ليسوا جبناء وخانعين بالفطرة كما يخبرك العنصريون.. 3 ثورات كبرى أشعلها الفلاحون

في الخميس ٢٩ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 لطالما انتشرت الصورة النمطية حول الفلاحين على أنهم جبناء، وخانعين، ويرجع ذلك إلى التصنيف الذي اعتادت النخب السياسية والملكية على وضعه؛ إذ تعتبر هذه النخب، برغم قلة عددها، هي الأقوى في معظم الأحيان، وعلى قمة الهرم الاجتماعي الذي يشمل جميع فئات الشعب في طبقات مختلفة.

التصنيف والصورة النمطية التي نشرتها النخب السياسية والاجتماعية والملكية، وحتى التي رسختها بعض السرديات الفكرية الكبرى عن الفلاحين باعتبارهم جبناء، ظهرت انطلاقًا من تحكم هذه النخب أيضًا في كتابة التاريخ، بسبب قوتهم في المجتمع، وبالتالي فإن غالبية الأدبيات القادمة من قِبل الفئات المنتصرة، أو الرجل الأبيض، عادةً ما كانت تصف الفلاحين بالجبن.

 

راسبوتين.. قصة الفلاح الراهب الذي عجل بقدوم الشيوعية في روسيا

ومنذ عصور قبل التاريخ، ظلَّ الفلاحون، برغم كثرة عددهم في معظم الأحيان، في قاع الهرم الاجتماعي؛ ففي التصنيف الفرعوني للهرم الاجتماعي، يأتي الملك على قمة الهرم، ويليه رجال الدولة، ومساعدي الملك، والوزراء، والنبلاء، في المرتبة الثانية، ويليهم الفرسان والمحاربين في المرتبة الثالثة، ويليهم القُضاة، والكُتَّاب الذي يوثِّقون كل شيء، في المرتبة الرابعة، ويليهم التُجَّار في المرتبة الخامسة، ويليهم أصحاب الحرف والنحَّاتين في المرتبة السادسة، وأخيرًا تأتي المرتبة الأخيرة في قاع الجبل، والتي يوجد فيها الفلاحون والعبيد.

(الهرم الاجتماعي في عصر الفراعنة – المصدر: Ancient Egypt Online)

وفي أوروبا، لم يختلف الوضع على الإطلاق، فكل ما عليك هو تبديل الملك الفرعوني بالملك الأوروبي في المرتبة الأولى، ومن بعده نجد رجال الدولة، ورجال الكنيسة، في المرتبة الثانية، ومن بعدهم توجد نفس الفئات بنفس الترتيب تقريبًا.

ولكن في الواقع التاريخي، لم يكن الفلاحون خانعين أو جبناء على الإطلاق، وإنما كانوا شرارة العديد من الثورات على مدار التاريخ، وفي مختلف قارات العالم، من شرقه لغربه، ومن شماله لجنوبه، في تاريخه القديم، والحديث.

 

1- ثورة الفلاحين.. أكبر انتفاضة ضد حُكَّام المملكة المتحدة في التاريخ

«إن استفتاء 2016 حول الاتحاد الأوروبي ربما يمثل أكبر انتفاضة على الأشخاص الذين يحكمون المملكة المتحدة منذ ثورة الفلاحين عام 1381»، هكذا عبَّر كريستوفر هوب، كبير المراسلين السياسيين لصحيفة «تليجراف» البريطانية، وذلك في إشارة إلى أن حدثًا جليلًا مثل تصويت البريطانيين على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي عام 2016، هو أشبه بالحدث التاريخي الأكبر في تاريخ إنجلترا عام 1381.

(لوحة بعنوان: ثورة الفلاحين – المصدر: Britannia)

وتعود القصة إلى انتفاضة طبقة الفلاحين ضد ملك بريطانيا عام 1381، وذلك بعد فرض ضريبة ملكية جديدة تمثل ثلاثة أضعاف ما تمت جبايته خلال السنة السابقة لهذه الانتفاضة على دخولهم ومرتباتهم الهزيلة، فخرجوا يثورون ويشعلون الاضطرابات، وبالرغم من أن الثورة قد بدأت حركةً هامشية في جنوب شرق البلاد، ولكنها سرعان ما اكتسبت قوة وزخمًا في مختلف أنحاء إنجلترا.

