة شؤونه، وأحيانًا الطبخ.

مقطع لخادمة إثيوبية تستنجد بربّة منزل كويتية –التي تُصوّر المقطع- لتنقذها قبل السقوط من الطابق السابع

تُعامَل الخادمات في كثيرٍ من الأحيان معاملة العبيد: عملٌ بلا انتهاء، تحتَ الطلب طوال اليوم، تأخّر في دفع الراتب ومنعٌ من التواصل مع الأهل، أو حتى أن يكون جواز سفرها معها، وفقًا لـ«هيومن رايتس ووتش».

يمكن تخيل مشاهد الإنهاك اليوميّة، لعاملة تعمل في المنزل 21 ساعة دون راحة، كما تنقلُ المنظمة عن بعض الحالات في الإمارات، أو مشهد اعتداءٍ جسديّ أو جنسي على عاملةٍ لا تملكُ هاتفًا لتتصل بسفارة بلادها للشكوى وطلب المساعدة ولا يُسمح لها بالخروج من المنزل. تخيّل أن طفلًا في ذلك المنزل يشاهد هذه المواقف، وما سيكون شعوره تجاه الخدم، وإلى أيّ حد يمكن أن تحفّزه هذه المشاهد على الإساءة لهم والتعدي عليهم بما أن الأمر سهل ودون عواقب. إنها الصورة الأولى التي يتلقّاها كثيرٌ من أطفال الخليج عن غيرهم من غير الخليجيين، والشكل الأول لعلاقتهم بهم.

أسوأ من كل ما سبق، برأي حقوقيين، أنظمة وقوانين الكفالة والإقامة، إذ يُعطى «الكفيل»، وهو المواطن المسؤول عن العامل الأجنبي، حقّ منع مكفوله – أيًا كانت وظيفته- من الخروج من البلاد ومن العودة لها. يحتاجُ العامل لموافقة كفيله ليُسافر.

وفي حالة الخادمات، تُنقل أحيانًا الخادمة من كفالة شخص إلى آخر بعرضها على الإنترنت –كما السلع في المتاجر الإلكترونية- مقابل مبلغ من المال لنقل كفالتها (يُفضّل البعض الحصول على خادمته بهذه الطريقة توفيرًا للوقت بدلًا من الحصول عليها بالطرق القانونية من خلال مكتب استقدام عاملات رَسميّ وقانونيّ).

القوانين المرتبطة بالعمالة والخدمة المنزلية قد لا تكون بالضرورة عنصريةً في ذاتها ولكنها إذا أسيئ استخدامها فقد تفتحُ الباب أمام سلوكيّات لاضطهاد العمالة واستغلالها، ولا توفّر أساسًا قانونيًا للمُتابعة والمحاسبة. ربما تتصلُ كلّ هذه الخيوط؛ ما تفعله الأسرة في المنزل مع الخدم، مع ما تتيحه القوانين من اعتداءات على حقوق الإنسان، لترسم صورةً دونية للآخر في عقل الطفل.

«لأنّك موريتاني».. حين يمارس العرب العنصرية ضد جيرانهم العرب!

 

من الشارع إلى المدرسة.. صناعة العنصرية

يحكي عبدُ الله، المُقيم منذ الولادة في الدوحة، لـ«ساسة بوست»، قصة بسيطة يمكنُ أن تختصر الكثير، إذ يقول: دخل علينا الأساتذة في الصف وأعلنوا: المُواطنون –القطريّون-، فليخرجوا لرحلة إلى مدينة الملاهي، والمُقيمون –غير القطريين- فليبقوا في الصف، «ليخرج زملاؤنا من الصَف ونجلس نحن لنتابع الدرس».

 

 

طلاب يمتحنون في مدرسة ثانوية في السعوديّة

في المدرسة، المؤسسة التعليمية الأساسية في الدولة، التي يُفترض أن تُقدَّم فيها فرصٌ مُتكافئة للتعلم ولتنمية الطلاب عقليًا ومعرفيًا، تتكرر مشاهد التمييز المشابهة. أحمد، فلسطينيّ درسَ في الرياض ذكرَ لـ«ساسة بوست» أن المُقيمين يُمنعون من المشاركة في كثيرٍ من المسابقات المدرسيّة، على المستوى المحلي والوطنيّ، مثل مسابقات التميّز في الرياضيات و«مسابقات الشعر والأدب وغيرها الكثير».

أبعد من ذلك، يبتكرُ الطلّاب في المدارس ألفاظًا عنصرية تحملُ تصورًا مقولبًا عن الآخر. فالطالب المجتهد، الذي لا يفوّت درسًا أو تكليفًا، يُلقّب في السعودية باسم مصريّ، «مصطفى». إذ بدأ استخدام اللقب على المصريين، ثم توسّع ليشمل الآخرين من غير السعوديين، وانتهى به المطاف في السعودية ليصف أيّ طالب مجتهد، وكَذَا الأمرُ في قطر مع ألقاب أخرى مثل «حمّص» وَ«حَكَّة».

