البحث في جذور المشكلة.. لماذا تحدث كل هذه العنصرية ضد السوريين في لبنان؟

في الأربعاء ٢٨ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لِك من كلامه المقرف مبين أصله»، هكذا قالت شابة لبنانية لأصدقائها الذين تقف محاذاتهم، معلقة على شاب مر من أمامها قاطعًا الحيز الذي يقفون فيه، فيما رصّ آخر كلماته فورًا وشاركها الموقف «ما عم نقدر ننظف عيوننا من الوساخة»، فيما كانت الشابة جوان وهي صديقتهم، تعض شفاهها ممتعضة وتداري وجهها يمينًا ويسارًا من الحديث ضد الشاب الذي أكمل طريقه دون أن يلتفت إليهم.

كان الشاب الذي مر من أمامهم سوريًا، فيما جوان فتاة عشرينية ذات أصل سوري، ولدت في لبنان لوالدين سوريين، واكتسبت خلال تربيتها في البلاد الشكل واللهجة اللبنانية، ولا يعرف أصدقاؤها عنها إلا أنها مواطنة لبنانية عادية. مضى الشاب بهيئة ذليلة من أثر الكلمات التي سمعها، فانتفضت جوان ضد سلوك أصدقائها، وصرخت في وجوههم، لماذا تحتقرون السوري أليس إنسانًا عاديًا، هل تعلمون أني سورية ومن أصل سوري وأعتز بذلك؟ لم تلق جوابًا كلاميًا، لكن عيون أصدقائها التي حدجتها بنظرات حادة كانت البديل الذي دفع جوان لمغادرة الجلسة.

كان  هذا الحادث مفصلًا في علاقة جوان مع أصدقائها اللبنانيين، رغم أنه ليس الوحيد وسبق أن حصل أمامها مرات عديدة، وكانت تبدي هي ذات الاعتراض لأصدقائها، من خلال تعبيرات وجهها، لكن دون أن يؤثر ذلك على سلوكهم.

تقول جوان لـ«ساسة بوست»: «في المرة الأخيرة فقدت أعصابي فعلًا، رغم أني كتمت انفعالي مرارًا؛ إذ كيف يمكنني تقبل اضطهاد إنسان مهما كان عرقه، ليس بالضرورة أن يكون سوريًا، كان الشاب قد وقف أمام محل، وأغلب الظن أنه كان يبحث عن عمل كما فهم أصدقائي، لكن  قراري الأخير بدا صحيحًا لذاتي، فأصدقائي الذين تركوني لأجل موقفي، وضعوني الآن في ذات الخانة التي يضعون السوريين بها».

«عنصرية» لبنان تجاه السوريين.. بشار الأسد ليس السبب الوحيد

«سوري سوري.. أندبوري»

عصر أحد الأيام، أنهت المعلمة اللبنانية ديما حمود حصتها الدراسية الأخيرة لطلابها في إحدى المدارس الابتدائية الحكومية، قبل الموعد المحدد بـ10 دقائق، كان الوقت مساءً، خيم الصمت قليلًا في فضاء الفصل، بينما انكب الأطفال على طاولاتهم الدراسية، يلملمون كراساتهم وأغراض حقائبهم.

لكن هذا السكون لم يدم طويلًا، إذ قطعه خليط من الأصوات تسللت من نافذة الفصل الغربية «سوري سوري.. أندبوري» – أي سوري فقير – كانت العبارة الأولى، التي هرع على إثر سماعها الأطفال ومعلمتهم  إلى نوافذ الفصل، وما إن أطلت رؤوسهم منها، حتى علا الصوت ذاته لشباب يقفون على بعد أمتار من المدرسة «ردوا حالكن برا بلدنا يا أمراض» ومَضوا.

عقدت المعلمة حاجبيها، وكذلك فعل الأطفال الذين تبدى الحزن على هيأتهم لما رأوا الحادث، كما روت المعلمة لـ«ساسة بوست»، آخر حوادث العنصرية التي حصلت معها وأطفالها السوريين.

 

 

لم يبدِ الأطفال استغرابًا حقيقيًا من الذي حدث يومها، بحسب حديث المعلمة، التي قالت أيضًا: «هذا شيء روتيني والمؤكد أنهم قد تلقوا عبارات مؤذية خلال طريق عودتهم إلى بيوتهم، لكن الأمر الذي يجب الوقوف عنده هو التصاعد المستمر لهذه النبرة العنصرية، ويبدو أنها قد وجدت أحضانًا كثيرة في استقبالها إلى الحد الذي جعل التعرض إليها يوميًا أسلوبًا في حياة هذه البقعة».