 

ملف «ساسة بوست» الشامل: كل ما تريد معرفته عن آثار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

وفي الأخير، حظيت مجموعة من المتمردين، يقودهم رجل من أصول متواضعة يُدعى وات تايلر، بلقاء مع الملك «ريتشارد الثاني» خارج لندن، فطالبوا بإنهاء الضريبة، ووضع حد لها، وإدخال الإصلاحات على النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، بما في ذلك إنهاء جميع أشكال العبودية التي تعرَّض لها العديد من الفلاحين في إنجلترا الإقطاعية.

لم يكن اللقاء ناجحًا؛ إذ دخل الفلاحون الثائرون إلى العاصمة البريطانية، لندن، غاضبين بالدرجة التي جعلتهم يضرمون النيران في  قصر سافوي، بالإضافة إلى فتح السجون، وذلك بمساعدة من سكان القرى والفلاحين الآخرين من مختلف أنحاء إنجلترا. ولم يكتفوا بذلك، بل قتلوا كل من اعتبروه عميلًا ومؤيدًا للملك.

(لوحة بعنوان: مقتل وات تايلر – المصدر: Britannia)

 

مرَّت الأيام مع اكتساب الفلاحين سيطرة على بعض المناطق، إلا أنها لم تدم طويلًا؛ إذ أن قائد الثورة، وات تايلر، قُتل في لقائه الثاني مع الملك ريتشارد الثاني بعد بضعة أشهر، وذلك بعد أن أحكم النظام الملكي البريطاني سيطرته على البلاد من جديد؛ إذ جرى تفريق الثُوَّار، ومطاردتهم، وإعدامهم خلال بضعة أشهر، وبالرغم من فشل الثورة بهذا الشكل، إلا أنها كتبت حروفها من ذهب في تاريخ العالم على أنها أول وأكبر ثورة في تاريخ انجلترا، وهو ما جعل منها حدثًا يستشهد به الفلاحون، واليساريون البريطانيون في الوقت الحالي، حتى بعد مرور أكثر من 635 عامًا عليها.

 

2- «الحرية.. الأرض.. الموت لمُلَّاك الأراضي» حين ثار فلاحو المكسيك ضد الرأسمالية

جاء عام 1994 بدخول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا»، حيز التنفيذ، والتي وقّعتها الولايات المتحدة الأمريكية مع كندا والمكسيك، و تقضي الاتفاقية بإنشاء منطقة للتجارة الحرة فيما بينها تشمل قارة أمريكا الشمالية بكاملها، من أجل النهوض بواقع التبادل التجاري بينها، وزيادة النمو الاقتصادي في كل بلد على حدة.

ولكن في حقيقة الأوضاع، كانت وعود الازدهار الاقتصادي للمكسيكيين مجرد حبرًا على ورق؛ إذ تضرَّر الفلاحون والمزارعون المكسيكيون كثيرًا بسبب الاتفاقية؛ فقد استيقظت المكسيك في يناير (كانون الثاني) عام 1994 على قيادة المزارع القائد ماركوس، المجهول الهوية حتى هذه اللحظة بالنسبة للحكومة المكسيكية، لـ800 رجل من أفراد جيش زاباتا للتحرير الوطني، والمعروف باسم «زاباتيستا» هجومًا على مدينة أوكوسينجو، والبالغ عددها 30 ألف نسمة، الواقعة وسط ولاية شيباس المكسيكية.

 

 

وجد الزاباتيون أن موعد بدء تطبيق اتفاقية نافتا يمثل فرصة ذهبية لإعلان انتفاضتهم؛ فهدف الاتفاقية هو جذب المستثمرين الأمريكيين والمكسيكيين وغيرهم للاستثمار في المكسيك من أجل دفع عجلة التراكم الرأسمالي إلى الأمام، في الوقت الذي حرصت فيه الولايات المتحدة والنخبة المكسيكية على توفير أسباب الاستقرار والأمن في المكسيك، وهو ما تسبب في ضرر للفلاحين والمزارعين المكسيكين بسبب استيراد الحكومة للحبوب والمنتجات الزراعية من الولايات المتحدة وكندا دون أي جمارك، وهو ما أضرَّ بأوضاع الفلاحين ومنتجاتهم وحبوبهم في المكسيك.