وأُلحقت بهذه الألقاب صفاتُ المجتهد المزعجة لزملائه؛ الذي يرفع سقف الأداء الدراسي ويُذكّر الأستاذ بما نسيه من واجبات وتكليفات، ويرفض أو يستصعبُ تغشيش الآخرين. «مصطفى» في المدرسة هو «آكل رزقنا» في أماكن العمل والمُقيم الذي «ينهب خيرات البلد» ويُنافسنا عليها. صورةٌ بسيطة رغم تركيبتها وتعقيداتها: المواطن مُقابلًا للمقيم. يظهرُ فيها الأخير بصورة شرير جاء لاستغلال البلد، وتُنسى بقيّة الصورة؛ المُقيم يحملُ خبرةً عملية وعلمية يُقدّمها للبلاد، ويعيش غربةً بعيدًا عن أهله وبلده الأم، أو «لا يأخذ راتبه زي شُربة المَي» كما يقول أحمد لـ«ساسة بوست».

الجنس والعنصريّة.. «الفرُوخْ»

تخرجُ الألقاب العنصرية من نطاق الدراسة إلى الجنس، تنتشرُ ظواهر التحرش في مدارس الخليج، وبدون قوانين واضحة لمكافحة التحرّش –أُدرجت مؤخرًا في السعودية– ودون توعية جنسيّة، تتحوّل أحيانًا المدارس إلى مُستنقع خصب. يحكي أحمد لـ«ساسة بوست» عن وجود مدرسة سيئة السمعة غالبًا في كلّ منطقة، تُعرف بانتشار هذه الظواهر فيها.

من أشهر الألقاب المستخدمة: «الفرخ/الوِرْع»، الأولى في قطر والثانية في السعوديّة، ويُتابع عبد الله بأنّ لكل صف «فرخ» أو «وِرعه»، والذي غالبًا ما يكون غير خليجيّ، من ذوي البشرة البيضاء، «ناعم» المظهر وأحيانًا ناعمُ السلوك أيضًا. ويروي تحوّل تلميذٍ سوريّ من كونه طالبًا عاديًا إلى «فرخ» بالتدريج؛ يعمل أجيرًا جنسيًّا يتبادله مَن يريده من الطلاب مقابل مبلغ من المال.

هذا المشهد ليسَ مشهدًا عاديًا: فيه انعكاس لتراتبات القوّة في الصَف المدرسيّ، وفي المدرسة، المؤسسة التي يقضي فيها الطلاب على الأقل ثلثَ يومهم. ولفظة «فرخ»، التي تُطلق عادةً على الشَاميين –سوريّين وأردنيين وفلسطينيين- والمصريين أحيانًا، تصوّر ما يتخيله قطاع من الخليجيين عن الآخر العربي أو الأجنبيّ في ذهن نطاق من الطلبة الذين سيحملون معهم هذا المخيال إلى الجامعات وأماكن العمل لاحقًا.

البحث في جذور المشكلة.. لماذا تحدث كل هذه العنصرية ضد السوريين في لبنان؟

نظام الفصل الوطنيّ بين المواطن والمقيم

تطلُّ بين حينٍ وآخر صفاء الهاشم، النائب في مجلس الأمة الكويتيّ، لتصدم الوافدين بتصريحاتٍ تحملُ لغةً حادةً ومعاديةً لهم: «آن الأوان أن نقف ضد كل من يريد استقطاب الوافدين» أو «الوافدون يلوّثون بلدنا»، لتقترحَ «قانونًا للوافدين» للحفاظ على البيئة. قانون يصمم حصرًا للوافدين، صورة أخرى للمُقيم أمام المواطن.

 

لصفاء تصريحات أخرى أكثر حدّة تُظهر الصورة بوضوح أكبر: «الزيارات العائلية» للوافدين في المستشفيات «تتسبب في طول طوابير الانتظار في المستشفيات، ونقص الأكسجين في غرف الطوارئ».

وفي وقتٍ سابق لتصريح صفاء فرضت الحكومة الكويتية نظامًا جديدًا في المستشفيات الصحيّة يمنعُ الوافدين من زيارة العيادات في الفترة الصباحيّة، لتصبح حصرًا للمواطنين الكويتيين، والمبرر؟ «تواجد جميع الاستشاريين والاختصاصيين من الأطباء خلال الفترة الصباحية»، ماذا عن المرضى الوافدين الذين يحتاجون لمختصٍ ممن يأتون في الفترات الصباحيّة فقط؟ يسمحُ القرار للوافدين بزيارة العيادات والمرافق الصحيّة فقط في الفترة المسائية، ويُعطي حرية الاختيار للكويتيين ليأتوا صباحًا أو مساءً.

عبد الحميد مُقيمٌ في قطر ويعملُ في قطاع الإعلام ذكرَ لـ«ساسة بوست» أنّ بعضَ الأقسام في المستشفيات القطريّة حصريّة للقطريين، وأنّ بعض المستشفيات توفّر نفسَ القسم بشكل مفصول: مسارٌ للقطريين، ومسار للوافدين. مثل مركز الوكرة الصحي، الذي بدأ فترته الأولى بخدمة القطريين فقط، والذي يوفّر عيادة أسنان خاصة بالقطريين «الأمر الذي قلَّل من فترة انتظار القطريين، وأثَّر سلبًا على فترات انتظار غير القطريين، وزاد عدد المراجعين من المواطنين». وفي الكويت يبدو الفصل أكثر وضوحًا: مستشفى جابر، الذي أُنشئ ليكون للكويتيين فقط، في نظامٍ صحيّ يُقدم للوافدين أدوية «أفضل بقليل من الطباشير»، كما نُقل في برقيّة للسفارة الأمريكية في الكويت.