مرّ على هذه الحوادث التي رُويت لـ«ساسة بوست»، ما يقارب الشهر ونيف، فيما العقدة التي نشأ لأجلها الحديث لا تزال معاشة بشكل شبه يومي في لبنان، منذ أن نزح السوريون في بداية الأزمة التي ضربت بلادهم عام 2011، إلى لبنان والمنطق العنصري في التعامل معهم يتعمق من ناحية سلوكية يومًا بعد آخر، بعدما وجد ما يشبه منظومة داعمة ومسوقة له سياسًا وإعلاميًا.

فقد تصاعدت الموجة العنصرية في لبنان ضد السوريين الذين وصل عددهم لما يقارب المليون بحسب ما قالت الأمم المتحدة، خلافًا للمراهنات التي أملت بانتهائها سريعًا، وفيما أضحت الظاهرة التي استشرت خلال الأعوام الماضية  كأنها شيء طبيعي في الأراضي اللبنانية، يحاول ساسة بوست عبر هذه السطور الإجابة على السؤال الذي ظل مطروحًا: لماذا كل هذه العنصرية اللبنانية؟

نَبش في التاريخ.. «يا لثاراتنا»

تاريخيًا كانت لبنان جزءًا من سوريا حتى تمَّ الفصل بين الدولتين على يد الاحتلال الفرنسي، وحمل هذا الإجراء فصولًا من المواجهة اللبنانية – السورية المختلفة، تجلى أبرزها في دخول القوّات السورية بشكل متكرر الأراضي اللبنانية حتى الفترة بين عامي 2005  و2006، صحيح أن هذه التدخلات، كانت بناء على طلب رسمي من الحكومة اللبنانية آنذاك، إلا أن الكثير من الممارسات الشائنة التي قام بها ضباط وعناصر من الجيش السوري بحق أشخاص لبنانيين وتدخلهم في شؤون الدولة عمومًا، جعلت الكثير من اللبنانيين ناقمين على هذا الوجود والتدخل، الذي أستغله أيضًا أشخاص متنفذون في الحكومة اللبنانية لصالحهم.

بروز ظاهرة العنصرية اللبنانية له جذور متشعبة، أحدها ولدت من خلال تطورات العلاقة اللبنانية – السورية خلال الفترة ما بعد الاستقلال اللبناني في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1946، وقد حكم هذه العلاقة مواقف لبنانية بمصالح مختلفة، نظرًا لتعدد الأحزاب والطوائف في لبنان، ودرجة النفوذ الخارجي فيها؛ الأمر الذي أدى إلى تأصيل هذه العنصرية لدى اللبنانيين.

وقد انعكست هذه الأوضاع، على طبيعة العلاقة بين الشعبيْن حسبما يقول أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا اللبناني أسعد أبو خليل في مقال له، بعنوان: «لبنان والانتفاضة في سوريا»، حيث يرى أن «تعاطي الحكومة السوريّة مع الشعب اللبناني، على مرّ الأعوام الماضية، كان مُستقىً من تعاطي حكومة استبداديّة مع شعب واقع تحت حكمها. الفظاظة وحتى الوحشيّة كانتا سمة من سمات تعاطي الجيش والاستخبارات السوريّة في لبنان، وهي ممارسات سمّاها الرئيس السوري بشّار الأسد متأخرًا بـ«الأخطاء».

ماذا تعرف عن سجون «حزب الله» السريّة في سوريا ولبنان؟

ويضيف أبو خليل: «إلى جانب ذلك، فإن الوطنية اللبنانية، تحتوي على عنصريّة أكيدة تتطلّع بإعجاب وتقليد إلى الرجل الأبيض (أوروبي)، وتتطلّع باحتقار إلى العنصر العربي. وفي تراتبيّة الكراهية الغزيرة في الثقافة السياسيّة والشعبيّة اللبنانيّة، احتلّ «السوري» موقعًا دونيّاً. وفي الدونيّة الاجتماعيّة يتجلى منطق العنصريّة الطبقيّة: فالسوريّون والفلسطينيّون والأكراد والشيعة أمدّوا العائلات اللبنانيّة بالخادمات؛ ما زاد في النزعة الدونيّة ضدّهم».

ويعني ذلك أن العلاقة التاريخية السورية – اللبنانية منذ نشأتها تأثرت بتراكمات حكمتها المصالح الحزبية والسياسية، أفضت إلى وضع بذرة هذه الظاهرة، التي تلقفتها الأحضان ذات التوجهات السياسية المختلفة ووظفتها في خدمة أهدافها.