وفي الوقت نفسه، اتخذت انتفاضة الفلاحين في المكسيك  من نفسها فرصة ذهبية أيضًا للثورة ضد النظام الحاكم الذي ارتكب العديد من الجرائم تجاه الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون للبلاد.

وهكذا، شنت قوات الزاباتيستا هجومًا مسلحًا على قاعدة عسكرية بمنطقة رانشوفو بعد انسحابها من مدينة سان كريستوبال، وشنت هجومًا على أحد السجون وأطلقت سراح 178 سجينًا، ثم اختطفت الحاكم السابق للولاية وبعض أفراد عائلته.

وبينما استمرت الهجمات المكثفة على قاعدة رانشوفو، حطّم المزارعون مبنى المجلس المحلي بالمطارق في مدينة التاميراند، كما أقاموا المتاريس في عدد من القرى، وخلال 12 يومًا من الثورة، قُتل أكثر من ألف فرد من حركة «زاباتيستا»، مقابل 145 فرد من القوات الحكومية.

 

 

الجدير بالذكر أن حرب العصابات لم تكن أسلوبًا جديدًا على المكسيك، فقد سبق أن قامت ثورة مكسيكية على أكتاف الحركة المسلحة، بزعامة المزارع إيمليانو زاباتا ،  زعيم الهنود الحمر السابق وأحد قادة ثورة المكسيك، في الفترة من عام 1910 إلى 1920، وذلك دفاعًا عن ملكية السكان الأصليين للأراضي الزراعية، تحت شعار «الحرية.. الأرض.. والموت لمُلَّاك الأراضي».

 

 

ومنذ ذلك الحين، وحتى هذه اللحظة، ما زالت حركة «زاباتيستا» مسيطرة على منطقة تشيباس، بعد عشرات المفاوضات، والوعود بمراعاة حقوق الفلاحين والمزارعين، وحقوق السكان الأصليين للمكسيك. وفي الحقيقة، تعتبر ثورة الفلاحين في المكسيك هي ثورة ضد النظام الرأسمالي العالمي، وضد العولمة والإمبريالية، قبل أن تكون ضد حُكَّام الدولة فقط.

 

3- ثورة نيجيريا 1968.. حين يعلو صوت الفأس على صوت الضرائب

انتفض الفلاحون النيجيريون في عام 1968 في المنطقة الغربية في البلاد، فيما عُرف باسم «ثورة أجبيكويا»، وذلك في مكان تجمُّع مجموعات «اليوروبا»، وهي أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، ويمثلون 26% من سكانها، ويعتنق 65% منهم الإسلام.

الجدير بالذكر أن «ثورة أجبيكويا» هي ثورة سياسية واجتماعية واقتصادية ضد الحكم العسكري الذي حكم نيجيريا خلال هذه الفترة؛ إذ يعتبرها المؤرخون مثالًا ناجحًا لتوحيد النيجيرين والعمل الجماعي ضد السياسات الحكومية التي تصب في صالح النخب السياسية الحاكمة فقط.

الفلاح العربي.. معاناة لا تنتهي

وانتفض النيجيريون بالأساس ضد قرارات النظام العسكري الحاكم الذي رفع قيمة الضرائب المفروضة على المزارعين والفلاحين؛ فسرعان ما كوَّن الفلاحون هيكلًا تنظيميًا متمثلًا في صورة حركة سياسية، وينظم عملها عددًا من القلائل الذين حصلوا على تعليم جامعي في البلاد خلال هذه الفترة.

 

 

وتنوَّعت المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طالبت بها حركة الفلاحين في انتفاضتهم؛ إذ طالبت بإقالة مسؤولي الحكومة المحلية، وتخفيض قيمة الضرائب مرة أخرى، والتي وصلت إلى ثمانية دولارات بدلًا من دولارًا واحدًا وبضع سنتات، فضلًا عن المطالبة بوضع حد لاستخدام القوة في تحصيل الضرائب ومنعها على الإطلاق.

ولم تتوقف المطالب عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل عددًا من المطالب الاقتصادية والاجتماعية أيضًا؛ إذ طالب الفلاحون بضرورة وجود بنية تحتية وطرق أفضل تربط بين القرى وبعضها البعض، بالإضافة إلى ضرورة رفع أسعار الكاكاو، التي تحتل نيجيريا المركز الرابع عالميًا في إنتاجه، وذلك بإنتاج أكثر من 240 طن سنويًا.