وفي السعودية تمتدّ يدُ نظام الفصل لتفصلَ الطلاب في المدارس عن بعضهم البعض. إذ أصدرت وزارة التربية والتعليم السعودية مطلع العام الحالي قرارًا لليمنيين والسوريين ممن يحملون هوية زائر، بدلًا من الإقامة الكاملة، إذ يمنعون من التسجيل في المدارس الحكوميّة التابعة للدولة، وحصر حقهم في التعليم على المدارس الخاصّة والدوليّة، التي قد لا يستطيع كثيرٌ منهم تغطية نفقاتها العالية، فنطاقٌ واسعٌ منهم هاربون من الحرب الأخيرة في اليمن ودخلوا البلاد باستثناء مؤقت.

لمسة ولي العهد السحرية.. اختفى المقيمون

يعملُ في السعودية 7.4 مليون من أصل 11.7 مليون وافد للبلاد، يتضاءل عددهم مع سياسات السعودة الجديدة. فعلى المُقيم العامل أن يدفع عن نفسه، وعن مُرافقيه –زوجه وأبنائه- كلّ شهر مبلغًا من المال، بدأ بمائة ريال هذا العام، وسيتضاعف مع كل عام، ليصبح 400 ريال شهريًا في 2022، ما يعني عبئًا ضخمًا على الأُسر الوافدة، التي بدأت بالعودة لبلدانها دونَ رب الأسرة العامل الذي يظلُّ في السعوديّة.

هذا النظام، وأنظمة أخرى مشابهة في دول الخليج، مع طبيعة الخطاب الذي ترسّخه الدولة –مع تغيّر في خطاب قطر الذي تحوّل بعد الأزمة الخليجية-، يُساعد على بناء صورة التنافس بين «المقيم الشرير» والمواطن «مأكول الحق». وفي بعض الأحيان يُصبح الحديث عن الوافدين مثل الحديث عن سلعٍ تجارية يمكن التحكم بها كأي سلعة أخرى.

وفي مطلع عام 2016 سُئل ولي العهد السعوديّ خلال مقابلة مع صحيفة «الإيكونومست» عن الطاقة الشبابية في المملكة، وخططه لها، فأجاب بأنه يسعى لتوفير وظائف في القطاع الخاص، ثمَّ، في أسوأ الأحوال، لديه احتياطيّ من 10 مليون وظيفة يحتلّها غير سعوديّين، جاهزة تحت يده في أي وقت. يبدو الأمرُ بسيطًا في كلام ولي العهد؛ وقتَ الحاجة نُعيد 10 مليون موظف إلى بلدانهم، ليحتلّ مكانهم 10 مليون سعوديّ.

«حرب» المواطن والمقيم

في البيت حيثُ يتعلم الطفل كيف يتصرف، ويرى أوّل ما يرى سلوك والديه وأهله، تقعُ عيناه على اضطهاد الخادمة ومعاملة السائق مثل العبد. وفي المدرسة عندما يُفاجأ الطفلُ بالأستاذ يصف صديقه بالـ«أجنبيّ». وفي التلفاز، ووسائل الإعلام، وفي خطاب الساسة، يستمعُ الشاب لقادة بلاده وساستها يتحدثون عن الآخر، المُقيم أو الوافد، باعتباره عدوًّا شخصيًّا ومباشرًا؛ يمنعك عن وظيفتك، ويُطيل انتظار والدك للعلاج، ويأكل من خير بلادك ويُرسله إلى بلده الأم.

مقطع من برنامج «وسم»، للداعية السعوديّ سلمان العودة، تظهر فيه أبعاد كثيرة من العنصرية في الحياة اليوميّة في السعوديّة

لكن الصورة في المجتمع الخليجيّ لم تكتمل بعد؛ ففي داخل المجتمع الخليجيّ نفسه انقسام تمييزي. في قطر نوعان من القطريين: بدو وحضر، ومعهم في الكويت: العيم (كويتيون من أصول إيرانية). وكذلك قطريّون أصليون وآخرون من أصول إيرانية. في الإمارات أيضًا إماراتيّون درجة ثانية، أمهاتهم هنديّات أو غير إماراتيات. وفي السعوديّة ترمي كل منطقة الأخرى بلقب: نجد للبدو، والحجاز «بقايا حجاج»، والجنوبيّون «لحوج». هذه القطعة الأخيرة في نظام العنصريّة، لا يسلم منها أحد لا أبناء البلاد ولا زائريها، وتصيرُ جزءًا من النظام فتُعيدُ إنتاج نفسها جيلًا بعد جيل. 

اجمالي القراءات 3208