ماكينات الكراهية.. «سيأكلون طعامك»

استكمالًا في تحقيق أهدافها، عمدت بعض المؤسسات الإعلامية في لبنان، إلى شحن الجمهور بالعنصرية علنًا خلال موادها الصحافية التي تقدمها، محطتا «إل بي سي» و«إم تي في»  تحديدًا قدمتا نموذجًا بارزًا في ترسيخ عقيدة الكراهية؛ إذ يشير مراقبون إلى أن المحطتين تتحملان مسؤوليّة كبيرة في تعزيز هذه الظاهرة؛ إذ إنّهما حوّلتا برامجهما «الكوميديّة» إلى حفلات تحريض عنصري فاضح ضد كلّ السوريّين.

أيضًا خدمت جريدة «النهار»، برأى الكثيرين، عقيدة الكراهية ضد الشعب السوري، إذ كانت «النهار» تنشر أرقامًا خياليّة عن أعداد العمّال السوريّين من أجل تعبئة الطبقة العاملة في لبنان ضدّهم، إضافة إلى التضخيم المستمر لأعداد السوريين المتواجدين بلبنان.

صحيفة النهار اللبنانية تحرض على السوريين – مصدر الصورة: جريدة النهار

وقد أدّى تشرّب العقيدة الوطنيّة اللبنانيّة إلى تجاهل حملات العنف المنظمة والعفويّة ضد العمّال السوريّين، ولم تؤخذ القضية على محمل الجد عند الساسة اللبنانيين. فيما تجاهلت الحكومة السورية أيضًا معاناة السوريّين في لبنان، كما أنّ عددًا لا بأس به من الكتّاب المعارضين السوريّين، اختاروا التعبير عن معارضة النظام في تلك الوسائل الإعلاميّة التي امتهنت تحقير الشعب السوري؛ مما قدم خدمة مجانية أيضًا في تغذية هذه الظاهرة.

بعيدًا عن التاريخ.. الاقتصاد «أكثر تورطًا»

تحمل قضية العنصرية الكثير من التعقيد والتشابك؛ إذ لا يمكن الحكم على سبب نشأتها من وجهة واحدة أو اعتمادًا على عامل يتيم،  هكذا ترى الإعلامية اللبنانية ضحى شمس خلال حديثها مع «ساسة بوست»، ظاهرة العنصرية اللبنانية ضد السوريين.

إذ تقول شمس: «من التبسيط بمكان اختزال أسباب العنصرية بتراكمات تاريخية أو اجتماعية أو لأسباب آنية، لا شك أن الوجود السوري خلال حقبة الحرب الاهلية له دور كبير في الاستياء الذي رسخ في نفوس غالبية اللبنانيين؛ فقد تصرفت تلك القوات العسكرية التي استدعاها بدايةً المعسكر اليميني المسيحي اللبناني لمحاربة الجبهة الوطنية التي كانت تتألف من يسار لبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية، كقوات احتلال، وأساءت للكثيرين، ولا شك أننا كلبنانيين نتذكر ذلك».

وترى شمس أن «العنصرية  ظاهرة تزدهر لزاميًا مع الأزمات الاقتصادية خاصة، فالعنصرية مرض موجود عند كل الأمم، وهو يخبو حين تكون الأمة بخير؛ فتتسع الآفاق ويُشاد بالتنوع وفضائله، أما حين تضعف تلك الامم وتضغط الصعوبات، إن كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وغالبًا  تكون هذه الأسباب الثلاثة مجتمعة، فإن العنصرية تظهر، وتشتد باشتداد تلك الأزمات وتضعف بضعفها».

 

 

مظاهرة ضد اللاجئين السوريين في لبنان

وتضيف: «ليس لبنان وسوريا المثال الإستثنائي، وإن كانت الأزمة السورية وما شهدته العلاقات اللبنانية السورية في العقود الثلاثة الأخيرة قد ساهمت مساهمة فعالة في ظهور العنصرية اللبنانية تجاه السوريين، خذ مثالًا العنصرية في فرنسا والجزائر والمغرب العربي بشكل عام، أو بين الأردن والفلسطينيين، أو الألمان المسيحيين ومواطنيهم اليهود».

«هذا لا يعني أنه لا توجد عنصرية لبنانية ضد السوريين»، تستدرك شمس: « فعادة ما تتوجه العنصرية ضد الضعيف، والضعيف منذ الأزمة السورية هو النازح السوري المضطر للهروب من الحرب إلى مكان آمن، تمامًا كما فعل اللبنانيون خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي الذي دام 33 يومًا في يونيو (تموز) 2006».