 

 

لم تستجب الحكومة لأيًا من هذه المطالب في بداية الأمر، وهو ما دفع الفلاحون للتصعيد، وذلك بمهاجمة مقار ومنشآت الدولة، والمحاكم، ونهبها، ونهب منازل ومكاتب مسؤولي الحكومة بالهجوم عليها، ثم نزلت الفوضى على المنطقة، وبرغم القبض على العشرات منهم، إلا أن أحداث العنف ازدادت فوضى، مما أدى في النهاية إلى الإفراج عن قادة هذه الحركة، والتفاوض معهم، إلى أن رضخت الحكومة لمطالب الفلاحين وتنفيذها جميعًا في الأخير.

دورة حياة الثورات: 4 مراحل تمر بها الثورات الشعبية

نموذج عربي.. كيف تم تجاهل دور الفلاحين في الحركة الوطنية المصرية؟

 

شيِّد قصورك عالمزارع.. من كدّنا وعمل إيدينا.. والخمَّارات جنب المصانع.. والسجن مطرَح الجنينة.

هكذا عبَّر الشيخ إمام في أغنيته الشهيرة «شيِّد قصورك»، والتي أصبحت فيما بعد رمزًا لثورات في دول عربية مختلفة ، عن دور الفلَّاح في الثورة، واعتبار فئة الفلاحين من الفئات الأساسية المُكوِّنة للشعب، وذلك أيضًا في قوله «عُمَّال وفلاحين وطلبة، دقت ساعتنا وابتدينا، نزلوا في طريق ملهوش راجع، والنصر قرَّب من عنينا»؛ فالفلاحون جزءًا لا يتجزأ من فصيل الشعب المصري.

 

الجدير بالذكر أن «شيِّد قصورك» ألفها الشيخ إمام في الفترة بين نكسة يونيو (حزيران) 1967 ونصر أكتوبر(تشرين الأول) 1973 في مصر، وتعتبر من أبرز أغاني ثورة 25 يناير المصرية منذ أوائل أيامها في عام 2011.

 

 

لطالما وضعت النخب السياسية المصرية الفلاح المصري في مرتبة أقل من مختلف فئات الشعب، ولكن في واقع الأمر، نجد أن هناك علاقة ارتباطية بين حركات الفلاحين والتحولات على مستوى مصر، بحسب صقر النور، مدرس الاجتماع الريفي في كلية الزراعة بجامعة جنوب الوادي.

 

التطريز الفلاحي .. الفلسطينيات يقاومن الاحتلال بـ«الخيط الأحمر»

و لا يمكن إغفال استباق الانتفاضات الفلاحية لثلاثة أحداث تاريخية كبرى في مصر، قبل أحداث 1919، وقبل أحداث 1952، بالإضافة إلى انتفاضات الفلاحين منذ عام 1997، والتي يعتبرها «النور» جزءًا أساسيًا من العوامل والمراحل التي قادت إلى قيام ثورة 25 يناير(كانون الثاني) 2011، وذلك في ورقته البحثية المنشورة تحت عنوان «الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيون»؛ إذ أن أوضاع الزراعة، والفلاحة، بالإضافة إلى وجود الملايين من المنضمين إلى قائمة الفقراء في مصر من الفَّلاحين جعل من الريف المصري مقياسًا للأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية في مصر.

 

 

وعن تهميش الفلاحين، وإهمال دورهم الأساسي في إشعال الثورات والانتفاضات، ذكر النور أن النظر إلى الثورة على أنها ثورة قاهرية، أو ثورة لحظية، أي منفصلة الجذور، ليس وليد الصدفة، ولكنه وليد عملية تشييد اجتماعي تهدف في النهاية إلى تحديد المسار الذي تسلكه الثورة. لذلك يمكن اعتبار استبعاد الفلاحين مقصودا به تحجيم مسار الثورة في التحول الديمقراطي، وليس التغيير الجذري لبنية الاقتصاد والعدالة الجغرافية والاجتماعية بين الأقاليم والمناطق.

اجمالي القراءات 1934