بحسب حديث شمس، فأحد جوانب المشكلة في النزوح السوري أنه دام بدل الأسابيع سنين، وهو ما فرض على السوريين البحث عن مورد رزق، فزاحموا اللبنانيين الذين يعانون أصلًا من تدهور أوضاعهم المعيشية بشكل خطير، على فرص العمل بشكل لم يسبق له مثيل، وهو ما أدى أيضًا إلى ضيق معيشة اللبناني، ليس الحديث هنا من منطق دفاعي، بل من ناحية عقلانية، فالعنصر الاقتصادي المتحكم عادة بطبيعة الشعوب، وكل هذه المظاهر العنصرية الناتجة عن الوضع الاقتصادي تخبو عادة عندما يحصل الجميع على راحة اقتصادية.

أما السبب الثاني في تفاقم مشكلة النازحين والعنصرية، – تكمل شمس حديثها لـ«ساسة بوست» – فهو «غياب الدولة اللبنانية عن تنظيم تلك العلاقة بين النازحين واللبنانيين، فإن كان للدولة السورية عذر في غيابها لانشغالها بالحرب العالمية الدائرة على أراضيها، فالدولة اللبنانية ليست غائبة، بل مُغيبة بسلطة المافيات والميليشيات الطائفية الحاكمة منذ الحرب الأهلية».

وتضيف: «تغيب الدولة اللبنانية عن دورها، ما يخلق قاعدة «كل شاطر بشطارته» ويوضع الفقير اللبناني في وجه الفقير السوري ليتقاتلا على فتات العيش». وتشير شمس إلى أن اللافت بموضوع العنصرية اللبنانية أن «أرباب العمل يفضلون توظيف السوري الرخيص الأجرة والذي لا يتطلب أي ضمانات على اللبناني، أي أن الرأسمال لا تهمه لا جنسية ولا حماية لليد العاملة الوطنية فوطنه الوحيد هو المال، وهذه النظرية ربما توضح الصورة أكثر».

وجه اللاجئين الآخر الذي تخفيه الرأسمالية اللبنانية

نصل إلى الجانب المخفي والأهمّ في أزمة اللجوء السوري كما يقول الكاتب اللبناني عامر محسن في مقال له بعنوان: «العنصرية في لبنان»، إذ حققت الرأسمالية اللبنانية استفادة هائلة من موجة النزوح السوري والاستغلال الذي تعرّض له لاجئون هاربون من الحرب.

وفقًا لحديث محسن فقد «تنفّعت الطبقة العليا في لبنان من اللجوء على كلّ المستويات: كُسر سوق العمل وانخفضت الأجور بعد خلق فائضٍ هائل من «العمّال غير المهرة»، فيما تدفّقت مليارات الدولارات السورية على مصارف لبنان، وانتقل الكثير من أصحاب رؤوس الأموال السوريين والمستثمرين والتجار الى البلد، يسكنون فيه وينفقون».

ومثلما أنّ النّظام الاقتصادي اللبناني مفتوحٌ «من تحت»، يسمح بالتنافس الشرس بين العمّال المحليين والأجانب، فإنّه مغلقٌ «من فوق»، كما يقول محسن الذي يوضح: «الرأسمالي اللبناني يستفيد من العامل السوري، ولكنّ التاجر السوري لن يزاحمه وينافسه، ولن يتمكّن من افتتاح مصرفٍ أو دخول قطاعٍ رئيس، بل حوله اللبناني منه أيضًا إلى زبونٍ أو شريك».

يضيف محسن: «لم يكن السّماح بدخول ملايين السوريين الى لبنان مصادفة، أو نتيجة «إنسانية» النظام وتعاطفه مع مأساة السوريين، وحين لا يعود اللجوء «مفيدًا»، فقد ترعى المؤسسة ذاتها العنصرية ضدّهم».

ويختم مقاله: «كلّ هذا الشّرح لن يصنع فارقًا بالنّسبة للعامل اللبناني الذي أصبح «فائضًا» وانخفض أجره أو أضحى عاطلًا عن العمل، واقتنع بأنّ اللاجئ السوريّ هو المسؤول عن وضعه. هو يرى العامل السوري أمامه في الشارع وفي مكان العمل بعد موجة تحريض ليلية، وليس «الرأسمالي»، وهو قد يطمح الى أن يرحّل هذا اللاجئ إلى بلده ويخرج من السّوق، وهو قادرٌ على الاعتداء عليه أو ضربه، ولكنّه لن يطال الرأسمالي، ولا يملك غير طأطأة الرأس أمام ربّ العمل».

اجمالي القراءات 2161